Tunisiens Libres

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

lundi 17 mars 2014

الإخوانجية هم غضب الإمبريالية و الرجعية العربية و المحلية

  

الإخوانجية هم غضب الإمبريالية و الرجعية العربية و المحلية

  


الإخوانجية هم غضب الإمبريالية و الرجعية العربية و المحلية

 

قبل الحديث في بعض نقاط برنامج الإخوانجية لا بدّ من الإشارة إلى أن نقاشنا الحالي هو من باب الجدل النظري لأن هذه الأحزاب بحكم طابعها الفاشي و عمالتها تعتمد الكذب و المراوغة و التقية في نشاطها السياسي لذا تجد عندها العديد من البرامج واحدا للموالين لها وآخر لأعضائها و آخر لجهازها السرّي و يكون عامة ديني بحت و تحت شعار "الإسلام في خطر" و" يقسمون المجتمع بين كفار و مسلمين" بالطبع الكفار كل من لا ينتمي لحزبهم هم و الآخر قبل أن يصعدوا لسدّة الحكم للإستهلاك الخارجي يحاول أن يدغغ جميع المشاعر الدينية منها و الديمقراطية و الإنسانية و الإجتماعية و عادة ما يكون ترديدا لشعارات وبرامج الأحزاب الثورية و الديمقراطية في محاولة منهم لإرضاء أو لنقلها بصراحة يتعمدون الكذب على كل فئات المجتمع للوصول للحكم و بعدها أي عند التمكن من السلطة نجدهم خدما للبرجوازيين الفاسدين وعملاء جشعين أفسد من كل السابقين و قتها يمارسون برنامجهم الحقيقي و نعلم علم اليقين أن ما مارسوه فعليا لما وصلوا لسدّة الحكم في أفغانستان و الصومال و غزّة و الباكستان و السودان و ليبيا و تونس و اليمن و مصر... إذ نجد برنامجهم الإقتصادي ليبرالي متوحش و نجد كل الفساد قد نما وينمو وانتشر و ينتشر في عهدهم من نهب المال العام على أساس أنه غنيمة حرب و يكثر التهريب و الجريمة المنظمة و الإرهاب وعمّت الفوضى و التهرب الجبائي و على المستوى الخارجي عمالة وللإمبريالية و تطبيع مع الصهيونية و حلف مع الرجعية العربية و على المستوى الإجتماعي يحيون كل ما هو متخلف في تاريخنا و يحاربون النيّر فيه و يرفضون كل ما حصل من تقدم للإنسانية الحالي و كل علم و كل حضارة و كل حقوق الإنسان بدعوى أنها مستوردة من الغرب الكافر !في كلمة الإخوانجية هم غضب الإمبريالية و الرجعية العربية و المحلية و هي أدات انتقامهم من الشعب الثائر.

 

في الإقتصادي


تتحدث
كل الأحزاب الدينية عن روعة الاقتصاد الاسلامي :" و تقول النهضة: «إنّها ليست ملكية ذات، وليست ملكيّة رقبة، الأرض ملك اللّه والإنسان يملك حقّ الانتفاع من الأرض، فإذا رفع يده عنها لم يعد له عليها حقّ"و يوضحون ذلك بقولهم:"  «فالمالك الأصلي المطلق لكلّ ما يملكه الناس وينتفعون به هو الله الذي خلقه وصنعه وهو الذي أطلق يد الإنسان فيه، فهو ربّه وماله و له وحده في الأصل الحقّ في منحه للإنسان وتحديد تصرفه وانتفاعه به، فهو المشرّع في ذلك بسبب كونه المالك الأصلي"

ويبدأون بأن كل الارض هي ملك عام للمسلمين جميعا,من وجد منهم ومن يوجد,اي ان الامة الاسلامية بامتدادها التاريخي هي التي تملك هذه الارض دون امتياز لمسلم على اخر في هذه الملكية,ولا يسمح للفرد بتملك رقبة الارض ملكية خاصة... وهي باعتبارها ملكا عاما للامة ووقفا على مصالحها العامة,لا تخضع لاحكام الارث ولا ينتقل ما يملكه الفرد المسلم منها الى ورثته,ولا تباع لان الوقف لا يجوز بيعه,وحين تسلم الارض الى المزارعين لاستثمارها لا يكتسب المزارع حقا شخصيا ثابتا في رقبة الارض وانما هو مستأجر يزرع الارض ويدفع الاجرة او الخراج.

نلاحظ هنا,انهم يحاولون تفنيد الاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي بدعوى لا شرقية و لا غربية,و يدّعون أن الاقتصاد الاسلامي سيكون هو البديل الافضل لبلدان العالم الاسلامي في الشأن الاقتصادي, ولكن هل هذا الكلام معقول؟.. هل يعقل ان تصادر جميع الاراضي والدور والعقارات من اصحابها لحساب الدولة الاسلامية وتكون وقفا عاما لجميع المسلمين,ويجب على المسلمين جميعا دفع الخراج للحكومة .؟
- هل هذا هو الحل الامثل للاقتصاد في البلدان الاسلامية..وهل توجد مشكلة في تملك الاراضي حتى يقوم المتسترون بالدين بحلها بهذه الطريقة العجيبة.؟
- واذا كان الامر كذلك فلماذا يعترضون في أدبياتهم على الاقتصاد الماركسي و يتهمونه بانه صادر و يريد أن يصادر ملكيات الناس والفلاحين وجعلها بيد الدولة ؟
- ولماذا لما وصلوا لسدّة الحكم في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و السودان و الصومال و أفغانستان و تركيا لم يطلبوا من اتباعهم ومقلديهم دفع الخراج عن دورهم واراضيهم للحكومة ؟
- الم يشتروا أو ورثوا دورا  أو يملكون او يستأجرون بيوتا من اصحابها,فاذا كان كلامهم هو فتوى شرعية او يمثل رأي الاسلام والشريعة كما هو المفروض,فهذا يعني ان بيوتهم وبيوت جميع المسلمين كلها مغصوبة ولا تجوز الصلاة فيها والتصرف بها الا باذن الحاكم الشرعي.؟
- ثم اين المواطنة وحقوق المواطن من كل ذلك بحيث لا يحق له امتلاك شبر واحد من وطنه الذي يعيش فيه ويرى في ذات الوقت ان الكفار يملكون في بلدانهم الدور والقصور وكل شئ..الا يثير هذا الرأي استياء المسلمين من الحكومة الاسلامية اذا ارادت تطبيق هذا القانون في المجتمع الاسلامي.؟هذا جدلا أما على مستوى ممارستهم لما وصلوا للحكم :
- لماذا لم تقم ايران الاسلامية أو أي بلد حكم فيه المتسترون بالدين بتطبيق هذا القانون الاسلامي ..الا يعني ذلك ان هذا القانون الاسلامي,مضافا لكونه غير معقول من الناحية النظرية,انه غير ممكن التطبيق من الناحية العملية.؟

 عشرات الاسئلة وعلامات الاستفهام التي تثار على هذا الاقتصاد الاسلامي الرائع جدا ولا يسعنا الا ان نقدم التهنئة الحارة للاسلاميين بهذا الكشف الاقتصادي العظيم ونعترف لهم بان الاسلام هو الحل لكافة مشاكل الانسان والمجتمع.. !!
في تقديري ان الباعث الذي دفع المتسترين بالدين لتبني مثل هذه الفتاوى السخيفة,احد ثلاثة امور او كلها:
1- ان هؤلاء الفقهاء لا زالوا يعيشون في عصر الراعي والرعية وثقافة الخراج والجزية التي كانت سائدة في القديم ولم يلتفتوا الى المتغيرات العظيمة التي حدثت في عصر الحداثة في المفاهيم والقيم كالمواطنة وحقوق الانسان والديمقراطية وامثال ذلك.
2- ان حجاب القداسة للنصوص والروايات القى بغباره على عقولهم ومنعها من التفكير السليم بحجة ان هذه النصوص تمثل حكم الله الذي لا نقاش ولا ريب فيه.
3- السعي لادلجة الدين كرد فعل لوجود ايديولوجيات منافسة وبخاصة الماركسية والاشتراكية,اي خوف هؤلاء الفقهاء وعلماء الاسلام من اكتساح هذه الثقافات والمدارس الفكرية الحديثة عقول الشباب المسلم وبالتالي ابتعادهم عن الاسلام فقالوا ان الاسلام فيه جميع مايحتاجه الانسان المعاصر من اقتصاد وسياسة وحكومة وقضاء واخلاق وكل شئ, وهذا هو معنى تحويل الدين الى ايديولوجيا.

حول العلاقات الإجتماعية
ان من امتيازات الاسلام على غيره من الاديان انه دين اجتماعي ويحث المسلم على الانخراط في علاقات اجتماعية قوية ويرفض التفرد والعزلة ومن ذلك ورد التأكيد على صلاة الجمعة والجماعة والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر و التكافل و صلة الرحم و الجار و احترام الأديان و حث أيضا على مكارم الأخلاق من صدق و أداء الأمانات وامثال ذلك.

ان كل ماذكر اعلاه من ايجابيات إجتماعية حثّ عليها الإسلام من صلاة الجمعة والجماعة والحج .....صار وبالا على المسلمين تحت حكم الإخوانجية فالتكافل الإجتماعي صار تدافع إجتماعي أي"حوت ياكل حوت و قليل الجهد يموت"بعبارة أخرى الضعيف ليه ربّي ,والمساجد صارت اماكن لزرع الفتنة والارهاب والخرافة والفرقة بين المذاهب الاسلامية فلكل مذهب مساجده بل حتى اتباع المذهب الواحد نرى ان لا يصلون خلف فلان شيخ او فلان مسجد لانه من جماعة او تيار اخر,والحج بدوره لم يستطع اذابة الفرقة والعداوة بين السنة والشيعة ولم ينفع المسلمين سوى في انفاق الملايين من الاموال وهدر الطاقات والعمر دون اي فائدة,والامر بالمعروف والنهي عن المنكر اقتصر على التدخل في امور الناس الشخصية كلبس الحجاب وشرب الخمر وتركوا الاهم وهو الامر بالعدل والنهي عن الاستبداد والظلم ومصادرة الحريات وغير ذلك.كذلك يهمشون الفقراء و الجهات المحرومة كما يدّعي راشد الغنوشي أن: "
الله يحب الأغنياء... الفقير ما يقدرش يؤدي واجب الزكاة... الفقير ما يقدرش حتى يمشي للحج... عباداتنا تحتاج للمال... حتى الي يصلي لازمو الماء و لازمو... "

حول العقل و النقل
نعلم كلنا أن العرب هم أكثر الشعوب التي ركّزت على دور العقل لأن أول آية نزلت هي "اقرأ" و بالطبع قراءة لا تعني الترديد بل التفكير و التمحيص كذلك عمر بن الخطاب و أبا ذر الغفاري و عائشة يجادلون الرسول في كثير من الأمور و قد أنصفهم القرآن في الكثير من المرّات نجد و صار المعتزلة على دربهم و أعطوا للعقل دور الإمامة و في كامل مراحل الصراع بين الحكام و الشعب نجد مفكري البلاط ينتصرون للنقل و أنصار الثوار ينتصرون للعقل و اليوم نجد مشايخ الإخوانجية يحيون الإنتصار للنقل بحكم طبيعتهم الرجعية و العميلة إذ يقولون: ان العلمانيين ودعاة التنوير خطر على دين الناس واخلاقهم فهم يزرعون الشبهات في اذهان الشباب ويجعلونه يشكك بدينه واخلاقه باسم العقل والعقلانية دون ان يعطوه البديل الافضل مما يتسبب في سقوط الشباب في متاهات الشك والعدمية والحيرة والكفر بالدين,فحتى لو كان الدين يحتوي على بعض الخرافات وقضايا مخالفة للعقل الا انها اقل ضررا على هؤلاء الشباب من العقلانية التي تقودهم الى الفوضى واللاأدرية وتقود المجتمع الى التحلل وعدم التماسك والتعاطف بين افراده.

ولكن هذا الكلام مردود عليهم لأن مهمة المثقف التنويري هو التصدي بسلاح العقلانية للخرافات الضارة فقط والتي تنتج الارهاب والطائفية والتخلف والتبعية, وهذا يعني ان المثقف حتى لو كان لا ديني فهو ليس ضد الدين وضد شعائر الدين الا ماكان ضارا للفرد والمجتمع ,وتطهير المجتمع من المعتقدات والخرافات الضارة هي وظيفة المثقف الحق حتى و لو كان رجل دين يؤمّ الناس في المساجد .
عمل المرأة داخل البيت!



يطالعنا الإخوانجية و كل أتباعهم بقراءاتهم المحقّرة للمرأة و الداعية لقوامة الرجل عليها و محاولة حصر دورها في وظائفها الطبيعية كالإنجاب و الرضاعة و الفراش و الشؤون المنزلية أما عملها خارج البيت فيمكنها أن لا تتعب نفسها وتعرض كرامتها لمنزلقات الخضوع لمتطلبات الحياة ومشقات المعيشةلأن الرجل مكلّف بأن يقدّم لها كل متطلبات حياتها الضرورية والكمالية من جهده، ونسأل هؤلاء، اذن أين كانت خديجة بنت خويلد وثروتها الطائلة قبل الإسلام بحيث إنّ الرسول نفسه كان قبل البعثة أحد المتاجرين بأموالها؟!
فهل بأن تتفوق الجاهلية عندما أقرّت للمرأة بحق الملكية والاستقلال الاقتصادي حتى وصلت إلى ما صلت إليه من الثراء.. فأين الفخر للإسلام حسب كلام المتسترين بالدين هذا ؟!
ألم تصل المرأة قبل الإسلام إلى أن تتسلم أعلى المناصب السياسية والاجتماعية! فهذه بلقيس ملكة سبأ، وكليوباطرا ملكة مصر، وبنت كسرى ملك الفرس التي تقلّدت زمام الملك بعد البعثة ؟!فهم يحقرون من الإسلام و يلبسونه من عقدهم الشيء


المجتمع المدني وحقوق الانسان


الإخوانجية يمرون مرّ الكرام على ما قاله عمر بن الخطاب :"متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"
مما جعل نظرتهم  إلى حقوق الإنسان المطروحة دولياً اليوم مع الأسف الشديد من قبل الغرب في هيئة الاُمم المتحدة، بنظرة سلبية وأنّها حقوق زائفة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، وأنّ المسلمين غير محتاجين للإعتراف بهذه الحقوق، فالدين الإسلامي والشريعة السماوية لم تترك شيئا من حقوق الإنسان المشروعة إلاّ وذكرتها، أي أنّ ما كان صحيحا من الحقوق المذكورة في لائحة حقوق الإنسان فقد ورد في الشريعة السماوية حتما، وما لم يرد فيها فهو باطل ولا حاجة لنا به.
ومنهم من تحرك نحو الاستفادة من هذه اللائحة بعد أن لم يجد ما توقعه من الحقوق في مفاهيمنا الدينية، وعمل على التوفيق بينها وبين مبادي‏ء الدين الإسلامي وسماها «حقوق الإنسان الإسلامية» ونلاحظ مثل هذا التحرك في أروقة منظمة المؤتمر الإسلامي أيضا.
ومن الضروري أن نشير إلى أنّ ارهاصات حقوق الإنسان بدأت منذ القرن الثالث عشر الميلادي وفي بريطانيا بالذات حيث تم التوقيع على الوثيقة الكبرى عام 1215 م على أثر ثورة الشعب في مواجهة طغيان الملك، ثم اُلحقت بوثيقة (اعلان الحقوق) وقانون التسوية عام 1701 م، وبعدها تم اعلان حقوق الإنسان في امريكا عام 1787 م أثر اعلان الاستقلال، وقد تضمن مبدأ المساواة بين الناس وحقهم في الحياة والحرية والسعادة وحق الشعب في التمرد والتصدي للدولة في حالة انحرافها عن هذه المبادي‏ء، ونلاحظ بعد ذلك اعلان فرنسا لحقوق الإنسان سنة 1971 حيث بدأ بالعبارة التالية: «يولد الناس أحرارا ومتساوين في الحقوق»، ثم سرت في سائر الدول الغربية مع إجراء بعض التعديلات الدستورية، ولكن بقيت هذه الحقوق محبوسة في دائرة الدستور الأساسي لكل دولة ولم تكتسب بعد صيغة العالمية، حتى جاء دور عصبة الاُمم فأعلنت في مواثيقها حقوق الإنسان عام 1919 م بعد انتهاء الحرب العالمية الاُولى.
ولما لم تتمكن عصبة الاُمم بهذا الميثاق من الوقوف أمام اندلاع الحرب العالمية الثانية كما اريد منها ذلك، تمّ تأسيس هيئة الاُمم المتحدة للحيلولة دون وقوع مثل هذه الكوارث البشرية وتمّ إصدار (الاعلان العالمي لحقوق الإنسان) في عام 1948 م وصدقته الجميعية العمومية لمنظمة الاُمم المتحدة في نفس العام، وتتألف بنوده من ثلاثين مادة وتتضمّن حقوق الإنسان في مجال الحريات الأساسية والعدالة الاجتماعية والاُسرة.
فعلى مستوى الحريات الأساسية أكد هذا الميثاق الدولي حرية الإنسان الشخصية والقانونية وتحريم الرق، ومنع التعذيب، وحرية الفكر والرأي، وحق الملكيةالخاصة، والمسكن، والشرف والسمعة وما إلى ذلك.
وعلى مستوى الحياة الاجتماعية تمّ التأكيد على مساواة المواطنين أمام القانون وعدم التمييز بينهم والتمتع بالجنسية واختيار البلد وحق اللجوء فراراً من الاضطهاد.
وفي دائرة القضاء والعقوبات فالأساس هو براءة الذمة، ومنع إلقاء القبض أو السجن أو النفي قبل إثبات التهمة، وحق التقاضي العلني والتزام الشرعية في العقوبات.
وفي نطاق الاُسرة أقرّ الميثاق الدولي حق الزواج وتشكيل الاُسرة وحق المرأة في الحياة والأمن وحقوق الاُمومة والطفولة وحق اختيار تربية الأولاد.
وعلى مستوى العدالة الاجتماعية تمّ التأكيد على حق العمل، حق الراحة والرفاه، مجانية التعليم، المساهمة في حياة المجتمع الثقافية والفنية والادبية وأمثال ذلك.
وهذه الحقوق كماترى جعلت الأصالة فيها للإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن عقائده وأفكاره وجنسه ولونه خلافا لما كان سائدا في الحضارات البشرية السالفة، وهي كماترى تتفق في الأصل مع المفهوم القرآني في جعل الأصالة للإنسان بما هوإنسان لا بما هو مسلم ولذلك يقول:
 الاسراء: 70.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر)
المؤمنون: 41.
(فَتَبَارَك اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)
وأمّا ما ورد في الأحكام الفقهية من تفضيل المسلمين في بعض الحقوق على أهل الكتاب فلا يرتبط بالمفاهيم الإسلامية الكلية عن حقوق الإنسان، بل هي قوانين روعيت فيها مقتضيات الزمان والمكان لذلك المجتمع الإسلامي ولا يصح القول بأنّها من ثوابت الشريعة وكليات الدين.
وعلى أية حال، فإنّ الإسلام والاعلان العالمي لحقوق الإنسان يشتركان في الأصل، وينفرد الاعلان المذكور بطرحه حقوق الإنسان على المستوى الدولي وفي اطار الروابط بين الشعوب والمجتمعات البشرية، فهي - أي الحقوق الدولية - من المواضيع المستحدثة التي تهدف رسم نمط العلاقات وتقنين الروابط بين المجتمعات البشرية ضمن ميثاق مشترك يوافق عليه المسلم والمسيحي، والمؤمن والملحد، والأبيض والأسود وهكذا، بينما تقتصر حقوق الإنسان في الإسلام على حقوقه ضمن دائرة المجتمع الإسلامي فقط تاركا العلاقات الدولية والروابط بين الشعوب تتخذ مجراها الطبيعي وتخضع لظروف المرحلة من الغزو وعدم رسم حدود مصطنعة بين دار الإسلام ودار الحرب واستعباد الأسرى وسائر الأعراف الاجتماعية والسياسية التي كانت تحكم تلك المجتمعات على المستويين الثقافي والاجتماعي.
وبعبارة اُخرى: إنّ الدول الغربية لما رأت فداحة الاضرار المادية البشرية التي خلفتها الحربين العالميين الاولى والثانية صاروا في صدد وضع ميثاق يحمي البشرية من ويلات هذه الحروب ويرسم للمجتمعات البشرية طريق العيش بسلام على أساس من احترام الإنسان لذاته وبما هو إنسان، وكل ما سوى ذلك يمكن أن يكون مصدرا للحرب كالدين في الحروب الصليبية، والعرق في النازية، ....، وهذا الموضوع لا يتقاطع مع المفاهيم الإسلامية عن حقوق الإنسان حتى ينبري بعض الكتّاب المسلمين لنقد تلك اللائحة الدولية والدعوة لتأسيس حقوق الإنسان الإسلامية.

