Tunisiens Libres

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

samedi 22 février 2014

نظام عالمي جديد أم بربرية جديدة


نظام عالمي جديد أم بربرية جديدة
حمّة الهمامي
شهدت الأوضاع الدولية خلال الخمس سنوات الأخيرة تغييرات هامة. فقد تفكك "المعسكر الشرقي" بزعامة الاتحاد السوفياتي واختلطت نتيجة لذلك الأوراق في أوروبا وفي العالم. انتهى الاستقطاب الامبريالي الثنائي: الحلف الأطلسي / حلف فرصوفيا واشتدّ من جديد الصراع من أجل إعادة اقتسام أسواق ومناطق استثمار رأس المال ومصادر المواد الأولية بين أهم كبريات الدول والاحتكارات الامبريالية. وفي هذا الظرف تسعى الامبريالية الأمريكية إلى الانفراد بالهيمنة على العالم عن طريق العنف والبربرية وفرض ما تسميه بـ"النظام العالمي الجديد" مما يؤذن بمرحلة جديدة حبلى بالاضطرابات والأخطار الجسيمة على الطبقة العاملة والشعوب والأمم المضطهدة، وعلى مصير الإنسانية قاطبة التوّاقة إلى التحرر والانعتاق.
إن تحليل ظروف نشأة هذا الوضع الدولي الجديد وضبط آفاق تطوره وانعكاساته على المسيرة النضالية لشعوب العالم وللشعوب العربية على وجه الخصوص لهو أمر يكتسي أهمية فائقة بالنسبة إلى القوى الثورية حتى تمسك الخيط الرابط بين كل الأحداث الجارية وترسم مهامها بشكل صائب وتسهم من موقع متقدم في العملية التحررية للشعوب العربية والطبقة العاملة العالمية من أجل تحقيق حلم البشرية في بناء عالم خال من الاستغلال والاضطهاد ومن كل ألوان الميز.
إن هذا الهدف التقدمي لا يزال يغذي الآمال لدى كل الشعوب والثوريين ويحفزهم على النضال. فرغم الانتكاسة الظرفية التي تمرّ بها الحركة الثورية وما ولدته من صلف لدى الرجعية العالمية، لم يتوقف نضال الشعوب من أجل عالم أفضل من العالم الحالي الذي تحكمه قوى رأس المال والطغيان وهو نضال يبشر بنهضة جديدة لقوى الثورة والتقدم بما في ذلك في بلادنا العربية وفي قارتنا الإفريقية التي تشهد أحداثا على غاية من الأهمية.

I. الوضع الدولي الراهن نتاج لعلاقات القوى الجديدة

إن الوضع الدولي الحالي ما هو في الأساس إلا نتاج لعلاقات القوى الجديدة على مستوى عالمي بين قوى الثورة والثورة المضادة من ناحية وفي صلب الدول والقوى الامبريالية نفسها من ناحية ثانية.
إن الحركة الثورية بتيّاريها الأساسيين، الحركة العمالية الاشتراكية وحركة التحرر الوطني المعادية للامبريالية، تشهد انتكاسة مفزعة لم تعرف لها مثيلا منذ ما يزيد عن القرن، نتيجة الخيانات التحريفية المتتالية في بلد الاشتراكية الأول، الاتحاد السوفياتي، وفي الديمقراطيات الشعبية وأهم البلدان الرأسمالية وللتخريب المستمر والمتعدد الأوجه الذي مارسته وتمارسه الدول والاحتكارات الامبريالية ضد الحركة العمالية وحركات التحرر الوطني بوجه عام، مستغلة مصاعبها ونقائصها وأخطاءها. ولئن أدى هذا الوضع إلى إدخال نوع من البلبلة والاضطراب وحتى الشعور بالإحباط وانسداد الأفق لدى شرائح هامة من الطبقة العاملة ولدى معظم فصائل حركة الشعوب التحررية، فإنه بالمقابل جعل القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت الهجوم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الحركة الشيوعية والعمالية وعلى قوى التحرر الوطني، في موقع مريح نسبيا ولو بصورة مؤقتة في مواجهة الأزمة العميقة والحادة التي تعاني منها ويعاني منها النظام الرأسمالي بشكل عام. لقد تخلصت إلى حين، من وجود بديل ملموس عنها، يهدد كيانها ويلهم البروليتاريا العالمية والشعوب والأمم المضطهدة والقوى التقدمية وينير أمامها السبيل. وبعبارة أوضح فقد مالت الكفة لصالح القوى الامبريالية والرجعية العالمية وهو ما يفسر صلفها وشراستها وتخطيطها لمزيد استغلال العمال والكادحين والشعوب على نطاق أوسع وأعمق.
ومن ناحية أخرى فقد اختلت العلاقات بين الدول الامبريالية بفعل قانون التطور اللامتكافئ وغنمت الامبريالية الأمريكية مباشرة من هذا الوضع. لقد تراجعت الامبريالية الاشتراكية السوفياتية تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تنخرها والصراعات القومية والعرقية التي تمزقها وقد أسهمت الامبرياليات الغربية بزعامة الولايات المتحدة في تأجيج هذه الأزمة وتلك الصراعات بألف طريقة وطريقة طيلة ما يزيد عن الثلاثة عقود مستغلة عجز النظام السوفياتي البيروقراطي عن مسايرتها، خاصة على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي. وهكذا تخلى الاتحاد السوفياتي عن توابعه في أوروبا الشرقية لفائدة كتل بورجوازية ليبرالية مرتبطة بالغرب وبالكنيسة وفسح المجال أمام إعادة وحدة شطري ألمانيا وفقا لشروط الطرف الغربي وتحت زعامته وحلّ حلف فرصوفيا و"الكوميكون" إضافة إلى أنه - أي الاتحاد السوفياتي - وجد نفسه على حافة الانفجار والتقسيم القوميين وواقعا تحت رحمة الطغم المالية الأمريكية والأوروبية واليابانية التي تعمل على ابتزازه وتركيعه وتفكيكه حتى لا تقوم له قائمة في المستقبل وعاجزا عن التأثير في سير الأحداث العالمية رغم قوّته العسكرية التي بقيت على حالها والتي لن تنفعه كثيرا في حالة تفككه واندثاره. ومن البديهي أن تستغل الامبريالية الأمريكية هذا الوضع لتوسيع نفوذها في العالم بحكم قوتها المالية والعسكرية ولأن الدول الامبريالية، في المعسكر الغربي وخارجه ليست بعد في وضع يؤهلها مباشرة للمنافسة على زعامة العالم. فهي إما أن لها المال والقوة الاقتصادية ويعوزها النفوذ السياسي والعسكري (ألمانيا، اليابان) أو أنها واهنة ومتذيلة تقليديا للولايات المتحدة الأمريكية (بريطانيا) أو هي في حالة تراجع وتقهقر (فرنسا). أما الصين، فهي فاقدة للوزن الاقتصادي والعسكري لكي تؤثر في مجريات الأمور بشكل حاسم، بل إن حاجتها للرساميل والتقنية الغربية للنهوض بصناعتها واقتصادها عامة، تجعلها قابلة للضغط من قبل واشنطن وطوكيو وبون وباريس ولندن.
وهكذا فلئن أتاح تراجع الحركة الشيوعية والثورية الفرصة لقوى رأس المال كي تسيطر مجددا على الصعيد العالمي، فإن التطور اللامتكافئ لمختلف البلدان الرأسمالية أتاح الفرصة للولايات المتحدة كي تنفرد مؤقتا بالهيمنة على العالم. وهي تعمل اليوم على تكريس هذه الهيمنة في نطاق ما يسميه زعماؤها بـ"النظام العالمي الجديد". إن الهدف من هذا النظام هو إخضاع شعوب العالم ودوله الصغيرة والضعيفة، لنير الامبريالية الأمريكية خاصة والامبرياليات الغربية عامة عبر فرض نمط من النظام الاقتصادي والسياسي والإيديولوجي والعلاقات الخارجية عليها. هذا النمط من النظام يتمثل في رأسمالية ليبرالية وحشية وتابعة على الصعيد الاقتصادي وتعددية شكلية فارغة من كل محتوى ديمقراطي فعلي على الصعيد السياسي وكونية (كوسموبوليتزم) فجة تنتفي معها ذاتية كل شعب أو أمة على الصعيد الثقافي وتنفي كل مفهوم للسيادة الوطنية والاستقلال على صعيد العلاقات الخارجية.
ولئن اتخذ هذا الهجوم الرجعي الواسع النطاق للامبريالية طابعا معاديا للشيوعية في الأساس فإنه ليس ذلك فقط، بل هو أيضا هجوم على حركة التحرر الوطني وعلى كل ما هو تقدمي وإنساني بما في ذلك المكتسبات التي تحققت في ظل الثورة البورجوازية. وإذا كان الهدف من الهجوم على الشيوعية هو ضرب معنويات الطبقة العاملة وثنيها عن النضال من أجل القضاء على الاستغلال الرأسمالي وإيهامها بأن الاشتراكية "نظام خيالي" غير قادر على تحقيق الرفاهية والسعادة للإنسانية وأن لا خيار لها غير القبول بالأمر الواقع، فإن الهدف من الهجوم على حركة التحرر الوطني، هو إفقاد الشعوب والأمم الواقعة تحت النير الامبريالي، كل أمل في التحرر والإنعتاق وجعلها تعتقد أن الاستقلال حلم مستحيل المنال، وأن لا مناص من الرضوخ لمشيئة القوى الرأسمالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة وتنفيذ ما تأمر به.
وبعبارة أخرى فإن النظام العالمي الجديد، هو الإطار السياسي العام الذي سطرته الإمبريالية العالمية اليوم وعلى رأسها الولايات المتحدة لضمان هيمنتها المطلقة على الشعوب والأمم المضطهدة وتطويع الطبقة العاملة لخدمة مصالحها الأنانية. ولتحقيق هذا الهدف الرجعي يتداخل العدوان العسكري مع العدوان الاقتصادي (الحصار، التخريب، المقاطعة، الخ.) وإثارة الإضطرابات الداخلية وممارسة إرهاب الدولة إضافة إلى العدوان الإيديولوجي الذي تشنه أجهزة رهيبة محنكة في الميدان. يقول "ديك تشيني" وزير الحرب الأمريكي متحدثا عن دور بلاده في العالم في الظرف الراهن: « نحن نعتقد أن للولايات المتحدة احتياجات دائمة. لذلك ينبغي علينا أن نحافظ على قدرتنا على مراقبة محيطات العالم والإيفاء بالتزاماتنا في أوروبا والمحيط الهندي وعلى قدرتنا أيضا على نشر قوات سواء في غربي جنوب آسيا أو في البنما لمواجهة الطوارئ دفاعا عن حياة الأمريكيين ومصالحهم» (لوموند 1991). وقد كانت حرب الخليج، بما جُرِّبَ فيها من طرق لنقل القوات والعتاد ومن تقنيات عسكرية جديدة وبما تميزت به من وحشية وبربرية لا توصف، الفصل الأول الذي دشنت به الولايات المتحدة نظامها العالمي الجديد. وكانت على وعي من البداية بأن قدرتها على فرض هذا النظام مرتبطة بنتائج تلك الحرب. فقد صرح "ديك تشيني" لجريدة "التريبون" في مطلع فيفري المنقضي بما يلي: « إن الولايات المتحدة بكسبها الحرب في أسرع وقت ممكن ستظهر أقوى في نظر العالم كله وستثبت أن لها الموارد اللازمة لإقامة نظام عالمي جديد» .
وبعبارة أوضح فإن هذا النظام العالمي الجديد الذي تريد فرضه الولايات المتحدة الأمريكية هو النظام الذي يدفع بالبربرية والوحشية الامبرياليتين إلى أقصاهما. وقد تظافرت عدة عوامل جعلت هذا الوضع ممكنا. فبالإضافة إلى أزمة الحركة العمالية والثورية التي زادت الامبريالية صلفا وعنجهية، هنالك أيضا أزمة النظام الرأسمالي العالمي والسعي المحموم لأقطاب الامبريالية من أجل إعادة اقتسام العالم وهو ما يضاعف في عدوانيتها ودوسها لأبسط المبادئ الإنسانية بحثا عن مخرج من الأزمة بأقل الخسائر والتكاليف بالنسبة إلى رأس المال الاحتكاري. أما العامل الثالث فيتمثل في انفراد إحدى الدول الامبريالية بالهيمنة على العالم. فكلما اشتد على الصعيد العالمي، كما على صعيد البلد الواحد، احتكار الثروة والقوة العسكرية من قبل دولة واحدة أو قلة قليلة من الاحتكارات إلا وتضاعفت غطرستها وتعطشها إلى إخضاع كل الأمم لنيرها.
وإنه لمن المفارقات أن يصحب الإعلان عن هذا "النظام العالمي الجديد" حملة واسعة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية والوفاق الدوليين، وهي كلها مفاهيم منافية تماما لطبيعة الامبريالية خاصة في وضعها الحالي. ولكن لا عجب في ذلك. فأي جريمة لم ترتكبها الامبريالية باسم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلام؟ إن الحرية لا تعني في عرف الاحتكارات الامبريالية غير حريتها هي في اختراق كل بلدان العالم لاستغلالها ونهبها بحثا عن الربح الأقصى. وهي ذريعة للتدخل في شؤون هذه البلدان وتمويل العملاء للإطاحة بأنظمتها وافتكاك السلطة فيها أو لتمزيق وحدتها الوطنية وزعزعة استقرارها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حقوق الإنسان التي لا معنى لها في القاموس الامبريالي غير المصلحة الأنانية لرجل الأعمال الغربي حيث لا تتورع الدولة الامبريالية التي تحكمها الاحتكارات عن ارتكاب أبشح الجرائم أو مساندة أفظع الدكتاتوريات وأكثرها دموية للمحافظة عليها. إن النازية والفاشية هما البنتان الشرعيتان للرأسمالية وكذلك الاستعمار الذي ذهب بحياة الملايين من أبناء الشعوب والأمم المضطهدة وحرمها من استقلالها وثرواتها. ثم إن جنرالات البرازيل والأرجنتين والشيلي وأندونيسيا وكولونالات اليونان وكابورالات إفريقيا وغيرها، هم من صنائع الدول "المتحضرة" التي اسمها الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا... كما أن استعمال الاختراعات والبحوث العلمية لغايات بشعة مثل التعذيب والاغتيال وإعدام الأحداث هو من مآثر تلك الدول أيضا. أما مفهوم الامبريالية للشرعية الدولية، فقد تكفلت أزمة الخليج بفضح حقيقته بما لا تقدر عليه آلاف المقالات والمجلدات تماما مثلما عرّت الطابع الزائف لشعار "الوفاق الدولي". فالامبريالية، والامبريالية الأمريكية خاصة، لا تعرف شرعية غير شرعية الغاب ولا سلما غير سلم أسلحة الدمار الشامل.
ومن المظاهر التي تفضح الجوهر الرجعي على طول الخط للنظام العالمي الجديد تحوّل المنظمات الأممية وفي مقدمتها مجلس الأمن إلى مجرد أجهزة لتشريع الأعمال العدوانية للولايات المتحدة. وتمثل هذه الحالة تدهورا خطيرا للعلاقات الدولية التي تطمح شعوب العالم وبلدانه الصغيرة والضعيفة والمحبة للعدل والسلام إلى أن تسودها المساواة والاحترام المتبادل مما يعني القضاء على جميع مظاهر الهيمنة والاعتباطية فيها. إن تحقيق هذه الغاية يقتضي، مثلا مقرطة المنظمات الأممية مما يعني إلغاء الفيتو من مجلس الأمن وإعطاء صلاحيات فعلية وإلزامية للجمعية العامة التي تضم الغالبية العظمى من بلدان العالم. هذه إحدى الركائز الأساسية للنظام العالمي الجديد الذي تريده الشعوب، حيث تلعب كل دولة دورها بقطع النظر عن عدد سكانها أو حجم ثروتها وترسانتها العسكرية وليس نظام الولايات المتحدة الذي جاء ليشدد الغطرسة والتسلط في العلاقات الدولية. إن الامبريالية الأمريكية تريد بهذا النظام ممارسة دكتاتورية إرهابية مفتوحة على شعوب العالم بغطاء أممي.

