Tunisiens Libres

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

dimanche 12 juin 2016

المال مقابل الطاعة العمياء


المال مقابل الطاعة العمياء



هذا هو قرض صندوق النقد الدولي : المال مقابل الطاعة العمياء




Mohammed Samih Beji Okkez


26 أفريل 2016 2 ت/موفع نواة




بعد أربعة أيّام من المصادقة على مشروع القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، أصدر صندوق النقد الدولي في 15 أفريل الجاري بيانا يعلن فيه توصّله إلى اتفاق مع تونس حول إبرام اتفاق مدته أربعة أعوام بقيمة 2.8 مليار دولار في إطار “تسهيل الصندوق الممدد”.


ويوضّح البيان المذكور أنّ هذا القرض الجديد يأتي كدعم لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذّي وضعته الحكومة التونسيّة القائم على “تسريع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية في تونس لتخفيض مواطن الضعف، ودفع عجلة النمو، ودعم توفير فرص العمل على نحو قابل للاستمرار”.


عرض صندوق النقد الدولي: إعادة هيكلة الاقتصاد مقابل المال


موافقة صندوق النقد الدولي على هذه الدفعة الجديدة تأتي متزامنة مع تقدّم الحكومة التونسيّة في إنجاز ما تسميه “إصلاحات اقتصاديّة” تسارعت وتيرتها منذ سنة 2013 إثر كشف نواة عن وثائق مسرّبة تحتوي عددا من الشروط التي فُرضت على الحكومة التونسية لمواصلة تمكينها من القروض مقابل اجراء تغييرات هيكلية في الاقتصاد التونسي وتصفية القطاع العام.


التسريب الذّي نشرته نواة في 30 مارس 2013، أماط اللثام عن رسالة نوايا موجهة لـرئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد وقّعها محافظ البنك المركزي، الشاذلي العياري ووزير المالية حينها إلياس فخفاخ. أما الوثيقة الثانية فكانت عبارة عن جدول زمني لبرنامج الإصلاحات الهيكلية لسنة 2013.


استعرضت الوثيقة المذكورة أهم الشروط الواجب تنفيذها من قبل الحكومات التونسيّة للحصول على القرض المنتظر. تتلخّص هذه “الإصلاحات” كما قدّمها كلّ من محافظ البنك المركزي ووزير الماليّة في:


1) رسملة البنوك العمومية
2) تدعيم استقلالية البنك المركزي
3) الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص
4) مراجعة منظومة الدعم
5) التحكم في كتلة الأجور ونفقات التسيير والتصرّف العموميّة
6) المصادقة على مشروع مجلّة الاستثمار الجديدة
7) إصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية
8) المصادقة على مشروع الإصلاح الجبائي


طاعة عمياء


رغم أنّ المراسلة تعود لحقبة الترويكا، إلاّ انّ حكومتي مهدي جمعة والحكومة الحالية برئاسة الحبيب الصيد، مضتا قدما في تنفيذ الشروط المطلوبة و”الإصلاحات” المتّفق عليها. وقد شهدت السنتان الأخيرتان خطوات متسارعة لتنفيذ عدد من النقاط التي تناولتها الوثيقة المُشار إليها.


حتّى يوم 11 أفريل الفارط، تاريخ المصادقة على مشروع قانون النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، كانت الحكومة قد تمكّنت من تمرير خمس من الشروط الأولى. حيث تمّ المصادقة تباعا على رسملة البنوك العمومية في 06 أوت 2015، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ في 13 نوفمبر 2015، والمضي قدما في تقليص الدعم خصوصا على المحروقات وتجميد الانتدابات في القطاع العمومي للضغط على حجم الأجور في ديسمبر 2015.


سلسة الإجراءات المتخّذة والمُصادق عليها لم تلق بالا لانتقادات الخبراء ومنظّمات المجتمع المدني. حيث انصبّ اهتمام الحكومة على تنفيذ املاءات صندوق النقد الدولي للحصول على القرض المنشود، وإعداد مشاريع قوانين تمهّد لاستكمال باقي “الإصلاحات” المطلوبة، على غرار مشروع مجلّة الاستثمار الجديدة، مشروع إصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية ومشروع الإصلاح الجبائي.


القرارات الملغومة والقلّة المستفيدة


على نقيض مزاعم هيئة النقد الدوليّة حول قدرة الاصلاحات على دفع عجلة النمو، تعتبر الشروط المفروضة على الدولة التونسيّة نوعا من الألغام التي ستزيد من تفجير الوضع الاجتماعي وإقالة الدولة من دورها الاقتصادي وحماية الفئات الأكثر هشاشة إضافة إلى تسخير الموارد الاقتصاديّة لفائدة القطاع الخاص.


فقانون رسملة البنوك العمومية أثار في حينها ردود فعل رافضة تواصلت حتّى بعد المصادقة على القانون، كما تحرّك بعض النوّاب ومنظّمات المجتمع المدنيّ للمطالبة بوقف الرسملة وإعادة النظر فيها.


ويعود السبب إلى انّ هذا الخيار ينطوي على مخاطر جمّة خصوصا في قطاع استراتيجيّ يمثّل 40% من حجم تداولات الاقتصاد التونسي. حيث اعتبر الخبير المالي مراد الحطّاب في حوار سابق مع نواة أنّ عمليّة الرسملة ستتّم على حساب الاستثمار العمومي، خصوصا مع اتجاه الدولة لضخّ 870 مليون دينار في هذه العمليّة. هذه الخطوة الارتجاليّة بحسب تعبيره تعتبر هروبا من ضرورة البحث عن موارد حقيقيّة للدولة أو العمل على خلق قطب ماليّ موحّد.