حقوق الإنسان من منظور إسلامي
سبق للأحزاب الإسلامية والمجاميع العلمية في الوطن العربي والإسلامي إصدار العديد من الدساتير المقترحة حول حقوق الإنسان من منظور إسلامي من قبيل ما صدر عن جمعية الاخوان المسلمين في مصر، ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف ومشروع رابطة العالم الإسلامي، سوى ما أصدره الكتّاب الأسلاميون في هذا المجال من كتب ومقالات كثيرة تتناول البنى التحتية والمفردات التفصيلية للحقوق في نظر الإسلام مقارنة بما ورد في الحقوق الوضعية الغربية وخاصة ما ورد في لائحة حقوق الإنسان.
ولكن أول إصدار رسمي يصدر عن الدول الإسلامية في هذا الشأن هو ما أقرّه مجلس وزراء خارجية الدول الإسلامية في عام 1990م في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في القاهرة وقد جاء فيه: 
«مساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان التى تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، وتهتدي إلى تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة تتفق مع الشريعة الإسلامية... وإيمانا بأنّ الحقوق الإنسانية والحريات العامة في الإسلام جزء من دين المسلمين لا يملك أحد بشكل مبدئي تعطيلها كليا أو جزئيا... إنّ الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، تأسيسا على ذلك تعلن ما يلي.. »
وقد تضمن الاعلان خمسا وعشرين مادة، تحدثت عن المساواة في أصل الكرامة والتكليف، حق الحياة، حق بناء الاُسرة، حق الطفل في التربية والرعاية، حق التعليم، حق العمل الذي تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، حرية الرأي، حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها.
وكان مما جاء في المادة الخامسة والعشرين:
«الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة» 
وعندما نقرأ المواد المذكورة في هذا الاعلان لحقوق الإنسان الإسلامية لا نجد فرقا جوهريا مع حقوق الإنسان المذكورة في لائحة هيئة الاُمم المتحدة سوى بعض القيود المذكورة في اعلان القاهرة التي تكبل هذه اللائحة بما ورد في النصوص الإسلامية وتجعلها محكومة للموروث الفقهي واجتهادات الفقهاء المتباينة أحيانا، وبالتالي لا يمكنها الانفتاح على أجواء المجتمعات الإسلامية المعاصرة على مستوى التطبيق والممارسة، وأساسا كيف يمكن أن تكون الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير مواد هذه الوثيقة - كما جاء في البيان المذكور - ونحن نعلم أنّ الشريعة الإسلامية الحقة ليست في متناول أحد من المسلمين، والموجود منها هو اجتهادات متنوعة وفكر بشري قد يخطي‏ء وقد يصيب، فكيف يكون هذا الفكر البشري المتضارب والفهم المتنوع للنصوص الدينية هو المعيار للحقوق؟ ولماذا لا يكون المعيار هو ما يدركه الوجدان البشري والفطرة الإنسانية من حقوق تربط الإنسان بأخيه الإنسان بعيدا عن كل إشكال التفرقة في اللغة والدين والقومية وما إلى ذلك؟
المشكلة التي يعاني منها أرباب الفكر الإسلامي التقليدي في دائرة الحقوق والأخلاق هو أنّهم تصوروا وجود اختلاف أو تباين بين التشريع البشري والتشريع الإلهي في صياغة مفردات الحقوق وتفاصيل الأخلاق، في حين أنّ الاختلاف المزعوم هو اختلاف ظاهري فقط، كما في اختلاف ماء المطر النازل من السماء عن ماء النهر النابع من العيون، وحقيقتهما واحدة حيث إنّ العيون بدورها تستقي ماءها من الأمطار ومن الثلوج في أعالي الجبال، وهكذا فيما نحن فيه، فالوجدان البشري نور رباني وروح إلهي نفخه اللَّه في الإنسان ليدرك الخير والشر الحقيقيين، كما قال تعالى:
 الشمس، 7 - 8.
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْواها)
فهو مصدر إلهي في أعماق فطرة الإنسان إلى جانب مصدر (الوحي) في عملية التشريع، ولذا قال الحكماء المسلمين: «الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية»، وبهذا أيضا صار العقل أحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي إلى جانب الكتاب والسنة وقرر الاُصوليون أيضا قاعدة «كلما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس»، ومن هذا القبيل أيضا ما ورد في الروايات الشريفة: «إنّ للَّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنية، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول» 
لا بدّ من ترجيح المرتكزات العقلية في مثل هذه المسائل لأنّ الإسلام يجب أن يتطابق مع الحقوق.
لقد ورد في الحديث الشريف:
»إنّما بعثت لاُتمم مكارم الأخلاق«.
فالدين الحق هو الذي يهدف إلى تقوية الأخلاق ودعم الحقوق الفطرية في واقع الإنسان والمجتمع البشري وهذا هو ما ورد في الخطابات القرآنية للإنسان والبشرية في مجال الأمر بالعدل والاحسان وعمل الخير، والنهي عن الظلم والشر من قبيل قول تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وهو قوله تعالى:
أو قوله تعالى"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ" الغاشية 12 و 22.
فمهمّة النبي تذكير الإنسان بما يجده حاضرا في أعماق نفسه من أحكام أخلاقية وقوانين حقوقية لا أكثر وتثوير عناصر الخير والصلاح، وهو قول أميرالمؤمنين (ع) في نهج البلاغة في حديثه عن الغاية من بعث الأنبياء «ليثيروا فيهم دفائن العقول. ».
لقد تهافت الكتّاب الإخوانجية على نقد هذه اللائحة وإبراز نقاط ضعفها بدافع من هاجس الخوف على الهوية والذات والدين، وكأن كل نتاج بشري حضاري لابدّ وأن يكون صادرا بوحي الاهواء والشهوات وأنّ الفكر البشري ناقص في مقابل الشريعة السماوية التي تكفلت بكامل حقوق الإنسان على جميع المستويات والصعد، فمن ذلك ما أورده «زكي الميلاد» من جوانب نقد الفكر الإسلامي للخطاب الغربي لحقوق الإنسان:
«أولاً: إنّ حقوق الإنسان في الخطاب الغربي تتأسس على مرجعية فكرية تستبعد الدين من أن يكون مصدرا في هذه المرجعية، ومن المعروف في تاريخ الفكر البشري أنّ الدين هو الذي قدم ويقدم عادة المرجعية التي تعلو على جميع المرجعيات، إنّ ردّ أمر ما من الاُمور إلى اللَّه تعالى معناه تأسيسه على مرجعية كلية مطلقة لا يؤثر فيها اختلاف الثقافات والحضارات، مرجعية تعلو على الزمن والتاريخ، وبالتالي على الإنسان نفسه!! » 
وأنت ترى ما في هذا البيان من خلط بين مرجعية الدين الحقيقية، وهو اللَّه تعالى، وبين مرجعيته البشرية وهم الفقهاء ورجال الدين، حيث لا مشكلة مع الأول، ولكن عصر الوحي قد انقضى وليس بيننا من يتصل مباشرة بهذه المرجعية العليا، وما لدينا من مرجعية دينية، إنّما هي فكر بشري يستقي من النصوص الدينية حسب الإجتهاد الفقهاء واختلافهم في الرأي والمذهب والدين، فإلى من نرجع في هذه المسائل؟ هل إلى علماء الدين المسيحي، أو المسلمين من أهل السنة، أو من الشيعة، وعلماء كل مذهب لا يتفقون كذلك على نظرية موحدة منسجمة في دائرة الحقوق، وبعد هذا هل يصح القول بأنّ مرجعية الدين هي الأصل؟
وأيضا فانّ مسألة الحقوق إنّما تؤخذ من خارج الدين، ووظيفة الدين ليست في صياغة حقوق الإنسان، بل في دعمها وتأييدها وحث الناس على الالتزام بها، حالها حال الأخلاق التي لا يأتي الدين إلاّ لتوكيدها وربطها باللَّه تعالى، لايجاد الضمانات القوية في واقع الإنسان للتحرك في أجوائها وممارستها لا لتأسيسها وإنشائها، فمن المعلوم أنّ الأخلاق والحقوق كانت موجودة قبل نزول الأديان، بل إنّ المعيار السليم لإثبات حقانية دين معين أو بطلانه يكمن في مدى ما تتضمن تعاليم هذا الدين من أحكام أخلاقية ومسائل شرعية تضمن حقوق الأفراد، وإلاّ فانّ كل دين بإمكانه أن يدعي لنفسه الحقانية والمشروعية السماوية، وهذا يقتضي أن تكون الأخلاق والحقوق من الاُمور التي يعيشها الإنسان بوجدانه وفطرته ليتمكن بعد ذلك من تشخيص الحق والباطل من الأديان.
«ثانيا: إنّ كل المواثيق والإعلانات التي صدرت في أمريكا واوربا قبل الاعلان العالمي كانت موجهة بصورة أساسية للإنسان الأروبي والغربي عموما، والبداية الأساسية في طرح قضية حقوق لإنسان على نطاق عالمي كانت مع صدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، الاعلان الذي كان يراد له أن يحمل صفة العالمية إلاّ أنّه حقيقة يفتقدها، فلم يأخذ بعين الاعتبار التمايزات بين ثقافات وحضارات وأديان وهويات وتقاليد الاُمم والمجتمعات المختلفة عن الغرب، بل انطلق من أحادية الثقافة والهوية ومن اروبا تحديدا».
وهذا النقد بدوره في غاية الغرابة، وكأن حقوق الإنسان الفطرية من الحرية والمساواة والكرامة وأمثالها اُمور نسبية تتغير بتغير الثقافات والحضارات والأديان والتقاليد، والغريب هنا هو أنّ الذي يوجّه مثل هذا النقد يدّعي بدوره أنّ الإسلام يتضمن الحقوق الكاملة للبشرية على اختلاف ألوانهم وثقافاتهم وأعراقهم وتقاليدهم لأنّه دين الفطرة الإنسانية، والفطرة واحدة في جميع أفراد البشر، أي أنّ الحقوق الفطرية واحدة بين أفراد الإنسان من حسن العدل والحرية والمساواة، وقبح الظلم والجور وأشكال التمييز والقهر والكبت!!
مضافا إلى أنّ لائحة حقوق الإنسان اشترك في إخراجها وإمضائها نواب من غالبية شعوب العالم ولم يحتكر الإنسان الغربي إخراجها والاعلان عنها وإن كانت للغرب الاسبقية في السعي إلى تجسيدها على أرض الواقع الاجتماعي والسياسي.
العدالة والحرية ومنع التعذيب ومؤاخذة البري‏ء واحترام كرامة المرأة وحرية الرأي والبيان وأمثالها ليست مقولات من نتاج غربي خالص حتى تنعكس عليها الثقافة والتقاليد الغربية دون غيرها، بل هي حصيلة معاناة بشرية وتجربة حضارية استطاعت اخراج الإنسان من أجواء الاستبداد والخرافة والتقاليد الزائفة إلى حيث الحرية والكرامة والمسؤولية، ومن الخطأ التعامل معها من موقع الرفض والتنكر والخصومة بما يدفع بنا إلى الجهة المقابلة من القيم والمبادي‏ء، كما أنّ رفض الإخوانجية للديمقراطية بحجة أنّها وافد غربي ونتاج بشري لا يتعالى على الخطأ والزيف أوقعهم في نتيجة وهي الرضا بالاستبداد ورفض الانتخابات وقبول النموذج الطالباني أو الملوكي الخليجي في مقابل النموذج الغربي!!
«ثالثا: إنّ اوربا التي نهضت بقضايا حقوق الإنسان في مجتمعاتها، إلى اليوم تفتخر أمام العالم بهذا الانجاز الحضاري، الانجاز الذي يستحق التقدير والاحترام بلا شك من العالم برمته...، كان يفترض عليها وقد خرجت من العصور المظلمة أن تكون على درجة عالية من الوعي والشفافية باحترام حقوق الإنسان والاُمم الاُخرى، في حين أنّ الصورة التي ينقلها لنا التاريخ هي أنّ اروبا التي تسببت في اخضاع شعوب استعمرتها، كانت في غاية القسوة والبؤس بشكل يناقض تماما شعارات حقوق الإنسان، اروربا التي نهضت بحقوق الإنسان هي التي انتهكتها وانقلبت عليها بأسوأ صور تجاه الاُمم والشعوب التي استعمرتها، وإلى اليوم لم تعتذر اروبا عن هذا التاريخ الأسود ». 
وهذا الكلام أعجب من سابقه، لأنّ سلوكيات بعض الشعوب السلبية لا تعدّ دليلاً منطقيا لبطلان القيم والأخلاقية التي يرفعونها، بل إنّ جميع الحكومات الجائرة والاستبدادية ترفع شعار العدالة والحرية والمساواة، فهل يدل سلوك المستبدين والظالمين على زيف مفهوم العدالة وبطلان مفهوم الحرية؟
هل أنّ عمل سلاطين بني اُمية وبني العباس وجورهم وهم يرفعون لواء الإسلام والخلافة للرسول (ص) يعدّ مسوغا لرفض قيم السماء التي جاء بها الإسلام لاحياء البشرية والصعود بها في مدارج الكمال والتحضر؟
ثم لا يخفى أنّ لائحة حقوق الإنسان بصياغتها العالمية لم يمض على ولادتها سوى نصف قرن وقد تمّ الاعلان عنها عقيب الحرب العالمية الثانية، والاستعمار الغربي للشعوب الشرقية والافريقية يمتد إلى زمن سابق على ذلك بعشرات السنين،و لانهدف هنا إلى تبرير ساحة الإنسان الغربي من ممارساته الظالمة والتعسفية بحق الشعوب المستعمرة وخاصة دور الدول الغربية في تكريس التبعية والتخلف والاستبداد في هذه البلدان، ولكن هل يعني هذا أن نبقى في دائرة الماضي ونكيل الإتهامات على الآخر الغربي من دون الأخذ بنظر الاعتبار نقاط القوة في هذه الحضارة الجديدة والعمل على استيحاء مقومات النهضة الحضارية منها بما يتناسب ومجتمعاتنا الإسلامية من التجربة البشرية الراهنة؟!
«رابعا: ومن إشكالات الإخوانجية على لائحة حقوق الإنسان ما يتعلق بالجانب التطبيقي منها وأنّها تفتقد إلى ضمانات تنفيذية على مستوى الساحة الدولية، بخلاف الإسلام الذي يؤكد على البعد الإلهي في هذه الحقوق ويعتمد على الوجدان الفردي وإيمان المسلم في تطبيق هذه الحقوق على أرض الواقع، أو أنّ الدول العظمى تستخدم هذه اللائحة لأغراض سياسية و كورقة ضغط ضد الدول الاُخرى المخالفة لها في المنهج السياسي‏كما يقول الشيخ شمس الدين في هذا الصدد: «إنّ شعار حقوق الإنسان الذي يثار في السنين الأخيرة على نطاق واسع نلاحظ أنّه أصبح يستعمل في كثير من الحالات ضد الإسلام والمسلمين والعرب، وترفع هذه الشعارات في بعض الحالات دول غربية معينة مثل الولايات المتحدة الامريكية، أو بعض دول اوربا الغربية، وفي بعض الحالات تطرح هذه الشعارات منظمات دولية من قبيل لجنة حقوق الإنسان في الاُمم المتحدة أو جمعيات حقوق الإنسان الاُخرى في العالم الغربي، نحن نعتقد أنّ كثيرا من هذه الاُطروحات لا تستند إلى نيّات حسنة وإنّما يقصد بها التشهير بالإسلام والمسلمين والعرب» 
ونحن بدورنا نشارك الشيخ الجليل في عدم توفر النيّة الحسنة عند الطرف المقابل، ولكن هل يعني أنّ هذه الاتهامات بلا رصيد واقعي يعيشه المسلمون في بلدانهم؟ ولماذا ننزعج من هذه المقولات ونفتش عن نوايا الطرف المقابل بدلاً من التفتيش في واقعنا وكتبنا الإسلامية وفتاوى فقهائنا لازالة ما يتقاطع مع حقوق الإنسان ولا نجعلها ذريعة بيد الدول الغربية للتهجم على الإسلام والمسلمين؟
أليست المرأة ممنوعة لحد الآن في بلدان إسلامية عن المشاركة في الانتخابات، أو ممنوعة حتى عن قيادة السيارة بفتوى بعض الفقهاء؟
أليس المسلمون يعيشون الاستبداد السياسي والفكري الذي تفرضه عليهم قوى السلطة بالاستناد إلى بعض الروايات والفتاوى التي تطلق يد الحاكم وتجعل له من الصلاحيات ما كانت للرسول الأكرم(ص) وليس لأحد حق الاعتراض أو النقد؟
«خامسا: الفصل بين القانون والأخلاق في الخطاب الغربي لحقوق الإنسان، حيث يشرع بعض الحقوق التي تتنافى مع الأخلاق والفطره الإنسانية، من نوع حقّ الإنسان على جسده حيث يجيز للمرأة أن تتصرف في جسدها بمطلق الحرية، ويجيز للرجال المعاشرة المثلية كما في بريطانيا، وهناك بعض الكنائس المسيحية التي تسمح بإجراء مراسيم الزواج لهذا النوع من الشراكة كما في هولندا والدانمارك، هذه الحقوق وغيرها التي تخالف وتتعارض مع طبيعة الإنسان لا يمكن أن تستقيم الحياة على وفقها أو جلب السعادة عن طبقها ». 
وهذا الإشكال أيضا لا يرد على أصل لائحة حقوق الإنسان العالمية، بل على بعض قوانين الدول الغربية التي تحترم الحرية الفردية على حساب اهتزاز القيم الأخلاقية والمبادي‏ء الدينية، وإلاّ فانّ اللائحة المذكورة لا تشير إلى هذه الصياغات القانونية المنحرفة، وإن هي إلاّ من قبيل حق القوامة التي وضعها الإسلام للرجل على زوجته وأطفاله بما لا يخل بمقتضى العدالة والكرامة الإنسانية، ولكن يأتي بعض الفقهاء ليستوحي من هذا المفهوم القرآني جواز بعض الممارسات التعسفية للرجل بحق الزوجة من قبيل حقه في منعها من الخروج من البيت لعدّة شهور، أو منعها من التحصيل الدراسي، وتجميد طاقاتها والسهر على خدمته، فمثل هذه الاستنباطات لا تشكل نقطة ضعف في اصل المفهوم القرآني المذكور، وفي أغلب الاحيان تواجه الصياغة العامة والكلية للحقوق بعض الاستثناءات أو تتقاطع مع بنود قانون كلي آخر، حيث تتكفل القوانين الفرعية، حلّ مثل هذه الإشكالات ومعالجة هذه التعارضات القانونية.
وعلى أية حال فاننا في بلداننا الإسلامية علينا معالجة العقبات الحقوقية في مفردات القضايا بما لا يتقاطع مع مبادي‏ء الشريعة السماوية ولنترك للآخرين حقهم في صياغة قوانينهم وفق ثقافتهم وأفكارهم.