II. النظام العالمي الجديد يعمّق تناقضات العالم المعاصر

إن النظام العالمي الجديد المزعوم، منظورا إليه من زاوية منطلقاته وأهدافه الحقيقية ومن زاوية الظروف التي جاء فيها وليس من زاوية الدعاية المضللة التي يروجها ساسة الامبريالية وإيديولوجيوها، إنما هو صيغة جديدة من صيغ هيمنة الامبريالية في مرحلة تعفنها القصوى المصحوبة بتراجع الحركة الثورية مما يجعلها - أي الامبريالية - أكثر بربرية ووحشية وعدوانية. وهذا لن يوفر للإنسانية مناخا للتقدم والرقي والتعاون السلمي، بل إن من شأن هذا النظام أن يوتر مختلف التناقضات الأساسية لعصرنا ويفتح الطريق أمام المزيد من الهزات والاضطرابات الخطيرة على مستوى دولي بما تنطوي عليه من تشديد للاستغلال والاضطهاد والعدوان. وبعبارة أخرى فإن النظام العالمي الجديد سيضع أكثر من أي وقت مضى حفنة الدول والاحتكارات الامبريالية الكبرى وجها لوجه مع الأغلبية الساحقة من الإنسانية وخاصة في البلدان التابعة. فتلك الحفنة من الدول والاحتكارات تمركز بشكل رهيب وعن طريق النهب والعنف البربري أهم حصة من الإنتاج الصناعي ومن التجارة العالمية والتكنولوجيا المتقدمة كما أنها تسيطر على وسائل الاتصال والإعلام والنقل سيطرة مطلقة إضافة إلى امتلاكها ترسانة رهيبة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية. وفي كلمة فإن الغرب الامبريالي الذي لا يمثل سوى خمس سكان العالم يستحوذ وحده على أربعة أخماس موارده.
وبالمقابل فإن الأغلبية الساحقة من الإنسانية تعيش في الفقر والبؤس والجوع والمرض ناهيك أن من 50 إلى 60 مليون نسمة من أبناء "الجنوب" يموتون سنويا من جراء الجوع أو سوء التغذية وأن معدل العمر في بلدان هذه المنطقة لا يتجاوز 23 سنة وأن نسبة الأمية فيها تصل إلى مئات الملايين (حوالي 800 مليون نسمة). ولا يعود سبب هذا الوضع إلى كون هذه البلدان ليست لها ثروات أو أنها مكتوب عليها التخلف، بل لأنها كانت ولا تزال تعاني من القيود الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. فهي تجوع وتمرض وتموت وتُحرم من المعرفة والثقافة لكي تعيش حفنة مصاصي الدماء في بحبوحة. وهذه القيود لن يفكها النظام العالمي الجديد، بل إن صانعيه يعملون بألف طريقة وطريقة على مزيد تمتينها وتوثيقها. فبعد أن أحكمت كمشة الدول والاحتكارات الامبريالية قبضتها على تلك البلدان عن طريق المديونية التي تطورت لتصبح وسيلة من أشنع الوسائل المعاصرة لاستعباد الشعوب (1340 مليار دولار سنة 1990 مقابل 1261 مليار دولار سنة 1989 و639 مليار دولار سنة 1980 حسب البنك العالمي) والتفوق التكنولوجي والسيطرة على التجارة العالمية (تحديد أسعار المواد الأولية وبصفة عامة تحديد شروط التبادل) فإنها اليوم أصبحت تتدخل مباشرة عبر أجهزة موضوعة لهذا الغرض رغم طابعها الأممي الرسمي (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي). وبواسطة الضغط الاقتصادي تملي اختياراتها السياسية وتنصب العناصر والأحزاب التي تخدمها على رأس السلطة. وتبعا لذلك فقد أصبحت هذه الأجهزة عبارة عن حكومة عالمية تحدد لتلك البلدان، تحت إشراف أمريكي بالطبع، نمط تنميتها الاقتصادية والاجتماعية ونمط حكمها. فتحولت بموجب ذلك حكومات البلدان المعنية إلى مجرد أدوات تنفيذ أو بالأحرى هيئات موظفين لدى تلك الأجهزة التي تسهر على مصالح الدول والاحتكارات الامبريالية الكبرى، مما أفقد البلدان الضحية كل سيطرة على ثرواتها وأصبحت لا تملك الأجهزة المستقلة لبلورة أسس تنميتها الوطنية.
ولقد وصلت الغطرسة الامبريالية إلى درجة أصبحت معها ثروات البلدان الصغيرة والضعيفة ملكا مشاعا لكبريات الدول والاحتكارات الامبريالية، لها حق التدخل في كيفية إنتاجها والتصرف فيها على نطاق دولي (مثال البترول العربي) كما وصلت هذه الغطرسة إلى حد أن تلك الدول والاحتكارات لم تعد تحتمل خروج أي نظام عن صفها حتى لو تعلق الأمر بحليف أو عميل اختلف معها تكتيكيا أو ظرفيا لاعتبارات محلية أو جهوية فهي تريد الولاء المطلق والانصياع التام لأوامرها. وهي تخطط اليوم لضرب آخر معاقل المقاومة لنظامها العالمي الجديد. فبعد عمليات غرينادا وباناما والعراق، تلوح الآن بالاعتداء على كوبا والجزائر وليبيا وكوريا الشمالية لإلحاقها بالزريبة الأمريكية مفتعلة كالعادة أسبابا واهية لتبرير هذا الاعتداء. ومن التعلات التي صارت مفضوحة ومعروفة الزعم بأن "البلد الضحية" يمتلك معملا نوويا أو مصنعا كيمياويا والبقية معروفة. وتحسبا لكل مقاومة أو نزعة استقلالية ولإمكانية بروز قوى إقليمية، أعدت الامبريالية الأمريكية إستراتيجية كاملة أطلقت عليها اسم "إستراتيجية النزاعات الصغيرة والمتوسطة الكثافة" والتي تم بمقتضاها إعداد قوة تدخل عسكري جاهزة لخوض الحرب في أي نقطة من نقاط العالم. وقد شكل العدوان على العراق نموذجا لهذا النوع من التدخل، بل التدشين الرسمي للنظام العالمي الجديد كما سبق أن قلنا. وإمعانا في عدوانيتها وانتهاكها لسيادة الدول الصغيرة والضعيفة، أصدرت الدول الامبريالية الكبرى، بواسطة مجلس الأمن وباقتراح من فرنسا قرارا يسمح لها بالتدخل المباشر - تحت غطاء الأمم المتحدة - بدعوى "حماية الأقليات المضطهدة". ويكفي لتحقيق هذا الغرض تحريض بعض العملاء في أي بلاد من البلدان التي بها أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو استغلال بعض مطالبها المشروعة والتدخل بعد ذلك تحت "شعارات إنسانية" كما تم في شمال العراق.
ومن البديهي أن هذه السياسة الرجعية على طول الخط تتعارض كليا مع إرادة الشعوب والأمم الصغيرة والضعيفة والمضطهدة في التحرر والإنعتاق وبناء عوامل نهضتها ورقيها المادي والمعنوي. وعلى هذا الأساس فإن "النظام العالمي الجديد" من شأنه أن يعمق التناقض بين الشعوب والأمم المضطهدة من جهة والدول والاحتكارات الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة من جهة ثانية.
ومن ناحية أخرى فلا ينبغي الاعتقاد أن وحدة كبريات الدول والاحتكارات الامبريالية في مواجهة الشعوب وقوى التحرر في العالم هي وحدة خالية من التناقضات والتصادمات بما فيما التصادمات العسكرية . كلا، إنها وحدة ذئاب. والمتمعن في علاقة هذه الدول والاحتكارات ببعضها يلاحظ أنها تمر الآن بمرحلة "صياغة جديدة" إن صح التعبير. فبعد أن انتهى الاستقطاب الثنائي السابق بين الكتلتين الغربية والشرقية بات من الوارد تشكل كتل ومحاور امبريالية جديدة وفقا لعلاقات القوى الجديدة و لمصالح كل دولة من كبريات الدول الامبريالية. فخلف عبارات الوفاق والوئام تجري في الواقع حروب اقتصادية وسياسية عاتية وسباق نحو التسلح لا يهدأ. فالولايات المتحدة تتسابق مع عقارب الساعة كي تحافظ على موقعها الهيمني داخل الزريبة الرأسمالية وتستثمر لنفسها انهيار الكتلة الشرقية، لذلك فإنها بتدخلاتها في كل جهة من جهات العالم وخاصة في مناطقه الإستراتيجية تسعى إلى قطع الطريق أمام منافساتها والسيطرة على العوامل التي تمكنها من التحكم حتى في اقتصاديات الدول الصناعية (البترول، الغاز، الخ.). إلا أن الولايات المتحدة ليست بالقوة التي تتظاهر بها وأن الطريق أمامها ليست مفروشة بالورد لكي تسيطر على مصادر المواد الأولية ومناطق استثمار رأس المال والأسواق التجارية. فهي تشكو من مصاعب كبرى. إن اقتصادها الشديد العسكرة في تراجع وقد سجل في السنة الماضية نسبة نمو سلبية كما سجل إنتاجها الصناعي نسبة نمو سلبية أيضا (-0.3 %) ثم إن سيطرتها على السوق العالمية ما انفكت تتناقص خاصة في مجالات الصناعة ذات التكنولوجيا المتقدمة مثل صناعة الألياف البصرية (من % 73 سنة 1980إلى 42 % سنة 1988) وشبه الموصلات (من % 60 سنة 1980 إلى % 36سنة 1988) والأدوات الآلية (من % 18 سنة 1980 إلى % 7سنة 1988) وفي مجال الفلاحة، إضافة إلى تناقص تحكمها في السوق الداخلية أمام الغزو الياباني. أما وطأة التسلح على ميزانيتها فقد أصبحت لا تطاق وهي اليوم أكبر بلد مدين في العالم (800 مليار دولار) [1] وهي تعاني من تفاقم البطالة ومن مختلف الأمراض الاجتماعية.
وبالمقابل فإن كلاّ من اليابان وألمانيا يشهد نسقا من التطور والنمو يهدد جديا السيطرة والطموحات الأمريكية. فاليابان يحقق سنويا نسبة نمو عامة تقدر بـ 5% . وهو يحتل المركز الأول في مجال التطور الصناعي بنسبة 6.8 % علما وأن استثمارات اليابان في القطاع الصناعي أهم من الاستثمارات الأمريكية وأن اليابان متفوق في 6 قطاعات من بين الـ 22 قطاعا ذات التكنولوجيا المتقدمة جدا. وهو يمثل أول قوة مالية في العالم إذ أنه يملك 8 من بين الـ10 بنوك الأكبر في العالم وتعتبر العاصمة طوكيو أول بورصة على مستوى دولي وقد ارتفعت الاستثمارات اليابانية في الخارج من 36.5 مليار دولار سنة 1980 إلى 281.6 مليار دولار سنة 1990. وقد غزا الرأس مال الياباني الولايات المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة على وجه الخصوص إذ تمثل الاستثمارات اليابانية في أوروبا 17 مرة حجم الاستثمارات الأوروبية في اليابان. وفي المجال التجاري حقق اليابان سنة 1990 نسبة تغطية تقدر بـ 129 %. وقد بلغ الفائض المحقق مع الولايات المتحدة وحدها حوالي 50 أو 60 مليار دولار وهو نصف العجز التجاري الأمريكي ومع دول السوق الأوروبية المشركة 190 مليار دولار. ولا تتجاوز البطالة في هذا البلد 2.1 % وهو معدل ضعيف نسبيا مقارنة بالدول الامبريالية الأخرى [2]. ومن البديهي أن تسعى الامبريالية اليابانية إلى توسيع نفوذها على حساب الولايات المتحدة نفسها وأن تخرج خاصة من تحت نفوذها السياسي والعسكري وتتخلص نهائيا من مخلفات الحرب العالمية الثانية لتحتل "الموقع اللائق بها". وقد بدأت الأصوات تتعالى داخل الأوساط البورجوازية اليابانية للخروج من تحت المظلة الأمريكية وإعادة بناء مجد الإمبراطورية اليابانية بما في ذلك قدراتها العسكرية.
أما العملاق الألماني الذي استعاد وحدته منذ أواخر السنة الماضية فقد سجل نسبة نمو عامة 4.3 % سنة 1989. وهو يحتل المرتبة الثانية في التطور الصناعي بنسبة 5.6 % وتغطي صادراته ووارداته بنسبة 126.6 %. وهو يحقق فائضا هاما في علاقاته التجارية بالولايات المتحدة [3]. وتطمح ألمانيا اليوم إلى احتلال المركز الأول على المستوى الأوروبي وتوسيع نفوذها في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي. وعلى غرار اليابان، تعمل ألمانيا على التخلص نهائيا من مخلفات الحرب العالمية الثانية واستعادة ثقلها السياسي والعسكري على مستوى دولي حتى تلعب دورا مناسبا لوزنها الاقتصادي وتستعيد مجدها الامبريالي في أوروبا وخارجها. وفي هذا الإطار ليس من الغريب أن تتطور النزعة الشوفينية والانتقامية في هذا البلد مجسدة في عودة القوى النازية إلى الظهور بشكل مكثف وأن يعبر هولموت كول عن عزم بلاده على التدخل مستقبلا بصفة مباشرة إذا حصلت أحداثا شبيهة بأحداث الخليج إضافة إلى ما يلمس في مواقفه من تشجيع على تفكيك يوغسلافيا لاحتواء بعض الجمهوريات الصغيرة المنفصلة. ومن ناحية أخرى فإن مشروع أوروبا الموحدة المبرمج للسنة القادمة يندرج، رغم ما ينطوي عليه من تناقضات داخلية، ضمن سعي الاحتكارات الأوروبية الكبيرة، إلى التكتل في وجه الاحتكارات الأمريكية واليابانية وفي وجه القوة العسكرية السوفياتية. ولا يخفي زعماء الدول الأوروبية رغبتهم في توسيع مجال هذا التكتل الاقتصادي والسياسي ليشمل المجال العسكري وهو ما تعارضه الولايات المتحدة وتعرقله انجلترا.
أما الاتحاد السوفياتي فرغم انهياره اقتصاديا ورغم الأزمة السياسية الداخلية التي يعيشها والتي تهدد بتفككه فإنه لم يفقد قدرته على الصعيد العسكري ولا يخفى على أحد النزعة القومية الشوفينية التي تحرك شخصا مثل يلتسين الذي يسعى عبر العديد من المناورات بما فيها تفكيك الاتحاد، إلى إعادة مجد روسيا القيصرية الامبريالي ضمن صيغة جديدة ولن تكون تلك القوة العسكرية سوى أداة من أدوات تحقيق ذلك الحلم [4].
وتسعى الامبريالية الفرنسية من جهتها إلى الحفاظ على مكان تحت الشمس رغم الوهن الذي هي عليه نتيجة ما يشهده اقتصادها من تراجع (نسبة نمو سلبية في القطاع الصناعي: - 2.8 % سنة 1990، تفاقم العجز التجاري والبطالة، الخ.) [5]. وهي تريد خاصة احتلال موقع متقدم في صلب أوروبا الموحدة المعولة على قوتها العسكرية. إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون فرنسا "الاشتراكية" واقعة أكثر من أي وقت مضى تحت التأثير الأمريكي. وهو ما برهنت عليه حرب الخليج. أما انجلترا فإنها تحاول العودة بثقل أهم على الصعيد الدولي واحتلال موقع مناسب ضمن "النظام الدولي الجديد" من خلال التذيل للولايات المتحدة الأمريكية. ومن نفس المنطلق فإنها لا تبدي حماسا كبيرا لمشروع أوروبا الموحدة بل إنها تمثل صوت أمريكا في "النادي الأوروبي" إلا أنها مصابة هي أيضا بالوهن وتواجه مصاعب اقتصادية واجتماعية كثيرة ناجمة عن السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي اتبعتها رئيسة الوزراء "مارغريت تاتشر" وكانت سبب سقوطها في النهاية. ولا تزال الصين عاجزة عن لعب دور القوة العظمى الذي تطمح إليه لتخلفها الاقتصادي والتكنولوجي. وهي تتبع سياسة نفعية (براغماتية) لتجاوز صعوباتها، عين على الولايات المتحدة، وأخرى على الاتحاد السوفياتي وثالثة على أوروبا. وقد عبرت أكثر من مرة عن خشيتها من تنامي العسكريتارية اليابانية.
إن هذه الأوضاع قابلة لأن ترشح موازين قوى وتكتلات جديدة بين الدول الامبريالية التي تمر علاقاتها اليوم كما سبق أن قلنا بمرحلة "صياغة جديدة" لم تتبلور بعد بصفة نهائية وواضحة المعالم. إلا أنه ومهما يكن من أمر ونظرا للأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي فإن التكالب على الأسواق ومناطق استثمار رأس المال ومصادر المواد الأولية سيشتد بين كبريات هذه الدول والاحتكارات وخاصة منها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والسوق الأوروبية المشتركة. ولئن اتخذ هذا التكالب في الوقت الراهن أشكال حرب تجارية واقتصادية مشفوعة بمفاوضات واتصالات وضغوطات وتهديدات متبادلة لإيجاد صيغ اتفاق ووفاق وقتية، فإن ذلك لا يعني أن هذا الصراع لن يتطور في يوم من الأيام، كما تطور في الماضي إلى صراع مسلح. إن الأسلحة التي تكدسها الدول الامبريالية اليوم وتنشرها عبر أنحاء العالم والميزانيات الضخمة التي تخصصها لتطوير أسلحة الدمار الشامل، رغم كثرة الحديث عن الوفاق والسلم، لا تهدف إلى الدفاع عن الوطن كما يزعم ساسة الامبريالية وإيديولوجيوها أو إلى التدخل في هذه النقطة أو تلك من العالم في نطاق صراعات ذات طابع محدود ضمن ما يسمى بـ"إستراتيجية النزاعات الصغيرة والمتوسطة الكثافة" ولكنها أيضا وسيلة ضغط وردع بين مختلف القوى الامبريالية في علاقاتها ببعضها سواء للحفاظ على موازين قوى معينة أو لتغييرها حسب الظروف والمصالح. وليست بؤر التوتر التي قد تدفع نحو صراعات شاملة هي التي تنقص بما في ذلك في أوروبا نفسها التي لم يهدأ دوي المدافع في إحدى مناطقها الحساسة أي يوغسلافيا فضلا عن المصير المجهول الذي يمكن أن تؤول إليه الصراعات القومية في الاتحاد السوفياتي المشرف على التفكك.
وممّا يرجّح صحة هذا الاستنتاج أيضا اشتداد النزعات القومية الشوفينية في مختلف البلدان الرأسمالية بعد انتهاء الصراع غرب / شرق الذي كان يطمس إلى حد ما تلك النزعات باعتبار المصلحة المشتركة لدى أطراف كل كتلة لمواجهة الكتلة الأخرى، وهو ما يذكرنا بوضع البلدان الرأسمالية قبل الحرب العالمية الأولى مع الفارق أن النزعات القومية تنهض اليوم، في ظل ظروف أزمة خانقة مصحوبة بتعفن النظام الامبريالي بشكل لا مثيل له في السابق وبعسكريتارية لم تعهدها البشرية على الإطلاق وبتراجع الحركة الثورية العالمية مما يضاعف غطرسة قوى الطغيان الامبريالي. لذلك فإن الحديث عن السلم والوفاق الدوليين كمرتكز لـ"النظام العالمي الجديد" هو مجرد كذب ورياء. إن هذا النظام قائم في الأساس على العنف والإرهاب والحروب وحتى الحلول التي يبحث عنها أقطاب هذا النظام لهذه القضية أو تلك فإنها محكومة بمصالحهم أولا وأخيرا وتعكس موازين القوى بينهم، وفي اليوم الذي تختل فيه هذه الموازين ويذهب في اعتقاد بعض أطراف ذلك النظام أن لا مفر من استخدام القوة لتغيير الأوضاع لفائدته فإن الحرب ستندلع وتهدد مصير الإنسانية قاطبة ولن يمنع وقوعها سوى وقوف الشعوب ضدها وكبت جماح مشعليها. وهكذا فإن الأوضاع العالمية الجديدة ترشح التناقض في صلب الدول والاحتكارات الامبريالية إلى الاشتداد من جديد ضمن صيغ وتكتلات جديدة.
ثم إن الأوضاع الدولية الجديدة لا تحمل للطبقة العاملة والشعوب الكادحة في البلدان الرأسمالية الرفاهية والطمأنينة على المستقبل. فهي مثلها مثل الشعوب الأخرى تدفع فاتورة الأزمة العامة للنظام الرأسمالي، بل إن تراجع الحركة الشيوعية والعمالية في العالم وفي تلك البلدان بالذات يمثل عاملا من العوامل الهامة التي جعلت الدولة والاحتكار الامبرياليين يشددان وتيرة استغلال العمال والكادحين واضطهادهم. فقد تفشت البطالة والفقر والبؤس في هذه البلدان. ففي أوروبا الغربية وحدها يتجاوز عدد العاطلين عن العمل 30 مليون نسمة وقد وصلت نسبة البطالة في فرنسا 9.1 % من السكان النشيطين في بدايات هذا العام [6] وتفيد الإحصائيات أن بلدان السوق الأوروبية المشتركة يوجد فيها 40 مليون نسمة يعيشون تحت الحاجز الأدنى للفقر. وفي الولايات المتحدة يمثل العاطلون عن العمل 6.1 % من السكان النشيطين في ديسمبر 1990 مقابل 5.9 % في شهر نوفمبر من نفس السنة وهي أعلى نسبة تعرفها الولايات المتحدة منذ سنة 1987. ويبلغ عدد السكان الذين يعيشون تحت الحاجز الأدنى للفقر المحدد قانونيا 32 مليون نسمة وعدد الذين لا يتمتعون بتغطية صحية 40 مليون نسمة [7]. كما يبلغ عدد الأميين في أقوى دولة في العالم أكثر من 20 مليون نسمة. وفي بريطانيا تكثف استغلال الكادحين بألف طريقة وطريقة عن طريق الطرد وزيادة الأسعار والتضخم المالي وكذلك عن طريق الزيادة في الضرائب والأداءات. أما في بلدان أوروبا الشرقية التي دخلت حديثا زريبة الامبريالية الغربية بالاندماج كليا في النظام الرأسمالي العالمي واتباع سياسات ليبرالية تقليدية فإن أوضاع الشغيلة والكادحين عموما أصبحت مفزعة. فقد دفعوا ضريبة هذه التحولات بطالة وتدهور مقدرة شرائية نتيجة الارتفاع الجنوني في الأسعار وفقدانا للمكاسب الاجتماعية. وليس من المنتظر أن يكون هذا الأمر عابرا فالأخصائيون الأكثر تفاؤلا يتكهنون بأن هذا الحال سيدوم سنوات عديدة، مما يهدد بانفجارات اجتماعية وقد بدأت مؤشراتها تظهر في بولونيا والمجر وغيرها حيث لم تصل بعد "الإعانات" و"الهبات" والاستثمارات التي وعد بها الغرب في السابق والأرجح أنها لن تصل أبدا أو على الأقل لن تصل بالقدر المطلوب لانتفاء الأسباب الإيديولوجية والسياسية التي كانت تدفع الغرب الامبريالي إلى تقديم الوعود ولأن هذا الغرب نفسه يعيش أزمة خانقة تحد من قدراته على التدخل. وتهدد البطالة في الاتحاد السوفياتي ملايين العمال إضافة إلى ظواهر تدهور المقدرة الشرائية والنقص في المواد الاستهلاكية وخاصة الغذائية منها رغم أن الجانب الأهم من "الإصلاحات" الليبرالية مثل الخوصصة وتحرير الأسعار نهائيا لم يدخل بعد حيز التنفيذ. إن الكادحين السوفيات من مختلف القوميات بصدد دفع ضريبة "البريسترويكا" الغورباتشوفية وقد يدفعون عن قريب ضريبة "برنامج يلتسين" الليبرالي المتطرف.
ويمتزج اشتداد وتائر الاستغلال في البلدان الرأسمالية بتفاقم مظاهر القمع السياسي ضد الكادحين والعنصرية ضد الأقليات القومية والمهاجرين. ففي هذه البلدان ما انفكت البورجوازية تشدد الخناق على الحريات وتنتهك الحقوق الأساسية للمواطنين. لقد فقدت التعددية التي طالما تغنت بها الأنظمة البورجوازية باعتبارها ركيزة لديمقراطيتها، فقدت بريقها واتضح أكثر فأكثر طابعها الزائف. فالحياة السياسية في هذه البلدان يحتكرها حزب أو حزبان هما على العموم وجهان لعملة واحدة، يتقاسمان النفوذ والمناصب والسلطة والمعارضة مما أفقد الانتخابات البرلمانية والبلدية وغيرها أية قيمة وأصبحت اللامبالاة هي السمة الأساسية المميزة لواقع تلك البلدان بما فيها البلدان الوافدة حديثا على الديمقراطية البورجوازية مثل بولونيا وغيرها [8]. وتسيطر على الإعلام وعلى جميع وسائل الاتصال ومسالك النشر والتوزيع أقلية ضئيلة من كبريات الاحتكارات [9] الأمر الذي دعم الطابع الأحادي لـ"منتوج" تلك الوسائل والأجهزة التي تحولت إلى بوق للكذب والتزييف والتضليل والتخدير وقتل الأذواق ونشر الأفكار اليمينية المتطرفة. وبالإضافة إلى وسائل الضغط المادي الذي يسلط على الأصوات الحرة، لا تتوانى أجهزة الدولة البورجوازية في استخدام أساليب القمع الأخرى مثل الرقابة والسجن والتهديد وحتى القتل لإسكات تلك الأصوات.
ومن ناحية أخرى ما انفكت انتهاكات حقوق الإنسان والأقليات تتزايد في البلدان الرأسمالية مثيرة انشغال المنظمات الإنسانية بما فيها المنظمات القريبة من حكومات تلك البلدان وأنظمتها.
فالزنوج في الولايات المتحدة والأقلية الأسيوية والمهاجرون العرب والقوميون الإيرلنديون في انجلترا والجالية المغاربية في فرنسا يتعرضون إلى حملات قمعية رهيبة واعتداءات عنصرية متكررة ذهبت بحياة العديد منهم. لقد وصل الأمر بـ"أعرق ديمقراطية" في أوروبا أي انجلترا حد إصدار قانون يسمح بإطلاق النار على من يشتبه في أنه من المناضلين الإيرلنديين وقد ذهب المئات من المواطنين ضحية هذا القانون تحت غطاء "مقاومة الإرهاب". وتجدر الملاحظة إلى أن منظمة العفو الدولية التي توجد أمانتها العامة بلندن اتهمت رسميا السلطات البريطانية بانتهاك حقوق الإنسان مشيرة إلى الحالات المذكورة آنفا وإلى حجز المواطنين العرب وطردهم دون وجه قانون أو سبب مقنع. أما في الولايات المتحدة التي تتزعم منذ سنوات الحملة الغربية حول حقوق الإنسان، فإنها بالإضافة إلى ما ذكرنا لا يزال التعذيب والعنف البوليسي فيها الخبز اليومي للأقليات العرقية، ومناهضي حكام واشنطن. ولا يزال حكم الإعدام يذهب حتى بحياة الأحداث [10]. ومن المعلوم أن الدولة الأمريكية هي من بين الدول التي لم تمض على الاتفاقية المناهضة للتعذيب ولا على الميثاق العالمي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وفي فرنسا تتكاثر من يوم إلى آخر الجرائم العنصرية ضد أبناء البلدان المغاربية خاصة. ويلاقي المعتدون التشجيع ضمنيا من قبل قضاء وسلطة سياسية متسامحين مع الجريمة العنصرية. ولا يقل وضع الحريات وحقوق الإنسان سوءا في الاتحاد السوفياتي التي لم تفتح فيها أبواب الديمقراطية سواء عن طريق "غورباتشيف" أو "يلتسين" إلا للعصابات اليمينية المتطرفة ونقابات الإجرام والفساد.
وفي نطاق هذا التدهور المستمر للحريات وحقوق الإنسان في البلدان الرأسمالية، ما فتئت الحركات اليمينية المتطرفة تنمو وتتطور وتزداد تأثيرا في الحياة العامة. فالحركات النازية والفاشية أصبحت تتحرك أكثر من أي وقت مضى بصورة مكشوفة. وهي تحصل على نسب هامة في الانتخابات رغم رفعها جهرا راية الدكتاتورية والعنصرية والشوفينية القومية، مجندة كما في الماضي أكثر عناصر البورجوازية رجعية وتعصبا إضافة إلى بقايا الهتلرية والفاشية وأكثر شرائح المجتمع تخلفا وعرضة إلى الحرمان وبالتالي إلى الانسياق وراء التطرف اليميني الذي يدغدغ نوازعهم البدائية (ألمانيا، النمسا، فرنسا، بلجيكا، بولونيا، رومانيا، الولايات المتحدة، الخ.).
ومن ناحية أخرى وفي إطار تنامي النزعة اليمينية المتطرفة في هذه البلدان، تجدر الإشارة إلى تفسخ الطابع الإصلاحي للأحزاب والحركات الاشتراكية الديمقراطية التي نراها اليوم تنحو منحى اليمين التقليدي متبنية أطروحاته الاقتصادية الليبرالية المتطرفة وبرامجه الاجتماعية المعادية للعمال والكادحين وشعاراته وممارساته المنافية للحريات وحقوق الإنسان فضلا عن ممارساته العنصرية إزاء الأجانب ونزعته العدوانية في الخارج. وهي أينما وصلت إلى الحكم إلا ومهدت لتنامي اليمين العنصري والفاشي. وبالإضافة إلى ذلك فإن التعفن أصاب بشكل كلي وشامل الدولة البورجوازية من أسفلها إلى أعلاها، حتى أصبح من الصعب التفرقة بين الرئيس أو الوزير الأول أو الوزير وبين المافيوزي وتاجر المخدرات أو وسيط الخناء علما وأنه أصبح من الشائع إقالة أو استقالة رئيس الحكومة أو الوزير أو غيره من كبار مسؤولي الدولة لتورطه في السرقة أو الارتشاء أو في الفساد أو انخراطه في نقابات الإجرام. ومن مظاهر التعفن أيضا سيطرة الطابع العسكريتاري والبوليسي على الدولة البورجوازية حتى أن قادة أجهزة المخابرات أصبحوا أكثر حظوظا للفوز برئاستها.
وعلى صعيد آخر فإن البورجوازية لم يعد لها ما تقدم ثقافيا لمواطنيها غير أكثر مظاهر الثقافة انحطاطا وتفسخا واعتداء على الذوق السليم. فلقد انتشرت في كل البلدان الرأسمالية ثقافة الغيب والشعوذة التي تروجها أجهزة محنكة في الكذب والتضليل وتدفع لها الاحتكارات مليارات الدولارات لتقوم بهذا الدور إضافة إلى ما تدفعه لسينما الجنس والعنف والجريمة وفن الصخب والتخدير.
إن مجمل هذه العوامل الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية من شأنها أن تعمق التناقض بين البورجوازية وبين الطبقة العاملة وجموع الكادحين في البلدان الرأسمالية حتى وإن لم يجد ذلك الآن تعبيرته السياسية الواضحة في العديد من الحالات نتيجة هيمنة عقلية الوفاق الطبقي التي رسختها الأحزاب والنقابات الاشتراكية الديمقراطية والتحريفية في أذهان الشغالين. وهكذا فإن التناقضات الأساسية لعصرنا أي التناقض بين رأس المال والعمل والتناقض بين الشعوب والأمم المضطهدة من ناحية والامبريالية من ناحية ثانية والتناقض بين الدول والاحتكارات الامبريالية نفسها، لا ولن تخمد في ظل الأوضاع الدولية الجديدة.
إن هذه التناقضات التي أصبحت ثلاثة بعد أن اختفى رابعها وهو التناقض بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي على إثر التحاق ألبانيا بالزريبة الرأسمالية مرشحة لأن تتعمق وتشهد توترات وانفجارات جديدة. وبهذه الصورة فإن التناقض الجوهري الذي يشق عصرنا بين الرأسمالية التي ولى عهدها موضوعيا وبين الاشتراكية التي تمثل مستقبل الإنسانية سيزداد نضجا وستتكثف العوامل التي تدفع إلى حله لفائدة الطبقة الثورية لعصرنا أي البروليتاريا.