كما أضاف هذا الأخير أنّ انحسار الاستثمار العمومي في هذا الظرف الاقتصادي والسياسي الصعب سيساهم في تكريس حالة الركود الاقتصادي الشامل مع غياب استراتيجيّة اقتصادية وتنموية واضحة إضافة إلى تضخّم المديونية بشكل مستمرّ وتوجيهها نحو نفقات التصرف والاستهلاك.


أمّا المصادقة على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ، فمازالت تثير الجدل والانتقادات رغم تمرير القانون المذكور في نوفمبر الفارط. وتكمن المشكلة في إمكانية تقاطع المصالح خصوصا وأنّ 25 نائبا من مجلس النواب هم من رجال الاعمال المعنيّين بهذا القانون بشكل او بآخر. فأساس هذا القانون يقوم على تفويض الدولة للخواص بتنفيذ مشاريع بنية تحتية ومشاريع كبرى لضمان التمويلات الضرورية لها.


بمعنى آخر سيتكفّل القطاع الخاص ورجال الاعمال التونسيّين والأجانب بمهام الدولة على صعيد الاستثمار العمومي، وستوكل المشاريع التابعة للمؤسّسات العمومية لشركات القطاع الخاص.


هذه الصيغة تثير الكثير من الشبهات حول المستفيد الحقيقيّ من هذا القانون ومدى خدمته لمصالح رجال الأعمال الذّين تحوّلوا إلى شريك اساسيّ في السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة.


من جهة أخرى، مضت الدولة قدما في سياسة تخفيض الدعم عن المحروقات وتجميد كتلة الأجور، إذ تشير ميزانيّة سنة 2016 إلى التوجّه نحو تقليص نفقاتها خصوصا على مستوى الانتدابات في القطاع العموميّ، حيث ستعمل الحكومة على “حصر الانتدابات أساسا في حدود خريجي مدارس التكوين (وزارات الداخلية والدفاع والعدل) وبعض القطاعات ذات الأولوية”. بمعنى آخر فإنّ الدولة ستلجأ لتجميد مخطّطات التشغيل في القطاع العموميّ في محاولة منها للتقليص من حجم الأجور ونفقات التصرّف المقدّرة ب13000 مليون دينار.


أمّا الإجراء الثاني فيخصّ تخفيض الدعم العموميّ للمحروقات إلى حدود 579 مليون دينار مقارنة بـ 1286 مليون دينار الواردة في قانون المالية التكميلي لسنة 2015. هذا وقد تمّ تقليص مخصصات الدعم تدريجيّا منذ سنة 2011 والتي كانت تقدّر ب 1536 مليون دينار.


أخيرا، تعتبر المصادقة على مشروع القانون المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي خطوة جديدة لضرب السيادة الوطنيّة، وهو موقف عبّر عنه العديد من النواب خلال جلسات التصويت الصاخبة، حيث أثارت العديد من الفصول التي تناولها مقال سابق في نواة جدلا واسعا لما عكسته من رضوخ تام لإملاءات صندوق النقد الدوليّ عبر تجريد الدولة من أدواتها الماليّة وتضييق خياراتها للتمويل الذاتيّ.


إصرار على استكمال قائمة الشروط


على الرغم من تحذيرات بعض النوّاب والخبراء الاقتصاديّين من الارتدادات الكارثيّة لهذه “الإصلاحات” على صعيد السيادة الوطنية وتسليم الاقتصاد المحليّ للقطاع الخاص وإلغاء الدور الاجتماعي الذّي تضمنه الدولة لصالح الفئات الضعيفة والمتوسّطة، إلا أنّ الحكومة ماضية قدما في تنفيذ باقي الشروط التي وضعها صندوق النقدي الدوليّ تحت عنوان “إعادة تأهيل الاقتصاد التونسي”.


إذ من المنتظر خلال الأسابيع القادمة ان يشرع مجلس النواب في النظر في مشاريع القوانين المتبقيّة تجاوبا مع طلب الحكومة التسريع في تمرير هذه القوانين في أقرب الآجال تماشيا مع إرادة صندوق النقد الدولي. وقد بدات لجنة المالية في 25 افريل الجاري مناقشة مشروع قانون عدد 2016/09 المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية، فيما ينتظر ان يتم النظر تباعا في مشروع قانون عدد 2015/68 الخاصّ باصدار مجلة الاستثمار ومشروع إصلاح المنظومة الجبائيّة.


ورغم أنّ الحكومات المتعاقبة بدأت النقاش مبكّرا حول هذه المشاريع، إلاّ انّها أجلّت أكثر من مرّة قبل أطراف عديدة أهمها الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة لمآخذ تتعلّق بالخصوص بنقص الامتيازات الممنوحة والمطالبة بمرونة أكبر وتخفيض الأعباء الجبائيّة على القطاع الخاصّ إضافة غلى ضغط الأجانب لتدعيم امتيازاتهم على حساب الحقوق الاجتماعيّة للعاملين والالتزامات الجبائيّة على الرغم من محدودية موارد الدولة وتفاقم التهرّب الضريبيّ
الحلقة المفرغة وسياسة الهروب إلى الأمام


هذه الدفعة الجديدة من القروض تتزامن مع تصريحات حكومية اعترفت بثقل المديونية التي بلغت بحسب وزير الماليّة 46 ألف مليون دينار تونسي سنة 2015 لتستنزف 56% من الناتج المحلي الخام سنويا.