حقوق أهل الكتاب نموذجاً
أحدى الإثارات المطروحة في مسألة حقوق الإنسان في الإسلام، مسألة التبعيض في حقوق المواطنين على أساس الدين ووجوب دفع «الجزية» على أهل الكتاب بما يتنافى مع بنود اللائحة المذكورة وضرورة المساواة في الحقوق بين جميع البشر على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وأديانهم، وهذا الحكم الشرعي الخاص بأهل الكتاب هو السبب في ما ذهب إليه الكثير من السلفيين من اعتبار أهل الكتاب مواطنين من الدرجة الثانية وعدم أعطائهم الحق في الانتخاب والترشيح وتولي المناصب المهمة في البلاد الإسلامية وعدم جواز استخدامهم في الجيش والقوات العسكرية وما شاكل ذلك، يقول صاحب كتاب «المذهب السياسي في الإسلام»:
«رعايا الدولة الإسلامية، والذين يعيشون داخل حدودها السياسية على قسمين:
1- رعايا مواطنون وهم المسلمون.
2- رعايا غير مواطنين -أو مواطنون من الدرجة الثانية- وهم غير المسلمين من أهل الكتاب، وهؤلاء على نوعين...
إنّ هؤلاء الرعايا وفي كلا النوعين تحتضنهم الدولة الإسلامية، وتوفر لهم كامل حقوقهم!! (لاحظ الاستثناءات) إلاّ أنّهم لا يساهمون في حكومة الدولة الإسلامية بالمستوى الذي يساهم فيه المسلمون، حيث لا يحق لهم الترشيح لموقع القيادة ورئاسة الجمهورية وإن ساهموا فيما دون ذلك.
كما أنّهم لا يتمتعون بنفس الحقوق الاجتماعية والثقافية التي يتمتع بها المسلمون حيث لا يحق لهم - مثلاً - التبليغ لأديانهم، ونشر ثقافتهم، كما لا يحق لهم بناء معابد جديدة لهم، بل ذكر الفقهاء أنّه لا يسمح بأن يعلو بناؤهم على أبنية المسلمين في إشارة إلى موقعهم الأدنى من موقع المسلمين، أمّا حماية الدولة الإسلامية فانّها ثابتة لهم على السواء مع المواطنين، طالما كانت شروط الذمة التي تعاهدوا عليها محفوظة». 
وبعد هذا يدعي أصحاب هذا الفكر الاُصولي أنّ دينهم قد تكفّل لجميع البشر بالحقوق الإنسانية، ويستدلون على مثل هذا الاجحاف والتعسف بروايات ونصوص هي أبعد ما تكون عن هذه النظرة الضيقة تجاه غير المسلمين، حيث يورد هذا المؤلف بعد ذلك نصّ الدستور الذي وضعه رسول اللَّه(ص) للمسلمين في المدينة ويقول: يتعرض الرسول(ص) إلى القسم الثاني من رعايا الدولة الإسلامية فيقول:
»وإنّه من تبعنا من اليهود، فانّ له النصر والاُسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم«.
»وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم«.
»وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم«. 
وهكذا نرى أنّ هذا النص يقرر من الحقوق لأهل الكتاب بما لا يختلف عن حقوق اخوانهم المسلمين، إلاّ أنّ الفقه التقليدي يتحرك من موقع الجمود التاريخي على النسق الثقافي والسياسي الحاكم على تلك العصور ويصرّ على اغفال المتغيرات الحضارية في عالمنا الجديد بما يوهم اعتماد الإسلام التبعيض في حقوق الإنسان على أساس الدين والعقيدة، في حين أنّ ضريبة (الجزية) كما يؤكد ذلك بعض علماء الإصلاح الديني إنّما هي في مقابل (الزكاة) التي يدفعها المسلمون للحكومة الإسلامية، أو في مقابل (الأمن) الذي يوفره لهم الجيش الإسلامي، فلو تغيّرت الظروف والاعراف في المجتمع البشري وقامت الحكومة الإسلامية بأخذ الضرائب المختلفة من أفراد الشعب (من المسلمين وغير المسلمين) على السواء، أو إشراك غير المسلمين في القطاع العسكري - كما هو الحال في الجمهورية الإسلامية في ايران في العصر الحاضر - لما بقي مبرر لأخذ الجزية حينئذٍ.
وبغضّ النظر عن هذه الرؤية المعقولة لمقولة التمييز في بعض الحقوق بين المسلمين وأهل الكتاب، أو بين الرجل والمرأة بما يتناغم مع مقولة المساواة في الإسلام على مستوى الإنسانية بين جميع أفراد الشعب ويقطع عنه ألسنة المخالفين في اتهامهم له بالتمييز بين الناس على أساس العقيدة، هناك ملاحظة مهمة تأخذ بنظر الاعتبار البعد الثقافي والحضاري للمجتمع الإسلامي الأول بالقياس الى مجتمعنا الجديد، وهي أنّ الإسلام حين فرض الجزية على أهل الكتاب في صدر الإسلام كان يمثل في هذا العمل قمّة الطرح الإنساني والرؤية الحضارية في تعامل الدولة مع الأقليات الدينية, في مقابل ما نجده من التعامل السلبي والوحشي في الطرف المقابل تجاه الأقليات الإسلامية الواقعة تحت سيطرته، أهونه القتل والسلب والنهب ومصادرة الثروات واستعباد النساء والأطفال، فعلى سبيل المثال يقول المؤرخ الكبير (ول ديورانت) في (قصة الحضارة) عن سلوك الصليبيين الفاتحين مع أهالي مدينة القدس المسلمين:
« وفي هذا يقول القس ريمند الاجبلي شاهد العيان:
وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رميا بالسهام، أو اُرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من وفوق الأبراج، وظلّ بعضهم الآخر يعذّبون عدّة أيام، ثم احرقوا بالنار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل.
ويروي غيره من المعاصرين تفاصيل أدق من هذه وأوفى، يقولون: إن إلنساء كنّ يقتلن طعنا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء اُمهاتهم ويقذف بهم من فوق الاُسور، أو تهشّم رؤوسهم بدقّها بالعمد، وذبح سبعون الفا من المسلمين الذين بقوا في المدينة، أمّا اليهود الذين بقوا أحياء فقد سيقوا إلى كنيس لهم، وأشعلت فيهم النار وهم أحياء، واحتشد المنتصرون في كنيسة الضريح المقدس، وكانوا يعتقدون أنّها مغارة فيها احتوت في يوم ما المسيح المصلوب، وفيها أخذ كل منهم يعانق الآخر ابتهاجا بالنصر وبتحرير المدينة، ويحمدون الرحمن الرحيم على ما نالوا من فوز! » .
وفي مثل هذه الأجواء الثقافية اللا إنسانية في الحضارات البائدة واُسلوب تعاملها مع الآخر المغلوب، جاء الإسلام بمبدأ الجزية وشفعها باعطاء الحرية الكاملة وضمان الحياة الآمنة لأهل الكتاب والذي يمثل نقلة نوعية أو قفزة حضارية على مستوى تأصيل الروابط القائمة على محور الإنسانية، ولكن الحال الآن يختلف كثيرا عن الماضي، فبينما يفتي الفقهاء الآن بنجاسة أهل الكتاب ووجوب دفع الجزية عليهم ومنعهم من نشر كتبهم والتبليغ لدينهم وعقائدهم في الوسط الإسلامي والقول بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية وجواز طردهم من البلاد الإسلامية وممنوعية بناء كنائس جديدة أو تعمير ما يوشك منها على الخراب وأمثال ذلك ممّا سطره أصحاب العقل الأصولي في كتبهم، نجد في الطرف المقابل تعامل الدولة الغربية مع الأقليات الدينية من المسلمين يقوم على المساواة في الحقوق المدنية والقضائية والحريات السياسية واعتبارهم مواطنين من الدرجة الاُولى وحتى السماح لهم بتشكيل الأحزاب والتظاهر ضد الحكومة والتبليغ للدين الإسلامي من خلال الصحف والمجلات ونشر الكتب الإسلامية واقتناء اذاعة وقناة تلفزيونية وبناء المساجد وممارسة الشعائر الدينية بكل حرية وأمان، فهل بعد هذا يمكن القول بأنّ موقف الطرف الآخر من الأقليات الدينية لا يمثل نقلة نوعية وحضارية في مجال حقوق الإنسان وأنّه ما زال متخلفا حضاريا عن الرؤية الإسلامية التي يراها الفقهاء بالنسبة لأهل الكتاب!؟
هل لا يزال الإسلام يعتبرهم نجسين ومواطنين من الدرجة الثانية؟
هل يحق لمثل هذا الفكر الديني أن يدعي أنّه متحضر أكثر من الآخرين وعلى الجميع أن ينظووا تحت لوائه؟!
 سورة النساء، الآية 145.
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْك الاَْسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا)ونقطة ثالثة ومهمة أيضا، وهي أنّ القرآن الكريم يشدّد النكير على المنافقين ويعتبرهم في الدرك الأسفل من الجحيم:
 سورة التوبة، الآية 73.
(يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)والآيات الكثيرة الواردة في ذمّهم توحي بما لا يدع مجالاً للشك في أنّهم منبوذون وينبغي طردهم والحذر منهم، بل وقتالهم إذا اقتضى الأمر:
وبعد هذا كيف يكون هؤلاء المنافقون طاهرين ومواطنين من الدرجة الاُولى، بل وكل من يشهد الشهادتين بلسانه ولكنه يعيش في قلبه الحقد والكراهية والنفاق والكفر باللَّه وبالإنسانية، بينما يكون ذلك المسيحي المحب للخير والإنسانية وصاحب دار الأيتام والعجزة والمتبرع ببناء المستشفى يتداوى فيها المسلمون وغير المسلمين على السواء، نجسا ومواطنا من الدرجة الثانية وللحاكم الإسلامي أن يطرده من أرض الإسلام؟!

مفهوم المواطنة
بعد هذا لا بأس بأن نشير الى أن مفهوم المواطنة مصطلح جديد ومقولة من مقولات المجتمع المدني, ومعلوم أن المجتمع المدني لا يقبل تقسيم المواطنة الى درجة أولى وثانية، فجميع أفراد هذا المجتمع إما مواطنون أو مهاجرون أو أجانب، ولا معنى لأنْ يكون المواطن من الدرجة الأولى أو الثانية, لأنّ المواطن في المجتمع المدني هو الذي يتمتّع بامتيازين أساسيين - كما يقول اوستن رني - (أولهما: أهليته, إذا ما وصل سنّ الرشد الذي تحدّده الدولة, للمساهمة في عمليات اتخاذ القرارات التي تحدّد سياسة الدولة، وذلك عن طريق بعض الوسائل مثل حق التصويت وحق تولّي الوظائف، وثانيهما حقّه في أن تقوم الدولة في الداخل والخارج في حماية نفسه وملكيته) 
وعلى هذا الأساس فإن المواطن هو الذي يشارك في صنع القرار ويساهم في عملية الحكم والتقنين من خلال النواب والمرشّحين لتولي المناصب السياسية في المجتمع.
ومعلوم أن المجتمع الديني، كما يراه أصحاب العقل الأصولي، لا يسمح بمثل هذا الحق لأفراده، لا في اختيار الوالي أوالحاكم لأنه منصّب من قبل الله تعالى إما بالتنصيب الخاص (كما في زمن المعصومين) أو التنصيب العام (أي الفقيه العادل المنصّب من الله بالتنصيب العام.) ولا في المساهمة في عملية سنّ القوانين لأن الشريعة الإسلامية قد تكلّفت هذا الأمر، وما على الحاكم أو مجلس الشورى الاّ تطبيق القوانين الواردة في الشريعة المقدسة على مواردها ومصاديقها.
وبهذا يتّضح جيداً أن إطلاق كلمة (المواطن) على أفراد المجتمع الديني أو المجتمعات التوتاليتارية والإستبدادية إنما هو زيف يجانب الواقع والحقيقة ولا يمثّل أي بُعد حقوقي وسياسي في واقع الممارسة الإجتماعية.
إن المجتمع المدني مبني أساساً على فكرة العقد الإجتماعي التي قال بها جان جاك روسو و جون لوك وغيرهما من فلاسفة النهضة الحضارية الجديدة وبدافع التصدي للإستبداد وقـــوى القهـــر الســـياسي والإجتماعي. حيث يتحدث جون لوك في كتابه «رسالتان في الحكومة المدنية» عن مبادئ النظام الديمقراطي الجديد كالآتي:
«الناس جميعاً أحرار وهم متساوون في حقهم في الحرية.
الحقوق الطبيعية ليست منحة من أحد، وإنما هي من خصائص الذات البشرية.
الناس جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات.
تنشأ السلطة السياسية علىأساس التعاقد الإجتماعي المبني على التراضي بين طرفي العقد. »
فيما نرى أن المجتمع الديني الذي ينظّر له أتباع التيار الأصولي يفتقد لجميع هذه المبادئ الأربعة، فلا مساواة في حق الحرية لجميع أفراد المجتمع الإسلامي، كما رأينا في تقسيمهم الى مواطنين من الدرجة الأولى والثانية،كما أن الحقوق الطبيعية لدى هؤلاء لا تُعدّ من خصائص الذات البشرية بما فيها حق تقرير المصير, لأنها- حسب وجهة نظرهم - منحة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده بالشروط المقررة. إضافة الى ذلك أن الناس ليسوا متساوين في الحقوق والواجبات, ويشهد بذلك عدم تساوي الرجل والمرأة في الكثير من التشريعات. كما إن السلطة السياسية في الأطروحة الدينية لا تقوم علىأساس التعاقد الإجتماعي المبني على التراضي بين الوالي والرعية وإنما هي من شؤون الله تعالى ولا دخل للبشر فيها, وهذا ما يؤكّده صاحب كتاب «المذهب السياسي في الإسلام» بعد أن يؤكد على أن مصدر سلطة الرسول وسائر الأنبياء والمعصومين هو الله تبارك وتعالى فضلاً عن سلطة الرسالة والشريعة, أي ليس للناس أي حق في تشريع أي قانون الاّ ما يجتهد فيه الفقيه الذي يستمد هو الآخر سلطته من الله وليس من الناس. يقول صاحب هذا الكتاب ما نصّه:
«أما سلطة نائب المعصوم وولي الأمر في عصر الغيبة فهي الآخرى لا تُستمد من الأمة, إنما سلطته إلهية, بحيث ان الرادّ عليه رادّ على الإمام المعصوم، والراد عليه كالراد على الله تعالى وهو على حدّ الشرك بالله، كما ورد في حديثٍ شريفٍ متقدم، ورغم أن الأمة هي التي تساهم في عملية اختيار الإمام الاّ أنه بعد هذا الاختيار سيأخذ موقعة وإمامته باعتباره نائباً للإمام المعصوم ووكيلاً عنه (لا عن الناس!) في إدارة شؤون الأمة مما يعني أن السلطة ستكون مستمدة من سلطة الله تعالى الذي هو مصدر كل السلطات. » 
ولا يخفي هنا على كل ذي عينين ما يؤول إليه أمر هذه الحكومة الدينية من تحكيم ادوات الإستبداد والقهر السياسي والفكري والديني باسم الحق الإلهي وتحت شعار القداسة الإلهيه للحاكم. والمصيبة الأعظم أن هؤلاء الإسلامويين يطرحون أفكارهم وقراءتهم الضيقة هذه للنصوص الدينية باسم الإسلام والشرع الالهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويدّعون أن هذه الأفكار البائسة والنظرات الغارقة في أوهام الأيديولوجية هي رأي الإسلام والقرآن والشريعة المقدسة!!

الفرقة الناجية

لتكفير غيرهم من الأحزاب يستعمل الإخوانجية ما روي عن الرسولصلوات الله عليه :ستفترق امتي على 73 فرقة واحدة ناجية والباقي في النار "واضاف شيوخ اهل السنة لاثبات انهم هم الفرقة الناجية ان النبي قال :"هم انا واصحابي".أماالشيعة فاضافت لهذا الحديث :"ياعلي انت وشيعتك هم الفائزون".
نلاحظ على هذا الكلام نقاط عدة:
1- انه مخالف للقران الذي يقول:(ان الذين امنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من امن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون:.(المائدة 69) .فاذا كان اتباع الديانات الاخرى سيكتب لهم النجاة بدون الايمان بالنبي (فقط ايمان بالله واخرة وعمل صالح)فكيف باتباع المذاهب الاسلامية؟
2- انه مخالف لرحمة الله الواسعة لانه يعني ان 99 في المائة من الناس في النار من المسلمين وغير المسلمين.ويعني ان الشيطان تغلب على الله في ارسال اكثر الناس الى جهنم والله لا يريد ذلك قطعا لانه يتنافى مع رحمته ولطفه بعباده.
3- انه مخالف لطبيعة الانسان والبشرية في الاختلاف والتنوع في الافكار والاذواق والميول والمزاج ويتبع ذلك اختلافهم في العقائد والمذاهب,ولو صاروا على دين واحد ومذهب واحد لماتت كل حركة فكرية وابداع وتنافس حتى في المجالات الاخرى لان الوازع الديني يعد احد العوامل المهمة في شحذ همة الافراد والمجتمع لتحقيق التفوق على المجتمعات الاخرى.
4- ان هذا الحديث هو سبب الارهاب والطائفية وقتل الابرياء في بلادنا الاسلامية لان كل فرقة تدعي انها على حق والباقي باطل وشرك ويجب عليهم مقاتلة اهل الباطل,ونعرف ان هذا الحديث باطل من ثماره كما قال المسيح(من ثمارهم تعرفونهم).
5- ان هذا الحديث هو سبب جمود الفرد على معتقداته دون البحث في معتقدات الاخرين لانه يعتقد ان دينه ومذهبه هو الحق وانه من اهل النجاة فيحرم نفسه من الاطلاع على افكار وعقائد الاخرين مهما كان فيها من نقاط ايجابية ومفيدة,وحتى لو اطلع عليها فانه لا يرى منها الا الجانب السئ والمظلم ,وبالتالي يظل سجين معتقداته وتظل الفجوة بينه وبين الاخرين وقد يحس بالكراهية لهم ويتمنى الخلاص منهم.وهذا يتنافى مع ابسط معالم الاخلاق.
6- ان هذا الحديث هو سبب قتل المعارضين والمناوئين للسلاطين والحكام الذين يعتقدون انهم ومن معهم هم الفرقة الناجية وكل من خالفهم فهو على ضلالة وبالتالي تكريس الاستبداد والظلم وخنق الاصوات الحرة والافكار المخالفة.