lll. النظام الرأسمالي عاجز عن حل مشاكل الإنسانية

إن الأوضاع العالمية الحالية وآفاق تطورها تشهد بما لا يدع أي مجال للشك بأن الرأسمالية في مرحلتها العليا الامبريالية عاجزة عن حل المشاكل الأساسية التي تتخبط فيها الإنسانية والتي ولدها هذا النظام الاجتماعي بنفسه. هذه الحقيقة نسوقها بقطع النظر عن الانتكاسة التي تعرفها حاليا الحركة الشيوعية والعمالية العالمية والتي استفادت منها الدول الامبريالية واستغلتها لشن هجمة شرسة على الحركة التقدمية زاعمة أن الرأسمالية هي أفضل النظم الاجتماعية على الإطلاق وأنها أزلية. فتاريخ الرأسمالية بماضيه وحاضرة قدّ من دماء ودمار. فالبشرية لم تعرف في ظل هذا النظام غير الاستغلال والاضطهاد والحروب الاستعمارية والكونية والمجاعة (40 ألف طفل عمرهم أقل من 5 سنوات يموتون يوميا) والأمية والجهل (100 مليون طفل في العالم بين 6 و11 سنة لم يتمكنوا من الذهاب إلى المدرسة) والكوارث البيئية والميز العنصري والإجرام والإرهاب اللذين تحولا إلى صناعة وتحويل الملايين من النساء إلى بغايا بحكم الفقر والحاجة والإدمان على المخدرات الذي أصبح ظاهرة تعصف بحياة الملايين من الشبان مقابل الإثراء الفاحش لحفنة من زعماء الإجرام ذوي الارتباطات المتينة بالأوساط الحاكمة في البلدان الرأسمالية. ورغم التقدم العلمي والتقني المهول وما نجم عنه من تطور مستمر في الإنتاج والإنتاجية فإن الاستفادة من ثمرة ذلك التقدم لم تتعد الحلقة الضيقة لكبريات الاحتكارات الامبريالية وأعوانها. ولم يكن بالنسبة إلى الشغيلة سوى وسيلة جديدة لتشديد استغلالها والحط من مستوى عيشها وتهميش أعداد غفيرة منها وبالنسبة إلى الشعوب والأمم المضطهدة غير وسيلة لتعميق الهوة بينها وبين "الدول المتقدمة" إضافة إلى تعميق تبعيتها ونهبها. إن مختلف محاولات إصلاح النظام الرأسمالي من الداخل سواء عن طريق تثوير آلات الإنتاج وطرق تنظيم العمل باستبدال نمط بآخر (التايلورية، الفوردية، ونظام المساهمة الآن) لتحقيق مقاييس عالية من الإنتاجية والأرباح واحتواء المطالب العمالية وضمان استمرارية إعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية في المؤسسة والمجتمع أو عن طريق تعديل علاقات الهيمنة بين الدول الامبريالية والبلدان التابعة من خلال ما يسمى بالحوار شمال - جنوب والبحث عن "حلول" للمديونية (مخطط برادي - وزير الخزينة الأمريكي) وتقديم المساعدات (التي لا تتجاوز نسبة لا معنى لها من الدخل الوطني لتلك البلدان) أو عن طريق إدخال نوع من التداول على السلطة بين الفرق الليبرالية التقليدية والفرق الاشتراكية الديمقراطية أو عن طريق التلويح بالوفاق والسلم وتشديد الحملات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان على المستوى الدولي وفرض إصلاحات ليبرالية على بعض الدكتاتوريات الحليفة والمنصبة، فإن كل ذلك لم يغير ولن يغير من جوهر هذا النظام في شيء ولم يمكنه ولن يمكنه من تجاوز تناقضاته وأمراضه الهيكلية وانعكاساتها الاجتماعية والسياسية التي ما انفكت تتفاقم على مستوى البلد الواحد أو في علاقات الدول ببعضها ولا من تجاوز طبيعته العدوانية والاستعمارية. فالرأسمالية هي الرأسمالية، دائما استغلالية ووحشية وقهرية وعدوانية وتوسعية، مهما أكثرت من المساحيق. وقد بينت الحياة أنها ما أن تخرج من أزمة حتى تقع في أخرى أكثر حدة وعمقا. وكل هذه العوامل تشكل قاعدة موضوعية تبرر ضرورة تجاوزها كنظام اجتماعي وسياسي ولى عهده وانقضى.
إن تراجع الحركة الشيوعية والعمالية العالمية وانتكاستها وما نجم عن ذلك من إحباط وضياع وتشتت في صفوف الطبقة العاملة هو الذي وفر فرصة لا تعوض للرأسمالية العالمية كي تمدد في أنفاسها وتواجه أزمتها الراهنة بشيء من الراحة. وقد استغلت أزمة الكتلة التحريفية الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي وانهيار الأنظمة الثورية المزعومة في عدة بلدان من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لتدّعِيَ أنها نظام أرقى من الاشتراكية وأنها الأقدر على الاستجابة لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع وأن الأمراض اللصيقة بها (بطالة، فقر، بؤس، الخ.) لا حول ولا قوة لها عليها. إلا أن هذا الخداع والتضليل لا يمكن أن يعمّر طويلا بحكم تعطل تطور النظام الرأسمالي نفسه والآلام والمآسي التي يسبّبها للإنسانية التي لا يمكن أن تتحملها إلى ما لا نهاية، إضافة إلى أن نكسة الاشتراكية لن تكون سوى عابرة وظرفية.
إن الاشتراكية، بقطع النظر عن المآل السلبي الذي عرفته التجارب التي خاضتها الطبقة العاملة في أكثر من بلد خلال العقود السبعة الأخيرة والناتج عن جملة من العوامل الموضوعية والذاتية، ستظل البديل الوحيد بل الحتمي عن الرأسمالية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغيّر فشل التجارب الاشتراكية إلى حد الآن من هذه الحقيقة في شيء لأن الاشتراكية كنظام اجتماعي ليست نابعة عن رغبة ذاتية، لبعض المفكرين المبشرين بدنيا جديدة يعمّ فيها الخير والرخاء، بل هي نابعة عن حتمية التطور الموضوعي للمجتمع الرأسمالي تماما مثلما حتم تطور أنماط الإنتاج السابقة المرور من أنماط دنيا إلى أنماط أرقى كان آخرها نمط الإنتاج الرأسمالي. إن هذه التطورات محكومة بعوامل موضوعية خارجة عن إرادة الإنسان ولا يمكن الحكم على صحتها أو على صلاحيتها من خلال تصور مجموعة من الناس لها أو من خلال مسلكية حزب معين قد يخطئ أو يصيب في إدراكها واستيعابها والتعامل معها بما يحقق تطابق الفكر والممارسة مع مستلزمات هذه التطورات. وبعبارة أخرى فإن أيّ نمط إنتاج يحتمه تطور الواقع الموضوعي يبقى ضرورة قائمة حتى ولو فشل البشر المعنيون بذلك الانقلاب الاقتصادي في تحقيقه في فترة من الفترات لسبب أو لآخر. وستستمر المحاولات من قِبَلهم ولو لمدة طويلة من الزمن، لانجاز تلك المهمة التاريخية، عاملين كل مرة على تجاوز أخطاء أسلافهم ونقائصهم. فتطور التاريخ قد يتعطل ولكنه لا يتوقف في مرحلة معينة لأن توقفه يعني نهايته ونهاية الفاعلين فيه. لذلك فإن إيديولوجيي البورجوازية والبورجوازية الصغيرة وساستهما الذين يروجون أن النظام الرأسمالي أزلي ويزعمون أن الاشتراكية نظام خيالي، غير قابل للتحقيق بل و"مناف للطبيعة الإنسانية" المجبولة على الملكية الخاصة، مستندين إلى ما آل إليه الوضع في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية والصين وغيرها، إنما يدخلون في تناقض مع قوانين التطور التاريخي بل وينفون القوانين نفسها التي ولدت في مرحلة معينة من تطور المجتمع البشري النظام الرأسمالي ليعوض النظام الإقطاعي الذي استنفذ طاقاته التاريخية ويتناسون أن هذا التحول لم ينجح نهائيا إلا بعد العديد من التجارب الفاشلة أو بالأحرى بعد أن توفرت له الشروط الموضوعية والذاتية بالكامل.
إن الاشتراكية ستظل المطمح الأسمى للإنسانية الكادحة والحل الطبيعي والمنطقي للتناقضات الجوهرية للنظام الرأسمالي وخاصة للتناقض القائم بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الذي بلغ اليوم درجة عالية من النضج أصبحت تحتم ضرورة استبدال العلاقات الرأسمالية بعلاقات اشتراكية حتى تواصل القوى المنتجة نموّها بشكل طبيعي.
لقد بلغ الطابع الاجتماعي للإنتاج درجة قصوى من التطور ليس على صعيد البلد الواحد فقط بل وعلى صعيد عالمي أيضا. وفي كل مرة يأتي اكتشاف جديد في مجال الإنتاج يعمق هذا الطابع الاجتماعي (الإنسان الآلي، الإعلامية، الخ.) وبالمقابل ظل الانتفاع من ذلك محصورا في الأقلية الرأسمالية بصورة أساسية مما أدى ويؤدي باستمرار إلى الأزمات وإلى التدمير المصطنع لجزء من القوى المنتجة (حروب، بطالة...) أو إلى الاستثمار في القطاعات غير المنتجة (التسلح...) أو إلى عدم استغلال كامل الطاقة الإنتاجية للآلات والمؤسسات. ومن هذا المنطلق فإنه من باب الخور نفي الاشتراكية كمرحلة ضرورية من تطور المجتمع البشري لا بدّ وأن تعقب النظام الرأسمالي. كما أنه من الخطأ البحث عن أسباب المآل السلبي لمختلف التجارب الاشتراكية فيما تزعمه البورجوازية من "خيالية الاشتراكية" أو "عدم ملاءمتها للطبيعة الإنسانية" لتأبيد الاستغلال الرأسمالي وثني الشغيلة عن النضال ضده من أجل تشييد المجتمع الشيوعي الخالي من استغلال الإنسان للإنسان، بل لا بدّ من البحث عن تلك الأسباب في الظروف الموضوعية والذاتية التي حفت بكل تجربة من التجارب وجعلتها تحيد عن أهدافها سواء من المنطلق أو في مرحلة من المراحل، البحث عن تلك الأسباب في مسلكية الأحزاب والأشخاص الذين قادوا تلك التجارب ولم يوفروا لها كل أسباب النجاح. وبعبارة أخرى فإن ما فشل هو بعض التجارب الاشتراكية وليست الاشتراكية التي ستبقى ضرورة موضوعية مهما فعلت البورجوازية لعرقلة قدومها وانتصارها في كامل أرجاء المعمورة.
ومن ناحية أخرى فإن حركة الشغيلة والشعوب التحررية لم تركع، رغم كل المصاعب التي تعترضها ورغم الانتصارات الظرفية للقوى الامبريالية والرجعية، بل إنها تواصل المقاومة، وهنالك العديد من المؤشرات التي تدل على أنها مقدمة على مرحلة نهوض جديدة قادرة على أن تجعلها تتحول مع الوقت من موقع دفاعي إلى موقع هجومي مثلما كان الحال في بدايات هذا القرن أو بعد الحرب العالمية الثانية خاصة إذا عرف الثوريون كيف يحولون هذه الحركة إلى حركة عامة ضد الرأسمالية، في منطلقاتها الفكرية والسياسية وفي برامج عملها وأهدافها.
ففي البلدان الرأسمالية لم يتوقف نضال الشغيلة والكادحين بل إنه يتوسع باستمرار. ولا أدل على ذلك من الإضرابات والمظاهرات والمسيرات التي تشهدها باطراد بلدان مثل فرنسا والولايات المتحدة وإنجلترا والاتحاد السوفياتي... والتي يشارك فيها مئات الآلاف من العمال والأجراء من مختلف القطاعات (ممرضون، أطباء، معلمون وأساتذة...) والشبان (تلاميذ، طلبة ومهمشون...). ورغم أن هذه الإضرابات والمظاهرات والمسيرات ليس لها طابع اشتراكي واع أو هي واقعة تحت تأثيرات قوى إصلاحية أو فوضوية فإنها تعبّر عن نقمة على الاستغلال الرأسمالي ورغبة جامحة لدى العمال والكادحين في تحسين ظروف حياتهم المادية والمعنوية وعن طموح لدى الشبان في استبدال نمط المجتمع الرأسمالي بنمط مجتمعي أكثر عدالة وإنسانية، يوفر الشغل لمن ليس له شغل والصحة والثقافة لمن هو في حاجة إليهما، الخ.
وفي مختلف هذه البلدان ما انفكت تنمو وتترعرع حركات عديدة ومتنوعة تعنى بقضايا البيئة التي أصبحت من بين القضايا المحورية التي تشغل بال الناس نتيجة التلوث الذي يهدد البشر والطبيعة وبالمساواة بين الأجناس وبالسلم، الخ. وكل هذه العناصر تبين أن مظاهر الاحتجاج لا توجد في البلدان الاشتراكية المزعومة ولكن أيضا في البلدان الرأسمالية التقليدية التي تقدم نفسها على أنها أنموذج للتنمية الاقتصادية والسياسية. إلا أن سيطرة الاحتكارات الغربية على وسائل الإعلام تمكنها من تضخيم بعض الظواهر حتى ولو كانت جزئية، لأغراض دعائية تندرج ضمن الحرب الإيديولوجية والسياسية ومن ابتذال ظواهر أخرى حتى ولو كانت جوهرية وهامة عندما تمس بمصالح تلك الاحتكارات.
وفي الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية لم تتوقف حركات الاحتجاج الاجتماعية والسياسية بعد إزاحة الأنظمة البورجوازية البيروقراطية. فالإضرابات والمظاهرات والمسيرات متواصلة في بولونيا والمجر ورومانيا وفي الجزء الشرقي من ألمانيا وإن دل ذلك على شيء فعلى أن الشغيلة والكادحين في هذه البلدان لم يتحركوا ضد الاشتراكية بما تعنيه من عدالة اجتماعية ونمو متوازن وديمقراطية واسعة وعميقة، بل ضد البورجوازية البيروقراطية المتسترة بالاشتراكية بما يعني ذلك من حيف اجتماعي وارتشاء ومحاباة ووصولية وقهر سياسي وإعاقة لتطور المجتمع ونهضته. وبعبارة أخرى فإنهم لم يناضلوا ولم يضحوا من أجل أن يرتفع سعر الخبز بنسبة ألف مرة (بولونيا...) أو أن تزول مكاسبهم الاجتماعية مثل مجانية الصحة والتعليم، ورمزية معاليم النقل والكراء والماء والكهرباء وتدهور ظروف عملهم أو أن يفقدوا شغلهم ويلتحقوا بصف العاطلين عن العمل مقابل وعد بديمقراطية شكلية لم تنتفع منها غير النخب البورجوازية. إن غياب قيادات ثورية لحركتهم من أجل مجتمع ديمقراطي وعادل بحق هو الذي جعلهم يقعون تحت تأثير الكتل البورجوازية الليبرالية المرتبطة بالغرب والكنيسة ويعتقدون أنها الحاملة لمطامحهم، خاصة وأنها جعلت من إرساء نظام ديمقراطي محورا لحركتها. لكن مع وصول هذه الكتل إلى السلطة وبدئها في تطبيق برامجها الاقتصادية والاجتماعية وما ألحقته وتلحقه من ضرر بالشغيلة، لم تتردد هذه الأخيرة في القيام في وجه من ساندته بالأمس وأوصلته إلى السلطة دون أن يعني ذلك رغبة منها في العودة إلى النظام السابق وهذا هو الحال بالنسبة إلى عمال نقابة تضامن في بولونيا الذين يضربون اليوم ضد زعيمهم لاش فاليزا الذي أصبح رئيس جمهورية البورجوازية، وهذا هو الحال أيضا بالنسبة إلى سكان "لايبزيغ" التي انطلقت منها حركة التمرد ضد البيروقراطية في ألمانيا الشرقية سابقا والذين عادوا اليوم إلى الشارع ليحتجوا على بؤس النظام الليبرالي الذي أفقدهم شغلهم وجميع مكاسبهم، أو عمال المجر الذين ساند قسط منهم زعماء "المنبر الديمقراطي" وإذا بهم اليوم مستاؤون بل فيهم من أصبح يحن إلى النظام القديم لأنهم أصبحوا يجدون صعوبات جمة لتوفير لقمة العيش (ارتفع سعر الخبز بنسبة 14 مرة على الأقل). وحتى في الاتحاد السوفياتي فإن غورباتشيف وجماعته يجدون صعوبة كبيرة في تصفية القطاع العام والانتقال إلى اقتصاد السوق بما يعنيه من تحرير للأسعار وخوصصة للخامات الاجتماعية والثقافية والصحية التي كان المواطن السوفياتي يتمتع بها مجانا أو مقابل أسعار رمزية، وفي جمهورية روسيا التي يحكمها القيصر الجديد، بوريس يلتسين، تتعدد مظاهر التململ في صلب الكادحين متخذة شكل الإضرابات الاحتجاجية على ظروف العمل وتدهور المقدرة الشرائية.
وتشهد البلدان التابعة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على مدى السنوات الأخيرة حركات احتجاجية عارمة وانتفاضات شعبية كبيرة. وقد تمحورت من ناحية حول مناهضة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المملاة من قبل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمسماة بـ"برنامج الإصلاح الهيكلي" التي مسّت شعوب هذه البلدان في العظم ملحقة أضرارا فادحة بمعيشتها وظروفها الصحية والثقافية إضافة إلى كونها عمقت تبعية أوطانها وحولتها إلى محميات لتلك المؤسسات الامبريالية النهابة. وقد شملت هذه الحركات الاحتجاجية العديد من البلدان من مختلف القارات (مصر، السودان، نيجيريا، المكسيك، السنغال، المغرب، البينين، الأردن، الخ.) وتمحورت من ناحية ثانية حول مناهضة الدكتاتوريات سواء منها الدكتاتوريات الدموية التي صنعتها الامبرياليات الغربية وخاصة منها الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا (الشيلي، كوريا الجنوبية، مالي، الفيليبين، باكستان، الأرجنتين، الكامرون، الطوغو، ساحل العاج، نيجيريا، الخ.) أو تلك التي انتصبت نتيجة انقلابات عسكرية وعمدت نفسها اشتراكية أو قومية أو ماركسية لينينية (البينين، أثيوبيا، بوركينافاسو...) ولاقت السند في السابق سواء من الامبريالية الاشتراكية السوفياتية بمفردها أو بمعية بعض الامبرياليات الأخرى مثل فرنسا والولايات المتحدة. ومهما يكن من أمر فإن الشعوب التي قامت ضد الدكتاتورية لم تخدعها لا الجملة الليبرالية للصنف الأول من الأنظمة ولا الجملة الثورية والتقدمية للصنف الثاني. كما لم يخدعها التمثل بالغرب الرأسمالي الاستهلاكي أو بالشرق الاشتراكي البيروقراطي. وقد تمكنت في أكثر من بلد من الإطاحة بالدكتاتورية وفرض إصلاحات ديمقراطية وإن كانت في معظمها محدودة وضمن إطار بورجوازي.
لقد سارعت الدول الامبريالية بركوب هذه النهضة من أجل الديمقراطية والحرية في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. فعمدت إلى التظاهر بمساندتها وحركت لهذا الغرض ترسانتها الإعلامية كلما تعلق الأمر بأحد الأنظمة التي لا تدور في فلكها لتفرض أحزابا ومجموعات موالية لها، تجعل منها ركيزة للتسرب إلى تلك البلدان وبسط نفوذها عليها. وكلما كان المستهدف صنيعة من صنائع تلك الدول الامبريالية إلا وحاولت سبق الأحداث واحتواء النضالات الديمقراطية للشعوب وذلك بتحريك الجيش للاستيلاء على السلطة (مالي...) أو بفرض مسرحية ديمقراطية تفضي إلى انتصار أحد بدائلها (الشيلي، كوريا الجنوبية، الطوغو...) وفي نقاط أخرى من العالم يواصل هؤلاء المتشدقون بالديمقراطية وحقوق الإنسان مساندة أنظمة غاية في الوحشية والتخلف (أندونيسيا، الزايير، الكيان الصهيوني، جنوب إفريقيا، مركز الرجعية العربية...) صيانة لمصالحهم الأنانية.
ويتواصل في العديد من مناطق العالم الكفاح المسلح الذي تخوضه شعوب طموحة إلى التحرر والاستقلال والتقدم والديمقراطية. ورغم القمع الدموي والمناورات الجهنمية للأعداء فإن حركات الكفاح المسلح تلك لم تتوقف، بل هي مستمرة لغاية تحقيق أهدافها (السلفادور، البيرو، كولومبيا، فلسطين...) وقد تمكنت بعد في أثيوبيا من الإطاحة بالنظام العميل للطاغية منغستو بعد كفاح مرير دام سنين طويلة.
إن ما يشهده العالم من حركات نضالية في مختلف القارات، في البلدان الرأسمالية المتطورة كما في البلدان التي كانت تحكمها أو لا تزال أنظمة بيروقراطية، تحريفية أو اشتراكية ديمقراطية، يؤكد أن نضال الشغيلة والشعوب والأمم المضطهدة من أجل عالم أفضل، متواصل. ويعبر هذا النضال عن إدانة موضوعية للنظام الرأسمالي والامبريالي العالمي الذي ظل عاجزا، رغم التطور الحاصل في الإنتاج ووسائل الاتصال والخدمات، عن توفير الخبز والشغل والحرية والسلم والطمأنينة للجميع وعن صيانة بيئتنا من التلوث والكوارث، وهو أمر طبيعي، نابع من جوهر الرأسمالية. ففي ظل النظام الرأسمالي لا تتحقق سعادة الأقلية سواء كانت أفرادا أو مجموعات أو بلدانا إلا بتعاسة الأغلبية الساحقة سواء كانت أفرادا أو مجموعات أو أمما. ودون ذلك تصبح الرأسمالية كل شيء عدا كونها رأسمالية.