ويعكس هذا القرض الجديد توجه الساسة التونسيّين المتعاقبين، حيث كانت إستراتيجيتهم واحدة رغم تغيّر الحكومات. الإقبال على الاقتراض لتغطية تراجع أداء الاقتصاد المحليّ وتقديم التعهدّات بتطبيق البرامج والإملاءات الخارجيّة دون الرجوع إلى الأسباب الهيكليّة والخيارات الكبرى أدّى إلى الوقوع في دوّامة المديونية وتوظيف جزء هام من المدخرات الوطنية والمحاصيل الجبائية لتسديد خدمة الدين، وهو ما يتم على حساب تمويل المشاريع التنموية والاستثمارية، وتحسين ظروف عيش الطبقات الضعيفة.


كما يؤدّي خيار التداين لتغطية نفقات الاستهلاك والتصرّف – وإن حقّقت انفراجا “وهميّا” على المدى القريب- إلى العودة إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية وإدخال الاقتصاد في دائرة مفرغة يتزايد فيها طلب الدولة على القروض وذلك للإيفاء باستحقاقات المديونية القديمة من جهة ولضخ مزيد من السيولة في الدورة الاقتصادية المنهكة من جهة أخرى.

التداين الخارجي ، آلية للهيمنة و التفقير تونس نموذجا


mardi 10 mai 2016


التداين الخارجي ، آلية للهيمنة و التفقير تونس نموذجا

التداين الخارجي ، آلية للهيمنة و التفقير
تونس نموذجا
د. مصطفى الجويلي


"أصول الدين تعود إلى أصول الاستعمارأولئك الذين قدموا لنا المال ٬ هم الذيناستعمروناهؤلاء هم نفس الذين يحكمون الدول والاقتصاديات......إنهم الاستعماريونالجدد.......... الدين في شكله الحالي ٬ تسيطر وتهيمن عليه الامبريالية ٬ هو غزو منظم وبمهارة بحيث يصبح كل واحد منا عبدا ماليا........ يقولون لنا سددوا الديونهذه ليستمسألة أخلاقية ٬ وهي ليست أيضا مسألة شرف مزعوم لسداده أو رفضه....... الدين لايمكن رده أولا لأنه إذا لم ندفع ٬ الجهات المانحة لن تموت.كونوا متيقنينلكن على العكسإذا أدينا الدين ٬ فإننا سنموتكونوا متيقنين كذالك."
من خطاب توماس سانكارا  باديس أبابا في 29 جويلية 1987. بعد بضعة أشهر من هذا الخطاب أغتيل توماس سانكارا.