7- ماذنب من ولد في محيط سني او شيعي او مسيحي اوو..ومعلوم ان الفرد يتاثر بمحيطه ومجتمعه فياخذ منهم اللغة والثقافة والدين وو..والنبي قال ايضا(كل انسان يولد على الفطرة فاما ابواه يهودانه او ينصرانه او يمجسانه) ونضيف:او يشيعانه او يسننانه او.. 

بين الشريعة والقانون الوضعي


    


قالوا : القران دستورنا وان الشريعة الاسلامية صالحة لكل زمان ومكان لانها من الله وهو اعلم بحاجات عباده من البشر انفسهم,والقوانين الوضعية من نتاج العقل البشري وهو ناقص ويتأثر بالاهواء.
إن  هذا الكلام غير صحيح نظريا وعمليا لانه :
1- ان الشرائع السماوية اثنتان فقط,الشريعة اليهودية والاسلامية,,ومعلوم ان المسيحية دين بلا شريعة ,والسؤال هو:لماذا خص الله العرب في الجزيرة العربية وبني اسرائيل بالشرائع الالهية وترك اكثر البشر في الهند والصين واوربا وافريقيا وو..بدون شريعة؟و نرى أن ذلك حكمة من الله أراد بها أن يثبت لنا أن الإنسان بعقله يمكن له أن يصل لتشريعات لا تختلف عما أراده الله للإنسانأي أن الله بلغتنا البشرية ديمقراطي أعطى بعض التشريعات للإستئناس بها و ترك للبشرية حرية الإختيار و حرية التشريع..؟

2- انتم تقولون ان الشريعة اليهودية اصبحت قديمة وجاء الاسلام ونسخها او جاء المسيح وابطلها مع انها من الله,الم تصبح الشريعة الاسلامية الان قديمة ولا تفي بالغرض مع كل هذه المتغيرات في ثقافة البشر وعلومهم؟ثم اين الشريعة الاسلامية الالهية لكي نعمل على تطبيقها,هل هي شريعة اهل السنة وهم مختلفون بدورهم الى اربعة مذاهب,او شريعة فقهاء الشيعة وهم ايضا مختلفون فيما بينهم؟

3- ان القانون المدني يتماشى مع حاجات الانسان في كل عصر وهو متغير تبعا لتغير حاجات الانسان وثقافته وتقاليده ويصدر عن توافق العقلاء والنواب الذين اختارهم الشعب لهذا الغرض وبالتالي فهو يحافظ على حرية الانسان لانه ينطلق من داخل الانسان وحاجاته الفعلية المتغيرة اما الشريعة فتأتي من خارجه ومن زمن غير زمانه.وهذا يعني الجمود على القديم وعبودية الانسان للماضي وللفقهاء.

4- اما عمليا فنحن نشاهد تقدم البلدان المتحضرة كاوربا واليابان التي سارت وفق القوانين المدنية في كافة المجالات على عكس البلدان التي قامت بتطبيق الشريعة الاسلامية كالسعودية وافغانستان ايام الطالبان والصومال ايام المحاكم الشرعية,اليست هذه التجارب كافية في اثبات بطلان المقولة المذكورة.؟

5- اذا كانت القوانين المدنية نتاج العقل البشري الناقص فالشريعة بدورها نتاج عقل الفقهاء الناقص اي هي بشرية ايضا وان نسبها الفقهاء زورا وبهتانا الى الله,والدليل اختلاف الفقهاء في جميع مسائل الشريعة واحكامها حتى اختلط الحابل بالنابل
والبشري بالالهي.

6- ان القوانين المدنية لا تسن اعتباطا وبدافع الاهواء كما يتهمها الكتاب الاسلاميون بل تستند الى المصلحة العامة وحقوق الانسان ,وهذه الحقوق فطرية ومقبولة عند جميع شعوب العالم وبالتالي يمكن القول بانها الهية ايضا,اي كما يقال عن احكام الشريعة بانها الهية لانها تستند الى القران والسنة(رغم اختلاف الفقهاء في الفتاوى) فكذلك يمكن القول بان القوانين المدنية الهية ايضا لانها تستند الى الحقوق الفطرية التي اودعها الله في الانسان وصادرة عن رضا الناس وتوافقهم من خلال نوابهم وبطريقة العقد الاجتماعي وقد اكد القران على وجوب الوفاء بالعقود(ياايها الذين امنوا اوفوا بالعقود)المائدة -الاية1.

7-الاشكال المهم هنا هو:من قال ان هذه الشريعة مستمرة الى هذا العصر وليست خاصة بذلك العصر ؟الفقهاء هم الذين قالوا ان الخطابات القرانية وان كانت موجهة للحاضرين الا انها تشمل الغائبين ايضا,وربما هذا الكلام صحيح بالنسبة للعقائد وقصص الانبياء والاخلاق وامثال ذلك لا في الاحكام,والا كيف نفسر وجود الناسخ والمنسوخ في احكام القران؟ اذا كانت الاحكام في القران تتغير بفعل تغير الظروف كما يعترف بذلك علماء الاسلام في تبريرهم لوجود النسخ في القران من قبيل نزول ايات الجهاد وقتال الكفار في المدينة وبعد امتلاك المسلمين للقوة ,فكيف يعقل بقاء الاحكام اكثر من اربعة عشر قرنا بدون نسخ مع كل هذه المتغيرات العظيمة التي شهدتها المجتمعات البشرية على كافة المستويات؟ اليس من العقل القول بان هذه الاحكام كانت ناظرة الى حل مشاكل ذلك العصر وذلك المجتمع العربي في الجزيرة العربية لا الى جميع العصور والمجتمعات البشرية؟ وهذا يعني ان هذه الاحكام جاءت مؤقتة في نفسها ومشروطة بظروف تخصها فلما تغيرت الظروف انتهت صلاحيتها بنفسها فلا حاجة لنزول قران لينسخها......والرأي اليكم

حمّة الهمامي:اليسار الماركسي اللينيني ومقاومة الامبريالية في الظرف الراهن

اليسار الماركسي اللينيني ومقاومة الامبريالية في الظرف الراهن
1- في مطلع التسعينات عندما انهار الاتحاد السوفياتي وسائر بلدان الكتلة الشرقية، وفي غمرة احتفاء القوى الرأسمالية والامبريالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الحدث الهائل، تمّ الإعلان أن "نظاما عالميا جديدا" سيحلّ محل "النظام القديم"، نظام القطبين المتصارعين على الهيمنة على العالم وأن الأزمات الاقتصادية والصراعات الطبقية وسباق التسلّح وكذلك الثورات والحروب لن يكون لها مكان في "النظام العالمي الجديد" الذي سيكون "واحة سلام وحريّة وديمقراطية وانسجام" يسود داخلها "النمو والازدهار والتوزيع العادل للثروات". وسرعان ما ظهرت في هذه الأجواء بعض النظريات معلنة "نهاية التاريخ" ومعها "الانتصار النهائي" للنظام الرأسمالي الليبرالي الذي سيكون "آخر نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي تعرفه البشرية في تاريخها" لأنه "الأنسب لها" و" الأقدر على إشباع حاجات الأفراد الماديّة والمعنويّة" بين ما اعتبرت الاشتراكية "قوسا" أغلق أو "انحرافا" في مسار التاريخ قوّم.

لكن خمس عشرة سنة من عمر هذا النظام العالمي الجديد كانت كفيلة لإبراز زيف تلك الادعاءات فقد تبيّن للعمال والشعوب في كافة أنحاء العالم بما في ذلك في البلدان الرأسمالية المتقدمة أو الكبرى أن "النظام العالمي الجديد" بمحتواه المتمثل في "النيوليبرالية المعولمة" لا يعني شيئا غير اشتداد قبضة الاحتكارات الكبرى متعددة الجنسيات والطغم المالية ومن ثمّة حفنة من البلدان الرأسمالية والمؤسسات الدولية الخاضعة لها (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة...) على مصائر العالم. وقد زادها انهيار الاتحاد السوفياتي صلفا وغطرسة وأطلق مخالبها في كل الاتجاهات، وهو ما تولد عنه تكثيف غير مسبوق لوتائر الاعتداء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للعمال والكادحين ونهب البلدان التابعة وإخضاعها وإثارة للحروب والنزاعات العرقية والطائفيّة وتطور قوى اليمين المتطرّف المعادي للحريات والديمقراطية والعنصري وعودة إلى الحروب الاستعمارية على الشاكلة القديمة وتدمير الثقافات المحليّة والطبيعة والمحيط وتهديد مصير الأجيال القادمة من الإنسانية.

2- كان من نتائج النظام العالمي الجديد أن تعمّقت الهوّة على الصعيد الدولي بين قطبي الثروة والفقر ناهيك أن الـ20% من الناس الأكثر غنى في العالم استأثروا بـ86% من الناتج العالمي الخام عام 1998 بينما لم يتجاوز نصيب الـ20% الأكثر فقرا الـ1%. وفي نفس السياق انتقل الفارق في المداخيل على المستوى العالمي من 1 إلى 30 سنة 1960 إلى 1 إلى 60 سنة 1990 ثمّ إلى 1 إلى 74 سنة 1997. ومن المؤكد أن كل هذه النسب قد تفاقمت خلال العشرية الأخيرة باعتبار أنه لم يطرأ أي جديد لمواجهة الاختلالات الحاصلة والحدّ منها. ولا يمكن أن تكتمل الصورة إلاّ إذا أضفنا بعض الأرقام الأخرى. من ذلك مثلا أن نصيب بلدان "الجنوب" (أي البلدان التابعة) من الثروة العالمية نزل في ما بين 1980 و1989 من 29% إلى 24.4% رغم أن عدد سكان تلك البلدان زاد ملياري نسمة خلال هذه الفترة، كما أن 54% من سكان العالم يعيشون بأقل من دولارين في اليوم الواحد و22% منهم بدولار واحد وهو الحد الأدنى المطلق للفقر، هذا دون ذكر معدلات الأميّة والبطالة المفزعة. أخيرا وليس آخرا لا بد من الإشارة إلى أن الإنتاج السنوي للمجموعة البشرية أصبح منذ سنوات عديدة يغطّي 110% من حاجات سكان المعمورة أي ما يكفي وزيادة لسدّ حاجات الإنسانية جمعاء. وهو ما يعني أن الفقر والجوع في العالم ليس سببه نقص الإنتاج ولكن سيطرة حفنة من الأثرياء على ثمرة مجهودات المليارات من البشر لأن هذه الحفنة تتحكم في وسائل الإنتاج الرئيسية وبالتالي في توزيع تلك الثمرة.

3- إن اشتداد احتكار الثروة في "النظام العالمي الجديد" مرتبط أشدّ الارتباط باشتداد سيطرة الاحتكارات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي. ففي منتصف التسعينات من القرن العشرين مثلا، أي بضع سنوات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت 4 آلاف من الاحتكارات ذات الأنشطة العالمية و250 ألف فرعا من فروعها، علما وأن 1% فقط من الاحتكارات يسيطر على 30% من الإنتاج العالمي، كما أن 5 احتكارات فقط لها أنشطة صناعيّة تستأثر بما بين 50% و70% من السوق العالمية في مجال نشاطها (محروقات، صناعة الصلب، إلكترونيك، طيران، وسائل اتصال...). ومن المعلوم أن عمليات "الاندماج" (
fusions) والشراء (acquisitions) فاقمت ظاهرة الاحتكار وهو ما أدى إلى أن حفنة من مجموعات رأس المال أصبحت تجلس على قمّة الاقتصاد في البلدان الرأسمالية المتقدّمة وبالتالي في العالم.

إنّ اشتداد قبضة الاحتكارات على الاقتصاد العالمي ليس فيه أي منفعة لا لهذا الاقتصاد بشكل عام ولا حتّى لاقتصاديات البلدان الصناعية المتطورة التي تعاني من الركود ومن الأزمات. إن الاحتكارات محكومة بالبحث عن الرّبح الأقصى وهي لا تحقق ذلك باستثمارات جديدة منتجة، بل تفضّل كسب الأرباح بكل الوسائل حتّى عن طريق تدمير القوى المنتجة كما بيّنت ذلك الأزمات التي ضربت خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة كلاًّ من روسيا والمكسيك والأرجنتين وعدد من بلدان جنوب آسيا، أو عن طريق المضاربات المالية، ناهيك أن كل دولار يوظّف في الإنتاج أصبح يقابله ما بين 20 و50 دولارا توظف في تلك المضاربات، أو عن طريق تكثيف وتائر استغلال العمال والشعوب وتوسيع حركة نقلا لثروات من "الطبقات السفلى" إلى "الطبقات " العليا" في نفس البلد ومن البلدان التابعة إلى البلدان المتطورة وأخيرا عن طريق ابتلاع المؤسسات الصناعية والفلاحيّة والتجارية والمالية صغيرة كانت أو كبيرة ومزيد مركزة الاحتكار.

وبعبارة أخرى فإنّ اشتداد سيطرة الاحتكارات لم تفد الاقتصاد العالمي وهو ما يجعل الوضع بعيدا كل البعد عن الأماني التي أطلقها قادة البلدان الامبريالية إثر سقوط الاتحاد السوفياتي وتوابعه.

4- على صعيد آخر لا ينبغي الاعتقاد أن سيطرة الاحتكارات على الاقتصاد العالمي تتمّ في جوّ من "الوئام" و"الانسجام" و"التفاهم"، فخلافا للتصريحات والإعلانات المضلّلة، فإن انهيار الكتلة الشرقية، كان من نتائجه المباشرة دخول الاحتكارات الرأسمالية والبلدان الامبريالية في صراع قويّ من أجل إعادة اقتسام الأسواق ومناطق النفوذ في العالم. وقد جرى هذا الصراع وما زال يجري في اتجاهين اثنين، فهو من جهة صراع بين الشركات والمجموعات الاحتكاريّة الرأسمالية لإزاحة بعضها البعض من تلك الأسواق والمناطق، وهو من جهة أخرى صراع بين البلدان الامبريالية من أجل الحصول على مركز القوّة المهيمنة في العالم.

ولا يعني هذا الصراع بين الاحتكارات الرأسمالية والبلدان الامبريالية بلدان شرق أوروبا سابقا فحسب بل إن الأمر يهمّ مجالا أوسع بكثير من هذه البلدان. لقد امتد الصراع إلى كافة المناطق "الجالبة للاهتمام"أي التي تكتسي أهميّة اقتصاديّة أو إستراتيجية راهنا ومستقبلا (الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، بلاد البلقان، جنوب شرق أوروبا، إفريقيا الوسطى والشماليّة...).

ومن الملاحظ أن كل قوّة من القوى الامبريالية المعنيّة لا تعمل على حماية أسواقها ومناطق نفوذها التقليديّة فحسب بل تعمل أيضا على دخول "بيوت" القوى الأخرى و"حدائقها الخلفيّة" (دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى البلدان الأوروبية ومناطق نفوذها في إفريقيا، دخول ألمانيا بشيء من الكثافة إلى بلدان أمريكا اللاتينية وتدعميم استثماراتها في الولايات المتّحدة، دخول الصين بقوّة في الفترة الأخيرة حلبة الصراع من أجل الأسواق ومناطق النفوذ في إفريقيا وبعض البلدان الشرق أوسطيّة، الخ.)

ورغم جميع قرارات "العولمة" والمزاعم التي يُروّج لها "النظام العالمي الجديد" مثل "التجارة الحرّة" و"التنافس السلمي" و"التنمية في إطار الاندماج والتقاسم" فإن الدول والحكومات تحشر أنفها في الصراع القائم وتستخدم وسائل غير اقتصادية وغير شرعيّة لدعم شركاتها الاحتكارية (تدبير انقلابات عسكريّة، ضغط على حكومات للحصول على عقود وامتيازات...). كما أن هذه الدول والحكومات لا تتوانى عن اتخاذ إجراءات حمائية، وهي منشغلة أكثر فأكثر بمصالح بلدانها وكيفية الحفاظ عليها في وجه البلدان الأخرى أي أنها، رغم كثرة الحديث عن "إلغاء الحدود" في وجه الرساميل والسلع، ظلّت تعمل من أجل مصالحها وأهدافها القوميّة وهو ما أدى إلى انشِقاقات في صلبها وخلق أرضيّة مناسبة لظهور بوادر استقطاب في صفوفها.

5- إن "النظام العالمي الجديد"، رغم أنه تشكل باعتباره النظام الموحّد لرأس المال، الذي فرضته طبقات رأس المال والبلدان الامبريالية على الطبقات الكادحة والشعوب، فإن الامبريالية الأمريكية المعتدّة بدورها الهام في سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية إثر صراع امبريالي ضار من أجل مناطق النفوذ دام عدة عقود وبقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية تعتبر النظام الجديد بمثابة نظام "الامبراطورية الأمريكية" التي يطرح على القوى الأخرى أن تذعن لها. لذلك فإنها الولايات المتحدة ما انفكت تسعى إلى الانفراد بالهيمنة وبسلطة القرار في شؤون العالم، واتخذت من أجل ذلك، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي وفرت لها ذريعة لتنفيذ مخططاتها الهيمنية بأكثر صلفا وعدوانية، الخطوات التي تكفل لها "حرية التحرك" مثل الإعلان عن الحق في " الحرب الوقائية" والحق في "السبق إلى استخدام القوة النووية"، ولم تول أي اعتبار لمعارضة الأمم المتحدة وأغلبية دول العالم للحرب على العراق.

كما أن الولايات المتحدة لم تكتف باحتلال أفغانستان والعراق، بل إنها فتحت قواعد عسكرية في كافة مناطق العالم الاستراتيجية (132 قاعدة) بهدف مراقبة المناطق الغنية بالمواد الأولية والطاقة (الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، المحيط الهادي...) ووضعها تحت إشرافها كي تتحكم لاحقا في الأسعار والتجارة. وبدا واضحا أن الامبريالية الأمريكية تتحرك وفق خطة تتمثل في مضاعفة الضغوط على البلدان التابعة من جهة وعزل البلدان المنافسة عن المناطق الهامة جدا في العالم من جهة ثانية وامتلاك السبق في الهجوم عند الاقتضاء من جهة ثالثة. وهو ما يؤكد الطابع الديماغوجي والشكلي لواشنطن في "التفاهم" و"التشاور" مع البلدان الامبريالية الأخرى وهو ما يفسر كونها لم تكتف في السنوات الأخيرة بإعادة نشر قواتها في كافة أنحاء العالم بل رفعت من ميزانيتها العسكرية كي تبلغ حوالي 450 مليار دولار وهي ميزانية تفوق ما تخصصه كافة الدول الكبرى الأخرى لميزانيتها العسكرية. كما أنها مركزت مؤسساتها التكنولوجية لتكون أكثر جدوى وفاعلية.