IV. على القوى الثورية أن تتحمل واجباتها

إن الحالة التي عليها الأوضاع العالمية تبين أن الظروف الموضوعية ناضجة للانتقال من نمط مجتمعي إلى نمط مجتمعي آخر أرقى. فالرأسمالية وصلت إلى حدها النهائي، وأصبحت القوى الإنتاجية التي خلقتها تتمرد باستمرار وفي كل الاتجاهات على علاقات الإنتاج التي وضعتها وهي تريد إطارا أرحب قادرا على احتوائها ومساعدتها على التطور بصورة طبيعية. لكن كل التجارب التاريخية بقديمها وحديثها تبين أن الانتقال من نمط مجتمعي إلى أخر لا يتم بصورة عفوية، مهما نضجت الظروف الموضوعية لذلك وإنما هو في حاجة إلى الفعل الواعي للناس أو بالأحرى الطبقة أو الطبقات الحاملة للمشروع الجديد. لذلك كان دائما لهذه الطبقة أو الطبقات هيئة أركانها التي تقودها في نشاطها وفي افتكاكها للسلطة السياسية لتكرس مشروعها. ولقد سعت الطبقة العاملة منذ القرن الماضي إلى أداء مهمتها التاريخية وتحقيق حلمها وحلم البشرية جمعاء، في بناء مجتمع خال من الاستغلال والاضطهاد. فكانت "كومونة باريس" أول محاولة من الطبقة العاملة لافتكاك السلطة ثم جاءت ثورة أكتوبر التي حققت هذا الحلم محدثة منعرجا هاما في تاريخ الإنسانية. وتلت هذه الثورة ثورات أخرى في الصين وأوروبا الشرقية وجنوب شرقي آسيا وكوبا. إلا أن هذه التجارب بما فيها التجربة السوفياتية لم تصمد طويلا أمام الردة الرأسمالية وكان لذلك أسوأ الانعكاسات على الطبقة العاملة وشعوب العالم وعلى المسيرة التحررية للإنسانية عامة. وإذا كانت ثمة اليوم نقطة ضعف أساسية في حركة الطبقة العاملة والشعوب فهي التأخر الذي عليه العنصر الذاتي مقارنة بنضج الأوضاع الموضوعية. وإذا لم ينهض هذا العنصر بالكيفية والنسق المطلوبين فإن مآسي الكادحين والشعوب والأمم ستتواصل وستستمر البورجوازية كل مرة في تدمير القوى المنتجة بصورة مصطنعة وفي تهميش أعداد غفيرة من السكان وتجويع وإبادة شعوب بأكملها، وفي كلمة السير بالإنسانية نحو نهايتها. وبالتالي فعلى هذه النهضة يتوقف مصير الإنسانية.
إن تطور الأوضاع في البلدان الرأسمالية التقليدية مرهون بقدرة الثوريين فيها على استيعاب كل مظاهر الاحتجاج الشعبي على مختلف الواجهات وتحويلها إلى تيار عارم ضد الرأسمالية والامبريالية، من أجل مجتمع اشتراكي ديمقراطي وعادل. وفي الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية فإن كل شيء يتوقف على قدرة الثوريين على توعية الطبقة العاملة والشعوب التي انتفضت ضد البورجوازية البيروقراطية، توعيتها بواسطة تكتيكات ذكية ومرنة بأن عدوها الحقيقي ليس الاشتراكية والشيوعية وإنما البورجوازية البيروقراطية والبورجوازية الليبرالية على حد سواء، البورجوازية البيروقراطية التي خبرتها وتحملت أعباء سياستها طيلة عقود، والبورجوازية الليبرالية التي لم تتأخر تبعات سياستها عن الظهور.
أما بالنسبة إلى البلدان التابعة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإن واجب الثوريين أن يكونوا الترجمان الواعي عن مصالح شعوبهم وطموحاتها في التحرر والإنعتاق. إن تحقيق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية في هذه البلدان لا يمكن أن يكون إلا من صنع شعوبها وفي إطار من الاستقلال التام عن القوى الامبريالية وضمن أفق اشتراكي وبعبارة أخرى فإن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن يهديها لهذه الشعوب أعداؤها اللدودون الذين يسلبونها حريتها وينهبون خيراتها ويدوسون كرامتها الوطنية ويدعمون الأنظمة التي حرمتها ولا تزال من التمتع بحقوقها الأساسية. ومن هنا يأتي الارتباط الوثيق بين الاستقلال الوطني والحقوق الأساسية للمجموعات والأفراد. إن شعبا لا يتمتع بحريته واستقلاله لا يمكن أن تتوفر فعليا لأفراده حقوقهم الأساسية مثلما أن دولة لا تحترم حق شعب في الاستقلال لا يمكنها أن تحترم حقوق أفراده الأساسية. وبعبارة أخرى فإن حقوق الشعوب مرتبطة ارتباطا وثيقا بحقوق الأفراد فيها والعكس بالعكس.
إن الشعوب العربية تمثل جزءا لا يتجزأ من الشعوب والأمم المضطهدة في العالم اليوم وتتعرض لهجمة امبريالية صهيونية رجعية شرسة. بهدف إخضاعها كليا للنهب والاستغلال والحيلولة دون نهضتها القومية ودون تحقيقها لوحدتها لما في ذلك من تعارض مع مصالح الامبريالية والصهيونية والرجعية. ولكي تواجه مصيرها فإنها مدعوة شأنها شأن الشعوب والأمم الأخرى إلى تكسير قيودها والتحرر نهائيا من التبعية.
وتحتاج القوى الثورية في العالم إلى تكتيل صفوفها ضد الامبريالية والرجعية. إن شعار "يا عمال العالم ويا شعوب وأمم العالم المضطهدة اتحدوا" لم يفقد أي شيء من صحته وحيويته، خاصة في مثل هذه الظروف التي اشتد فيها العدوان الامبريالي وتطورت النزعة القومية البورجوازية على حساب التضامن والتآخي الأمميين. فعلى وحدة الشعوب والقوى الثورية في جبهة عالمية موحدة مناهضة للامبريالية والرجعية يتوقف إنقاذ الإنسانية من الغرق في عالم من الظلمات والانحطاط وفتح آفاق أرحب. ومن البديهي أن المكان الطبيعي للشيوعيين في هذه المواجهة هو الطليعة، تماما مثلما تعودوا على ذلك منذ القرن الماضي. ولن يكون لهم شرف احتلال هذا الموقع بصورة فعلية وحاسمة إذا لم يستوعبوا خصائص المرحلة الراهنة ولم يتجاوزوا العوائق الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية التي تحد من تطورهم.
لقد راكمت الحركة الاشتراكية تجارب هامة منذ أمد غير قريب، سواء في كيفية قيادة الجماهير إلى السلطة أو في كيفية بناء الاشتراكية. إلا أن السلبيات في المستوى الثاني على الخصوص تتجاوز الإيجابيات مما جعل الطبقة العاملة تفقد السلطة في كل البلدان التي حصلت فيها تجارب اشتراكية. وهو ما يقتضي القيام بعملية نقد ونقد ذاتي عميقة، تكون منقادة بروح ثورية، مادية جدلية، لا تترك مكانا للتحجر والانغلاق والفئوية ولا تراعي أي مصلحة غير مصلحة الحركة وضرورات تطويرها.
إن أخطر شيء على الماركسية كان ولا يزال تلك النزعة إلى تحويلها إلى جملة من القوالب الجامدة المسقطة على الواقع وبالتالي عاجزة عن استيعاب خصائصه وتطوراته والاستجابة لمستلزمات تغييره. إن هذه النزعة معادية للمنهج الثوري للماركسية الذي ينبغي إعادة الاعتبار إليه بشكل كامل وشامل لتطوير النظرية على ضوء ما راكمته الحركة التقدمية العالمية من تجارب وما عرفته الأوضاع من تغييرات. ونحن إذ نؤكد على ضرورة إعادة الاعتبار للمنهج الثوري للماركسية في تناول الظواهر التاريخية بمختلف أنواعها، فليس الهدف من ذلك التخلي عن المبادئ التي أظهرت التجربة صحتها وصلاحيتها، بل لأن هذا المنهج هو الوحيد الذي سيمكننا من التمييز بين هذا الذي أظهرت الحياة صحته وصلاحيته وبين ما أظهرت خطأه وفساده. وبين ما هو مبدأ وقانون عام وبين ما هو من قبيل الظرفيات والمعالجات الاستثنائية، وبين ما ولى وقته وانقضى وبين ما هو صالح إلى حد الآن. وبقدر ما تكون هذه العملية عميقة ونزيهة وموضوعية، تكون نتائجها سليمة وقادرة عل فتح آفاق جديدة أمام الطبقة العاملة والشعوب التي ستثق من جديد في قدراتها وطاقاتها على تغيير وجه العالم وكنس مصاصي الدماء الرأسماليين. إن الجمود والتحجر وتحويل الماركسية إلى جملة من التعاليم الدينية لا يخدم إلا استراتيجية البورجوازية التي تريد القضاء نهائيا على كل مرجعية للماركسية.
إن عملية النقد والنقد الذاتي هذه التي تتوقف عليها نهضة الحركة الشيوعية من جديد وبالتالي نهضة الحركة العمالية وحركة التحرر الوطني، ينبغي أن تمسح كامل التجربة الاشتراكية وتقف على العوامل التي عرقلتها وسبّبت انتكاستها. وإنه لمن الأهمية بمكان أن نشير إلى أنه من المفارقات الغريبة أن تركز البورجوازية في هجومها على الاشتراكية على محاور التنمية الاقتصادية والديمقراطية وتحرير الإنسان من الإستلاب، فتقدمها على أنها عاجزة عن تحقيق هذه الأهداف، والحال أن الاشتراكية جاءت بالضبط لتتجاوز الرأسمالية على جميع هذه الواجهات.
لقد جاءت الاشتراكية لتحرر القوى المنتجة التي تكبلها علاقات الإنتاج الرأسمالية وتفسح المجال أمام تطورها بما يعنيه من تطور دون عراقيل لوسائل الإنتاج وطرق تنظيم العمل والمهارات الفردية والجماعية للمنتجين. كما جاءت لتحقق العدل والمساواة على أنقاض الطبقية المقيتة للمجتمع الرأسمالي، وترسي ديمقراطية واسعة وعميقة مكان الديمقراطية البورجوازية التي هي ديمقراطية شكلية، ديمقراطية أقلية مستغِلة ومضطهِدة، وتنزع عن الإنسانية كابوس الاغتراب الذي يكرسه المجتمع الرأسمالي الذي يفصل بين الكادح ومنتوجه ويحوله إلى مجرد تابع للآلة. إلا أنه إذا كانت هذه هي الوظيفة التاريخية للاشتراكية التي أصبحت كل الظروف في عالمنا المعاصر ناضجة لتحقيقها وتعبأ من أجلها ملايين البشر من مختلف القارات مضحين بالغالي والنفيس، فإن المطلوب اليوم هو معرفة الأسباب التي جعلتها بعد بدايات واعدة حققت خلالها نتائج باهرة زعزعت كيان الرأسمالية (تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي خاصة) تنتكس وتتراجع بشكل خطير بما في ذلك في ألبانيا التي انتقدت التجارب الأخرى وعبرت عن وفائها للروح الثورية للماركسية اللينينية وتقدّمت على أنها المثال الملموس على حيوية الاشتراكية وظلت حتى ساعة سقوطها تلهم ملايين التقدميين وتغذي آمالهم.
وهكذا وجدت الشغيلة والقوى التقدمية نفسها أمام المفارقة التالية: الاشتراكية التي تنطوي على قدرات هائلة للتطور ولتلبية حاجات المجتمع المادية والمعنوية تعيش أزمة خطيرة بينما الرأسمالية المرشحة تاريخيا إلى الزوال بحكم تناقضاتها العميقة التي لا يمكن أن تقودها إلا إلى ذلك المآل، تبدو اليوم رغم هرمها كأنها أقدر على إصلاح نفسها والتكيف مع الأوضاع وتتظاهر بتحدي الاشتراكية في المجالات التي جاءت لتكون تجاوزا لها فيها!!
إن الإجابة عن هذه المسألة تقتضي الابتعاد عن التحاليل التبسيطية والسطحية التي تفسر ما حصل في الاتحاد السوفياتي بعد وفاة ستالين تفسيرات ذاتية وتآمرية لا تفي بالحاجة للإجابة عن السؤال الجوهري التالي: كيف يتم التراجع عن نمط إنتاج متقدم (الاشتراكية) والعودة إلى نمط إنتاج متخلف (الرأسمالية) دون أن يستنفر ذلك الطبقة العاملة والشعب الكادح ويحفزها للتصدي والمقاومة دفاعا عن مكتسباتهما؟ وبعبارة أخرى ما الذي أفقد الجماهير حسّها وجرأتها الثوريين وجعلها تتحول إلى كتلة سلبية أمام التحولات الجارية على حسابها؟ وما دام ذلك قد حصل فلا بد أن تكون ثمة عوامل أساسية متسببة في ذلك: مفاهيم وآليات تصرف وتسيير وحكم خاطئة أو غير ملائمة أدّت إلى هذا الوضع ولا بد من الوقوف عليها لتجاوزها وإعطاء دفع جديد للاشتراكية فكرا وممارسة. ومن الخطأ غض الطرف عنها بعد أن تم التعامل معها طوال فترة من الزمن على أنها أشياء "كاملة ونهائية"، غير قابلة للنقد والمراجعة مما انعكس سلبا على الاشتراكية نظرية وممارسة.
رغم افتقارنا للعديد من المعطيات الملموسة حول التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، فإننا نفترض أن سبب إخفاقها، وبالتالي إخفاق التجارب الأخرى التي اهتدت بها، يكمن في جملة من الأخطاء والانحرافات والنواقص التي تلاحقت وتراكمت شيئا فشيئا لتشكل الأرضية الملائمة للتحريفيين الذين استغلوها لينقضوا على الحكم ويجهزوا على البناء الاشتراكي ويحولوا حكم الطبقة العاملة إلى دكتاتورية بورجوازية بيروقراطية وفاشية في الداخل، توسعية وامبريالية في الخارج، كان مآلها التأزم والانحلال، الذي تشهده حاليا.
إن العامل الحاسم الذي لعب دورا سلبيا في عرقلة البناء الاشتراكي ثم في الانحراف به إلى الرأسمالية، هو في نظرنا عامل سياسي أولا وقبل كل شيء وهو يتعلق بممارسة الديمقراطية الاشتراكية. وإذ نركز على هذا العامل من بين جميع العوامل الأخرى فللدور المحوري الذي تلعبه الدولة في البناء الاشتراكي باعتبارها محركه الرئيسي (التخطيط، التنفيذ، المراقبة، مقاومة الرجعية الداخلية والخارجية...) وبالتالي فإنها بقدر ما تكون قريبة من الطبقة العاملة والشعب، آي بقدر ما تكون منهما واليهما، تكون أقدر على معالجة المسائل التي تطرح عليها وعلى توفير "الشكل السياسي المتفتح والذي يمكن أن يتحقق في ظله تحرير الشغيلة الاقتصادي" (ماركس).
وفي هذا النطاق فإن الملاحظات الأساسية التي يمكن إبداؤها بشأن التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي تتحوصل في نظرنا في النقاط التالية:
أولا: إخفاق قيادة الحزب البلشفي في تطبيق مبادئ الاشتراكية المتعلقة بإشراك الجماهير إشراكا فعليا في إدارة شؤون الدولة، "في البناء الديمقراطي لكل حياة الدولة" حسب عبارة لينين تمهيدا لذوبانها (أي ذوبانها في الشعب) وللحيلولة دون تحولها إلى جهاز بيروقراطي غريب عن الطبقة العاملة والشعب كما هو الحال في النظم البورجوازية وفي كل النظم الاستغلالية التي سبقتها. لقد أكد لينين أن تحقيق هذا الهدف يقتضي على الأقل اتخاذ ثلاثة إجراءات أساسية تتمثل في انتخاب موظفي الدولة والتقليص من عددهم أكثر ما يمكن ومنحهم أجرا يعادل متوسط أجر العامل ومنح الكادحين حق سحب الثقة منهم. إن تمكن أقلية بيروقراطية من السيطرة على الحزب والدولة بعد وفاة ستالين تبين أن تلك المبادئ وغيرها من مبادئ تشريك الجماهير في إدارة شؤون الدولة لم يقع احترامها أو تطبيقها بتماسك رغم الإقرار بها نظريا مما أدى إلى تضخم الجهاز البيروقراطي وتشكل مصالح فئوية للعناصر المتفسخة فيه علما وأن مثل هذا الانحراف يكتسي خطورة خاصة في نظام تسيطر فيه الدولة على وسائل الإنتاج ومسالك التوزيع الأساسية.