تاريخيا، بدأ التداين الخارجي يبرز بشكل واضح في تونس بداية من سنة  1830 حيث أدى اللجوء المفرط للأسواق المالية العالمية إلى تفاقم عبء الديون الخارجية و أجبر حكومة البايات على إعلان إفلاسها وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية الخارجية. في سنة 1869 تم إحداث "الكومسيون المالي" وهو لجنة مالية دولية ، تضم ممثلي أهم الدول الدائنة،( إيطاليا وإنجلترا وفرنسا ) و قد مثل هذا "الكومسيون" أحد مظاهر التدخل الاستعماري من خلال إخضاع مالية الحكومة التونسية  للرقابة الدولية  وكان مقدمة للاستعمار الفرنسي المباشر سنة 1881.
خلال فترة الاستعمار المباشر تواصل لجوء الإدارة الاستعمارية إلى الديون الخارجية خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1948-1956). و بعد إمضاء بروتوكول 20 مارس 1956 و بتواطؤ من البنك العالمي  تم تحميل  ديون الإدارة الاستعمارية المتبقية على كاهل ميزانية الدولة التونسية بتعلة أن هذه الديون قد أنفقت لتحسين البنية التحتية في تونس.
في الواقع لم يكن بروتكول 20 مارس إلا إعلانا عن الانتقال من هيمنة امبريالية أحادية مباشرة علىالقطر إلى هيمنة غير مباشرة ومتعددة المراكز و قد قامت هذه الأخيرة على  عدة آليات من بينها التداين الخارجي. لهذا و منذ بداية ستينات القرن الماضي انخرطت دولة الاستعمار الجديد في سياسة التداين الخارجي مبررة ذلك بالحاجة إلى استيراد عوامل التنمية الغير متاحة محليا أي التكنولوجيا و الموارد المالية. وقد ارتفعت نسب التداين بشكل ملحوظ ، إلا أن الريع النفطي الذي وظف في مجمله لتسديد الديون مكن الدولة من البقاء خارج دائرة الإفلاس إلى حدود 1982-1984.
بداية من 1986 ومع تعمق الخيارات الليبرالية بتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي المملى من طرف المؤسسات المالية العالمية عرفت سياسة التداين منعرجا خطيرا. ذلك أن الديون المسداة من طرف هذه المؤسسات لم تساهم إلا في تعميق واقع الارتهان بالخارج و تفكيك النسيج الاقتصادي و الدفع نحو المزيد من التداين إلى حد الوصول إلى التداين لتسديد الديون المتراكمة. و قد واصلت حكومات ما بعد 14 جانفي في نفس سياسة التداين المجحف حفاظا على مصالح الطبقات الحاكمة رضوخا لاملاءات المؤسسات المالية العالمية.
في هذا المقال و اعتمادا على بعض المؤشرات سنحاول فهم و تحليل ظاهرة المديونية في تونس و إبراز خطورتها كآلية للهيمنة و سنقتصر فقط في تحليلنا على الديون الخارجية للدولة. لكن قبل ذلك ارتأينا أن نورد بعض الملاحظات المنهجية التي تبدو في نظرنا ضرورية.
1-      ملاحظات منهجية
من الطبيعي جدا إن نعتمد في تحليلنا لظاهرة المديونية على جملة من المؤشرات و المعطيات الإحصائية. إلا إن الأرقام و المؤشرات ليست محايدة بمعنى إن اختيارنا لمؤشر دون غيره لفهم ظاهرة ما يعكس تصورا و رؤية معينة في تعاطينا مع هذه الظاهرة. لهذا ارتأينا في البداية أن نشير إلى بعض المغالطات أو الأخطاء المتداولة (عمدا أو عن قلة معرفة)  لدى العديد من المهتمين بظاهرة المديونية بما في ذلك بعض المعارضين لسياسة التداين  و المطالبين بإسقاط كل الديون الخارجية (راجع كتابات فتحي الشامخي على سبيل المثال).
كثيرا ما يعتمد "الخبراء" في رصدهم لتطور المديونية على مؤشر النسبة المائوية لحجم الديون في الناتج المحلي الخام، وهو نفس المؤشر المعتمد من طرف البنك المركزي التونسي و المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد و البنك العالمي). إلا أن هذه المنهجية تفتقد إلى الدقة و الموضوعية بل أنها تؤدي إلى  تشويه النقاش حول المديونية و نشر المغالطات. في الواقع لا يدل هذا المؤشر إلا على قدرة بلد ما على تحمل ديون جديدة كما لو أن اللجوء إلى التداين الخارجي ضرورة منطقية و مسألة حتمية كما يعتقد الفكر الاقتصادي الليبرالي. وهو ما يفسر اعتبار بعض "الخبراء" و كذلك محافظ البنك المركزي إن المديونية في تونس لا تشكل خطرا ما دامت نسبتها في الناتج المحلي الخام لم تتجاوز 60 % (النسبة القصوى المعتمدة من طرف المؤسسات العالمية). بشكل عام، إن اعتماد المؤشرات و "المعايير الدولية" في التعاطي مع مشكل المديونية يفتقد إلى المصداقية باعتبارأن الدين التونسي غير سيادي بما انه لا يسدد بالدينار بل بالعملة الصعبة و لذلك لا تستقيم المقارنة  مثلا بين  تونس و اليابان التي لا تعاني أزمة مديونية رغم أن قائم ديونها يمثل 140 % من ناتجها المحلي الخام.