6- إن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية هذا غذى التنافضات بينها وبين القوى الكبرى الأخرى. وتجلى ذلك على مستوى الاتحاد الأوروبي الذي يمثل القوة الاقتصادية الكبرى في وجهها. فألمانيا وفرنسا اللتان تمسكان بزمام الأمور في هذا الاتحاد تعملان على تحقيق مشروع "الجيش المستقل للاتحاد الأوروبي" كما أنهما أعلنتا عن إقامة برنامج فضائي بالتحالف مع الصين، وكانتا، كما هو معلوم، عارضتا حرب العراق، وهما لا يتوانيان، كلما اختلفتا مع إدارة بوش في الاقتراب من روسيا. وليس خافيا أن ألمانيا وفرنسا تحدوهما نية الهيمنة على الاتحاد الأوروبي وإقامة قواعد عسكرية في الأماكن الاستراتيجية في العالم، رغم ما يشق هذا الاتحاد من تناقضات، إذ لا ينبغي نسيان أن للولايات المتحدة مواطئ قدم في الاتحاد الأوروبي تمثلها بالخصوص أنجلترا وبعض بلدان أوروبا الشرقية الملتحقة حديثا بالاتحاد الأوروبي. ومن جهة أخرى فإن اليابان التي تمثل القوة الاقتصادية الكبرى الأخرى، لا يخفى تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية في الساحة الدولية، ولكن اهتمامها بما يجري بعيدا عن حدودها (الشرق الأوسط خصوصا) ما انفك يتنامى. كما أنها أصبحت لا تخفي رغبتها في تطوير قدراتها العسكرية، وفي التخلص من القيود التي فرضت عليها إثر الحرب العالمية الثانية وهو ما يفسر سعيها إلى مراجعة بعض بنود دستورها. وإلى ذلك فإن روسيا ما انفكت تعمل على أكثر من واجهة، من جهة، إصلاح أوضاعها الاقتصادية، ومن جهة أخرى تعصير قوتها العسكرية. أما الصين فهي تصارع من أجل التخلص من النهب الذي تتعرض لها من الشركات والدول الرأسمالية الصناعية وتعمل جاهدة، كقوة رأسمالية صاعدة، على التسلل إلى مناطق النفوذ في العالم وتطوير قدراتا العسكرية ناهيك أنها رفعت هذه السنة من ميزانيتها العسكرية بنسبة هامة أقلقت منافسيها في المنطقة وأثارت انتقادات واشنطن.

إن ما نريد تأكيده عبر استعراض أوضاع مختلف القوى الامبريالية الكبرى وخصوصا استمرارها في سباق التسلح وتعصير الجيوش وإعادة نشرها في مختلف المناطق، هو أن العالم ليس في وضع أفضل مما كان عليه في مطلع التسعينات. فالقوى الامبريالية الحاضرة في الساحة الدولية، لئن هي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الصراع في ما بينها، فإنها على الأقل، وهو أمر ليس في مصلحة أي طرف منها اليوم، تباعدت كثيرا مقارنة مع الوضع الذي كان قائما عند إعلان قيام "النظام العالمي الجديد"، ولا نخالها إلا ستتباعد أكثر مع تطور علاقات القوى التي تدفع في اتجاهه طبقات رأس المال دفاعا عن مصالحها الخاصة.

7- إن تاريخ البلدان الامبريالية وواقعها الحالي يثبتان أنها لا تقنع بـ"الوفاق"، بل على العكس من ذلك تنزع نحو تشكيل أقطاب متنافسة. ولا يمكن الاغترار اليوم بالاصطفاف الظاهر وراء الولايات المتحدة، فكل طرف مصطف اليوم وراءها يعمل بكل الوسائل على "تحسين وضعه" وكسب الأدوات التي تخول له الخروج على الصف في يوم من الأيام. وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه اليوم من تنافس ونزاعات فإن مآل "النظام العالمي الجديد" لن يكون إلا التفكك، كما أن المؤسسات الدولية التي نراها قائمة اليوم، والتي تضم داخلها أكبر القوى الامبريالية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة، الاتحاد الأوروبي، الحلف الأطلسي...) ستنهار في لحظة من اللحظات أمام استقطابات جديدة تكون نتيجة لسلسلة من النزاعات والصراعات والحروب المحلية. إن المصالح المتعارضة للدول الرأسمالية الكبيرة ستدفع بها حتما، رغم تواصل العولمة، نحو تشكيل أقطاب متعارضة من شأنها أن تسرّع بوتيرة التنافس والصراعات التي تقابل بعضها ببعض. وإذا كانت هذه الأقطاب لم تتشكل اليوم فذلك ليس بالأمر الغريب، فالدول الصناعية الكبرى لم تعزز قواها بما فيه الكفاية، والنزاعات بين المجموعات الاحتكارية لم تبلغ بعد درجة عدوانية. ولكن تسارع وتيرة التطور اللامتكافئ الذي يحكم سير تلك الدول، من شأنه أن يعجل حتما بمسار تشكّل كتل متعادية من بينها. وبالطبع فإنه من السابق لأوانه بل من الخطأ الادعاء بأن الاستقطابات السياسية العسكرية الجارية اليوم هي استقطابات الغد. ولئن كان أيضا من الصعب إن لم نقل من المستحيل توقع كيفية تطور تلك الاستقطابات، فإن الأكيد أن الأمور تتطور باتجاع القضاء على نظام القطب الواحد وتشكيل كتل امبريالية متعارضة وهذا ما يعني أن القوى الرأسمالية الكبرى تخوض صراعا من أجل إعادة اقتسام العالم وأن تهديد حرب شاملة يتنامى، فتاريخ البلدان الامبريالية كان دائما تاريخ الصراع من أجل الأسواق ومناطق النفوذ كما كان تاريخ الحروب المدمرة لمحاولة حسم ذلك الصراع في مرحلة محددة من مراحل تطوره.

8- إن ما ميز الخمس عشرة سنة الأخيرة، إلى جانب معاودة القوى الرأسمالية الكبرى الصراع حول الأسواق ومناطق النفوذ هو هجوم رأس المال على الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة. فقد عرفت الطبقة البورجوازية والحكومات التي تصرف شؤونها في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان كيف تستعمل الظروف الناجمة عن سقوط المعسكر الشرقي، وخصوصا تراجع الحركة العمالية وحركة الشعوب التحررية. ولا بد لنا من أن نلاحظ أن الثقل الأساسي لذلك الهجوم المنسق عالميا يتم فرضه على البلدان التابعة وعمالها وشعوبها. فقد كان ميزان القوى مائلا بالكامل وبصورة غير مسبوقة لصالح الاحتكارات والبلدان الرأسمالية المتطورة، لذلك فإن ما كان مطلوبا من البلدان التابعة هو أن تقبل بأن تصبح مجرد مستعمرات اقتصادية ومالية فيقع نهب كامل ثرواتها. وهذا ليس من المبالغة في شيء، فهذه البلدان تتعرض لعملية استعباد مطلق. فجميعها تقريبا فقد خلال الخمس عشرة أو العشرين سنة الأخيرة على الأقل، معظم مؤسساته الاقتصادية العمومية، التي كانت ترمز إلى وجوده الوطني. ولا تتوانى البلدان الرأسمالية الكبرى بزعامة الولايات المتحدة عن استعمال شتى الطرق لإخضاع البلدان التابعة للنهب وكسر مقاومتها. فبالإضافة إلى الضغوط المالية والاقتصادية المباشرة أو عبر المؤسسات المالية النهابة، تستعمل تلك البلدان الحصار الاقتصادي والعقوبات والانقلابات بل إنها لا تتورع عن شن حروب مدمرة لفرض سيطرتها على مصائر الشعوب كما حصل في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق. وهي لا تتوانى أيضا عن إثارة الفتن الداخلية وتغذيتها كما هو الحال في السودان والصومال. وهي تتحرش ببلدان أخرى استعدادا للاعتداء عليها كما هو الحال بالنسبة إلى إيران وسوريا. وليس خافيا أن النفط وراء معظم الاعتداءات والتهديدات.

9- من ناحية أخرى يعيش عمال البلدان التابعة أوضاعا لا تختلف كثيرا عن أوضاع بلدانهم. فالحقوق الاجتماعية وتكاليف قوة العمل والأجور هناك هي أدنى بكثير من نظيرتها في البلدان المتطورة، ومع ذلك فقد فرضت البورجوازية العالمية على تلك البلدان، وخصوصا البلدان التي حققت فيها الشغيلة بعض المكاسب سواء كانت مكاسب أممية للطبقة العاملة أو مكاسب نضال شعوب تلك البلدان، أن تطوّع تشريعاتها كي تنسجم في ذلك مع البلدان الأكثر تخلفا.

على أن الهجوم لم يستهدف شعوب البلدان التابعة وعمالها فحسب، بل استهدف أيضا عمال البلدان المتطورة، على نحو واسع. فمنذ ما يزيد عن العشر سنوات والبورجوازية تفرض على العمال تصفية الحق في الشغل، وتفرض مرونة توقيت العمل ونظام التأجير وتصفية أنظمة الضمان الاجتماعي بما يجعلها قابلة لكي تفتح أمام الأسواق وتفرض التطويل المطلق لساعات العمل والتخفيض الأقصى لمنح البطالة وتأخر سن التقاعد وتقنين أشكال الشغل الهشة (التشغيل بعقود...) وأخيرا تخفيض تكاليف قوة العمل.

إن هذا الهجوم يمثل تصفية معممة للمكاسب الطبقية أو الوطنية في نضال العمال ضد رأس المال منذ حوالي قرن ونصف ونضال الشعوب ضد الامبريالية منذ حوالي قرن، بما يعني العودة بالعمال إلى الظروف الوحشية التي عاشوها في ظل رأسمالية القرن التاسع عشر وبالشعوب إلى ظروف الاستعمار المباشر. وإذا لم يقع التصدي لهذا الواقع لإعاقة رأس المال والامبريالية فإنها يُخشى أن يتزايد هذا الهجوم بصورة غير محدودة.

10- حين تـَعمّمَ هجوم رأس المال في مطلع تسعينات القرن الماضي، كانت الطبقة العاملة في كل بلد أو على الصعيد العالمي، تعيش أدنى مستوياتها المعنوية والتنظيمية. أما شعوب البلدان التابعة وبصرف النظر عن بعض الاستثناءات، كانت واقعة تحت جاذبية مغالطات "العولمة" و"النظام العالمي الجديد"، التي زرعت فيها أوهاما. ولكن كادحي جميع البلدان، بدءا بالطبقة العاملة، لم يبقوا طويلا دون رد فعل خصوصا وأن الآمال التي حركتها "العولمة" كانت تتبخر كي تترك مكانها تدريجيا للخيبة.

ويمثل عام 1995 منعرجا في نضال الطبقة العاملة العالمية والشعوب. فقد أحيت هبة عمال فرنسا في تلك السنة الثقة الطبقية في نفوس العمال، كما أنها شكلت إلى جانب تمرد "شياباس" في المكسيك بديلا أمميا لمشاعر الإحباط المتفشية في أوساط المثقفين، ومنذ ذلك الوقت تطورت مظاهر المقاومة في كافة البلدان الأوروبية والولايات المتحدة واليابان، لتشكل عوامل أولى لصد هجمات رأس المال والحد منها.

أما في ما يخص البلدان التابعة فإن حركة العمال ظهرت بصورة مبكرة مقارنة بنظيرتها بالبلدان المتطورة، بالنظر إلى ظروف الحياة الصعبة. فمنذ 1989 شهدت العديد من البلدان التابعة (البرازيل، الهند، أندونيسيا، تركيا، ألإكوادور، البنين، بوركينا فاسو...) نضالات عمالية وشعبية واسعة. وقد أخذت بعض تلك النضالات طابعا سياسيا واضحا أدى إلى إسقاط حكومات ودكتاتوريات في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا

ولم تقتصر نضالات شعوب البلدان التابعة على الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات الضخمة، بل تعدتها إلى أشكال المقاومة المسلحة. فقد انطلقت في خريف سنة 2000 الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وثار سكان فنزويلا عام 2002 ضد الانقلاب الذي دبرته الولايات المتحدة ضد الرئيس المنتخب "شافيز" ورفع الشعب العراقي السلاح في وجه الاحتلال الأمريكي الأنجليزي، واستعادت المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال الأطلسي نشاطها، وانتصرت المقاومة اللبنانية على الوحش الصهيوني في صائفة 2006 وواصل التامول في النيبال والأكراد في تركيا المقاومة ضد مضطهديهم. وبصورة عامة فإن كافة النضالات الجارية في البلدان التابعة ضد التدخلات والاضطهادات التي يعمد إليها الامبرياليون تمثل دون أدنى شك نضالات في غاية من الأهمية. كما أن النضال ضد النزعة العسكرية والتدخل المسلح والاحتلال الذي يجمع ملايين العمال في البلدان الرأسمالية المتطورة هو نضال هام يسجله التاريخ لما يتميز به من خصائص سياسية وأممية.

وخلاصة القول يمكن رصد الاتجاهات الكبرى التالية لنضالات العمال والشعوب المضطهدة في الوقت الراهن:

أولا: حركات مقاومة مسلحة تخوضها شعوب أو اقليات في البلدان الرازحة تحت الاحتلال المباشر للبلدان الامبريالية أو الكيان الصهيوني أو تحت هيمنة أنظمة رجعية تكرس هيمنة أكثريات قومية أو دينية أو ثقافية.

ثانيا: حركات شعبية واسعة مناهضة للامبريالية وعملائها عبرت عن نفسها من خلال العمليات الانتخابية (أمريكا اللاتينية خاصة) التي أوصلت إلى السلطة حكومات وطنية تسعى إلى حماية مصالح بلدانها وشعوبها.

ثالثا: حركات جماهيرية وإضرابية واسعة في البلدان المتطورة والبلدان التابعة على حد السواء من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات الديمقراطية، وقد نجحت هذه الحركات أحيانا في إسقاط حكومات، وتبلورت في علاقة بها منتديات اجتماعية قارية وعالمية ونشطت منظمات حقوق الإنسان والجمعيات والهيئات النسائية والثقافية.

رابعا: مظاهرات جماهيرية مناهضة للعسكريتارية والحرب خصوصا في البلدان المتطورة. وقد أحيت هذه التحركات الحركة من أجل السلم وغيرها من المنظمات والحركات المناهضة للحرب.

11- إن من أهم المميزات التي طبعت سلوك الاحتكارات والبلدان الامبريالية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة اقتران دخولها في صراع من أجل إعادة اقتسام الأسواق ومناطق النفوذ وهجومها الاقتصادي والاجتماعي على الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة بتفاقم طابعها الرجعي في المجال السياسي. وهذا أمر مفهوم، فالاحتكارات والبلدان الامبريالية كان من الضروري لها، من أجل أن تنجح في تحقيق أهدافها، أن تدوس مبادئ "الحرية" و"الديمقراطية" و"السلم". كما كان من الضروري لها أن تشدد الاضطهاد وتحوله إلى "خبز يومي" للأفراد والجماعات والطبقات الكادحة والشعوب المضطهدة، وإلا استحال عليها إخضاعهم لمخططاتها وغاياتها الرجعية. وقد استغلت الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة أحداث سبتمبر 2001 لتعميم هذا الاضطهاد وتعميقه على مستوى المعمورة.

وتجلى اشتداد الطابع الرجعي للامبريالية على الصعيد السياسي في مظهرين أساسيين، الأول يتمثل في المكانة التي أصبح يحتلها العنف في تحقيق أهداف الاحتكارات والبلدان الامبريالية وهو جلي من خلال تفاقم النزعة العسكريتارية وتواتر الحروب العدوانية ناهيك أن الولايات المتحدة خاضت خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة أكثر من 10 حروب في مختلف أنحاء العالم لعل أفظعها وأوحشها الحرب الجارية حاليا على الشعب العراقي. وهو جلي أيضا في خضوع العلاقات الدولية أكثر فأكثر لمنطق التهديد والعنف وإرهاب الدولة وسيادة قانون الغاب وعدم الالتزام بأبسط القوانين والقيم الأخلاقية وفي تغذية النزاعات العرقية والطائفية والقومية والتحريض على جرائم الإبادة الجماعية أو المشاركة المباشرة فيها.

أما المظهر الثاني فيتمثل في الدوس على الحرية وعلى الديمقراطية الذي ما انفك يتفاقم. فمظاهر غطرسة الاحتكارات والبلدان الامبريالية ليست مقتصرة على الخارج وإنما هي تكرس داخل البلدان الامبريالية ذاتها من خلال الهجوم المستمر على الحقوق المدنية والسياسية للأفراد والجماعات والأقليات واستصدار قوانين قمعية جديدة تحت غطاء مقاومة الإرهاب واشتدادد الطابع البوليسي للدولة بل وتحوّل الدولة البوليسية إلى نموذج، وتحويل البرلمانات الليبرالية إلى أوكار تعشش فيها التيارات الفاشية والعنصرية وتنتعش. وبشكل عام فقد ظل الفارق بين الحكومات الاشتراكية الديمقراطية واليمينية الليبرالية واليمينية المتطرفة يتقلص باستمرار. وهو نفس ما يمكن قوله بالنسبة إلى الفارق بين أنظمة الاستبداد في البلدان التابعة وبين الأنظمة الليبرالية في البلدان المتطورة وهو ما أسعد أنظمة الاستبداد وأثبتها في مراكزها. إن لينين كان على صواب حين أكد أن الامبريالية هي الرجعية على طول الخط في المجال السياسي.

إن تعمق الطابع الرجعي للرأسمالية والامبريالية يتضح في مجال آخر أيضا وهو المجال الإيديولوجي. فالنظريات التفوقية والعنصرية التي تحتقر عرق الآخر وثقافته ودينه أصبحت هي السائدة رغم كل المساحيق التي مازالت الاحتكارات والبلدان الامبريالية تزين بها النظام البورجوازي. وتمثل نظرية "صدام الحضارات" التي تؤكد تفوق الحضارة المسيحية على بقية الحضارات وتحدد الإسلام والمسلمين عدوا مباشرا نموذجا لتلك النظريات. كما أن الظلامية أصبحت هي الأخرى من أهم المميزات الإيديولوجية للرأسمالية والامبريالية اليوم، فقادة أكبر دولة امبريالية في التاريخ على الإطلاق، وهي الولايات المتحدة الأمريكية يخوض رئيسها وقادتها حربا على الشعوب المضطهدة باسم "رسالة ربانية" مزعومة وهم يقسّمون العالم إلى "عالم الخير" و"عالم الشر".

وأخيرا وليس آخرا فإن هذا الطابع الرجعي يتجلى في معاداة الاحتكارات والبلدان الامبريالية للثقافة، وعملهما الدائم على التدمير المعنوي للعمال والشعوب، على تحويل الجماهير التي تتحرك في إطار أمة أو شعب أو طبقة إلى جمهور فاقد لأي مرجعية قيمية عن طريق كوسموبوليتية متفسخة تهدف إلى تحويل الإنسان إلى "مجرد حيوان مستهلك".