ثانيا: تداخل الحزب الشيوعي مع الدولة وتحوله إلى حزب - دولة وهو ما ينجر عنه عدم مراعاة صلاحيات كل طرف منهما مراعاة دقيقة على صعيد الواقع. إن قيادة الحزب الشيوعي للمجتمع الاشتراكي مسألة جوهرية لا يمكن بدونها أن تتحقق الاشتراكية، لكن هذه القيادة ينبغي أن تكسب بالنضال في صلب الجماهير والالتحام بها والاستماع باستمرار إلى آرائها ونقودها والاحتكام إليها وليس عن طريق فصل قانوني يجعل الحزب فوق الدولة والمجتمع مما يفسح المجال لإضعاف أجهزة الدولة المنتخبة وتقوية البيروقراطية سواء داخل الحزب نفسه لاطمئنان أعضائه على قيادتهم للدولة والمجتمع بحكم القانون وليس بحكم ما يبذلونه من جهد داخل الجماهير (كما هو الحال قبل الثورة) أو داخل الدولة لما يخلقه ذلك، من لا مبالاة في صلب المنتخبين وحتى الجماهير العريضة.
وتكتسي هذه الظاهرة خطورة خاصة في ظل عدم وجود أو منع وجود تنظيمات سياسية أخرى. وهو ما يؤدي تدريجيا إلى اختزال دكتاتورية البروليتاريا في دكتاتورية الحزب خاصة عندما يكون قد حقق انتصارات ومكاسب لا مثيل لها في التاريخ (كما هو الحال بالنسبة إلى الحزب البلشفي) الأمر الذي يقوّي سلطة كوادره، المتخلفة الوعي منها على وجه التدقيق.
وهكذا تضعف مراقبة القواعد للقيادة بل يختزل الحزب في قيادته ثم في أمينه العام مما يجعله في الظروف الحرجة غير قادر على التحرك والرد بقوة على الانحرافات والمنحرفين أي على العناصر الانتهازية والبيروقراطية التي يسهل عليها انتهاك الشرعية الاشتراكية.
ثالثا: تحويل وجود حزب واحد في المجتمع من ظاهرة ناجمة عن ظروف خاصة بتطور الثورة في الاتحاد السوفياتي إلى مبدأ من المبادئ الخاصة بالبناء الاشتراكي مما أدى إلى منع ظهور أو وجود أي تعبيرة سياسية أخرى خارجة عن الحزب (دستور 1936). وهذا الموقف خاطئ من الزاوية النظرية ومضر من الزاوية السياسية. فالرغبة في التنظم سياسيا وباستقلالية عن الحزب الشيوعي بعد نجاح الثورة الاجتماعية (هذا إن لم تكن هنالك تنظيمات سياسية قبل الثورة وشاركت فيها) وخاصة في المرحلة الأولى للبناء الاشتراكي لا يمكن أن تنحصر فقط في بقايا الطبقات الرجعية أو العناصر المضادة للثورة التي تريد العودة بالمجتمع إلى الوراء، بل يمكن أن تصدر أيضا عن عناصر وفئات من الشعب لها خلافات مع الشيوعيين. لذلك فبقدر ما ينبغي على حزب الطبقة العاملة أن يسد الباب أمام بقايا الطبقات الرجعية والعناصر المضادة للثورة، عليه أن يفتحه على مصراعيه أمام الشعب الكادح بما في ذلك على الصعيد التنظيمي (الأحزاب والجمعيات، الخ.) ويركز علاقاته مع التنظيمات الناشئة على الصراع الديمقراطي الذي يستند إلى الجماهير. وتتغير طريقة المعاملة إذا ما غيرت هذه التنظيمات، كلها أو جزء منها، طريقة تعاملها كأن تلجأ إلى التخريب أو التواطؤ مع قوى أجنبية لانتهاك الشرعية الشعبية والإطاحة بالاشتراكية.
أما من الناحية السياسية فإن عواقب تقنين الحزب الواحد سلبية وخطيرة لأنه يساعد على تفشي النزعة البيروقراطية لدى "الحزب الدولة" ويرهن مصير الاشتراكية بسلوكه أو حتى بسلوك بعض قادته ويحرم الجماهير من التدخل ومن خلق الآليات المستقلة التي تحصنها من كل ردة أو انقلاب على مصالحها وحقوقها. فطالما أن القادة أحياء وأوفياء للاشتراكية فإن "الماكنة" تشتغل بصورة عادية أو قريبة من العادية وهنالك إمكانية لتصحيح الأخطاء ومراجعة المواقف والسلوكيات. ولكن ما أن يفارقوا الحياة حتى تتعطل تلك "الماكنة" وتغير اتجاهها وهو ما حصل بعد ستالين، إذ لم تكن قواعد الحزب والطبقة العاملة والشعب عموما جاهزة للتصدي للانقلاب على مصالحها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن غياب حرية التنظم، السياسي منها خاصة، تتضرر منه حتى القوى المدافعة عن الاشتراكية في صلب الحزب في حالة انحراف قيادته أو جزء منها. فهذه القيادة أو أطراف منها بإمكانها أن تقمع بسهولة كل تعبيرة مخالفة لها مستندة إلى تقاليد الحزب الواحد التي دخلت في ثقافة الناس باعتباره مبدأ من مبادئ الاشتراكية. في حين أنه في صورة ضمان حرية التنظيم السياسي (فضلا عن حرية التعبير والاجتماع والتظاهر، الخ.) فإن القوى المتشبثة بالاشتراكية بإمكانها مواجهة خصومها في ظروف أنسب إذ تكون مهمة القوى المنقلبة أصعب في ضرب الشرعية (La légalité) الموجودة التي تعودت عليها الطبقة العاملة والشعب الكادح ويكون الانقلاب عليها أوضح. لقد استغل "خروتشيف" وجماعته مثلا الأوضاع في الاتحاد السوفياتي (غياب أي تعبيرة سياسية خارج الحزب الشيوعي بمقتضى القانون...) لبسط نفوذهم على الحزب والدولة والمجتمع بيسر كبير واتهام خصومهم بـ"الخيانة" و"التخريب"...
رابعا: تذييل المنظمات الجماهيرية للحزب قانونا وممارسة. إن التنصيص القانوني على خضوع المنظمات الجماهيرية للحزب من شأنه أن يساعد على ظهور العقلية البيروقراطية وعلى تقويتها باعتباره يجعل مناضلي الحزب يعولون على القانون لقيادة تلك المنظمات وليس على نشاطهم فيها إضافة إلى أن مثل هذا المفهوم يحد من الديمقراطية داخلها في مستوى بلورة المواقف والسياسات كما يحد من قدرتها على التصدي لانحرافات الحزب عندما تحصل.
خامسا: إلغاء بعض حقوق العمال مثل حق الإضراب (دستور 1936) وكأن الطبقة العاملة لم تعد بحاجة إليه أو كأن مصالحها أصبحت في تطابق تام مع إدارة المؤسسة أو الحكومة. ومثل هذا الإلغاء يحرم هذه الطبقة من سلاح للتصدي لكل انتهاك لحقوقها. وقد استغلت البيروقراطية التحريفية هذا الوضع لتكرس هيمنتها على الطبقة العاملة وتقمع كل تحركاتها الاحتجاجية بعد وفاة ستالين تحت غطاء "الدفاع عن الاشتراكية".
هذه بعض الملاحظات الجوهرية حول العوامل التي حكمت على التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بالانحراف، لأنها شكلت أرضية لظهور البيروقراطية التي تشكلت بعد وفاة ستالين في طبقة وسيطرت على السلطة. وممّا أعطى تلك الأخطاء والنقائص بعدا خطيرا أن الحزب البلشفي لم يكن مهيأ نظريا لمواجهة هذه الردّة من الداخل. فقد كانت قيادة الحزب تؤكد أن الاشتراكية انتصرت نهائيا بعد تعميم النظام التعاوني في الريف كما كانت تؤكد أن احتمالات الردّة من الداخل أصبحت غير واردة بعد القضاء على المعارضة التروتسكية – البوخارينية وحصرتها في العنصر الخارجي (عدوان عسكري، الخ.). وهاتان الفكرتان خاطئتان لأن الاشتراكية لا تنتصر نهائيا إلا إذا توفرت لها في الداخل قاعدة مادية متطورة ومستقرة وضامنة لمستوى عيش مادي ومعنوي للكادحين متقدم عما هو عليه الحال في البلدان الرأسمالية المتطورة وهو ما لم يتحقق بعد في الاتحاد السوفياتي رغم القفزة النوعية التي عرفها على جميع الأصعدة، إذ لم تزل تفصله في تلك الفترة أشواط عن هذه البلدان على الصعيد الاقتصادي والتقني. وفي الخارج انتصار الثورة الاجتماعية في العديد من البلدان وخاصة منها البلدان الرأسمالية المتقدمة وهو ما يخلق ظروفا أنسب للتطور والاستقرار ومواجهة الحصار الخارجي وهذا العامل لم يتوفر أيضا لأن أكثر البلدان تقدما على الصعيدين الاقتصادي والتقني كانت لا تزال تحت سيطرة الرأسمالية. وعدم الانتباه إلى قضية الردّة من الداخل، من شأنه أن يخفض يقظة الطبقة العاملة والشعب الكادح عموما.
ومن البديهي أن الظروف التي حفت بالتجربة الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي، وهي ظروف صعبة للغاية، كان لها أشد التأثير على تلك التجربة، بل ساهمت في خلق المناخ الملائم لظهور مثل تلك الانحرافات والأخطاء وتطورها. فهي أول تجربة اشتراكية في تاريخ البشرية. وكان مطروحا على الحزب البلشفي أن يتحسس الطريق لإنجاحها في ظل وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي متخلف ورجعية داخلية شرسة وحصار امبريالي وحشي إضافة إلى العدوان النازي خلال الحرب العالمية الثانية الذي ألحق بالبلاد أضرارا مادية وبشرية فادحة بل حرمها من خدمات عشرات الآلاف من خيرة كوادرها المتمرسين الذين سقطوا في الجبهة. لقد كان على الحزب البلشفي بقيادة لينين ثم ستالين أن ينهض بالمجتمع السوفياتي المتخلف مقارنة بالدول الرأسمالية الأساسية في تلك الفترة ويلتحق بها ويتجاوزها وهو يواجه كل تلك الظروف الداخلية والخارجية الصعبة. ورغم ذلك فقد حقق المعجزات في وقت قصير. ولو لم تكن الأخطاء والانحرافات التي ذكرناها لما كان مآل التجربة السوفياتية الردّة والانحلال، وبالتالي لما كانت الأوضاع العالمية اليوم على ما هي عليه من قتامة وبؤس.
إن إعادة الاعتبار للجوهر النقدي الثوري للماركسية والنظر من زاويته إلى مختلف التجارب الاشتراكية والأوضاع العالمية الراهنة هو المفتاح الوحيد الذي من شأنه أن يمكّن الحركة الشيوعية والعمالية العالمية من النهوض من جديد. وإن ما قدمناه من نقد للتجربة السوفياتية يندرج ضمن هذا الإطار وليس كما يمكن أن يتصوره البعض ضمن منظور ليبرالي. فالديمقراطية هي جوهر الاشتراكية ذاته لذلك ينبغي أن تكون العصب الذي يشق كامل بنائها على جميع الأصعدة. وبالمقابل فإن الرأسمالية هي النقيض ذاته للديمقراطية لقيامها من الأساس على اللامساواة، على استغلال الأقلية المالكة لأهم وسائل الإنتاج للأغلبية الكادحة من المجتمع. ولولا التحريفية لما توفرت الفرصة للنظام الرأسمالي كي يشوه الاشتراكية ويتظاهر أقطابه بالديمقراطية، لذلك يتحتم على الشيوعيين أن يطهّروا التجارب السابقة من الأخطاء والانحرافات والنواقص التي شابتها وسهلت الهجوم عليها من قبل البورجوازية وأن يدعموا مكاسبها على جميع المستويات، مستوعبين كل ما حققت الإنسانية من مكاسب وتقدم مترجمين ذلك في برامجهم وخططهم. وبالاعتماد على أساليب وتكتيكات مرنة وذكية تستخدم فيها جميع وسائل الاتصال المبتكرة فإن الشيوعيين سيرفعون التحدي من جديد ويتجاوزون العراقيل القائمة أمامهم. وتكتسي وحدة الشيوعيين على نطاق عالمي أهمية بالغة في هذه الظروف ومن الملحّ اليوم دعمها بكل الوسائل لتبادل التجارب وضبط الخطط المشتركة وتنسيق الأعمال.

V. خاتمة: هل مازال يحق لنا أن نحلم؟

إن الشيوعيين لا يخشون الصعاب ولا ينتابهم اليأس لأن اليأس لا يدبّ إلا في نفوس العاجزين عن فهم أسباب الاستغلال والاضطهاد وتفسير ظروف الردة والانتكاسة وعن إيجاد مخرج للإنسانية الكادحة من هذا الوضع. وإذ نؤكد على هذا الأمر فلتخف وطأة انتكاسة الاشتراكية والهجوم الامبريالي الرجعي المكثف ضدها على معنويات الطبقة العاملة والشيوعيين خاصة باعتبارهم المستهدفين أولا من هذا الهجوم والشعوب والأمم المضطهدة وكل الإنسانية التقدمية عامة.
إن الآلة الدعائية الرهيبة للبورجوازية الامبريالية، تريد أن تدفع بالعامل الواعي وبعضو الحزب الشيوعي والتقدمي عامة إلى الإحساس بأن ما بذله ويبذله من تضحيات جسيمة من أجل تغيير وجه العالم وكنس مصاصي الدماء منه، مضيعة للوقت وإهدار للطاقات. وبالفعل قد يعتري مثل هذا الشعور المناضل الشيوعي غير المسلح بإرادة فولاذية، وقد يتساءل بينه وبين نفسه: لماذا كل تلك التضحيات إذا كان المآل ما وصل إليه الاتحاد السوفياتي وألبانيا وبلدان أوروبا الشرقية اليوم؟
إن الشيوعي الحقيقي لا يطرح مثل هذا التساؤل ولا تظلمّ أمام عينيه الدنيا بهذه الصورة، لأنه يدرك تمام الإدراك أن اقتلاع النظم الاستغلالية الضاربة جذورها في تاريخ البشرية منذ آلاف السنين، وعلى وجه التحديد منذ ظهور أول نظام طبقي على وجه الأرض، ليس مجرد نزهة، ولكنه مواجهة ضارية مع قوى عنيدة مستعدة لارتكاب أبشع الجرائم دفاعا عن مصالحها، وهذا يعني أن الطريق ليست سهلة، بل مليئة بالأشواك والمنعرجات وإمكانية الرجوع إلى الوراء، إلا أنه على يقين من أن الانتصار النهائي سيكون للاشتراكية.
ليس هذا اليقين وليد الدروس التي أعطانا إياها التاريخ الماضي فحسب ولكنه نابع أيضا من واقع النظام الرأسمالي اليوم، الذي يدعو بإلحاح إلى ضرورة التغيير. فالعاقل لا يغتر بالمظاهر ولكنه ينفذ إلى عمق التناقضات التي تنخر هذا النظام وتؤكد أن "الديناصور" الحقيقي هو الرأسمالية وليس الاشتراكية كما يزعم المرضى بعدائها. إن انتكاسة الاشتراكية راجعة إلى فتوة عودها، أما تداعي الرأسمالية فنابع من هرمها وشيخوختها.
إن التضحيات التي قدمتها الإنسانية على طريق النضال ضد الاستغلال والقهر الرأسماليين من أجل إرساء عالم خال من استغلال الإنسان للإنسان بما في ذلك الثورة البلشفية وبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وألبانيا وغيرها من البلدان والمجتمعات التي شهدت ثورات تقدمية لم ولن تذهب سدى، ولكنها ستظل تضيء الطريق بسلبياتها وإيجابياتها للإنسانية الكادحة التي من واجبها أن تستفيد من كل الدروس. إن نضال العبيد ضد الأسياد ونضال الأقنان ضد الإقطاعيين لم يكن دون فائدة، بل كان المحرك الرئيسي لكل التغييرات النوعية التي عقبت ذلك. كما أن نضال البروليتاريا منذ القرن الماضي، مرورا بكومونة باريس ووصولا إلى ثورة أكتوبر، لم ولن يذهب سدى، بل سيكون الطريق التي تفتح على الانتصار النهائي.
إن الظروف الحالية ليست بطبيعة الحال ظروف أواخر القرن الماضي أو بداية القرن الحالي، وأواسطه، عندما كانت الحركة الثورية العالمية في حالة مدّ والبورجوازية في موقع دفاعي، ولكنها ظروف أعسر بكثير. وهذا العامل لا ينبغي أن يكون مدعاة للإحباط بل لمزيد البذل والعطاء الفكري والعملي. فالثوري الحقيقي هو الذي يضيء عندما تشتد العتمة، ويبعث الأمل في النفوس حينما يطغى عليها اليأس، لأنه مسلح بمعرفة القوانين التاريخية التي لا يمكن أن تتغير بإرادة بوش أو ميتران أو مايجور أو يلتسين وغيرهم من جلادي الشعوب. وفي الثلث الأول من هذا القرن، قال شاعر تونس أبو القاسم الشابي، مترجما عن حتمية انتصار النور على الظلم والتقدم على الرجعية:
إن ذا عصر ظلمة غير أني *** من وراء الظلام شمت صباحه
تلك هي جدلية التاريخ ومن حق الكادح أن يحلم بمستقبل مشرق، خال من استغلال الإنسان للإنسان، رغم الظلمة الحالية التي لا تزيد مهمة اختراقها وإشاعة النور فيها إلا نبلا، كما تزيد الطامحين دوما إلى "صعود الجبل" شرفا وعزة. ويبقى الكادح هو المسؤول أولا وأخيرا عن تحقيق ذلك الحلم العظيم.
تونس
أفريل – جوان 1991