أما الخطأ الثاني فيكمن في الاعتماد على مقارنة حجم الديون لفترة ما بالمبلغ المدفوع لتسديدها كأن نقول مثلا أن تونس اقترضت خلال فترة حكم المخلوع ما جملته 40 مليار دينار وأن خدمة الدين الجملية (أصل و فائدة) بلغت خلال نفس الفترة 48 مليار دينار. من هنا نستخلص أن تونس سددت أكثر مما تحصلت عليه من قروض وهو سبب كافي لتعليق تسديد كل الديون الخارجية.
هذا المنطق في التعامل مع ظاهرة المديونية بالإضافة إلى شعبويته يتسم بالسطحية ذلك أن منطق المنظومة الرأسمالية يجعل من الإقراض شكلا من أشكال توظيف رأس المال لتحقيق أرباح  من خلال الفوائد الموظفة على الديون أي بلغة أبسط لا وجود لديون بدون فوائض. ولو كانت المسألة متعلقة بالكلفة، أي الفائدة، لما أثارت قضية المديونية كل هذه الإشكاليات إذ يكفي فقط في هذه الحالة إن تكون أرباح المشاريع الممولة بالقروض اكبر من الفوائد الموظفة عليها.
لا يمكن طبعا أن ننفي أن الديون الخارجية بما يترتب عنها من فوائد تشكل كلفة باهظة و آلية للنهب إلا أن الاقتصار على هذا الجانب فقط  قد يحجب عنا جوهر المديونية كآلية لهيكلة اقتصاديات الدول المتداينة حسب مصالح الجهات المانحة و شركات الرأسمال العالمي و هنا تحديد تكمن خطورة المديونية كآلية للهيمنة الاستعمارية و النهب و التفقير.
أخيرا، أن التعاطي مع المديونية على أساس كلفتها فقط  قد يجرنا إلى السقوط في بعض المغالطات التي يروج لها الخطاب الرسمي  لتبرير اللجوء إلى المؤسسات المالية العالمية و الإذعان لكل املاءاتها. جوهر هذا الخطاب يستند إلى أن القروض الخارجية الخاصة (على الأسواق المالية العلمية ) تقترن بنسب فائدة اكبر من تلك الموظفة على القروض المتعددة الأطراف (لدى المؤسسات المالية العالمية) و هو ما يبرر اللجوء إلى هذه الأخيرة حتى لا نقع تحت طائلة الكلفة المرتفعة للديون الخاصة.
صحيح أن فوائد القروض الخاصة مرتفعة و لكن هذه القروض لا تقترن باملاءات وشروط. في المقابل، فان التداين لدى المؤسسات المالية العالمية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي....) عادة ما يكون بنسبة فائدة منخفضة نسبيا إلا أنه  يشترط تطبيق جملة من الاملاءات و السياسات  الاقتصادية والاجتماعية لا تخدم إلا مصلحة دوائر الرأسمال العالمي و هو بذلك أكثر خطورة من التداين على الأسواق المالية العالمية.
توجد العديد من المؤشرات التي يمكن استعمالها لفهم و تحليل ظاهرة التداين الخارجي. لكن لضيق المجال سنعتمد في ما يلي على مؤشر واحد نعتقد الأكثر مصداقية و الأكثر استجابة لهدفنا في هذا المقال.
2-  تطور حجم المديونية مقارنة بالموارد الذاتية للدولة
نعتمد في ما يلي على مؤشر يستند إلى مقارنة تطور قائم المديونية الخارجية بتطور الموارد الذاتية للدولة. تتكون موارد ميزانية الدولة من موارد الاقتراض (الداخلي و الخارجي) و الموارد الذاتية التي تنقسم بدورها إلى موارد جبائية و موارد غير جبائية. هذا يعني أن كل تراجع أو نقص في الموارد الذاتية للدولة يقع تعويضه بلجوء متزايد إلى التداين أو بشكل أخر أن التداين المجحف ليس إلا دليلا على عدم قدرة الدولة و عجزها على تجميع الموارد الذاتية الضرورية. أما قائم الدين فيتمثل في مجموع أصول و فوائد الديون الخارجية المتخلدة بالذمة بما في ذلك الديون المستحقة و التي لم تحل آجال تسديدها بعد و الديون المتأخرة. بشكل مبسط، قائم الدين هو المبلغ الجملي المستوجب دفعه للإيفاء بكل التعهدات إزاء الدائنين. أما المقارنة بين قائم الدين و الموارد الذاتية للدولة فتؤشر على قدرة الدولة على تحمل الديون و الإيفاء بتعهداتها المالية ولكن الأهم هو أن هذه المقارنة تمكننا من تبيان علاقة التأثير المتبادل بين تطور قائم الدين و تطور الموارد الذاتية للدولة.