12- إن كل ما ذكرناه من احتدام الصراع بين الاحتكارات والبلدان الامبريالية وهجوم على العمال والشعوب المضطهدة وتفاقم الفجوة بين قطبي الثروة والفقر في البلد الواحد وعلى الصعيد العالمي وتكاثر مؤشرات التأزم وعجز الاحتكارات على حل مشكلات النظام الرأسمالي وتطوير القوى المنتجة وتفاقم سباق التسلح والنزعة العسكرية وتواتر الاعتداءات والحروب واشتداد قمع الحريات ودوس الديمقراطية وفي الآن ذاته نهضة الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة من جديد للدفاع عن حقوقها والتعبير عن طموحاتها بأشكال مختلفة تتراوح بين المقاومة المسلحة والهبّات الجماهيرية، مرورا بالمعارك الانتخابية، كل هذا يدحض كل ما رُوّج ويروّج عن "النظام العالمي الجديد" وعن "العولمة الرأسمالية" فلا الازدهار تحقق ولا الصراعات الطبقية انتهت ولا الحروب وضعت أوزارها ولا المساواة بين الشعوب والأمم تمّت ولا الديمقراطية تعمّمت، ولا السلم ساد العالم، بل العكس هو الذي حصل على كل الأصعدة.

إن مجرى الأحداث يبين أن "النظام العالمي الجديد " منظور إليه من زاوية منطلقاته وأهدافه والوسائل والأساليب المتبعة لتحقيق هذه الأهداف، إنما هو صيغة جديدة من صيغ هيمنة الامبريالية في مرحلة تعفنها القصوى المصحوبة بتراجع الحركة العمالية وحركة الشعوب التحررية مما يجعلها، أي الامبريالية، أكثر بربرية وأكثر وحشية وعدوانية. ومن البديهي أن هذا لا يوفر للإنسانية مناخا للتقدم والرقيّ والتعاون والسلم، بل إنه يوتـّر مختلف التناقضات الأساسية لعصرنا بدءا بالتناقض بين رأس المال والعمل الذي يمثل التناقض الجوهري للعصر ووصولا إلى التناقض بين الاحتكارات والبلدان الامبريالية من جهة والشعوب المضطهدة من جهة ثانية والتناقض بين المجموعات الاحتكارية والبلدان الامبريالية ذاتها، والتي تبين مرة أخرى أنها، على عكس كل المزاعم البورجوازية والانتهازية، ما تزال هي التي تحكم سير الرأسمالية والامبريالية التي تبقى عاجزة عن السيطرة عليها أو الخروج منها، كما أنه يفتح الطريق أمام المزيد من الهزات والاضطرابات والمخاطر على الإنسانية.

إن هذا يدل على أنه لا مجال لمرحلة جديدة أو مرحلة ثالثة بعد الامبريالية كما يدعي إيديولوجيو رأس المال، فالامبريالية هي الكلمة الأخيرة للرأسمالية. كما يدل على أن الامبريالية لا تعني نهاية التاريخ والتقدم ولكن نهاية رأس المال والرأسمالية اللذين لم يعد لهما ما يقدمان للإنسانية غير المزيد من المعاناة والمآسي، نهاية الحضارة البورجوازية التي تفسخت وأصبحت تعوق التقدم البشري وتستدعي تعويضها بحضارة جديدة لا نراها إلا اشتراكية، تحل تناقضات الرأسمالية والامبريالية المستعصية وتفتح آفاق أرحب للإنسانية. وأخيرا وليس آخرا فإن ما ذكرنا يدل على عجز البورجوازية عن تخطي إطار الأوطان والقوميات الذي خلقته وعدم ملاءمة طبيعتها مع العولمة إذ لا معنى للعولمة عندها سوى سيطرة احتكار أو أقلية قليلة من الاحتكارات أو بلد أو عدد قليل من البلدان الامبريالية على مصائر العالم، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن تجاوز الأوطان وتحقيق عولمة إنسانية لا يتمان إلا على أنقاض الرأسمالية والامبريالية.

ولكن كل هذا لن يتحقق بصورة عفوية كما يبين ذلك التاريخ. فمهما اشتدت أزمات الرأسمالية والامبريالية، فإنها ستكون قادرة على تخطيها حتى بأشنع الوسائل، إن لم تجد في طريقها من يصدها ويهزمها ويبعثها إلى مزبلة التاريخ. وهنا يطرح السؤال الأهمّ: هل أن الطبقة العاملة وشعوب البلدان التابعة ستنجح هذه المرة في مهمتها مستغلة إمكانياتها وطاقاتها والتجارب التي راكمتها أم أنها سيظل محكوما عليها بالفشل رغم كل تضحياتها؟

إن الجواب على هذا السؤال يدفعنا إلى النظر في دور اليسار الماركسي اللينيني اليوم في مقاومة الامبريالية وتعبيد الطريق نحو الانتصار عليها، باعتبار ذلك الجزء الثاني من هذه المداخلة.

مهام اليسار الماركسي اللينيني في مقاومة الامبريالية
كان للحركة الشيوعية في مرحلة ازدهارها دور تاريخي عظيم في مواجهة الرأسمالية والامبريالية على المستويين النظري والعملي. فالفضل يرجع إلى كارل ماركس في تحليل النظام الرأسمالي وإبراز خصائصه وتحديد تناقضاته. كما يرجع إليه الفضل في تحديد موقع الطبقة العاملة في هذا النظام والدور التاريخي الموكول إليها في القضاء عليه وبناء نظام جديد، اشتراكي وشيوعي ينهي استغلال الإنسان للإنسان. أما فلاديمير إيليتش لينين، فالفضل يعود إليه، في تحليل الامبريالية وتحديد طبيعتها وخصائصها ومكانتها في تاريخ الرأسمالية وانعكاس ذلك على نضال الطبقة العاملة والشعوب والأمم المضطـَهَدة.

وقد قامت الحركات الشيوعية التي انبنت على مبادئ ماركس ولينين بدور بارز، خصوصا في القرن العشرين في مقاومة الامبريالية. وتعزز هذا الدور بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا القيصرية التي أصبحت سندا قويا لحركة مقاومة للاستعمار، بل إنها جعلت من هذه الحركة جزءا لا يتجزأ من الثورة العالمية وعكس لينين ذلك في الشعار العام الذي أصبحت ترفعه الحركة الشيوعية العالمية: "يا عمال العالم، ويا شعوب وأمم العالم المضطهدة اتحدوا" وهو شعار يبرز التحالف الاستراتيجي بين حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية وحركة التحرر الوطني في المستعمرات وشبه المستعمرات.

ففي البلدان الرأسمالية المتطورة أصبحت مقاومة الامبريالية نقطة رئيسية في برامج الأحزاب الشيوعية سواء من حيث ضرورة مقاومة هذه الأحزاب للسياسة الاستعمارية لحكومات بلدانها أو من حيث ضرورة مساندة ودعم حركات التحرر في المستعمرات وشبه المستعمرات بدءا بتلك التي تتبع بلدانها. أما في المستعمرات وشبه المستعمرات فقد تزعمت الأحزاب الماركسية اللينينية في العديد من الأحيان حركة التحرر الوطني ونظمت المقاومة وحققت نجاحات وانتصارات هامة. وبرز دور تلك الأحزاب أيضا خلال الحرب العالمية الثانية في مقاومة الفاشية والنازية البنتين الشرعيتين للرأسمالية في مرحلتها الامبريالية. وتمكنت الأحزاب الشيوعية والعمالية في عديد من البلدان من قيادة حركة المقاومة وتحقيق انتصار ساحق وإقامة أنظمة ديمقراطية شعبية على أنقاض الأنظمة الرجعية والفاشية والعميلة التي كانت تحكمها. كما لعبت الأحزاب الشيوعية والعمالية في العديد من البلدان الأخرى بما فيها بلدان رأسمالية متقدمة دورا حاسما في تحرير بلدانها من النير النازي.

ولكن دور الأحزاب الماركسية اللينينية بدأ يضعف بسبب الانشقاقات الحاصلة في الحركة الشيوعية العالمية إثر التحول الرأسمالي البيروقراطي العميق الحاصل في الاتحاد السوفياتي، منذ مطلع الستينات ودخوله في صراع مع الامبريالية الأمريكية من أجل الهيمنة والسيطرة على العالم واتخاذ تدخلاته في العديد من المناطق والبلدان طابعا امبرياليا اشتراكيا، وهو ما شوّه صورة الاشتراكية التي ظل قادة الاتحاد السوفياتي يتخفون وراءها لمغالطة شعوبهم وشعوب العالم قاطبة.

ومع ذلك ظلت الحركات الماركسية اللينينية والشيوعية في طليعة القوى المناهضة للامبريالية في مختلف أنحاء العالم، وكان الشيوعيون في فيتنام أبرز مثال على ذلك في مقاومتهم وهزمهم لأعتى قوة امبريالية عرفها التاريخ. وكان اليسار الماركسي اللينيني في البلدان الرأسمالية المتطورة على رأس حركة التضامن مع فيتنام ومع ضحايا الامبريالية في كافة مناطق العالم، وساهموا بذلك في إضعافها، والحد من غطرستها.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي خسر كما قلنا الصراع مع الكتلة الامبريالية الغربية، من أجل الهيمنة على العالم، حصل التراجع الكبير وبلغ دور الحركة الشيوعية في مقاومة الامبريالية أدنى مستوياته تاركا فراغا كبيرا ملأته قوى طبقية أخرى، بورجوازية وبورجوازية صغيرة، متشكلة في تيارات دينية، إسلاموية، خصوصا مناهضة بهذه الدرجة أو تلك للامبريالية، إن لم تكن مرتبطة بها ومنخرطة في مخططاتها العالمية أو في أحزاب وحركات وحكومات نابعة من الفئات الوسطى كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، وقلما توجد حركات علىرأسها قوى تعلن انتماءها للماركسية إذا استثنيناكولومبيا والنيبال والفيلبين...

ويعود هذاالتقهقر إلى أسباب عدة منها، أن انهيار الاتحاد السوفياتي قـُدّم على أنه "تكريس لفشل الاشتراكية والشيوعية" وأُخفي أنه فشل للبرجوازية البيروقراطية وللامبريالية الاشتراكية السوفياتية ومنها أيضا أن العديد من الأحزاب والحركات الماركسية كانت مرتبطة بالاتحاد السوفياتي، وانساقت في مراجعاته للماركسية اللينينية وعششت في صفوفها الانتهازية وتحولت إلى قوى يمينية، مهادنة لرأس المال والرجعية، فلما انهار الاتحاد السوفياتي، انهارت معه وتفككت وتقلص تأثيرها وسارع قادتها أو على الأقل جزء منهم إلى التخلي نهائيا عن الماركسية والانخراط في الموجة الليبرالية.

وقد حصل نفس الشيء مع الصين التي اتجهت مع "تانغ سياو بينغ" بخطى سريعة نحو الرأسمالية وقطعت جذريا مع الاشتراكية وهو ما أربك الحركات والقوى المرتبطة التي ساندتها في صراعها مع التحريفية السوفياتية.

وعلى العموم فإن الإحباط الذي ساد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أوساط الشغيلة والمثقفين التقدميين كان من العوامل التي أضعفت أيضا الحركة الماركسية. ومما غذى هذا الوضع هو الهجمة الإيديولوجية التي شنتها البورجوازية على الاشتراكية والشيوعية. والتي لم تتوقف عند حد تقديم انهيار الاتحاد السوفياتي على أنه علامة "الفشل التاريخي للاشتراكية" بل تعدته إلى محاولة نفي الأفكار الأساسية التي قامت عليها الحركة الماركسية مثل فكرة الثورة وسلطة الطبقة العاملة والحزب العمالي. ووصلت الأمور في نهاية المطاف إلى حد نفي وجود الطبقة العاملة ذاته بذريعة الثورة العلمية والتقنية ومن ثمة نفي موقعها المحوري في المجتمع الرأسمالي ودورها التاريخي في القضاء على الرأسمالية والامبريالية وتشييد حضارة اشتراكية جديدة. وكان لذلك سيء الأثر في كل أنحاء العالم في نفوس العمال وكذلك في نفوس المثقفين التقدميين، فتفشى الإحباط واليأس وعمّ اعتقاد خاطئ بأن النضال لا جدوى منه، بل مضيعة للوقت والجهد.

ولكن ذلك لا يعني نهاية الحركة الماركسية ولا نهاية مشاركتها في مقاومة الرأسمالية والامبريالية. فقد استمرت الفصائل الماركسية الثورية في النضال حتى وإن كان وزنها ضعيفا وتأثيرها في مجرى الأحداث العالمية محدودا. وبدا هذا الدور يتنامى من جديد بعد مرور لحظة الارتباك الكبرى، واتضاح حقيقة النظام العالمي الجديد التي تولت الحياة كشفها. فنحن نشهد اليوم وجود تجمعات ماركسية كثيرة في العالم: "ندوة الأحزاب والمنظمات الماركسية اللينينية، تجمّع بروكسيل الذي ينظمه سنويا حزب العمل البلجيكي بمناسبة عيد الشغل العالمي، تجمّع لشبونة وأثينا، وأخيرا لقاء الأحزاب والمنظمات والشخصيات الماركسية العربية، علاوة على ندوة الأحزاب والقوى اليسارية الماركسية في أمريكا اللاتينية الذي ينظمه سنويا الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني الأكوادوري تحت عنوان "قضايا الثورة في أمريكا اللاتينية". وعادت من جديد الاشتراكية تغذي الآمال بل وتصبح، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، وبقطع النظر عن طبيعة هذه الاشتراكية، الشعار الذي ترفعه القوى الوطنية والتقدمية عنوانا لها في حملاتها الانتخابية في مواجهة القوى البورجوازية العميلة للامبريالية الأمريكية. كما عاد ماركس ليكون محور دراسات وأعمال فكرية جديدة ويقع الإقرار براهنية فكره حتى من قبل مثقفين بورجوازيين إلى درجة أن العديد من هؤلاء (أمثال جاك أتالي وغيره) يؤكدون بأن راهنية نظرية ماركس اليوم في أصل العولمة أكثر من راهنيتها في الوقت الذي ظهرت فيه.

لقد آن الأوان لليسار الماركسي اللينيني بأن ينهض من جديد ويستعيد مكانته في ساحات الصراع المحلية والدولية لملء الفراغ الذي تركه خلال العقدين الأخيرين. فمن شأن هذا اليسار، وطالما أننا نتحدث عن مقاومة الامبريالية، أن يكسب هذه المقاومة عمقا فكريا ونظريا هي في أشد الحاجة إليه، ولا يرجى من حركات دينية أو بورجوازية متوسطة أو صغيرة أن توفره، ويسلحها ببرنامج سياسي قادر فعلا على تحقيق التحرر من الهيمنة الامبريالية، الأمر الذي لا تقدر عليه حركات أخرى بنفس التماسك والحزم والثبات، ويفتح لها أفقا من شأنه أن يجنبها الرجوع إلى الوراء ويدفع بالطبقة العالمة والكادحين عموما إلى الانخراط فيها، وهو ما من شأنه أن يضمن لها النجاح لأن الحامل الحقيقي للتحرر التام كان ولا يزال الطبقة العاملة.

ولن يقدر اليسار الماركسي اللينيني على القيام بواجبه إلا إذا تخلص فكريا من كل ألوان الانتهازية، يمينية كانت أو يسراوية، واستوعب المنهج الماركسي المادي الجدلي والمادي التاريخي، الذي نراه رغم كل ما قيل فيه، موضوع إثبات من قبل التطور العلمي والاجتماعي، وقيّم بموضوعية تجارب الطبقة العاملة بما فيها التجربة السوفياتية ووقف عند إيجابياتها وسلبياتها، وتسلح بنظرة ثاقبة لواقع اليوم مدركا أن الماركسية لا تكون ذات فائدة ولن تحافظ على حيويتها إلا بقدر استيعابها للوقائع الجديدة وإجابتها عن الأسئلة الحارقة التي يطرحها نضال العمال والشعوب المضطهدة، فهي كما قال أنجلز "مرشد للعمل" لا تقبل التحنيط والتكلس.

ونودّ التذكير هنا بأن جوهر تحليل ماركس للرأسمالية وتحليل لينين للامبريالية، مازال يكتسي راهنية كبيرة. فالعصر هو عصر الامبريالية، والتناقض الذي يحكمه ويؤطر تطوره هو التناقض بين رأس المال والعمل، والإجابة عن الرأسمالية والامبريالية ما تزال تتمثل في الثورة الاجتماعية، والثورة لا تعني مشاركة في حكومة أو حتى تكوين حكومة دون المساس بمصالح البورجوازية والرجعية وإنما تعني القضاء على الرأسمالية ووصول الطبقة العاملة والكادحين إلى السلطة، وإعادة تنظيم المجتمع على أسس نوعية جديدة. لقد بينت تجربة الأحزاب الإصلاحية التي تخلت عن الثورة بدعوى إمكانية "إصلاح الرأسمالية" مدى خطأ هذا التمشّي الذي لم يحل دون استمرار اشتداد تناقضات المجتمع الرأسمالي وخاصة مركزة الثروة بين أيدي أقلية واشتداد استغلال العمال ونهب الشعوب، بل إن تلك الأحزاب تحولت في نهاية الأمر إلى أحزاب اشتراكية ليبرالية في خدمة الاحتكارات البورجوازية، تعمل على تصريف شؤونها لا على تقديم بدائل عنها.

ليس على اليسار الماركسي اللينيني إلا أن يستوعب خصائص الواقع اليوم ويجـدّ في بلورة البرامج والمقترحات والتكتيكات وينظم الطبقة العاملة والشعوب ويتصدّر نضالاتها ويستلهم من جرأة عمال كمونة باريس وبتروغراد وفرصوفيا وشعب فيتنام، حتى يحقق أهدافه ليس على المستوى الوطني فحسب بل على المستوى العالمي أيضا. فإن كان للعولمة من مزيّة، موضوعية، فهي أنها أكدت أن كل مشاكل العالم تندرج صلب مشكل جوهري واحد، هو مشكل الاستغلال الرأسمالي والامبريالي وبذلك عمّقت العولمة الطابع الأممي لنضال العمال والشعوب المضطهدة وفي نفس الوقت، وبالنظر إلى سهولة الاتصالات وتداول المعلومات، قرّبت المسافات ويسرت التنسيق بين العمال والشعوب.

إن التناقض بين الامبريالية من جهة والشعوب المضطهدة من جهة ثانية، يمثل في واقع اليوم أكثر التناقضات تفجرا سواء بحكم شراسة الهجوم الامبريالي وتركيزه على البلدان التابعة أو بحكم النضالات التي يخوضها عمال هذه البلدان وشعوبها ضد الامبريالية وهي الأكثر حِدّة وجذرية وتوهجا، وهو ما يعطي مسألة النضال ضد الامبريالية أهمية خاصة بالنسبة إلى الماركسيين اللينينيين باعتبارها تمثل في اللحظة التاريخية الراهنة النقطة الأكثر إيلاما وإضعافا للامبريالية. والتي من شأنها أن تؤثر إيجابيا في نضالات عمال البلدان المتطورة ومثقفيها التقدميين.

وفي هذا الصدد فإن من مهام الماركسيين اللينينيين التصدي نظريا لكل الأفكار الخاطئة التي تروّج في البلدان التابعة مثل:

ضرورة التأقلم مع العولمة والعيش في ظلها بدعوى أنها قدر محتوم، وهذه الفكرة مرتبطة بأخرى تحقـّر النضالات التاريخية للشعوب وتزعم أنها ذهبت سدًى بدعوى أنه بعد عقود من الاستقلالات تمت العودة إلى نقطة الصفر، وتنفي أصلا إمكانية التحرر والاستقلال وتزعم أنه أصبح لا معنى له داعية إلى الاندماج في صلب النظام الامبريالي العالمي ولو من موقع التابع، وفي إطار توزيع العمل الذي يسمح به هذا النظام على الصعيد الدولي.

