استلاب الحجاب لا يبرّر قمع المتحجبات : حمة الهمامي صائفة 2007
و لكن أن يكون ذلك هو المغزى الموضوعي للحجاب، فهو لا يمثل مبرّرا لمنع الفتيات والنساء من ارتدائه وإكراههن على نزعه أو حرمانهن، في صورة تشبثهن به، من حقوقهن الأساسية كالذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو إلى مراكز العمل من إدارة ومؤسسات عمومية.
إن هذا الموقف القسري، التعسفي، يتعارض مع المبدأ العلماني القاضي باحترام حرية العقيدة. فمهما كان الحجاب/الخمار مهينا من الناحية الموضوعية للمرأة، فإنه توجد من المتحجّبات من تعتقد أنه "فريضة" و"جزء من العقيدة".
كما أن من بينهن من ترى فيه "جزءا من شخصيتها الإسلامية". وهذا الموقف الشخصي لا يمكن معالجته بالقمع، إذ لا يجوز قمع النساء المتحجّبات بدعوى أن ذلك من "مصلحتهن" وفيه "دفاع عن تحررهن" ويهدف إلى "إنقاذهن من الاستعباد الذاتي" أو من "استعباد الرجل والمجتمع".
إن القمع لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتحرير الإنسان من الأوهام الدينية أو من الخرافات والأساطير التي تتخذ طابعا عقديا.
لأن القناعات سواء كانت دينية أو إيديولوجية لا تتغير إلا بالنقاش والإقناع، بل لا تتغير إلا إذا توفرت الأرضية الاجتماعية والثقافية المناسبة التي تجعل المعنيات أو المعنيين يقتنعون بأن القناعات الجديدة تمكنهم من تحقيق ذواتهم.
والمرأة التي تلبس اليوم الحجاب/الخمار يمكن أن تتخلى عنه غدا إذا اقتنعت بأنه لا يلائمها وأنه مناف لحريتها وتحررها. أما القمع فيولـّد الخوف، ولا يخلق قناعات جديدة، بل على العكس من ذلك، يعمّق العقائد والقناعات القديمة التي تبقى تنتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسها بشكل مكثف أكثر من ذي قبل.
وليس أدلّ على ذلك من الواقع في تونس. فمنذ أواسط الثمانينات ونظام الحكم يشن الحملة تلو الحملة على المتحجّبات، ومع ذلك فإن عددهن لم يقل، بل أكدت التجربة أنه ما أن يتراجع القمع حتى تعود الظاهرة إلى البروز.
و إذا كانت في وقت من الأوقات لا تستقطب سوى أتباع التيار الإسلامي، فإنها منذ وقت معيّن تجاوزت هذا المدى لتشمل العديد من الفتيات والنساء اللواتي لا علاقة لهن بهذا التيار. وهكذا أصبح لباس الخمار ظاهرة اجتماعية وثقافية.
ولابد من الإشارة إلى أن مقاومة السلطة للخمار لا تنطلق من نظرة تُدافع عن حرية النساء وحقوقهن ولكنها تكرّس صراعا مع خصم سياسي يهدّد هيمنتها على الحياة العامة والمجتمع، ناهيك أن بن علي لا يرفض الحجاب بشكل عام ولكنه يرفض شكله المرتبط بالتيار الإسلامي.
ولم يتردد في أكثر من مناسبة إلى الدعوة إلى العودة إلى أشكال الحجاب الأخرى كـ "السفساري" و"البخنوق" الخ... هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السلطة لم تتوان عن منع مناقشة الظاهرة في الفضاءات العمومية وفي وسائل الإعلام بمشاركة الأحزاب والجمعيات والمنظمات المهنية والثقافية وخاصة منها المنظمات النسائية، والسبب في ذلك أن ما يهمّها أوّلا وقبل كل شيء هو مواصلة احتكار الحياة العامة وسدّ الباب أمام أي إمكانية للنقاش الحر.
إنّ مقارنة الدفاع عن الحجاب/الخمار كجزء من الحرية الذاتية بالدفاع عن العبودية أو "الانتحار" لتبرير منعه، هو من قبيل المقارنات الخرقاء.