يمثل الرسم البياني عدد1 تطور الموارد الذاتية للدولة و قائم الدين الخارجي بالمليار دينار بين 1986 و 2014. وقد اقتصرنا على هذه الفترة نظرا لغياب المعطيات الإحصائية الكافية. خلال هذه الفترة عرف قائم الدين ارتفاعا ملحوظا و متواصلا. أما بالنسبة للموارد الذاتية للدولة فقد سجلت بدورها نزعة نحو الارتفاع إلا إن حجمها بقى دائما دون مستوى قائم الدين الخارجي، بل أن ما نلاحظه هو النزعة نحو توسع الهوة بينهما أي أن قائم الدائن الخارجي تطور بنسق أسرع من نسق تطور الموارد الذاتية للدولة. وهو ما يعني أن الدولة موضوعيا مفلسة و عاجزة عن تسديد ديونها ففي سنة 2014 مثلا بلغ قائم الدين الخارجي نسبة 138 % من جملة الموارد الذاتية للدولة. في هذا السياق يصبح لجوء حكومات ما بعد الثورة إلى مزيد التداين بتعلة أن تونس مازال بإمكانها أن تقترض ما دامت نسبة الدين في الناتج الداخلي الخام  لم تتخطى حاجز الـ 60 % ليس إلا تواصلا للخيارات القديمة و هروبا إلى الإمام من خلال الاقتراض لتسديد الديون القديمة.
لكن ما هو جوهر العلاقة بين تطور الموارد الذاتية للدولة و تطور قائم الدين الخارجي؟ هل يمكن أن نقول مثلا أن التداين أدى إلى التراجع النسبي لموارد الدولة مما أدى بدوره إلى تفاقم المديونية؟               
كما أشرنا سابقا تتكون الموارد الذاتية للدولة من المداخيل الجبائية و المداخيل الغير جبائية و هي بذلك تمثل حصة أو مناب الدولة من الناتج المحلي الخام أي من الثروة الوطنية. من البديهي إذن أن يرتفع حجم هذه الموارد من سنة إلى أخرى و لكن الأهم من ذلك وحتى تتمكن الدولة من المحافظة على دورها و موقعها أن تتطور مواردها الذاتية بنفس نسق تطور الناتج المحلي الخام أي أن نسبة الموارد الذاتية في الناتج المحلي الخام يجب أن تكون في أسوء الحالات مستقرة.
 منذ سنة 1986 سجلت الموارد الذاتية للدولة تراجعا نسبيا حيث انحدرت نسبتها في الناتج المحلي الخام من 32,3 %  إلى 23 % سنة 2007 و لئن عرفت هذه النسبة تحسنا طفيفا فإنها لم تتجاوز 24 % سنة 2014. لم يكن هذا التراجع في حقيقة الأمر إلا نتيجة مباشرة لجملة السياسات المملات من طرف المؤسسات المانحة و المقترنة بالديون.                                     
في أواسط ثمانينات القرن الماضي عرفت تونس كغيرها من أشباه المستعمرات أزمة اقتصادية خانقة كان عنوانها الأبرز تفاقم الديون الخارجية و عجز الدولة عن الإيفاء بتعهداتها المالية. أمام هذه الأزمة أختار نظام العمالة للحفاظ على استمرار يته  أن يخضع لاملاءات المؤسسات المالية العالمية و أساسا البنك العالمي و صندوق النقد الدولي. ذلك أن هذه المؤسسات تدخلت بداية من سنة 1986 لتمنح تونس جملة من القروض إلا أن هذه القروض كانت مرتبطة بضرورة تطبيق جملة من السياسات و الخيارات الليبرالية في إطار ما سمى بـ "برنامج الإصلاح الهيكلي ". في نفس السياق كانت القروض الممنوحة من طرف الاتحاد الأوروبي مشروطة بإمضاء ما يعرف بـ "اتفاق الشراكة" سنة 1995. إلا أن هذه القروض التي منحت تحت عنوان مساعدة تونس على تجاوز أزمتها و الخروج من دائرة التداين المجحف لم تؤدي في واقع الأمر، عبر تأثيرها السلبي على موارد الدولة، إلا إلى مزيد من التداين.
تضمن "برنامج الإصلاح الهيكلي" جملة من السياسات الليبرالية تمحورت أساسا حول تحرير الأسعار و التجارة الداخلية و الخارجية و الاستثمار و خوصصة المؤسسات العمومية. و تهدف هذه الإجراءات أساسا إلى تعميق مسار الانفتاح على الأسواق العالمية و تقليص دور الدولة  لصالح آليات السوق و "المبادرة الخاصة". في هذا الإطار و تحت عنوان تشجيع الاستثمار الخاص و جلب الاستثمار الأجنبي ودعم الصادرات احتوت " مجلة الاستثمار 1993" جملة من الحوافز و التشجيعات و الإعفاءات الجبائية انتفعت بها بشكل خاص المؤسسات المصدرة (كليا أو جزئيا). وقد أدت هذه الإجراءات إلى التراجع النسبي لموارد الدولة المتأتية من الأداء على أرباح الشركات.  و أذا اعتبرنا فقط الفترة 1994-2007 فان خسائر ميزانية الدولة المتأتية من هذه الإجراءات تقدر بـ  2 % من الناتج المحلي الخام، 11 % من الموارد الجبائية و حوالي 7 % من مجمل موارد الميزانية.
هذه النزعة نحو تراجع الموارد الذاتية للدولة تعمقت أكثر بتراجع الموارد المتأتية من المعاليم الديوانية خاصة بعد إبرام اتفاقية المنظمة العالمية للتجارة (1994) و اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي(1995). ذلك أن هذا الأخير اعتمد أساسا على الإلغاء التدريجي للمعاليم الموظفة على الواردات.  