إن هذه الأفكار تتطلب ردًّا ومقاومة. وعلى صعيد آخر فإن ما يميز اليسار الماركسي اللينيني في نظرته للامبريالية هو فهم طبيعتها الطبقية باعتبارها المرحلة العليا للرأسمالية ومن ثمة ارتباط النضال ضد الامبريالية بالنضال ضد الرأسمالية وإلا أصبح محدودا وغير متماسك. ويدرك اليسار الماركسي اللينيني أيضا الطابع العالمي، الأممي للنضال ضد الامبريالية، فهو بعيد عن أن يكون نضالا بين أعراق أو أجناس أو قوميات أو أديان أو حضارات وثقافات ولكنه نضال بين الإنسانية التقدمية جمعاء من جهة وحفنة مصاصي الدماء وعملائهم من مختلف الأعراق والأجناس والقوميات والأديان والثقافات من جهة ثانية.

والنضال ضد الامبريالية يُطرح على السواء في البلدان المتطورة كما في البلدان التابعة بما أن الامبريالية تمارس هيمنتها في مختلف البلدان، وبما أن "أمة تضطهد أمة أخرى ليست حرة"، وإذا كان الهدف واحدا، في كلتا الحالتين، وهو القضاء على الامبريالية، فإن المهام تختلف باختلاف موقع البلد المضطهـِدِ والبلد المضطهَدِ:

1) ففي البلدان المضطهـِدَة، يُطلب اليسار الماركسي اللينيني إيلاء مسألة النضال ضد الامبريالية الأهمية اللازمة وتربية العمال والكادحين على أنه حين يتعلق الأمر بالاضطهاد فإنهم يصبحون "لا وطن لهم" أي أنهم مدعوون إلى معارضة تدخلات حكوماتهم السياسية والديبلوماسية والعسكرية ضد الشعوب الأخرى، ومساندة نضالاتها ضد الغزوات، وضد نهب الاحتكارات لثرواتها ومساعدة/مساندة تلك النضالات على التطور، فليس ماركسيا لينينيا اليوم في العالم من يتلكأ في التنديد بالاحتلال الأمريكي للعراق وفي مساندة مقاومة شعبه بقطع النظر عن طبيعة القيادات التي تقود هذه المقاومة والتي هي نتاج لظروف ذلك البلد ولتطوره التاريخي وواقعه الراهن. وليس ماركسيا اليوم في العالم الغربي أيضا من يتلكأ في إدانة الكيان الصهيوني العنصري، الاستعماري البغيض، وفي مساندة الشعب بالفلسطيني ونضاله البطولي من أجل تحقيق تحرره الوطني واستقلاله على أرضه السليبة وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية التي تتعايش فيها كل الأديان وكل الثقافات.

ومن الضروري أن تترجم هذه الواجبات في النضال اليومي في مطالب محددة كالدفاع عن المطالب الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية للطبقة العاملة والشعب والنضال من أجل أن تصبح المطالب ضد العسكرة والحرب والاحتلال وتدمير الطبيعة والثقافة من المشاغل اليومية للعمال. كما أنه من الضروري بلورة أرضية تتضمن المطالب الملحة المتعلقة بهذه المواضيع وتنخرط فيها المنظمات والهيئات المختلفة، من منظمات النضال من أجل السلم، إلى المنظمات المناهضة للعولمة، إلخ.

2) أما البلدان التابعة فإنها تتميز من جهة بتبعية مالية واقتصادية وتجارية سياسية وعسكرية متزايدة، ومن جهة أخرى بغياب الديمقراطية إذ تسيطر عليها في الغالب أنظمة استبدادية فاسدة. إن الطريق إلى تحقيق التحرر التام من الامبريالية وعملائها يمر حتما عبر تعبئة الطبقة العاملة وكافة فئات الشعب. ويمثل القضاء على الهيمنة الامبريالية في البلدان التابعة مسألة رئيسية تحدد وتوجه حل كل المسائل الأخرى باعتبارها المسألة الأكثر إلحاحا في هذه البلدان.

إن الماركسيين اللينينيين مطالبون ببلورة برامج حد أدنى في إطار النضال ضد الامبريالية، برامج تشمل مطالب ملحة من أجل فرض الحريات والديمقراطية مثلا إلى جانب مطالب اقتصادية واجتماعية وأخرى، ومن ثمة يعملون على توحيد أوسع القوى حولها لتشديد الخناق على عملاء الامبريالية وكنسهم وسد الباب أمام تجدد الهيمنة عبر قوى أخرى متغلفة بالدين وليس لها من أفق غير تكريس مشاريع رأسمالية نيولبرالية بغطاء إسلامي. وعليهم أن يتجاوزوا هنا السلوك الفئوي والنظرة الضيقة، فالمبدأ الذي ينبغي أن يقود هو التالي: تحديد الأرضية أولا ثم تجميع القوى التي ستعمل على أساسها ثانيا وليس العكس.

وتوجد في البلدان التابعة مهام أخرى معادية للامبريالية وهي تتعلق بالأقليات القومية والدينية والثقافية التي ترزح في معظم الأحيان تحت اضطهاد مزدوج: اضطهاد البلد الامبريالي واضطهاد الأغلبية المسيطرة في البلد التابع. إن الماركسيين اللينينيين مطالبون في هذه الحالة بالدفاع عن حقوق هذه الأقليات، وحين يتعلق الأمر بأقلية قومية، بالدفاع حتى عن حقها في الانفصال وتكوين دولة مستقلة.

3) وخلال الخمس عشرة سنة الأخيرة أدى النير الامبريالي المعولم إلى تحركات في صفوف الفئات الوسطى من البورجوازية غير الاحتكارية وتمكن ممثلوها من كسب تأييد شعوبهم والوصول إلى السلطة وهم يتخذون إجراءات معادية لمصالح الامبريالية وعملائها (فينزويلا، بوليفيا، إكوادور...) ومحاولات التحرر هذه تضعف الامبريالية، وعلى القوى الماركسية مساندتها وتشجيعها لتوسيع تأثيرها في الحركة العمالية والشعبية وتعميق وعيها بقضايا التحرر الوطني وربطه بالنضال ضد الرأسمالية وتجذير نضالها من أجل الحرية والديمقراطية وتهيئتها لتجاوز عدم تماسك الفئات الوسطى. لقد حدد لينين كيفية التعامل مع هذه الفئات الوسطى، وبالأحرى الفئات الوطنية من البورجوازية حين تصل إلى السلطة. إن التعامل معها مشروط أولا وقبل كل شيء باحترام حق الشغيلة والكادحين في التنظم المستقل والنشاط الحر. وهو ما يعني الاعتراف بالأحزاب الثورية والتقدمية ومنها الحزب الشيوعي وإقرار حقها في النقد والمعارضة. وعلى الماركسيين اللينينيين في مثل هذه الحالة أن لا يساوموا باستقلاليتهم وأن لا يتخلوا عنها مهما كانت الظروف. ولكنهم مطالبون أيضا بأن لا يسقطوا في مواقف طفولية بأن ينكروا الجانب المعادي للامبريالية عند تلك الأنظمة فيجدون أنفسهم – في حال معارضتها- في نفس الخندق، مع القوى الرجعية العميلة ومع الامبريالية، فيفقدون كل مصداقية في علاقة بالجماهير الشعبية ويوفرون لتلك البورجوازية الإمكانية لعزلهم والقضاء عليهم. وفي كلمة فإنهم من ناحية يدعمون الإجراءات المعادية للامبريالية وعملائها التي تتخذها الأنظمة المعنية (فينزويلا، بوليفيا...)، ومن ناحية أخرى لا يترددون في نقد عدم تماسكها وترددها والتنازلات التي تقدمها لأعداء الشعب، ويعبئون الطبقة العاملة والشعب من أجل توسيع المكاسب المحققة وفتح أفق أرحب للنضال الوطني والاجتماعي حتى إذا تراجعت تلك الفئات الوسطى الحاكمة تحت ضغط الامبريالية وعملائها وهو أمر وارد أو تم الانقلاب عليها، وجد الشعب نفسه في الموقع الذي يخوّل له فرض إرادته حتى بقوة السلاح إن لزم الأمر.

وأخيرا وليس آخرا فإن القوى الماركسية مطالبة بأن لا تبقى مكتوفة الأيدي حين ترى القوى الامبريالية الكبرى تعتدي أو تتحرش على بلدان مثل كوبا، أو كوريا الشمالية أو إيران أو سوريا، مفتعلة ضدها مشاكل لضربها، بدعوى أن أنظمتها غير ديمقراطية أو دكتاتورية، أو إن معارضة التحرّش بها قد تفهم منها مساندتها، وهذا الموقف انتهازي بكل المقاييس، باعتبار أن المحرك الحقيقي للبلدان الامبريالية ليس الغيرة على مصالح شعوب البلدان المعنية، بل مصالحها. ثم، وهذا أمر على غاية من الأهمية، إن كل شعب من الشعوب وباعتبار أن كل شعب مسؤول عن النظام الذي يحكمه وهو الذي يقرر تغييره متى أراد وكيف ما أراد. وليس لأي كان، وخاصة مصاصي الدماء، أن يفرضوا عليه هذا النمط من الحكم أو ذاك.

كل هذه المسائل تجرنا إلى طرح مسألة الجبهة العالمية المعادية للامبريالية التي على الماركسيين اللينينيين أن يعملوا بجد من أجلها حتى تضم العمال والشعوب وكل القوى المناهضة للامبريالية، والعولمة والحرب، الخ.

إن التضامن الأممي هو واحد من المبادئ الأساسية للماركسيين اللينينيين وركن من أركان نشاطهم، نابع من إيمانهم باتحاد مصلحة العمال والشعوب في مقاومة الامبريالية. وقد شكّل منذ أممية ماركس الأولى شعارا مركزيا من شعاراتها: "يا عمال العالم اتحدوا" حوّل لينين هذا الشعار في عصر الامبريالية إلى "يا عمال العالم وشعوب وأمم العالم المضطهدة اتحدوا" وظل التضامن الأممي بارزا في مجرى الأحداث العالمية إلى أن تراجع بتراجع الحركة العمالية والشيوعية. إن اللحظات الكبرى للتضامن الأممي قلّت منذ الستينات وتبقى مساندة الثورة الفيتنامية الباسلة آخر كبريات الحركات التضامنية للعمال والشعوب المعادية للامبريالية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوابعه تراجع التضامن الأممي بشكل خطير وسادت المحلية والوطنية الضيقة في الوقت الذي تدعّم فيه تنسيق البورجوازية على مستوى عالمي. ولكن العدوان على العراق عام 2003 حمل مؤشرات لبداية عودة ذلك التضامن من خلال الحركات المناهضة للحرب. وأصبح المجال اليوم أوسع لتطوير التضامن الأممي عبر أطر أخرى. وتمثل النقابات الطبقية أحد أهم هذه الأطر وكذلك الحركات المعادية للعولمة و"التنظيمات غير الحكومية".

إن ردّ الفعل على هجوم رأس المال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أدى إلى ظهور تنظيمات جديدة مثل "أتاك" و"المنتديات الاجتماعية" كما سمح لتنظيمات قديمة مثل حركة السلم ومنظمات حقوق الإنسان بالانتعاش ومن واجب الماركسيين اللينينيين الاهتمام بكل هذه الحركات. إن المبدأ هو تشجيع كل حركة أو تنظيم يمكن أن يقدّم النضال ضد الاحتكارات الامبريالية.

وإضافة إلى هذا كله توجد مجالات أخرى توفر إمكانيات كبيرة للنضال على الماركسيين اللينينيين الاهتمام بها وإدراجها ضمن مشاغلهم وبرامج عملهم وهي:

أ- النساء:

يمثل النساء أحد أهم ضحايا الهجوم الرأسمالي الامبريالي على النطاق العالمي. فقد تمّ التراجع عن العديد من مكاسبهن في مختلف المجالات والتي كنّ حققنها بنضالاتهن وتضحياتهن منذ ما يزيد عن القرن ونصف، واضحى الضحية المفضلة للبطالة والتهميش والفقر وغلاء المعيشة والجهل والعنف والاغتصاب. وهن يجررن بالملايين في مختلف أنحاء العالم إلى الدعارة ليراكم وحوش "سوق اللذة" الأرباح على حسابهن وعلى حساب كرامتهن، على مرأى ومسمع من حكومات رأس المال. كما أنهن ضحية اساسية للحروب الأهلية والامبريالية والاستعمارية. فهن يشكلن إلى جانب الأطفال النسبة الأكبر من اللاجئين.

إن الوقائع تؤكد مرة أخرى أن الرأسمالية تمثل اليوم العائق الرئيسي أمام تحرر النساء. وفي ذلك تأكيد لأهمية تعبئتهن ضد الرأسمالية والامبريالية وأذنابهما في البلدان التابعة. ومن واجب الماركسيين اللينينيين أن يثابروا من أجل تنظيمهن حول أرضيات ملموسة وواضحة لتطوير وعيهن وتنظيمهن في جبهات واسعة من أجل حقوقهن الأساسية وتحررهن الشامل والتام. وتكتسي مسألة النساء في البلدان العربية والإسلامية أهمية خاصة لأن أوضاع النساء في هذه المناطق هي الأكثر تخلفا في العالم على أكثر مستوى. فهي تسجل نسبة أمية وبطالة وتهميش وفقر من أعلى النسب في العالم. كما تسجل وجود أشكال من التمييز والقهر هي من افظع ما يوجد في العالم ونعني هنا تشريع تعدد الزوجات وختان الفتيات (مصر، السودان...) ورمان النساء بشكل عام من أبسط حقوقهن المدنية والسياسية واعتبارهن قاصرات. وتزداد أوضاع النساء العربيات والمسلمات صعوبة وتعقيدا مع تنامي التيارات السلفية واتساع تأثيرها وهي الداعية إلى العودة بالمرأة إلى ظلمات القرون الوسطى. ويلقى على عاتق القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية في البلدان المعنية تحمّل مسؤولياتها إزاء نصف المجتمع النسائي والقيام بنشاط حثيث في صفوفه لكسبه لمشروع التغيير.

ب- الشباب:

إن الشباب هو الضحية الأساسية الأخرى للرأسمالية والامبريالية اليوم. فقد سدتا أمامه الآفاق وأفقدتاه الرغبة في الحياة والعمل والخلق والإبداع وغذت فيه الياس والإحباط. فالشاب يتعلم إن توفرت له الفرصة طبعا، ولكن بدون أفق، إذ تنتظره في معظم الأحيان البطالة والتهميش. كما أن نمط الحياة البورجوازي وسيطرة العقلية الاستهلاكية وانعدام المرجعية القيمية تدفعه إلى عالم الانحراف والجريمة وتسلط البورجوازية والامبريالية على الشباب قمعا سياسيا وإيديولوجيا فظيعا وهي تعمل بكل الوسائل المادية والمعنوية على منعه من الاهتمام بقضايا مجتمعه المصيرية وتلويث وعيه وتمييعه. وتزداد أوضاع الشباب خطورة في اللدان التابعة حيث معدلات البطالة والأمية في صفوف الشباب مرتفعة، وحيث القمع السياسي وافيديولوجي أشد. وفي البلدان العربية لم تبق اّلأنظمة الحاكمة الاستبدادية والفاسدة للشباب من أفق غير الانخراط في الميوعة والانحلال من جهة أو في أنماط التفكير والممارسة السلفيين من جهة أخرى. ومن واجب اليسار الماركسي اللينيني العناية بالشباب عبر التثقيف والتوعية وفتح الآفاق السياسية على قاعدة برامج ملموسة توجه طاقة الشباب إلى الفعل الإيجابي، إلى مقاومة الاستغلال الرأسمالي والامبريالي والمساهمة في بناء حضارة جديدة لطموحاته وآماله.

د– الثقافة:

إن أحد أهم أهداف البورجوازية الامبريالية اليوم هو القضاء على ثقافات الشعوب وهوياتها وتحويل الإنسان إلى مجرد كائن استهلاكي، بلاروح ولا مشاعر. كما أنها تعمل بكل الوسائل على ترويض المثقفين والمبدعين سواء بشراء ضمائرهم أو بقمعهم حتى لا يؤدوا رسالتهم تجاه مجتمعاتهم ويكونوا ضمائر شعوبهم خصوصا وقد خبرت البورجوازية في أكثر من مناسبة على امتداد القرن العشرين الدور التعبوي العظيم للمثقفين والمبدعين ضد جرائمها.

إن الثقافة تمثل اليوم واجهة أساسية يمكن أن تجمّع المثقفين والمبدعين التقدميين من كل الشعوب والأمم بما في ذلك بالخصوص شعوب البلدان المتطورة التي هي ليست في منأى من "الاعتداء الثقافي" للدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى فرض نمط تفكيرها وعيشها وسلوكها على باقي الشعوب.

ج– البيئة:

لقد بيّن ماركس في تحليله للرأسمالية أنها لا تمثل خطرا على الإنسان فحسب بل كذلك على الطبيعة إذ أنها لا تتستنفد طاقة البشر فحسب لتكديس الأرباح بل كذلك تخرّب الطبيعة، وهي إذ لا تقيم وزنا لصحة الإنسان الجسدية والمعنوية، فهي ايضا لا تقيم وزنا لتوازن البيئة وسلامتها حتى لو كان ذلك في ذل خطر على مستقبل الحياة في الأرض. وليس أدل على ذلك من أن أكبر قوة رأسمالية اليوم، أي الولايات المتحدة الأمريكية، ما تزال ترفض التوقيع على اتفاقية كيتو المتعلقة بالتصدي للارتفاع المتزايد لحرارة الأرض نتيجة لتلوث الصناعي الذي تسهم فيه هذه الامبريالية بدرجة هامة.

وقد أدى تفاقم المشاكل البيئية إلى ظهور أحزاب وحركات "الخضر" خلال العقود الأخيرة. وقد جعلت هذه الأحزاب والحركات من الدفاع عن البيئة أساس برامجها السياسية وحملاتها الانتخابية ولكنها تحولت في معظم الأحيان، على أحزاب وحركات بورجوازية تساهم في حكومات راس المال وتنفذ برامجها المضرة بالإنسان والطبيعة على حد السواء. ويطرح على القوى الماركسية اللينينية اليوم أن تولي هذه المسألة التي تثير مخاوف المليارات من البشر وتهدد مصير الأجيال القادمة من الإنسانية، الأهمية اللازمة وتدمجها ضمن برامجها الاستراتيجية والتكتيكية لأنه لا يمكن الدفاع عن الإنسان، دون الدفاع عن سلامة المحيط الطبيعي الذي يعيش فيه.

إن اليسار الماركسي لن يعيد بناء ذاته إلا بالعمل في صلب العمال والشعوب وتمثّل مطالبهم وطموحاتهم وترجمتها إلى برامج ومقترحات وتحقيقها عبر ممارسة نضالية، يعطي فيها الماركسيون المثل على الكفاحية والجرأة ونكران الذات. وما من شك أن ذلك سيبقى منقوصا إذا لم يولي الماركسيون قضايا التنظيم الأهمية اللازمة. فالثورات تقودها هيئات أركان هي الأحزاب والحركات السياسية المسلحة بفكر وبرامج ثورية وذات التنظيم العالي، والتجربة العمالية والماركسية ثرية بذلك. لذا من واجب القوى الماركسية اللينينية أن تهتم بتنظيم العناصر الواعية صلب الطبقة العاملة والكادحين والمثقفين لتجعل منهم التنظيم الطليعي للعمال والكادحين والشعب.