هوامش

[1] Images économiques du monde. 1990 - القسم المتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية.
Le monde diplomatique, mars 1991, « Le déclin des Etats-Unis »
[2] المصدر الأول - القسم المتعلق باليابان.
[3] المصدر الأول - القسم المتعلق بألمانيا.
[4] أفادت أخيرا وسائل الإعلام الفرنسية أن بوريس يلتسين أرسل وفدا إلى الشيلي لدراسة تجربة الجنرال بينوشي في "إعادة بناء الاقتصاد" بعد الانقلاب الدموي الذي قام به بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية سنة 1973 ضد الرئيس الشرعي والتقدمي للشيلي سلفادور ألندي.
كما أنه أصدر مرسوما يلغي الاحتفالات بعيد الشغل (غرة ماي) وهو إجراء لم يعرف له مثيلا إلا في ظل النازية والفاشية. ويأتي هذا الإجراء بعد منع الحزب الشيوعي السوفياتي وإغلاق العديد من الصحف.
[5] المصدر الأول - القسم المتعلق بفرنسا.
[6] أرقام حكومية.
[7] Le monde diplomatique, mars 1991
[8] لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة (1991) في بولونيا 40% وفي المجر 60%. وذلك راجع إلى خيبة أمل الناخبين في التغييرات التي جدت في بلدانهم والتي كانوا يعلقون عليها أوهاما كبيرة.
[9] في فرنسا مثلا تسيطر مجموعة "هرسون" على حوالي 35% من وسائل الإعلام من بينها 40 صحيفة يومية وطنية وجهوية ومحلية.
[10] منذ 1985 أعدم في الولايات المتحدة أكثر من 5 أحداث. وفي الآونة الأخيرة أصدر الكنغرس قانونا يوسع نطاق الجرائم التي يشملها حكم الإعدام. وقد طالبت بعض شبكات التلفزيون بترخيص لنقل تنفيذ أحكام الإعدام للعموم. وما تجدر ملاحظته أن السلطات الأمريكية رفضت أخيرا تمكين منظمة العفو الدولية من إرسال وفد للتحقيق حول انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة


الثورة التونسية: طابعها، آفاقها ومعيقات تطورها

الثورة التونسية: طابعها، آفاقها ومعيقات تطورها

يحق للشعب التونسي أن يفخر بإنجازه التاريخي العظيم، بثورته على نظام بن علي، على الاستبداد الذي مثـّل وعلى امتداد أكثر من 20 سنة واحدا من أعتى النظم الدكتاتورية في العالم. وقد باتت ثورة الكرامة التونسية اليوم مضرب الأمثال ونموذجا يلهب مشاعر وطاقات شباب الوطن العربي والعالم وشعوبه التواقة للحرية والكرامة. فعلى منوالها نسج الشعب المصري الشقيق وأطاح بالطاغية مبارك. وها هي جماهير البحرين واليمن وليبيا والجزائر والمغرب والسودان والعراق تهبّ للشوارع لتسير نحو نفس الهدف، التخلص من أنظمة الفساد والقهر والعمالة.
لقد كان الشعب التونسي أيّاما قليلة من تاريخ احتراق الشهيد البطل محمد البوعزيزي يبدو وكأنه مستكين خانع ولا مبال بالقهر والظلم والاستغلال الذي ألحقه به نظام بن علي، حتى ذهب في ظن الكثير من المثقفين ضيقي الأفق إلى نعته بأنكى النعوت. ولكنه وكما سبق له أن فعل في الستينات والسبعينات (جافي 1978) والثمانينات (ثورة الخبز) هبّ وبصورة مفاجئة ليقول لا للظلم والقمع غير آبه لا بالبوليس ولا بالرصاص الحيّ. فمن سيدي بوزيد شبّ حريق الاحتجاج ليعمّ جميع المدن المجاورة (المكناسي، منزل بوزيان، الرقاب...). ومن ولاية سيدي بوزيد توسّعت الانتفاضة إلى القصرين وتالة ومن ثمة إلى سليانة فالكاف فجندوبة... ولم تهدأ حتى دخلت تونس العاصمة بأحيائها الشعبية وخاصة "حي التضامن" فتحوّلت هذه الانتفاضة إلى ثورة حقيقية، ثورة شعبيّة عارمة لتنادي برحيل بن علي وإسقاط نظامه.
1- ثورة ديمقراطية
تتحدّد طبيعة كل ثورة بطبيعة القوى الاجتماعية التي شاركت فيها وكانت لها مصلحة فيها وبالأخصّ تلك التي لعبت فيها الأدوار الأساسية. كما تتحدّد بطبيعة البرنامج الذي انقادت به، أي الشعارات والأهداف التي رسمتها لنفسها (بصورة واعية أو عفوية) وأخيرا بطبيعة القيادة السياسية التي نظمتها وأطـّرتها وقادت أطوارها.
إن الثورة التونسية لم تتخذ طابعا طبقيّا معينا، ولم تضطلع فيها طبقة من الطبقات لوحدها بالدور الأساسي. فهي من هذه الناحية كانت من صنع جميع الطبقات والشرائح الشعبية المتضرّرة من سياسة النظام الدكتاتوري لبن علي. فإلى جانب الشباب المعطل عن العمل في سيدي بوزيد والقصرين وباقي الجهات فقد لعبت شرائح الموظفين (رجال التربية وغيرهم) والمحامين وعمال المؤسسات الصناعية والخدماتية وصغار التجار والحرفيين وحتى شرائح واسعة من سكان الأرياف والشباب الطلابي والتلمذي وأصنافا أخرى من الأجراء كالصحافيين وغيرهم، لعبوا كلهم دورا هاما في انتشار حركة الانتفاضة واحتدامها حتى تحولت إلى عصيان مدني وثورة شعبية عارمة ضمت الرجال والنساء والشباب والعائلات جنبا إلى جنب في المظاهرات والمسيرات والمواجهات مع قوات البوليس وعصابات الميليشيا الدستورية.
وعلى خلاف ما يدّعي الكثير من مردّدي الخطب البرجوازية الإصلاحية، فإن هذه الثورة لم تكن ثورة عفوية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لأنها سرعان ما رفعت شعارات سياسية واضحة رغم أنها انطلقت في البداية بمطالب اجتماعية جزئية (حق الشغل). ومن هذه الشعارات السياسية "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" و "لا لا للطرابلسية الي نهبو الميزانية" و"ثورة ثورة مستمرة وبن علي على بره"، و"بن علي يا جبان شعب تونس لا يهان"، "حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة"، إلخ. وهي شعارات طرحت إسقاط النظام وشهّرت بنظام المافيا والفساد وطالبت بالقضاء على الاستبداد ونادت بالحريات. وقد لعب العنصر الثوري والتقدمي من نشطاء الحركات السياسية اليسارية والقومية العاملين في النقابات وفي منظمات حقوق الإنسان والحركة الطلابية والتلمذية ومن العاطلين عن العمل دورا بارزا في بث هذه الشعارات السياسية الواضحة وفي رفع مستوى الوعي أثناء الاحتجاجات من مجرد مطالب اجتماعية أو تعابير احتجاج وتذمّر إلى مطالب سياسية تستهدف نظام الحكم ونمط التنمية المتبع وتنادي بالديمقراطية والحريات وبالتنمية العادلة.
ويمكن القول، أن الثورة التونسية لم تكن ثورة عفوية، بمعنى ثورة احتجاج من دون أفق وأهداف، بل على عكس الدعايات الرائجة، فقد كانت ثورة واعية بمصالحها وبأهدافها واستماتت في الدفاع عنها رغم القمع والإيقاف والقتل وكل أشكال التنكيل ورغم المناورات ومحاولات الالتفاف والمغالطة (خطب بن علي، محاولات حزب التجمع ووسائل الإعلام وحتى بعض المعارضين الإصلاحيين الذين ساروا في ركاب بن علي أيام الثورة).
لكن، وإن كانت الثورة واعية من حيث طرحها السياسي وبرنامجها العام المعبّر عنه في الشعارات والأهداف، فإنها من ناحية التنظيم، وخاصة التنظيم والتخطيط المركزي أي من حيث القيادة، كانت بالفعل عفوية لأنها لم تسر تحت توجيه قيادة سياسية موحدة ومنظمة بقدر ما سارت إمّا بكامل العفوية (خاصة في الأحياء الكبرى في تونس العاصمة) أو تحت قيادات سياسية ونقابية جهوية منفصلة اجتهدت كل واحدة منها وفق المعطيات الخصوصية للجهة وبحسب قدرتها على التأثير والقيادة. ورغم أن وسائل الاتصال الحديثة (الهاتف والأنترنيت...) قد ساعدت بشكل كبير على انتشار المعلومات والأخبار وحتى على تنظيم التحركات وعمليات المساندة أحيانا فإنها مع ذلك لم تكن لتفوّض دور القيادة السياسية المنظمة والممركزة للثورة.
ومعلوم أن هذه النقيصة الكبرى توعز لتخلف الحركة السياسية في تونس بشكل عام ولتخلفها خصوصا عن الانتفاضة. فالحركة السياسية المعارضة، أحزابا وتنظيمات، كانت، ولأسباب تاريخية وسياسية معروفة، تعاني من الانحسار والتشتت والانقسام.
لقد عمل بن علي منذ مجيئه للحكم إثر انقلاب 7 نوفمبر على تهميش أحزاب المعارضة وعزلها عن الحركة الاجتماعية، وعلى بث التناحر والانقسام فيما بينها بل وذهب إلى إثارة القلاقل داخل كل حزب علاوة على تدجين كل الأحزاب المعترف بها تقريبا إما بربطها بعجلة نظامه وتحويلها إلى واجهة ديكورية للدكتاتورية التي أقامها أو بمحاصرة كل من حاول منها الحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والنقد تجاه نظامه. أمّا الأحزاب غير المعترف بها فقد ألحق بها سلسلة من حملات القمع المتتالية التي أنهكتها وأجبرتها على العمل في السرية المطبقة وضرب حولها حصارا بوليسيا مشدّدا ومنعها من أبسط أشكال التعبير والاتصال والعمل. وفي مثل هذه الأجواء عاشت كلّ أحزاب المعارضة (بما في ذلك الموالية لبن علي) تحت وطأة الانغلاق السياسي والإعلامي التام ولم تكن بالتالي مهيأة لأبسط المعارك السياسية بما في ذلك الانتخابية منها، فما بالك للتأثير أو قيادة تحركات وانتفاضات اجتماعية جماهيرية كبرى من قبيل انتفاضة الحوض المنجمي أو ثورة الكرامة الأخيرة.
غير أنه لا بدّ من القول أيضا أنه علاوة على هذه العوائق الموضوعية، فإن الغالبية العظمى من أحزاب المعارضة كانت تفتقد لبرامج تغيير حقيقية وشاملة وكانت تركز أساسا على الجوانب السياسية مهملة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لذلك بدت كأحزاب ليبيرالية غير مرتبطة، حتى من حيث الأطروحات، بشرائح الشعب المفقر. بل أن الكثير منها كان يقرّ ويروّج للمعجزة الاقتصادية التونسية حاصرا بذلك إخفاقاته مع نظام بن علي في مسألة الحريات فقط. ولم تكن قوى اليسار بأفضل حال، ذلك أن بعض حساسياته وتياراته تحوّلت إلى فعاليّات نقابيّة منغمسة في صراعات المواقع داخل الجهاز البيروقراطي للاتحاد العام التونسي للشغل ومنحصرة في أحسن الحالات في المطالب المادية والمهنية الجزئية منصرفة عن قضايا المجتمع والحكم حتى غدا نوعا من البيروقراطية الناشئة. أما بعضها الآخر فقد انحاز، حين استشعر أهمية النضال السياسي العام، إلى الجبهة الإصلاحية جاعلا من فزّاعة "الإسلاميين" ذريعة للتغطية على نزعته الإصلاحية المتهافتة.
وبمثل هذه التوجهات وهذه المعنويات لم تأخذ هذه الطائفة من الأحزاب والحساسيات السياسية الإنذار الذي وجهته حركة الحوض المنجمي مأخذ الجدّ ولم تقرأ في تتالي الاحتجاجات من فريانة إلى بن قردان مرورا بالصخيرة وجبنيانة وغيرها ما ينبئ باحتمال انفجار الأوضاع الاجتماعية وقيام الثورة في تونس. لذلك لم تعدّ نفسها بصورة مسبّقة لهذه التطورات التي كانت كل الدلائل تشير إلى حتمية قيامها.
أما حزب العمال رغم كونه تنبأ بهذه الانتفاضة ونبه إلى حتمية انفجارها منذ ما يزيد عن سنة وأكد مجددا على قرب اندلاعها (انظر افتتاحية "صوت الشعب" عدد نوفمبر 2010 بعنوان "الحركة الاجتماعية تطل برأسها"، وأعد مناضليه لذلك من جميع النواحي السياسية والإيديولوجية والتنظيمية والأجنبية، فإنه لم يكن قادرا لوحده على تأمين قيادة سياسية مركزية فاعلة للثورة لمحدودية إمكانياته البشرية والعملية للعوامل الموضوعية والتاريخية التي سبق ذكرها.
وخلاصة القول فإن الثورة التونسية وفي غياب القيادة السياسية الواعية الماسكة بكل أدوات ومقومات التأطير فيها والتأثير والترجمة ونظرا بمحدودية دور الطبقة العاملة فيها واعتبارا للدور الذي لعبته بقية الشرائح الأخرى الكادحة البرجوازية الصغيرة المدينية والريفية في مجرياتها، كانت ثورة برجوازية صغيرة ديمقراطية استهدفت الدكتاتورية، أي لم يتجاوز سقفها تغيير شكل الدولة من شكل استبدادي فاشستي إلى شكل ديمقراطي يتراوح بين الشكل الديمقراطي الشعبي والشكل الديمقراطي البرجوازي الليبرالي. ولا يزال يجري حتى اليوم صراع مرير بين الرؤيتين اللتين بينهما توزعت القوى السياسية توزيعا جديدا.
: آفاق الثورة-2
ما تزال الثورة في تونس في منتصف الطريق إذ أسقطت الدكتاتور بن علي ولم تسقط بعد أركان الدكتاتوري كنظام، ذلك أن الأجهزة التي حكم بها بن علي من مجلس نواب ومجلس مستشارين (رغم تجميدهما شكليا) ومن جهاز الحزب الدستوري والبوليس السياسي والأجهزة الإدارية على صورتها القديمة، لا تزال قائمة وهي تحاول اليوم العودة للعمل تحت الحكومة الحالية، حكومة الغنوشي المعززة بحزبي "الديمقراطي التقدمي" و"التجديد".
وفيما يحاول الشعب وقواه الثورية والديمقراطية العمل على استكمال هذه الثورة لتحقق كل أهدافها، تحاول الرجعية المتمثلة في بقايا النظام القديم معتمدة على التحالف الجديد مع حزبي "التجديد" و"الديمقراطي التقدمي" وبمساعدة خفية من دوائر أجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وليبيا) الالتفاف عليها وإجهاضها والاكتفاء بالتنازل عن بعض الإصلاحات الجزئية الظرفية.
إن ثورة الشعب التونسي في مفترق الطرق بين خيارين أساسيين، إما المضي قدما في تحقيق أهدافها وإما الخضوع لمخطط الالتفاف والإجهاض الذي تنفذه الحكومة تدريجيا بالتغاضي لا فقط عن مطالب الثورة الأساسية وإنما أيضا بالتراجع حتى عن بعض القرارات التي اضطرت لاتخاذها تحت وطأة الضغط الشعبي مثل حل الحزب الدستوري وتعقب ومحاكمة رموز النظام البائد، إلخ.
وليس خاف عن أحد أن دفـْع الثورة إلى الأمام وإفشال هذا المخطط يقتضي اليوم مزيدا من الضغط الشعبي والإصرار أكثر على إسقاط هذه الحكومة للانطلاق في مسار جدّي للإعداد وتنفيذ برنامج التغيير الديمقراطي الحقيقي.
صحيح أن التحاق حزبي "الديمقراطي التقدمي" و"التجديد" وبعض الوجوه المحسوبة على المعارضة والاستقلالية كوزير التربية الحالي الطيب البكوش أو وزير العدل لزهر الشابي كان قد لعب دورا خطيرا في مغالطة الرأي العام الوطني وإرباك جزء من فعاليات الثورة.
صحيح أن الدور المخزي للبيروقراطية النقابية في اتحاد الشغل الذي لعب أمينه العام عبد السلام جراد دورا تخريبيا لجرّ هيئته الإدارية لاتخاذ مواقف مساندة للحكومة كان هو الآخر قد بثّ الكثير من الأوهام والغموض حول الحكومة الجديدة.
صحيح أن ارتباك وتردّد الكثير من فعاليات المجتمع المدني وبعض مناضلي الجهات حيال الحكومة الجديدة قد أضفى عليها ولو لفترة قصيرة نوعا من المصداقية وبثّ الوهم حول إمكانية أن تكون الحل لإعادة الاستقرار والأمن ولعودة الحياة العامة لمجراها الطبيعي ولإجراء التغيير الديمقراطي في تونس.
لقد شكـّل تعيين الحكومة الجديدة عاملا كبيرا في تراجع حركة الاحتجاج الميداني في الشـّارع طوال الأسابيع الأخيرة. ولكنّ العديد من ممارسات وقرارات هذه الحكومة، مثل الهجوم القمعي الفاشستي على اعتصام القصبة الذي دشنت به عهدها وتهجمات وزير التربية على سلك الأساتذة وتعيين ولاة جدد من التجمع الدستوري الديمقراطي وتعيين رؤساء اللجان الثلاث (الإصلاح السياسي، تقصي الحقائق حول الفساد والتجاوزات الأمنية)، كل هذه الممارسات والقرارات وغيرها عجلت في كشف حقيقتها كحكومة معادية للثورة رغم كل الجهود التي يبذلها نجيب الشابي وأحمد إبراهيم والطيب البكوش والغنوشي لمغالطة الشعب. لذلك هبّتْ الجماهير مجدّدا لطرد الولاة التجمعيّين ووزير الخارجيّة (أحمد ونيّس)، واستمرّت في محاصرة رموز التجمّع في الإدارات والمؤسسات، وواصلت تركيز اللـّجان الجهويّة والمحلية لصيانة مكاسب الثورة، ونظمت المسيرات والاحتجاجات وقوافل التضامن والشكر للجهات الأكثر تضررا من أحداث قمع الثورة، ودعت مجددا لحل "التجمع الدستوري" وتصفية أملاكه ومقراته وحل الحكومة، ورفضت اللجان الصورية والفوقية. ويتخذ نسق هذه الأعمال شكلا تصاعديا حتى عاد اليوم شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" إلى صدارة الاهتمامات والمطالب والتحركات. وفي خضم هذه التطورات الهامة تحسن دور المعارضة السياسية، أحزابا وجمعيات ومنظمات، لعل أبرز ما يدل على ذلك ظهور جبهة 14 جانفي التي قدّمت بديلا سياسيا متكاملا ساهم في جمع كل الفعاليات حول مشروع بعث المجلس الوطني لحماية الثورة.
إن ميلاد "المجلس الوطني لحماية الثورة" يعدّ في حدّ ذاته خطوة سياسية على غاية من الأهمية تعطي لمواجهة الحكومة المنصّبة أبعادا جديدة إذ يقدم بديلا سياسيا وعمليا لتجاوز ما يسمى بالفراغ الدستوري والسياسي علاوة على أنه يشكل عامل ضغط من فوق على الحكومة وأداة سياسية لتوجيه وقيادة الضغوط القاعدية والتعبئة الجماهيرية في الجهات والنقابات وفي قطاع الشباب وكل فعاليات الشارع المحتج حتى إسقاط الحكومة. ويكرّس "المجلس الوطني لحماية الثورة" مبدأ الشرعية الثورية التي حلت محل شرعيّة مؤسسات النظام القديم ويفتح الباب لتجاوز كل الالتباسات حول مشروعية الإجراءات المتخذة أو الواجب اتخاذها لتأمين الانتقال الديمقراطي السلمي نحو نظام ديمقراطي شعبي حقيقي.
فالمجلس الوطني بتركيبته يمثل كل تعبيرات الشّعب، السياسية منها (الأحزاب) والمدنية (الجمعيات والمنظمات) والنقابية (اتحاد الشغل والمنظمات المهنية الأخرى كالمحامين والصحافيين والعاطلين عن العمل) والجهات (المجالس الجهوية لحماية الثورة واللجان) ويشكل بالتالي نوعا من البرلمان المؤقت الممثل للإرادة الشعبية تمثيلا توافقيا يتناسب مع طبيعة الظرف في ظل استحالة تنظيم انتخابات فورية وفي ظل غياب القوانين المنظمة للحياة السياسية الموروثة عن النظام السابق والمنافية لأبسط قيم الحريّة والديمقراطيّة قد جمّد العمل بها.
وبالنظر لخاصيّة هذا المجلس كهيئة نيابيّة توافقية، هي الأقرب في الظرف الراهن لتمثيل فعاليات وتعبيرات الشعب، فإنه يبقى الإطار الأكثر مشروعية لاستصدار الأحكام والقوانين الوقتية لتنظيم الحياة السياسية في المرحلة الراهنة ريثما يقع تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي. و"المجلس الوطني لحماية الثورة" هو الإطار المؤهّل بحكم خاصيّاته أيضا لتعيين الحكومة الجديدة التي بدورها أن تحوز على قبول كل فعاليّات وتعبيرات الشعب وتكون بالتالي قادرة على تصريف شؤون الحياة العامة في المرحلة الانتقالية برضا الشعب ومساندتها بما يسمح لها بإعادة بسط الأمن بتعاون شعبي واسع وبإعادة تنشيط أجهزة الإنتاج والتجارة وكامل الدورة الاقتصادية وتنظيم الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والرياضية دون تعطيل أو معارضة.
لقد اهتدت الثورة أخيرا بعد مرحلة من التردّد والشكّ إلى توفير الأداة والمدخل لحسم الصراع الدائر بين إرادة استكمال مهام الثورة وبين إصرار قوى الردة على إجهاضها. فالمجلس الوطني لحماية الثورة هو اليوم المدخل إلى المرحلة الجديدة، مرحلة فض كل أشكال التلاعب "الدستوري" والحلول المتخذة على مقاس حكومة بقايا النظام القديم. وهو المدخل لتسيير المرحلة الانتقالية تشريعا وتنفيذا عبر مراقبة الحكومة أو حلها وتعويضها بأخرى مقبولة من قبل الشعب وهو المدخل أيضا لإعداد الانتخابات القادمة.
وسيكون من الوجاهة بمكان أن يضفي الرئيس المؤقت على هذا المجلس الطابع "الشرعي" بالتصديق عليه هذا إذا كان فعلا قابلا بانتقال السلطة بصورة سلمية وتجنيب البلاد حالة من الازدواجية في السلطة مع ما قد ينجر عن ذلك من تطورات خطيرة. أما إذا خضع الرئيس المؤقت إلى ضغوط حكومة الغنوشي ورفض "تشريع" المجلس فإن هذا الأخير سيضطر إلى أن يفرض مشروعيته بالقوة معتمدا على قبول الشعب به، فعاليات سياسية وجمعياتية وجهوية.
إن الحكومة الحالية لا تستند إلا إلى بقايا الأجهزة القديمة لنظام بن علي مدعومة بالأموال المكدسة لديها وبمساندة ودعم الدوائر الأمريكية والأوروبية، ولكنها بالمقابل تفتقد للشرعية والمساندة الشعبية.
أمّا المجلس فإنه كسلطة جديدة يستند إلى الشرعية الشعبية التي تمثلها الأحزاب والجمعيات والمنظمات والجهات واللجان والمجالس الشعبية. ورغم أنه يفتقد للأجهزة الإدارية الرسمية وللأموال التي في حوزة الحكومة الحالية فإن مساندة الشعب له تبقى هي العنصر الحاسم في الصراع الدائر الآن والذي من المنتظر أن يحتدم أكثر في الأيّام القادمة.
وتؤكـّد حالة نهوض حركة الاحتجاج الجديدة التي دشـّنها اعتصام القصبة الحالي والتحركات في الجهات وانتشار المسيرات والمظاهرات وتصاعد نسق بعث اللجان والمجالس الجهوية، تؤكد كلها أن حالة اللاحسم التي دامت بضعة أسابيع آخذة في التطور نحو الحسم لصالح المجلس الوطني لحماية الثورة والتمشي الذي وضعه لاستكمال مهام الثورة. ويعتقد أن الفترة القليلة القادمة ستأتي بالجديد في هذا الصدد ومن غير المستبعد أن تجبر الحكومة ذاتها على الانحلال والتلاشي.
-                                                                       -معيقات الثورة وعوامل نجاحها:3
وتبقى هذه المؤشرات بلا معنى إذا لم يقع تحويلها فعلا إلى شروط مادية لفرض التغيير، إذا لم يقع تكثيف الضغط الشعبي في كل قطاعات الشعب، الشباب والنقابات والجهات والشارع، حتى تضطر الحكومة إلى الإذعان لإرادة الشعب وتحلّ نفسها بنفسها فاسحة المجال إلى حكومة تحظى بثقة الشعب وقادرة على بسط الاستقرار والهدوء وتصريف شؤون المواطنين وتعد بسرعة شروط تنظيم انتخابات عامة لانتخاب برلمان جديد لنظام سياسي جديد، أي وضع دستور جديد يؤسّس لحياة سياسية جديدة. ومن هنا جاءت صفة "التأسيسي" لهذا البرلمان، لهذا المجلس النيابي.
إن العقبة الأولى في وجه هذه الإمكانية هو الحكومة الحالية المتمترسة في كراسيها متعللة بالشرعية. ونتساءل هنا من أين استمدت هذه الحكومة شرعيتها؟ هل استمدتها من الشعب؟ أم من القانون؟ أم من مؤسسات نظام بن علي؟ وللجواب على ذلك لا بدّ من القول أن الشعب أكد ويؤكد اليوم مجددا أنه غير قابل بهذه الحكومة ولا هو راض عنها وليس أدل على ذلك من الاعتصامات والمظاهرات والمسيرات التي هي الآن بصدد الانتشار في كل مكان منادية بإسقاط النظام وإسقاط الحكومة. وقد سبق للشعب أن عبّر عن استيائه من التشكيلة الحكومية إبّان الإعلان عنها. وجاء هذا الرفض في تحركات الجهات وتشكيل اللجان الخارجة عن سلطة الحكومة كما جاء في رفض الولاة الذين عيّنتهم. وحتى المنظمات التي زكـّت الحكومة، مثل عمادة المحامين واتحاد الشغل فقد استنكرت قواعدها هذه التزكية ولقيت قيادتهما نقودا حادة من منخرطيها ممّا أجبر هيئة المحامين على إصدار موقف ثان مناقض لموقف التزكية، موقف رافض للحكومة. وأجبرت قيادة الاتحاد على التراجع تدريجيا عن موقفها المساند للحكومة والعودة مجددا إلى العمل ضمن الأحزاب والجمعيات والمنظمات المطالبة بمجلس وطني لحماية الثورة. فمن أين إذن استمدت الحكومة شرعيتها؟ هل من القوانين الحالية؟ إذا كان الأمر كذلك لا بدّ من التذكير أن الثورة قد وضعت ترسانة القوانين بما في ذلك الدستور جانبا باعتبارها قوانين موروثة عن نظام بن علي، أي قوانين الدكتاتورية التي رفضها الشعب. فالاستناد إلى هذه القوانين هو نفي للثورة وتشبث بأسس العهد البائد وهو تبرير مرفوض لمشروعية مرفوضة. أما إذا كان الادعاء بالشرعية يستند إلى مؤسسات النظام السابق فهو كذلك طغى في الثورة وتشبث بالنظام القديم والحال أن الشعب نادى ولا يزال ينادي بحل هذه المؤسسات من مجلس النواب إلى مجلس المستشارين إلى جهاز التجمّع الدستوري الديمقراطي وجهاز البوليس السياسي والمجالس الجهوية والبلدية المنصبة. إن كل هذه المؤسسات مرفوضة من الشعب ومطعون في شرعيتها ولا يمكن أن تكون سندا لشرعية الحكومة. وعليه فإن الحكومة الحالية حتى وإن ضمت في صفوفها أحزابا وقفت بهذا الحد أو ذاك ضد نظام بن علي، حكومة غير شرعية وتشبثها بهذا الادعاء وإصرارها على البقاء هو شكل من أشكال التصعيد وتعمد استبقاء التوتر ومثار لمزيد الاحتجاج والتمرد الأمر الذي سيزيد من تعطيل الحياة العامة والحركة الاقتصادية.
وتتحمل الحكومة الحالية تبعات هذا التصعيد وكل الانعكاسات السلبية لا فقط على النظام العام بل وكذلك على شروط الحياة المادية للشعب والبلاد في توقف الحياة الاقتصادية.
وتمثل حملات الإعلام المنظم حول فزّاعة "الفراغ" واحدة من عوائق تطور الثورة وبلوغ أهدافها، لأن هذه الحملة التي تبث المغالطات والخوف في صفوف الشعب رغم فشلها إلى حد الآن في ذلك، تهدف إلى تقسيم الشعب وربما إثارة نوع من الاقتتال داخله والتنحي عن ثورته وأهدافها.
وعلاوة على ذلك فإن هذه الحملة عادت لتوظف مجددا وسائل الإعلام لصالحها وإقصاء الرأي المخالف وتجديد أساليب الدعاية القديمة التي مارسها نظام بن علي. ولولا استمرار الضغط لذهبت الحكومة بعيدا في إجراءاتها لمحاصرة حرية التعبير علما وأنها حالما أعلنت عن تشكيلتها أصدرت أوامرها للقنوات التلفزية والإذاعية والجرائد بالتركيز على الدعاية لها والتضييق على الرأي المخالف لها. وليس من باب الادعاء القول أن الشعب تفطن مبكرا لهذا التحول السلبي في أداء وسائل الإعلام، الأمر الذي جعل الكثير من الناس يرفض بعض وسائل الإعلام ويطردها ويمنعها حتى من تغطية بعض التحرّكات والأنشطة.
إضافة إلى ذلك تستعمل الحكومة الحالية أشكالا أخرى متعددة لعرقلة تطور الثورة. من ذلك استعمالها للمال العام بشكل زبوني وحث المؤسسات المالية العمومية والأجنبية على دعمها ماليا، وهو ما كشف بسرعة عن حقيقتها كحكومة مأجورة ومرتبطة بالخارج. ونلاحظ اليوم تكثيف أمريكا وأوروبا وخاصة فرنسا من تدخلاتها من أجل تمويل حكومة الغنوشي حتى تتمكن من التغلب على مصاعبها المالية وإرضاء قطاعات من المحتجّين حتى تصرف النظر عن موقفها السّياسي الرافض لها.
ولكن الشعب التونسي أبدى درجة عالية من النضج وأدرك مقاصد كل هذه المحاولات لإعاقة الثورة. فبعد مدة قصيرة من الارتباك والتردد عادت الحركة لسالف حيويتها لتطالب مجددا بحل الحكومة وإسقاط النظام مسلحة هذه المرة ببديلها العملي لما يسمّى بالفراغ وبتمشّي متكامل حتى إقامة مؤسسات النظام الجديد. وتستدعي هذه العودة تصعيد التعبئة الشعبية في الجهات ولجانها ومجالسها لحماية الثورة وفي قطاعات الشباب والنقابات والمحامين وفي الشارع الشعبي ككل فالنصر بات قريبا.