كما يبين الرسم البياني عدد2 سجلت المعاليم الديوانية تراجعا نسبيا متسارعا بداية من 1996 لتنخفض نسبتها في الموارد الذاتية للدولة من 15,4 %  إلى 3,6 % سنة 2014. خلال نفس الفترة تراجعت هذه النسبة من 19,6% إلى 3,9% مقارنة بالموارد الجبائية و من 3,9 % إلى  0,9 % مقارنة بالناتج المحلي الخام. أما مقارنة مع قيمة الواردات فقد تراجعت نسبة المعاليم الديوانية من 9,9 % سنة 1996 إلى 1,7% سنة 2014
بالإضافة إلى الموارد المتأتية من الأداء على الشركات و المعاليم الديوانية، تراجعت الموارد الغير الجبائية لتنحدر نسبتها في الناتج المحلي الخام من 9  % سنة 1986 إلى 2 %  سنة 2014  و يعود هذا التراجع أساسا إلى انخفاض المداخيل المـتأتية من المؤسسات  العمومية نتيجة للصعوبات التي تعانيها هذه المؤسسات  و لسياسة الخوصصة التي توسعت بعد 1994 لتشمل حتى المؤسسات الرابحة (بنوك ، شركات إسمنت......). عموما أدى التراجع الملحوظ لموارد الدولة إلى لجوء متزايد على التداين الخارجي إلى حد الوصول إلى ما يسمى "حلقة التداين"  حيث أصبحت مضطرة للتداين لا  لتمويل نفقاتها العادية بل لتسديد ديونها المتراكمة.
من خلال ما تقدم يمكن أن  نتبين مدى خطورة التداين الخارجي لا من حيث كلفته فحسب بل من حيث  رهن الاقتصاد الوطني لاملاءات المؤسسات المالية العالمية. ذلك أن هذا التداين اقترن بجملة من السياسات التي تهدف إلى هيكلة الاقتصاد التونسي حسب مصالح  الدول المانحة و شركات الرأسمال العالمي. إلا إن هذه السياسات عبر تأثيرها السلبي على موارد الدولة تعيد إنتاج الحاجة إلى المزيد من التداين.  أي أن التداين الخارجي كآلية للهيمنة الاستعمارية لا يؤدي في نهاية الأمر إلا مزيد من التداين وبالتالي تجديد آليات الهيمنة.
3-     من يتحمل كلفة المديونية
خلال الفترة 2010-2015 بلغت خدمة الدين 25,7 مليار دينار  و بذلك تكون الدولة قد خصصت ما يقارب 21,6% من نفقاتها لتسديد ديونها. و قد مثلت خدمة الدين لنفس الفترة 23 % من مجمل الموارد الذاتية للدولة. إلا أن الموارد الذاتية للدولة متكونة بأكثر من 80% من موارد جبائية و هذا يعني أن دافعي الضرائب هم من يتحمل الجزء الأكبر من كلفة تسديد الديون و لكن تبقى المسالة في حاجة إلى أكثر تفصيلا وهو ما يقتضي قراءة لتطور هيكلة الموارد الجبائية.
كما رأينا في العنوان السابق، عرفت الموارد الذاتية للدولة تراجعا نسبيا ملحوظا نتيجة لتراجع الضرائب الموظفة على أرباح الشركات و المعاليم الديوانية. لهذا كان لزاما على الدولة تعويض هذه الخسائر و لو جزيئا حتى لا يتخطى تداينها الحدود المسموح بها من طرف المؤسسات العالمية و أيضا حتى تضمن تسديد ديونها المتراكمة لتحافظ على مصداقيتها لدى نفس المؤسسات هذا طبعا دون المساس بمصالح المؤسسات الخاصة  أو التضييق على توريد السلع الأجنبية.
تمثل الحل الأول في زيادة الضغط الجبائي على الموظفين و الأجراء و لهذا ارتفعت مساهمة الأجراء و الموظفين في مجموع الاداءات المباشرة من 34 % سنة 1986 إلى 46 % سنة 2015. إلا أن هذا الحل يبقى محدود الجدوى على الأقل لسببين. يتمثل السبب الأول في ضعف القاعدة الجبائية للأجور و المرتبات نظرا لمحدودية التشغيل (تفشي البطالة) و ضعف متوسط الأجور وهو ما يعني أن الترفيع في الضغط الجبائي على الموظفين و الأجراء لا يؤدي إلى ارتفاع هام في الموارد الجبائية. أما السبب الثاني فيتمثل في أن زيادة الضغط الجبائي تؤدي إلى انخفاض مباشر و ملموس في للأجور وهو ما قد يتسبب في حالة من الاحتقان و الاحتجاج الاجتماعي.  
لتجاوز هذه الإشكاليات تم اللجوء إلى الاداءات الغير مباشرة كالأداء على الاستهلاك و خاصة الأداء على القيمة المضافة لتعويض الخسارة الناجمة عن تراجع المعاليم الديوانية كما هو مبين في الرسم البياني عدد 3. على سبيل المثال تضاعف حجم الأداء على القيمة المضافة بين 1986 و 2015 بإحدى عشر مرة و ارتفعت  نسبته في مجمل الاداءات الغير مباشرة من 34 % إلى حوالي 50 % . في نفس الفترة تراجعت مساهمة المعاليم الديوانية من 22 % إلى 7,5 %.    
   