وُظفت وقائع انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية لخلق الاعتقاد بأن "النضال لم يصلح لشيء" وأنه "خيض من أجل لا شيء" ولترويج العدمية وروح الارتداد والإحباط. وعلينا أن ندرك أنه لا وجود لنضال بدون جدوى مهما كان حجم الهزائم ومهما كان تأثيرها وأهمية المواقع التي تم خسرانها. إن التجارب المُراكـَمة في النضال تبقى حية في الوعي والضمير، حتى في أحلك الظروف لتنير السبيل. وبالنسبة إلى الطبقة العاملة والشعوب فإن الهزيمة ليست قدرا محتوما. إن التاريخ لا يتوقف، بل يتقدم رغم الهزائم التي لا تغير في شيء من الموقع الموضوعي للطبقة العاملة فإن التاريخ والإنسانية يواصلان تقدمهما وإنْ في بحرٍ من الآلام والمعاناة.

فليتحرّر الماركسيون اللينينيون أولا من الإحباط ولينطلقوا من جديد في اتجاه الطبقة العاملة والشعوب والمؤكد أنهم بتحركهم ذاك سيغيرون من جديد وجه العالم، وقد يكون هذه المرة، إلى الأبد. فلنتغير لنغيّر وجه العالم الذي يدعونا إلى تغييره.

نص مداخلة الرفيق حمه الهمامي الناطق الرسمي باسم حزب العمال في الندوة التي نظمها حزب "النهج الديمقراطي" المغربي يومي 30 و31 مارس 2007.



samedi 15 mars 2014

في تاريخ التبعية السري بين النهضة و التنظيم الدولي للاخوان المسلمين


في تاريخ التبعية السري بين النهضة و التنظيم الدولي للاخوان المسلمين

أحمد النظيف
الحوار المتمدن-العدد: 4283 - 2013 / 11 / 22 - 15:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
 ما يجري في مصر هذه الايام يستدعى أكثر من وقفة تأمل ازاء مآلات التجربة الاخوانية في تونس. تقف اليوم حركة النهضة الممثل الرسمي للاخوان المسلمين في تونس في مفترق طرق. هل سيمضي الفرع الاخواني في تونس بدعمه لاخوان مصر الى حد التبعية العمياء أم ان الحركة ستتجه الى التخفيف من ارتباطاتها في دوامة أزمة الاخوان المصريين الى حد الانفصال عنه؟!لم تكشف حركة النهضة عن تبعيتها للاخوان المصريين بهذا الوضوح كما كشفت عن متانة العلاقة هذه الايام. شاهدنا كيف خرجت قيادات الاخوان في تونس وعلى راسها راشد الغنوشي لتعلن دفاعها باستماتة عن الرئيس الاخواني المعزول بكل شراسة وعنف لفظي.من المهم في هذا السياق العودة الى البدايات الاولى لهذه العلاقة لنفهم كيف اصبحت النهضة اليوم متورطة بشكل غير مسبوق في دوامة التنظيم العالمي للاخوان المسلمين.
ولدت الحركة الإسلامية التونسية بداية سبعينات القرن الماضي بشقين،الأول تونسي و الثاني مشرقي و كان بينهما صراع خفي سرعان ما حسمه الشق الثاني حيث تبنت الجماعة الاسلامية منذ البدايات ادبيات التنظيم الدولي للاخوان المسلمين واهتدت بتعاليم سيد قطب وعبد الاعلى المودودي و حسن البنا.
ولكن كيف كانت البدايات الجنينية لارتباط النهضة بالتنظيم الدولي للاخوان المسلمين؟!
من المهم العودة الى سنوات التأسيس الاولى للجماعة الاسلامية التونسية حينما توجه أحد قادة الجماعة انذاك ،الدكتور حميدة النيفر للمؤتمر الاخواني العالمي المنعقد في مكة خلال موسم حج 1973 و بايع المرشد العام للجماعة الشيخ حسن الهضيبي، الذي توفي أياما قليلة بعد ذلك المؤتمر و خلفه الشيخ عمر التلمساني.
من المفارقات أن الشخص الذي ربط الحركة الاسلامية بتونس بالتنظيم الدولي اختار له طريقا اخرا عبر تبنيه لاطروحات اليسار الاسلامي وليصبح فيما بعد احد ابرز منتقدي التبعية للاخوان المشارقة.و لئن بايعت الجماعة الاسلامية في تونس المرشد الثاني للاخوان حسن الهضيبي فان التأسيس الفعلي للتنظيم الدولي لم يوجد بصيغته الحالية وهيكلته الصارمة و المنظمة الا في 29 جويلية سنة1982،على يد المرشد الخامس للجماعة مصطفي مشهور.
يذكر ان مصطفي مشهور هو المرشد الخامس بعد كل من المرشد الاول ومؤسس الجماعة حسن البنا (اغتيل سنة 1982) والمرشد الثاني حسن الهضيبي والثالث عمر التلمساني والرابع محمد حامد أبو النصر. واعقب مصطفى مشهور على رأس مكتب الارشاد كل من مأمون الهضيبي و محمد مهدي عاكف والمرشد الاخير الحالي للاخوان محمد بديع.
و بالنظر الى صفة السابقية والريادة التي تميز بها الاخوان المسلمون في مصر فقد كان مرشد التنظيم الدولي في كل الازمان مصريا فيما يختار نائبة من الدول العربية الاخرى.
و بالعودة الى انخراط الجماعة الاسلامية التونسية التي أطلقت على نفسها تسمية الاتجاه الاسلامي في التنظيم الدولي من المهم القول ان راشد الغنوشي سرعان ما لقي الحظوة لدى الاخوان المصريين بالشكل الذي جعله محل ثقة من قبل كل المرشدين الذين تعاقبوا على زعامة التنظيم الدولي منذ بداية الثمانينات تاريخ تأسيس الاتجاه الاسلامي رسميا في تونس في 6 جوان 1981.
لم يقلد الاتجاه الاسلامي في تونس الادبيات التنظيرية الدينية للتنظيم الدولي للاخوان فحسب و لم يعتمد فحسب على اساليب مخطط تكوين الفرد والجماعة ونظام الاسرة المعتمد ولكنه اعتمد كذلك كل وسائل التنظيم الدولي في التمكين والوصولية والاندساس في اجهزة الدولة ومكونات المجتمع المدني والجامعات.
كان نفس الاسلوب متبعا تقريبا في الجامعات المصرية والتونسية وفي اجهزة الدولة والادارات. كانت كلمة السر في كل من تونس والقاهرة وعواصم عربية اخرى ينتشر فيها الاخوان هي الاندساس في شرايين الدولة.
تعلم التنظيم في تونس اساليب اختراق الاجهزة الامنية وشهدنا كيف ساعد قادة التنظيم العالمي،توابعهم في تونس على المضي قدما في خطة اختراق المؤسسة الأمنية و العسكرية في منتصف الثمانينات و التي انتهت بفشل ذريع عقب أحداث انقلاب 8 نوفمبر 1987 الفاشل.
عرف التنظيم في تونس بروز شخصيات عديدة اعتبرت مثالا بارزا لاساليب الاختراق والاندساس في اجهزة الدولة والربط بين عناصر التنظيم في تونس واعضاء التنظيم في الخارج.
بالنسبة للعديد من التونسيين لا يمثل اسم من قبيل محمد شمام القيادي النهضة المقيم في السويد في الوقت الحالي شيئا كثيرا غير ان العارفين بخبايا الحركة يعرفون قيمة هذا الرجل جيدا. كان لمحمد شمام زعيم الجهاز الخاص بامتياز داخل حركة الاتجاه الإسلامي وقام بدور محوري طوال عشريات كاملة في التنسيق مع أعضاء و قيادات التنظيم الدولي في أوروبا.
أحاط شمام نفسه بالسرية و الغموض لدرجة أن عددا قليلا فقط من القيادات يعلم بحقيقة دوره و مهامه حتى انه كان لا يحضر الاجتماعات الأسبوعية التي يعقدها المكتب التنفيذي ، فقد كان له اجتماع أسبوعي مع حمادي الجبالي ،يبحثان خلاله شواغل الجهاز الخاص و نشاطه و عمليات التمويل و التهريب التي يقوم بها عناصره.
كان شمام يكلف ذراعه الأيمن سيد الفرجاني الملقب حركيا بـــ’’الأمين” بهذه المهام ،فقد كان الفرجاني أحد القائمين على شبكة التهريب التابعة للجهاز المالي لحركة الاتجاه الإسلامي في الثمانينات ليخلف رجل المهمات الخارجية للتنظيم محمد الصغير بكار حيث كان يسافر إلى باريس و فرانكفورت للتزود بالمال في شكل نقدي و في أشكال عينية عن طريق جلب سيارات محملة بالسلع يتم التفويت فيها بتونس لتمويل الحركة بالتنسيق مع ممثل الحركة في باريس الحبيب المكني و ذلك بالتعاون مع كامل غضبان الفلسطيني الأصل و عضو التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين و المكلف بالتعامل مع الحركات الاخوانية في المغرب العربي.
تطورت عمليات التهريب التي يقودها سيد الفرجاني حتى وصلت إلى السلاح. ففي شهر جانفي 1986 توجه إلى باريس بأمر من محمد شمام لتوريد 5000 قنبلة غاز مشل للحركة كي يستعملها عناصر الجهاز في العمليات الخاصة و الاعتداءات ضد رجال الأمن والخصوم السياسيين و داخل أسوار الجامعة خلال الصراع مع قوى اليسار الطلابي، غير أن أمر العملية قد تم كشفه من قبل الجهات المختصة حين اعتقل رجل الأمن يوسف الهمامي الذي كان احد عناصر الجهاز الخاص للاتجاه الإسلامي.
كما استفاد شمام من خدمات التنظيم الدولي . وفي أكتوبر 1990 غادر تونس متوجها إلى الجزائر حيث بقي مختفيا لمدة عشرة سنوات كاملة بمساعدة عناصر التنظيم الى حين مغادرته للجزائر سرا نحو اوربا. ،كانت الجزائر كما السودان مرتعا للتنظيمات الاخوانية. وعندما اندلعت المواجهة مع العسكر في الجزائر وفي عز المطاردة للاخوان المصريين والتونسيين اصبحت الخرطوم عاصمة التنظيم العالمي بامتياز.
كانت السودان تعيش وقتها ربيعها الاسلامي بوصول الجبهة الإسلامية القومية إلى السلطة بقيادة عمر البشير و حسن الترابي فاصبحت بلا منازع مأوى الإسلاميين من كل حدب و صوب حتى أن أسامة بن لادن أقام فيها في تلك الفترة وبعث العديد من المشاريع الاقتصادية.كما وجدت الجماعة الليبية المقاتلة و غيرها من المجاميع المسلحة و المدنية الاسلامية في الخرطوم قبلتها وكان التونسيون احد ابرز ضيوف نظام البشير ـ الترابي حيث وجدوا حضوة خاصة من اسلامي السودان وساعد في هذه العلاقة التفاهم الكبير بين راشد الغنوشي وحسن الترابي.
باختفاء محمد شمام بين مدن الجزائر لم يجد التنظيم الدولي للاخوان خيرا من راشد الغنوشي كرأس حربة لكل الاخوان التوانسة والجزائريين والمغاربة. سرعان ما تقلد الغنوشي عضوية مجلس الإرشاد العالمي،الجهاز الأعلى في التنظيم الدولي كما انتخب في وقت لاحق في عضوية المكتب التنفيذي للتنظيم العالمي. وطوال سنوات المنفى الاوربي وقبلها المنفى الجزائري قدم الغنوشي خدمات جليلة للتنظيم الدولي للاخوان المسلمين حتى اصبح ابن المرشد المدلل.
من المفيد هنا الرجوع الى شهادة احد ابرز السلفيين في اوربا لالقاء بعض الضوء على الدور الذي كان يقوم به راشد الغنوشي فقد كشف المنظر الجهادي ، هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية أن الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة كان مستشارا لدى جهاز المخابرات الداخلية البريطانية “إم.آي 5″-;---;-- و مصلحة شرطة لندن ” سكوتلانديارد” لشؤون الإرهاب،و كان مرجع نظر لدى السلطات الأمنية البريطانية في قضايا منح اللجوء السياسي فان كان طالب اللجوء يتبع لحركة النهضة آو لفكر جماعة الإخوان المسلمين تتم تسوية وضعيته بدون إشكاليات .و أكد السباعي أن الغنوشي كان يقدم النصائح للسلطات البريطانية في مقابل أن يتمتع هو و أصحابه بامتيازات الإقامة و الجنسية حتى أن العشرات من الشباب أصبح يتقرب إليه من اجل الحصول على امتيازات يفقدها كل من خالفه.
أصبح الغنوشي في بضع سنوات الرجل القوي للتنظيم الدولي للاخوان المسلمين في اوروبا لا يزاحمه الا اخواني اخر من الوزن الثقيل وهو كمال الهلباوي الذي اقام قريبا من الغنوشي في لندن. وكان التنظيم الدولي حريصا على الحد من تضخم نفوذ الغنوشي في اوربا عبر تتبع حركاته ومراقبته من قبل الهلباوي مصري الجنسية والذي كان حينها احد قيادات مكتب الارشاد العالمي.
و في الحقيقة فان الدور المحوري الذي قام به الغنوشي في اوربا والمغرب العربي لصالح التنظيم الدولي للاخوان المسلمين بدا بشكل مبكر ومنذ بدايات نشأة الحركة الاسلامية في تونس. ففي شهادة اخرى اتهم الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي مؤسس الحركة الإسلامية بالمغرب الأقصى، راشد الغنوشي بالعمل على اختراق الحركة الإسلامية في المغرب بتكليف من جماعة الإخوان المسلمين نهاية السبعينات من القرن الماضي والتجسس لفائدة التنظيم العالمي للجماعة.
و قال الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي في مقال له نشرته يومية هسبرس المغربية بعنوان “راشد الغنوشي يتجسس على الشيخ عبد الكريم مطيع”، يتنزل ضمن سلسلة مقالات حول تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب الأقصى “إن جماعة الإخوان المسلمين قد عَيَّنت أول الأمر مصطفى الطحان مسؤولا عن منطقة شمال أفريقيا وراشد الغنوشي ضابط اتصال لهم فيها، لذلك كان الطحان يرسل الغنوشي في رحلات تفقدية من أجل استجلاء الأوضاع بكل من الجزائر والمغرب، واقتراح الحلول والخطط الخاصة بالتعرف على الفصائل الإسلامية القائمة بها ومحاولة استقطابها، وفي هذا الاتجاه أرسل الطحان راشد الغنوشي إلى الجزائر عقب اعتقال محفوظ النحناح، فأجرى عددا من الاتصالات بالمجموعات الإسلامية على اختلاف مشاربها، ثم قدم للطحان تقريرا مكتوبا ومفصلا لرحلته في أكثر من خمسين صفحة اقترح عليه فيه أسماء تَخْلُف النحناح أثناء اعتقاله. “
يشار إلى أن مصطفى الطحان يعد من القيادات التاريخية للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين ومن المساهمين في تأسيس الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية عام 1969، وانتخب أميناً عاماً للاتحاد في جويلية 1980 ،ويضيف الشيخ عبد الكريم مطيع في ذات المقال “كان مصطفى الطحان يرسل الغنوشي إلى المغرب، فيجتمع ببعض الشباب ينتقدني لديهم ويتهمني بالعنف والتطرف، وهو لا يعرف عني عنفا ولا لينا، إلا ما برمجه عليه الخطيب والأميري، ويجري حوارات ودية مع صحف الإثارة والصحف الشيوعية المغربية التي تشتمني وتفتري علي، معرِّضا بي ومصرحا، وقدمه الخطيب للملك فاستقبله بمقتضى البرتوكول الملكي الذي يستقبل به رعاياه. “
و اكد في ذات السياق أن الغنوشي, و عندما حاول على حد تعبيره ” اختراق الحركة الإسلامية المغربية و وجد أبوابها موصدة في وجهه، لم يسعه إلا أن يزورني في مكة صحبة مصطفى الطحان الذي دبر لقاء بيننا في فندق الفتح، وأثناء الحديث شكا من انغلاق الحركة وعدم انفتاحها عليه، ولكني دفعت شكواه بحسن أدب، وذكرته بأن البيوت تؤتى من أبوابها، إلا أنه رفع صوته محتجا متأففا:(إلى متى تغلقون الجماعة في وجهنا) فأجبته:(عندما تكفون عن اعتبار المغرب ولاية تابعة لقرطاجنة الفينيقية أو لمملكة محمد علي باشا في مصر) فغضب وأرغى وأزبد ثم تدخل مصطفى الطحان لإصلاح ذات البين. من ثم لم يجر لقاء آخر بيني وبينه، إلا في زياراته المتوالية للقذافي حيث كان يتجنب لقائي في الفندق الذي يقيم به، مع أنه عندما رآني في ليبيا كان أول من بلَّغ المغاربةَ بذلك، واستغله لاختراق بعض الفصائل بالكذب علي وتكفيري، بمعونة الطحان الذي كتب ذلك بهتانا وزورا في نشرية يصدرها. “
يذكر أن الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي هو المرشد العام للحركة الإسلامية المغربية ومؤسس التيار الإسلامي المعاصر في المغرب، عضو الأمانة الدائمة المؤسسة للندوة العالمية للشباب بالرياض بالمملكة العربية السعودية ، هاجر من المغرب سنة 1975 عقب قرار سري صدر من السلطة العليا بتصفيته، ثم صدر في حقه غيابيا حكم بالمؤبد ثم حكمان بالإعدام، عاد إلى المغرب بعد صعود محمد السادس إلى السلطة في العام 1999.
المهم ان راشد الغنوشي وبفضل دوره في صلب التنظيم الدولي للاخوان المسلمين اصبح في العشرية الاخيرة أحد رموز التنظيم الدولي وساعد في تدعيم مكاننة في التنظيم الدولي علاقته بكل من الشيخ يوسف القرضاوي وامارة قطر التي اصبح يتردد عليها باستمرار اثناء اقامته اللندنية.كانت الدولة ولا تزال مكة الاخوان المسلمين بلا منازع طوال السنوات الاخيرة وكان الغنوشي وحركته النهضة في كل ذلك احد ابرز قطع الديمينو الاخواني التي شهدنا كيف حركتهم قطر فيما بعد لقطف ثمار الربيع العربي تحت لافتة الاسلامية وتوظيف الدين.
في المحصلة لم يعد الغنوشي الى تونس يوم 30 جانفي مجرد مراقب عام للاخوان التونسيين ممثلين في حركة النهضة ولكنه عاد ليكمل مهامه في التنظيم الدولي للاخوان المسلمين غير ان سقوط الحكم الاخوان في عقر دارهم في ارض الكنانة يدفع الى طرح السؤال حول مآلات المشروع الاخواني في تونس وهو الذي راهن منذ نشأته على تبعيته المطلقة لمقر المرشد العام بالقاهرة.