استلاب الحجاب لا يبرّر قمع المتحجبات

استلاب الحجاب لا يبرّر قمع المتحجبات : حمة الهمامي صائفة 2007

و لكن أن يكون ذلك هو المغزى الموضوعي للحجاب، فهو لا يمثل مبرّرا لمنع الفتيات والنساء من ارتدائه وإكراههن على نزعه أو حرمانهن، في صورة تشبثهن به، من حقوقهن الأساسية كالذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو إلى مراكز العمل من إدارة ومؤسسات عمومية. 

إن هذا الموقف القسري، التعسفي، يتعارض مع المبدأ العلماني القاضي باحترام حرية العقيدة. فمهما كان الحجاب/الخمار مهينا من الناحية الموضوعية للمرأة، فإنه توجد من المتحجّبات من تعتقد أنه "فريضة" و"جزء من العقيدة". 

كما أن من بينهن من ترى فيه "جزءا من شخصيتها الإسلامية". وهذا الموقف الشخصي لا يمكن معالجته بالقمع، إذ لا يجوز قمع النساء المتحجّبات بدعوى أن ذلك من "مصلحتهن" وفيه "دفاع عن تحررهن" ويهدف إلى "إنقاذهن من الاستعباد الذاتي" أو من "استعباد الرجل والمجتمع".

إن القمع لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتحرير الإنسان من الأوهام الدينية أو من الخرافات والأساطير التي تتخذ طابعا عقديا. 

لأن القناعات سواء كانت دينية أو إيديولوجية لا تتغير إلا بالنقاش والإقناع، بل لا تتغير إلا إذا توفرت الأرضية الاجتماعية والثقافية المناسبة التي تجعل المعنيات أو المعنيين يقتنعون بأن القناعات الجديدة تمكنهم من تحقيق ذواتهم. 

والمرأة التي تلبس اليوم الحجاب/الخمار يمكن أن تتخلى عنه غدا إذا اقتنعت بأنه لا يلائمها وأنه مناف لحريتها وتحررها. أما القمع فيولـّد الخوف، ولا يخلق قناعات جديدة، بل على العكس من ذلك، يعمّق العقائد والقناعات القديمة التي تبقى تنتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسها بشكل مكثف أكثر من ذي قبل.

وليس أدلّ على ذلك من الواقع في تونس. فمنذ أواسط الثمانينات ونظام الحكم يشن الحملة تلو الحملة على المتحجّبات، ومع ذلك فإن عددهن لم يقل، بل أكدت التجربة أنه ما أن يتراجع القمع حتى تعود الظاهرة إلى البروز. 

و إذا كانت في وقت من الأوقات لا تستقطب سوى أتباع التيار الإسلامي، فإنها منذ وقت معيّن تجاوزت هذا المدى لتشمل العديد من الفتيات والنساء اللواتي لا علاقة لهن بهذا التيار. وهكذا أصبح لباس الخمار ظاهرة اجتماعية وثقافية.

ولابد من الإشارة إلى أن مقاومة السلطة للخمار لا تنطلق من نظرة تُدافع عن حرية النساء وحقوقهن ولكنها تكرّس صراعا مع خصم سياسي يهدّد هيمنتها على الحياة العامة والمجتمع، ناهيك أن بن علي لا يرفض الحجاب بشكل عام ولكنه يرفض شكله المرتبط بالتيار الإسلامي. 

ولم يتردد في أكثر من مناسبة إلى الدعوة إلى العودة إلى أشكال الحجاب الأخرى كـ "السفساري" و"البخنوق" الخ... هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السلطة لم تتوان عن منع مناقشة الظاهرة في الفضاءات العمومية وفي وسائل الإعلام بمشاركة الأحزاب والجمعيات والمنظمات المهنية والثقافية وخاصة منها المنظمات النسائية، والسبب في ذلك أن ما يهمّها أوّلا وقبل كل شيء هو مواصلة احتكار الحياة العامة وسدّ الباب أمام أي إمكانية للنقاش الحر.

إنّ مقارنة الدفاع عن الحجاب/الخمار كجزء من الحرية الذاتية بالدفاع عن العبودية أو "الانتحار" لتبرير منعه، هو من قبيل المقارنات الخرقاء. 

فلباس الخمار، طالما أنه اختيار شخصي، يمثل سلوكا فرديا، لا يحتمل الاعتداء على أي شخص آخر. في حين أن الاستعباد يمثل جريمة على حساب شخص آخر لما يُلحقه به من أذى مادي ومعنوي ويكرهه عليه من خضوع ويحرمه من التمتع بالحقوق، وفي حالة كهذه ينبغي أن يتدخل القانون لمنع الاستعباد منعا تاما، سواء كان ذلك في الفضاء الخاص أو في الفضاء العام. 

ولو كان لباس الخمار كالاستعباد، فلماذا يطالب أصحاب هذه المواقف بتحريمه في الفضاءات العمومية فحسب؟ هل يعقل أن تُحرَّم جريمة ما في فضاء معيّن وتباح في فضاء آخر؟ 

أليست الجريمة جريمة مهما كان المكان الذي تُرتكب فيه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الانتحار، فالتشجيع عليه جريمة مهما كان المكان، وهو جريمة لأن فيه ضررا لا رجعة فيه لشخص آخر. 

بينما الأمر يختلف بالنسبة إلى الخمار كما قلنا، فمتحجبة اليوم يمكن أن تكون سافرة الغد. و هو ما نلحظه في محيطنا، إذ أن العديد من الفتيات نزعن خُمُرهن بعد ارتدائها مدة معينة نتيجة تحوّل في قناعاتهن.

ومن نافل القول إن لباس الحجاب/الخمار يكفّ عن أن يكون حرية شخصية إذا كان ناجما عن إكراه، لأن الإكراه يمثل اعتداءً على تلك الحرية. 

وإذا كان للقانون أن يتدخل، في نظام ديمقراطي تُضمن فيه الحريات الفردية، ففي هذا المستوى، وذلك لمنع الإكراه وتجريمه ومعاقبة مرتكبيه صيانة للحرية الشخصية. 

وفي مناخ كهذا فقط، يمكن أن تتوفر للفتيات والنساء إمكانية اختيار لباسهن بحرية، وفقا لقناعاتهن الشخصية وهن يعرفن أنه بإمكانهن اللجوء إلى القانون إذا حاول طرف ما إرغامهن على ارتداء هذا اللباس أو ذاك.

أما على المستوى الفكري فالأمر يختلف. إن الديمقراطي، التقدمي، المتماسك فكرا وممارسة، الذي يتصدّى سياسيا لقمع المتحجّبات ويندد به ويدافع عن حريتهن الشخصية، طالما أنهن يعتبرن ارتداء الخمار قناعة أو "عقيدة"، إن هذا الديمقراطي من حقه، بل من واجبه أن يخوض معركة مبدئية وعميقة ضد هذا اللباس لإبراز المضامين الرجعية للمنظومة القيميّة و الاجتماعية التي يندرج ضمنها و التي تستنقص المرأة. 

وهذه المعركة ينبغي له أن يخوضها بأسلحة فكرية وفكرية فقط، بعيدا عن كل إرهاب إيديولوجي، لأن العلمانية، كما بيّنا، فضاء للمساعدة على الحوار/النقاش الحر والديمقراطي.

هل المنشور 108 من "صميم العلمانية والديمقراطية"؟

بودّنا هنا أن نتطرق إلى موضوع المنشور 108 الذي يمنع لباس الخمار في المؤسسة التعليمية والذي رأى فيه صاحب الكراس إجراء من صميم الديمقراطية بدعوى أنه يدافع عن العلمانية. 

وقبل الخوض في لبّ الموضوع لا بد من الإشارة إلى أن هذا المنشور لا يمكن أن يكون حتى في شكله من صميم الديمقراطية لأن الحياة العامة لا تـُنـَظـّمُ بمناشير صادرة عن هذا الوزير أو ذاك بل بقوانين صادرة بعد نقاش وغير منافية للدستور وتأتي المناشير بعد ذلك لتيسير التنفيذ ليس إلاّ. 

أمّا واقع الحال هنا فإنه يتعلق بمنشور متـّصل بوجه من أوجه الحياة العامة الذي يثير إشكالات جدّيّة تمَسّ مسألة الحرية الشخصية، وقد صدر دون أن يحظى بنقاش حتى داخل البرلمان الصوري التونسي. وهو ما يؤكد طابعه التعسفي والتسلطي حتى من الناحية الشكلية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما معنى أن تكون المؤسسة التعليمية علمانية؟ و هل أن منع التلميذات من لباس الخمار هو أحد مظاهر تلك العلمانية؟ لا نعتقد ذلك، لأن التلاميذ مهما كانت قناعاتهم الفكرية والدينية من حقهم أن يؤمّوا المدرسة أو الجامعة وليسوا مطالبين بأن يكونوا علمانيين أو متدينين أو يساريين أو قوميين... 

والخمار، إذا كان ناجما عن قناعة أو عقيدة فمن حق التلميذة لباسه. وليس التلميذ(ة) والطالب(ة) مطالبا بأكثر من احترام الدرس وعدم التحريض على مدرِّسه أو ترهيب زملائه وزميلاته واستفزازهم والاعتداء على كرامتهم لأسباب عقائدية أو أتنية أو ثقافية.

إن المؤسسة التعليمية هي المطالبة، في نظام ديمقراطي، عصري، بأن تكون علمانية وهذه العلمانية تهم إطار التدريس الذي عليه أن يقوم بالدرس دون استفزاز لعقيدة أو عقائد تلاميذه، كما تهم البرامج الدراسية التي ينبغي أن تنبني على حرية البحث والمعرفة وعدم إخضاعها لأي قيد لأسباب عقدية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك عدم تدريس الأديان مثلا، فهذا المفهوم ليس علمانيا بالضرورة أو لا يمكن حصر العلمانية فيه، إذ أن تدريس الأديان دراسة تاريخية، موضوعية، هو من صميم العلمانية، وبإمكان هذا النوع من التدريس تنسيب الأمور ونشر ثقافة التسامح، بل الاحترام بين أصحاب الأديان والعقائد المختلفة، وحتى غير المؤمن لأسباب فلسفية، فلا تضيره دراسة الأديان بهذه الطريقة لأنها تندرج ضمن المعرفة. 

وأخيرا، فإن الفضاء المدرسي ينبغي أن يبقى فضاءً للعلم والمعرفة ولا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يوظَّف لأغراض دينية تخل بوظيفته هذه.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن منع الفتاة من الذهاب إلى المدرسة بسبب ارتدائها الحجاب/الخمار لا يخدم مصلحتها ولا يساعدها على الإنعتاق في شيء، لأن هذا المنع سيعيدها إلى البيت لتعيش بين أربعة جدران حيث تكون عرضة لشتى الضغوط من أفراد العائلة، الذكور منهم خاصة. وفي المقابل فإن بقاءها بالمدرسة أو الجامعة يفسح لها المجال كي تنمّي قدراتها على التفكير والتمييز والنقد وهو ما يساعدها على تكوين شخصيتها وتصليبها ويخلق لديها القدرة على التمرد على أغلالها. 

هذا هو المناخ السليم الذي ينبغي توفيره للفتاة المتحجبة سواء عن قناعة شخصية أو مكرهة، كي تتفتق طاقاتها. أما أن تـُعتبر هذه الفتاة ضحية (للأب أو الأخ أو العم أو الخال أو..) وتـُعاقَب في نفس الوقت بالطرد من المدرسة أو الجامعة بدعوى مساعدتها على تحرير نفسها، فذلك ما لا يقبله عقل، بل ذلك ما لا علاقة له بالعلمانية التي هي رديف الحرية. (انظر حول هذه القضية السجال الذي دار في فرنسا بمناسبة ما سمي بـ"قضية الخمار" سنة 2003. ومن بين المنشورات المهمة في هذا الصدد كتاب: Le Foulard Islamique En Questions- مجموعة نصوص صادرة عن دار أمستردام للنشر – باريس 2004).