فلباس الخمار، طالما أنه اختيار شخصي، يمثل سلوكا فرديا، لا يحتمل الاعتداء على أي شخص آخر. في حين أن الاستعباد يمثل جريمة على حساب شخص آخر لما يُلحقه به من أذى مادي ومعنوي ويكرهه عليه من خضوع ويحرمه من التمتع بالحقوق، وفي حالة كهذه ينبغي أن يتدخل القانون لمنع الاستعباد منعا تاما، سواء كان ذلك في الفضاء الخاص أو في الفضاء العام.
ولو كان لباس الخمار كالاستعباد، فلماذا يطالب أصحاب هذه المواقف بتحريمه في الفضاءات العمومية فحسب؟ هل يعقل أن تُحرَّم جريمة ما في فضاء معيّن وتباح في فضاء آخر؟
أليست الجريمة جريمة مهما كان المكان الذي تُرتكب فيه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الانتحار، فالتشجيع عليه جريمة مهما كان المكان، وهو جريمة لأن فيه ضررا لا رجعة فيه لشخص آخر.
بينما الأمر يختلف بالنسبة إلى الخمار كما قلنا، فمتحجبة اليوم يمكن أن تكون سافرة الغد. و هو ما نلحظه في محيطنا، إذ أن العديد من الفتيات نزعن خُمُرهن بعد ارتدائها مدة معينة نتيجة تحوّل في قناعاتهن.
ومن نافل القول إن لباس الحجاب/الخمار يكفّ عن أن يكون حرية شخصية إذا كان ناجما عن إكراه، لأن الإكراه يمثل اعتداءً على تلك الحرية.
وإذا كان للقانون أن يتدخل، في نظام ديمقراطي تُضمن فيه الحريات الفردية، ففي هذا المستوى، وذلك لمنع الإكراه وتجريمه ومعاقبة مرتكبيه صيانة للحرية الشخصية.
وفي مناخ كهذا فقط، يمكن أن تتوفر للفتيات والنساء إمكانية اختيار لباسهن بحرية، وفقا لقناعاتهن الشخصية وهن يعرفن أنه بإمكانهن اللجوء إلى القانون إذا حاول طرف ما إرغامهن على ارتداء هذا اللباس أو ذاك.
أما على المستوى الفكري فالأمر يختلف. إن الديمقراطي، التقدمي، المتماسك فكرا وممارسة، الذي يتصدّى سياسيا لقمع المتحجّبات ويندد به ويدافع عن حريتهن الشخصية، طالما أنهن يعتبرن ارتداء الخمار قناعة أو "عقيدة"، إن هذا الديمقراطي من حقه، بل من واجبه أن يخوض معركة مبدئية وعميقة ضد هذا اللباس لإبراز المضامين الرجعية للمنظومة القيميّة و الاجتماعية التي يندرج ضمنها و التي تستنقص المرأة.
وهذه المعركة ينبغي له أن يخوضها بأسلحة فكرية وفكرية فقط، بعيدا عن كل إرهاب إيديولوجي، لأن العلمانية، كما بيّنا، فضاء للمساعدة على الحوار/النقاش الحر والديمقراطي.
هل المنشور 108 من "صميم العلمانية والديمقراطية"؟
بودّنا هنا أن نتطرق إلى موضوع المنشور 108 الذي يمنع لباس الخمار في المؤسسة التعليمية والذي رأى فيه صاحب الكراس إجراء من صميم الديمقراطية بدعوى أنه يدافع عن العلمانية.
وقبل الخوض في لبّ الموضوع لا بد من الإشارة إلى أن هذا المنشور لا يمكن أن يكون حتى في شكله من صميم الديمقراطية لأن الحياة العامة لا تـُنـَظـّمُ بمناشير صادرة عن هذا الوزير أو ذاك بل بقوانين صادرة بعد نقاش وغير منافية للدستور وتأتي المناشير بعد ذلك لتيسير التنفيذ ليس إلاّ.
أمّا واقع الحال هنا فإنه يتعلق بمنشور متـّصل بوجه من أوجه الحياة العامة الذي يثير إشكالات جدّيّة تمَسّ مسألة الحرية الشخصية، وقد صدر دون أن يحظى بنقاش حتى داخل البرلمان الصوري التونسي. وهو ما يؤكد طابعه التعسفي والتسلطي حتى من الناحية الشكلية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما معنى أن تكون المؤسسة التعليمية علمانية؟ و هل أن منع التلميذات من لباس الخمار هو أحد مظاهر تلك العلمانية؟ لا نعتقد ذلك، لأن التلاميذ مهما كانت قناعاتهم الفكرية والدينية من حقهم أن يؤمّوا المدرسة أو الجامعة وليسوا مطالبين بأن يكونوا علمانيين أو متدينين أو يساريين أو قوميين...