من خلال ما تقدم يكمن أن نستنتج أن التداين الخارجي وما صاحبه من أملاءات و الحاجة إلى رصد الموارد لضمان تسديد هذه الديون قد أحدثا تغييرات هامة على مستوى هيكلة الموارد الجبائية للدولة تمثلت أساسا في تزايد الضغط الجبائي على الموظفين و الإجراء و الاعتماد المتزايد على الاداءات الغير المباشرة. هذا النوع من الأداء وان كان لا يمس مباشرة الدخل أو الأجر فهو ينعكس في شكل ارتفاع في أسعار السلع و الخدمات وهو ما يعني المقدرة الشرائية للشرائح المتوسطة و الضعيفة خاصة.  أي أن الأجراء و الموظفين و عموم الفئات المهمشة و المفقرة هي من يتحمل  الجزء الأكبر من كلفة الديون و أعباء تسديدها.
الأخطر أن مثل هذا التمشي يحظى بدعم كبير من طرف صندوق النقد الدولي. في تقرير له لسنة 2012 يرى خبراء الصندوق أنه " يمكن أن نجعل النظام الضريبي أكثر ملائمة للشركات.....تشير المقارنة مع اقتصاديات صاعدة أخرى أن الضغط الجبائي على المؤسسات مرتفع نسبيا في تونس و أنه من الممكن أيضا الترفيع من مردود الأداء على الاستهلاك. بالتالي فإن تخفيضا في الأداء على أرباح الشركات تقابله زيادة في نسبة الأداء على القيمة المضافة مع توسيع قاعدته يمكن أن تكون حافزا للنمو."
من ناحية أخرى، باعتبار أن الديون التونسية ديون غير سيادية، فأن تسديدها لا يتم بالدينار بل بالعملة الصعبة التي  تمثل مداخيل الصادرات أهم مصدر لها. لهذا كان دعم و تعميق النزعة التصديرية احد أهم ركائز برنامج الإصلاح الهيكلي المملى من طرف المؤسسات المالية العالمية. و نظرا لتخلف النسيج الصناعي و تمركزه في نشاطات المناولة فان المحافظة على القدرة التنافسية للصادرات التونسية لم تكن ممكنة عبر تحسين الإنتاجية و التجديد التكنولوجي بل ارتكزت أساسا ، إلى جانب الإعفاءات الجبائية، على آليات الضغط على الأجور و التخفيض من قيمة الدينار مقارنة بالعملات الأجنبية. وهي نفس الآليات المعتمدة لجلب الاستثمار الأجنبي كشرط ضروري للتنمية حسب نفس المؤسسات المالية العالمية.
نظرا للضغط المتواصل على مستوياتها لم تكن الأجور قادرة على مجارات نسق التضخم الذي تفاقم أكثر مع تدهور قيمة الدينار مقارنة بالعملات الأجنبية. خلال الفترة 1986-2014 تدهورت قيمة الدينار بنسبة 54% مقارنة بالدولار الأمريكي  أما مقارنة باليورو فقد تدهورت قيمة الدينار التونسي بنسبة 44 % بين 1999 و2014. و إذا كان هذا التراجع لقيمة الدينار يرتبط باستعمال هذه الإلية لدعم الصادرات و جلب الاستثمار الأجنبي فانه تفاقم أكثر مع اللجوء المتزايد للتداين الخارجي. ذلك ضرورة تسديد الديون بالعملات الأجنبية إلى جانب توسع عجز ميزان الدفوعات الخارجية خلقا طلبا متزايدا على هذه العملات وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعارها أي إلى تدهور قيمة الدينار مقارنة بهذه العملات.  
نظريا، يمكن لتراجع قيمة الدينار أن تخلق تنافسية وهمية للصادرات و ذلك عبر انخفاض أسعار البضائع التونسية المصدرة بالعملة الأجنبية. إلا أن تدهور قيمة الدينار يؤدي في نفس الوقت إلى ارتفاع الأسعار بالدينار  لكل السلع المستوردة وهي سلع معدة للاستهلاك المباشر أو لإنتاج سلع أخرى. وفي جميع الحالات فالنتيجة هي ارتفاع الأسعار عند الاستهلاك في السوق المحلية و تسارع وتيرة التضخم. هذا التضخم إلى جانب الضغط المستمر على الأجور ساهم في تدهور المقدرة الشرائية للأجراء و الموظفين وتوسيع دائرة التفقير و التهميش.
أخيرا، أمام تفاقم الميونية و ارتفاع خدمة الدين تزايد عبء تسديد الديون على ميزانية الدولة خاصة و أن التدهور المستمر للدينار التونسي أدى إلى ارتفاع قيمة الديون (بالدينار). أمام هذا الوضع لم تجد الدولة من خيار سوى الضغط على نفقاتها و أساسا النفقات ذات الطابع الاقتصادي و الاجتماعي.  خلال الفترة 2010-2015 بلغت خدمة الدين 25,3 مليار دينار و تجاوزت بذلك نفقات التنمية (24,3 مليار دينار) و مثلت مرتين و نصف حجم الاستثمار المباشر للدولة (10,2 مليار دينار). إي أن المديونية أدت إضعاف قدرة الدولة على التدخل وهو ما ساهم إلى حد كبير في ركود الاقتصاد و تفشي البطال و استفحال التفاوت الجهوي و حرمان شرائح اجتماعية واسعة من حقها في التمتع بالخدمات الاجتماعية الضرورية و اللائقة.
4-    بعض الملاحظات الختامية
من خلال ما تقدم يمكن أن نتبين بوضوح مدى خطورة التداين الخارجي كآلية للهيمنة لا تخدم إلا مصالح دوائر الرأسمال العالمي و وكلائه المحليين. في حين أن الشرائح المفقرة و المهمشة هي من يتحمل الكلفة الاقتصادية و الاجتماعية لتداين قد يتفاقم أكثر و يزيد الوضع تعقيدا مع سياسة الهروب إلى الإمام المتبعة من طرف حكومات ما بعد 14 جانفي.
أمام خطورة هذا الوضع، طالبت بعض الاحزاب السياسية و المنظمات و الخبراء بضرورة  إلغاء الديون السابقة أو على الأقل تعليق تسديدها لفترة زمنية محددة في انتظار عملية تدقيق شامل لهذه الديون. ويأتي هذا المطلب في سياق حركة عالمية متنامية منذ سنوات لإسقاط كل ديون ما يسمى "العالم الثالث". ويستند هذا المطلب و هذه الحركة على جملة من النصوص القانونية و المعاهدات الدولية التي تسمح للدول بتعليق العمل بتعهداتها الدولية، و منها الديون، في حالات معينة كحالات الأزمة الاقتصادية أو في صورة تعارض هذه المعاهدات مع الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية.
إلا أن مسالة إسقاط الديون تبقى في نهاية الأمر مسالة سياسية أي مسالة موازين قوى طبقية ذلك أن الطبقات الحاكمة و الأحزاب الممثلة لها لا يمكن أن تسقط الديون و ،ضرورة، الخيارات المرتبطة بها التي تشكل إحدى شروط تواجدها واستمرارها في الحكم. من ناحية أخرى، لا يمكن لإسقاط أو تعليق تسديد الديون أن يكون حلا لإشكالية التداين الخارجي  ما لم نتجاوز الشروط الموضوعية التي أنتجته. وهو ما يقتضي القطع مع الخيارات الليبرالية و سياسة الارتهان لدوائر الرأسمال العالمي أي بديلا تنمويا مغايرا تكون ركائزه الأساسية السيادة الوطنية و  حيوية دور الدولة و العدالة الاجتماعية. وهذا لا يعني رفضا للتداين في المطلق بل إخضاعه لشروط و آليات جديدة.