أزمة المؤسّسة التعليمية ليس سببها الخمار

وفوق ذلك كله، فهل أن المؤسسة التعليمية في تونس ليس لها من خطر تواجهه إلا لباس الخمار؟ لا بالطبع. إننا نعتقد أن الضجيج الذي أُقيم حول هذه المسألة وأن القمع الذي سُلط على المتحجّبات ليس سوى وسيلة لطمس المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها هذه المؤسسة (وتتخبط فيها البلاد بأكملها) و عجز نظام الحكم عن إيجاد الحلول لها بل إمعانه في مفاقمتها.

إن نظام بن علي خرّب المؤسسة التعليمية في بلادنا. فقد أخضعها بالكامل لمشاريع الدول والمؤسسات المالية الأجنبية التي فرضت خوصصتها وحولتها إلى خادم لمصالح الرأسمال المتقلبة، ونزعت عنها دورها الاستراتيجي في تطوير المعارف والعلوم والحفاظ على الهوية الوطنية وإثرائها والمساهمة في النهوض بالمجتمع والبلاد. 

كما أنه أفرغ البرامج الدراسية في كافة المستويات مما ينمي الروح النقدية لدى المتعلم وحرم التلميذ والطالب من حرية الرأي والتعبير وأخضع المؤسسات التعليمية للمراقبة المباشرة للبوليس السياسي وضرب الحريات الأكاديمية في العمق وحوّل الأساتذة والباحثين إلى مجرد ملقنين، ومنع البارزين منهم المتشبثين باستقلالهم من مواصلة التدريس والبحث بالجامعة حال بلوغهم سن التقاعد (60 سنة).

ألم يكن أحرى بأصحاب هذه المواقف أن يجعلوا هذه المسألة على رأس اهتماماتهم، لو كانوا حقّا غيورين على المؤسسة التعليمية وعلى دورها التنويري؟ أليس ما تتعرض له من سياسات بن علي هو أخطر بكثير من ارتداء جزء من التلميذات الخمار؟ 

و إلى ذلك فإن كانوا حقـّا غيورين على المكتسبات العلمانية للمجتمع التونسي، أليس أحرى بهم، عوض المطالبة بقانون جديد لقمع المحجّبات العاملات في الإدارات العمومية، التركيز على مقاومة الاستغلال الفاحش والفساد المستشري والاستبداد والنهب الامبريالي للبلاد والتصحّر الثقافي وما تُولّده كل هذه المظاهر من فقر وإملاق وتجهيل وشعور بالمهانة في صفوف الطبقات والفئات الفقيرة وهو ما يدفع بأقسام منها إلى البحث عن الخلاص في العودة إلى الماضي. أليس الخطر الحقيقي على المكاسب العلمانية يجد قاعدته في هذا الواقع المزري؟ أليس اللجوء إلى القمع في معالجة ظاهرة الحجاب (والظاهرة السلفية بشكل عام) وسيلة لطمس هذا الواقع ومسؤولية نظام الحكم فيه؟

إن المراهنة على النظام القائم للدفاع عن مكاسب المجتمع العلمانية وتطويرها وصيانتها هي مراهنة خاسرة مسبقا لأن الدكتاتورية تعرض المكاسب للتدمير والتلاشي وتجرد المجتمع من وسائل الدفاع عن نفسه. وليس أدل على ذلك من توظيف نظام بن علي للدين لتشريع استبداده و تشجيعه الزوايا والكتاتيب وبعث "فرق الدعوة والتبليغ" المرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية وإطلاق العنان للشعوذة والمشعوذين وإنشاء إذاعة "الزيتونة" لإظهار العائلة الحاكمة بمظهر الراعية للدين وتغطية ضلوع أفرادها في الفساد الاقتصادي والمالي. 

كل ذلك في الوقت الذي يُحاصَر فيه أصحاب الرأي الحر والمثقفون والمبدعون الجادون الذين يرفضون بيع ذمتهم.

إن مطالبة اليساريين والتقدميين بمساندة بن علي في منع الخمار وقمع المتحجّبات بدعوى الحفاظ على المكتسبات العلمانية إنما هو محاولة لتحويل اليسار إلى مجرد ذيل للدكتاتورية ومسوغ لقمعها وعسفها. وهو ما يعرض مستقبل العلمانية ذاتها للمخاطر في بلادنا. 

إن العلمانية كمنظومة ليست قائمة في تونس، بل إن ما هو موجود لا يعدو أن يكون علمانية مشوهة و أن الادعاء بأنها موجودة وأن المطلوب "استكمالها" يجعل منها أي العلمانية رديفا للقمع والاستبداد.

 إن العلمانية بمعناها الصحيح، أي بوصفها رديفا للحرية ما تزال مشروعا للتحقيق في بلادنا، لأن العلمانية لا يمكن أن تترعرع إلا في مجتمع ديمقراطي، حيث تكون هي إحدى ركائز هذه الحرية وتلك الديمقراطية.

إن الاستقواء بالقمع الإداري والبوليسي والتوهم بأن ذلك كفيل بتعديل ميزان قوى سياسي راجح راهنا لصالح القوى السلفية في العالم العربي والإسلامي، بدل التعاطي الفكري مع المسألة وخوض الصراع في صفوف النخب والجماهير بنفس طويل ورؤية واسعة الأفق من أجل إحداث النقلة الحقيقية في الأذهان وفي ميزان القوى، إن ذلك تعبير صارخ عن ضيق أفق البورجوازي الصغير وقلة صبره أمام الصعوبات.

ومهما يكن من أمر علينا أن ندرك أنه ما من جواب علماني في مجتمعنا على الأطروحات السلفية والظلامية خارج النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية وهي كلها محاور تؤدي بالضرورة إلى النضال ضد الدكتاتورية القائمة. وكما أكدنا أكثر من مرة، فإن سدّ الباب أمام الاستبداد باسم الدين يقتضي إعطاء المثال اليوم في مقاومة الاستبداد النوفمبري لا التواطؤ معه أو مجاملته.

الاشتراكية والحرية الدينية

إن الذين يَعْرِفون التراث الاشتراكي يدركون أن مَن وضعوه وطوّروه لم يدافعوا، خلافا لما تدعيه بعض الأطراف "اليسارية"، عن الأساليب الإدارية القمعية في التعامل مع القضايا العقدية. فـ كارل ماركس وفريدريك أنجلس مؤسّسا الاشتراكية العلمية ناهضا بشدة التطرف اللاديني أو الإلحادي لما فيه من ضرر بقضية العمال والكادحين.

إن ماركس الذي دعا الاشتراكيين إلى النضال من أجل تحرير العمال من الأوهام الدينية التي تستغلها البورجوازية لتحملهم على قبول واقعهم المزري والتخلي عن السعادة في دنياهم في انتظار "سعادة الآخرة" التي يُقال لهم إنها ستعوّض لهم بؤسهم الدنيوي، دافع بحزم عن حرية الضمير مؤكدا أنه "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يُلـَبـّيَ حاجاته الدينية والجسدية(الطقوس– من عندنا) على السّواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع" (كارل ماركس- نقد برنامج غوته). و هذا هو معنى أن يكون الدين "قضيّة خاصة بالنسبة إلى الدولة"، لا تتدخل فيه و لا تفرض شكلا من أشكال العقائد أو القناعات على مواطنيها.

أما أنجلس الذي كتب الكثير حول الدين وحول الحركات الدينية عبر التاريخ، فإنه سَخـَرَ أيّما سخرية وهو بصدد الرد على الفوضوية والفوضويين الذين يمثلون الترجمة المكثفة للنفسية البرجوازية الصغيرة التي تخفي عجزها بالبريق الراديكالي، سخر من أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على إلغاء الدين من حياة الناس وفرض الإلحاد بمجرد قرار فوقي، مبينا أنه بإمكان المرء أن يُسطـّر ما يريد على الورق دون أن يجد ذلك طريقه إلى التنفيذ، وأن القرارات التعسّفية هي أحسن وسيلة لتقوية القناعات الغيبية. 

وفي نفس الإطار انتقد أنجلس بشدة قوانين بيسمارك التي سنـّها في إطار ما سُمّي "النضال الثقافي" للتضييق على الحزب الكاثوليكي الألماني بواسطة القمع البوليسي للكاثوليكية والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ بل عُلّقت ثم أُلغيت لطابعها الفوقي التعسّفي، علما وأنها لم تفعل شيئا سوى توطيد الإكليريكيّة الكاثوليكية وإنزال الضرر بقضية الثقافة الفعلية أي الثقافة التقدّميّة التي ترتقي بوعي الشعب (أنجلس، نصوص حول الدين. ص 142 – المنشورات الاجتماعية، فرنسا 1972).

لقد اعتبر أنجلس هذا التمشـّي الإداري خطيرا لأنه "يبرز إلى السّطح الانقسامات الدّينيّة بدلا من الانقسامات السّياسيّة و يصرف انتباه فئات من الطبقة العاملة وعناصر ديمقراطية أخرى بعيدا عن المهامّ الجوهريّة للصراع الطبقي والثوري نحو عداء الإكليريكيّة السطحي جدّا و الكاذب بشكل بورجوازيّ جدّا" (لينين، نصوص حول الموقف من الدّين، ص 100-101، دار الطليعة، بيروت،1978). 

وبناء على هذا الموقف المادّي الجدلي، ناضل أنجلس كما ناضل الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان في أواخر القرن التاسع عشر من أجل إلغاء كلّ التدابير الزجريّة البوليسيّة ضدّ أيّ دين من الأديان في نفس الوقت الذي كانوا يشرحون فيه للعمّال الجذور التاريخيّة و الاجتماعيّة لهذه الأديان و ينبّهونهم إلى دور الكنيسة في محاولة إخضاعهم للاستغلال و إلهائهم عن النضال ضدّه.

وكان أوغـست بيبل الزعيم الاشتراكي الألماني سَخـَرَ من التطرف اللاديني ونفى أن تكون له صلة بالاشتراكية العلمية واصفا النزعة المتطرفة في معاداة الأكليروس (anti-cléricalisme) بأنها "اشتراكية البورجوازية الصغيرة" باعتبارها تعزل الدين عن قاعدته الاجتماعية وتحاربه بصورة تبشيريّة تجريدية موضحا أن الخطاب المتطرف ضد الدين لا يعني بالضرورة أنه الخطاب القادر على تخليص الجماهير الكادحة من الأوهام الدينية، بل إنه خطاب بورجوازي راديكالي يترجم عن فكرة سطحيّة تزعم أنّ الفكر و الثقافة يفعلان فعلهما بواسطة نفسيهما و ليس من خلال الصراع الطبقي الملموس.

وقد انتقد لينين في كتاباته السياسية انتقادا لاذعا دور الكنيسة في مساندة الاستبداد القيصري وبث الأوهام الدينية الرجعية في صفوف العمال والفلاحين حتى يقبلوا بواقعهم المزري ويتخلوا عن النضال من أجل تغييره كي يكدّس الملاكون العقاريون وأصحاب المصانع الثروات على حسابهم و دعا إلى مقاومة تلك الأوهام، ولكنه كان في الآن نفسه حازما بخصوص الأسلوب الذي ينبغي اتـّباعه في هذه المقاومة: لا حربَ سياسيّة على الدّين بل حربًا على الاستغلال الرأسمالي الذي تكمن فيه الجذور الاجتماعيّة للأوهام الدّينيّة، ولا قمعَ بوليسيًّا للأديان و القناعات بل الحريّة لها جميعًا، ولا صراعَ مع العقائد المختلفة إلا بالأسلحة الفكريّة المحظة، ولا تقسيمَ للعمّال و الشعوب على أساس العقيدة بل توحيدها ضدّ الاستغلال و الاضطهاد. 

و لم يتردّد لينين في الدّعوة إلى قبول العمّال المتديّنين في صفوف الحزب طالما أنهم يتبنـّون برنامجه السياسي و يدافعون عنه مشدّدا على عدم توجيه أي إساءة إلى قناعاتهم الدّينيّة. لقد كان الهمّ الأوّل للينين توحيد نضال العمّال ضدّ الاستغلال الرأسمالي باعتباره العامل الذي من شأنه أن يرتقي بوعيهم و يحرّرهم من تأثيرات الكنيسة الرجعيّة. (لينين، نصوص حول الموقف من الدين، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1978).

إن هؤلاء المفكرين الاشتراكيين العظام لم يكن برنامجهم السياسي "محاربة الدين" و"نشر الإلحاد"، بل إن هدفهم لم يكن خوض معركة مجردة ومقطوعة عن الواقع ضد الدين. إن ذلك مناف لنظرتهم أصلا، التي تركز أولا وقبل كل شيء على تغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعمال والكادحين، لخلق الشروط الإنسانية لحياة لا يحتاج فيها الفقير والضعيف لأوهام دينية كي يهرب من واقعه المزري.

عودة إلى "إعلان هيئة 18 أكتوبر"

وهكذا فإن ما جاء في "الإعلان" بصدد الحجاب/الخمار سليم كما أكدنا سلفا، فلا يمكن لأي يساري، ديمقراطي، تقدمي، أن لا يندد بالقمع الذي يسلطه النظام القائم على المتحجّبات وأن لا يطالب بإلغاء المنشور عدد 108 وأن لا يواجه في نفس الوقت الدعوات السلفية الاستبدادية التي تريد إكراه الفتيات والنساء على لباس الخمار، بدعوى أنه "فريضة دينية" وأن التي لا تقوم بذلك "آثمة" ومخلة بدينها وبـ"الطهر" و"الفضيلة". 

وبالطبع ما كان بالإمكان، أن يصدر أكثر من هذا في بيان سياسي مشترك بين أطراف متعددة المشارب الفكرية والسياسية، ومن بينها طرف إسلامي، بل إنه ما كان بالإمكان إقرار أكثر من ضرورة عدم "حشر البوليس أنفه" اليوم و غدًا في ضمائر الناس. 

وهذا في حد ذاته خطوة إيجابية وهامة. ويبقى لكل طرف بطبيعة الحال حق الدفاع عن موقفه في كل جوانبه وأبعاده الأخرى و بالتالي حقنا كاشتراكيّين في نشر أفكارنا الفلسفيّة و السّياسيّة و مقارعتها بأفكار الآخرين بمختلف مشاربهم.

وقد تعدّدت كما هو معلوم ردود فعل "الإسلاميين" على "إعلان 8 مارس" ولم يتردّد بعضهم بمن فيهم عناصر من "حركة النهضة" ذاتها، في اتهام السّيّدين علي العريض وزياد الدولاتلي، القياديين النهضويين المعروفين، اللذين ساهما في بلورة "الإعلان" بـ"الانحراف عن تعاليم الدّين الإسلامي". 

ولكن هذين الأخيرين لم يتراجعا، أمام حملات الانتقاد والتشهير، وتمسكا، كما تمسكت قيادة حركتهما، بـ"الإعلان" بل إن العريض، لم يتردد في حوار صحفي، نشر على شبكة الانترنيت، في تأكيد أن الإسلام لم يحدد زيّا معينا للمسلمين والمسلمات وأن الرسول والصحابة رجالا ونساء "كانوا يلبسون لباس قومهم وعصرهم"، مضيفا "أن اللباس شأن شخصي تدخل في تحديده عند كل شخص قيمه وعاداته وسنه وذوقه وأغلب هذه العناصر متغيرة في الزمان والمكان بل وحتى متقلبة". 

ويرى العريض "أن اللباس يفترض فيه مراعاة الآداب العامة والأمن العام وفيما عدا هذين الاعتبارين فكل مواطن حر في لباسه سواء لبسه اعتقادا أو وراثة أو مجاراة". (موقع نواة – 7 أفريل 2007).

إن مزية هذا الموقف أنه يعيد مسألة الخمار إلى نصابها التاريخي، ويخرجها من بوتقة "المقدس" ليسمح بنقاشها داخل التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي وليس خارجه. ولم يتردّد الدّولاتلي من ناحيته، في حوارات عمومية، من تأكيد أن اللباس بشكل عام يندرج في إطار الحرية أي في إطار الاجتماعي/الثقافي، لا في إطار المقدس. وهذه المواقف جد هامة وهي تمثل خطوة نحو إرساء حوار جدي ومسؤول، بعيدا عن التوتر أو بالأحرى التوتير العقائدي بين مختلف مكونات الساحة الفكرية والسياسية في بلادنا.

وبطبيعة الحال لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا الموقف ليس الموقف السائد حاليا في صلب الحركة الإسلامية التونسية بما في ذلك داخل "حركة النهضة"، إذ توجد عناصر وتيارات ترفض اعتبار الحجاب/الخمار لباسا وتتمسك بأنه "فريضة". 

وهي لا تثير مسألة "الحرية" إلا بصورة انتهازية أحادية الجانب، أي عندما تكون لصالحها وتحديدا عندما يتعلق الأمر بارتكاب نظام الحكم اعتداءات على حساب المتحجّبات، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط ترفع عقيرتها بالصياح لإدانة انتهاك "حرية المتحجّبات" وتطالب الأحزاب والجمعيات باتخاذ مواقف تتهجم على الذين لا يدينون ممارسات النظام التعسفية، ولكننا لا نسمع لها صوتا يدافع عن حرية النساء اللواتي يرفضن ارتداء الخمار. كما أننا لا نسمع لها صوتا يُدين الإكراه الذي تتعرض له النساء في بلدان مثل إيران والسعودية، حيث يرتبط لباس الحجاب/الخمار بمنظومة قمعية كاملة تبدأ بتشريع تعدد الزوجات وتزويج القاصرات (9 سنوات في إيران) وتصل إلى فرض الحجاب عليهن ومعاقبة من ترفض لباسه.

ونحن ندرك أن تلك العناصر والتيارات وإن كانت اليوم عاجزة عن فرض الحجاب/الخمار على النساء بالقوة الغاشمة، لافتقارها القوة المادية فإنها لن تتردد في القيام بذلك يوم تمتلك هذه القوة علما وأنها لا تتورع اليوم عن استعمال الإرهاب الفكري من تكفير وتعهير وتهديد بسوء المصير لحمل النساء على ارتداء الخمار. 

وبالتالي فإن السيناريو الذي يتحدث عنه البعض من أن هؤلاء يريدون اليوم تمرير الحجاب/الخمار تحت غطاء الحرية لفرضه غدا بالقوة تحت غطاء الشريعة هو سيناريو حقيقي ووارد. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة، بالنسبة إلى أي ديمقراطي، تقدمي متماسك، وبالأحرى إلى أي يساري، جدير بهذه الصفة، للتخلي عن مواقفه المبدئية وغض الطرف عن القمع الذي تمارسه السلطة على الحجاب بدعوى أن التصدي له سيستفيد منه "الإسلاميون" على حساب حرية النساء وحقوقهن. إن نقد الحجاب/الخمار من الناحية الفكرية ينبغي أن يقترن بنقد الأساليب التعسفية للسلطة ورفضها، وبهذه الصورة يرسم الديمقراطي، التقدمي طريقه المستقل للنهوض بواقع النساء خاصة والمجتمع عامة. 

إن إرساء حياة ديمقراطية تتوفر فيها حرية الصراع الفكري يبقى الضامن الوحيد للسير بالمجتمع التونسي نحو الأفضل. وفي ما عدا ذلك من مواقف، سواء اتكأت على الدكتاتورية بدعوى مواجهة الخطر السلفي أو هادنت الحركات السلفية بدعوى مواجهة الدكتاتورية، فهو إن لم يُطِلْ حياة الدكتاتورية الحالية، يفتح الباب لدكتاتورية جديدة.

وخلاصة القول إن معارضة الحجاب/الخمار ينبغي أن تكون جزءا من بديل ديمقراطي تقدمي وطني شامل، يهدف إلى وضع حدّ للاستبداد في بلادنا، ويسدّ الباب أمام أي استبداد آخر مهما كان لونه، ويفتح آفاقا للشعب التونسي بأسره وللنساء خصوصا ويخلصهن من كافة أشكال الاستلاب الفكري والاقتصادي والسياسي ويجعل منهم سيّدات مصيرهن وأجسادهن وذواتهن المعنوية، ومن المؤكد أنه يوم يتحقق كل هذا للنساء التونسيات فإنهن سيتخلّيْن طواعية عن الخمار، ولكن أيضا عن كل أشكال اللباس التي تشيّؤهنّ، وستنظرن إلى ذلك على أنه مجرد ذكريات تنتمي إلى عصور "الوحشية". وفي انتظار ذلك وطالما أن الاستبداد ولاَزِماته من استغلال وفساد وتبعية، ما يزال قائما فإن مكتسبات المجتمع العلمانية ستظل هشة وقابلة للتراجع في أي لحظة.

إنّ حزب العمّال لا يتوجّه في دعايته و نشاطه العملي إلى صنف معيّن من النساء بل إلى كافـّة بنات الشعب التونسي اللواتي يتعرّضن للتمييز و الاستغلال والاضطهاد بهدف توحيدهنّ ضدّ عدوّهنّ المشترك و تخليصهنّ من براثنه، وهو لا يميّز بين سافرة أو متحجّبة لإيمانه العميق بأنّ محاولات تقسيم النساء على أساس عقائديّ يديم استعبادهنّ ولا يخدم سوى مصلحة الاستبداد ويلهيهنّ عن النضال ضدّه.

حمّه الهمّامي، صائفة 2007