والخمار، إذا كان ناجما عن قناعة أو عقيدة فمن حق التلميذة لباسه. وليس التلميذ(ة) والطالب(ة) مطالبا بأكثر من احترام الدرس وعدم التحريض على مدرِّسه أو ترهيب زملائه وزميلاته واستفزازهم والاعتداء على كرامتهم لأسباب عقائدية أو أتنية أو ثقافية.
إن المؤسسة التعليمية هي المطالبة، في نظام ديمقراطي، عصري، بأن تكون علمانية وهذه العلمانية تهم إطار التدريس الذي عليه أن يقوم بالدرس دون استفزاز لعقيدة أو عقائد تلاميذه، كما تهم البرامج الدراسية التي ينبغي أن تنبني على حرية البحث والمعرفة وعدم إخضاعها لأي قيد لأسباب عقدية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك عدم تدريس الأديان مثلا، فهذا المفهوم ليس علمانيا بالضرورة أو لا يمكن حصر العلمانية فيه، إذ أن تدريس الأديان دراسة تاريخية، موضوعية، هو من صميم العلمانية، وبإمكان هذا النوع من التدريس تنسيب الأمور ونشر ثقافة التسامح، بل الاحترام بين أصحاب الأديان والعقائد المختلفة، وحتى غير المؤمن لأسباب فلسفية، فلا تضيره دراسة الأديان بهذه الطريقة لأنها تندرج ضمن المعرفة.
وأخيرا، فإن الفضاء المدرسي ينبغي أن يبقى فضاءً للعلم والمعرفة ولا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يوظَّف لأغراض دينية تخل بوظيفته هذه.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن منع الفتاة من الذهاب إلى المدرسة بسبب ارتدائها الحجاب/الخمار لا يخدم مصلحتها ولا يساعدها على الإنعتاق في شيء، لأن هذا المنع سيعيدها إلى البيت لتعيش بين أربعة جدران حيث تكون عرضة لشتى الضغوط من أفراد العائلة، الذكور منهم خاصة. وفي المقابل فإن بقاءها بالمدرسة أو الجامعة يفسح لها المجال كي تنمّي قدراتها على التفكير والتمييز والنقد وهو ما يساعدها على تكوين شخصيتها وتصليبها ويخلق لديها القدرة على التمرد على أغلالها.
هذا هو المناخ السليم الذي ينبغي توفيره للفتاة المتحجبة سواء عن قناعة شخصية أو مكرهة، كي تتفتق طاقاتها. أما أن تـُعتبر هذه الفتاة ضحية (للأب أو الأخ أو العم أو الخال أو..) وتـُعاقَب في نفس الوقت بالطرد من المدرسة أو الجامعة بدعوى مساعدتها على تحرير نفسها، فذلك ما لا يقبله عقل، بل ذلك ما لا علاقة له بالعلمانية التي هي رديف الحرية. (انظر حول هذه القضية السجال الذي دار في فرنسا بمناسبة ما سمي بـ"قضية الخمار" سنة 2003. ومن بين المنشورات المهمة في هذا الصدد كتاب: Le Foulard Islamique En Questions- مجموعة نصوص صادرة عن دار أمستردام للنشر – باريس 2004).
أزمة المؤسّسة التعليمية ليس سببها الخمار
وفوق ذلك كله، فهل أن المؤسسة التعليمية في تونس ليس لها من خطر تواجهه إلا لباس الخمار؟ لا بالطبع. إننا نعتقد أن الضجيج الذي أُقيم حول هذه المسألة وأن القمع الذي سُلط على المتحجّبات ليس سوى وسيلة لطمس المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها هذه المؤسسة (وتتخبط فيها البلاد بأكملها) و عجز نظام الحكم عن إيجاد الحلول لها بل إمعانه في مفاقمتها.
إن نظام بن علي خرّب المؤسسة التعليمية في بلادنا. فقد أخضعها بالكامل لمشاريع الدول والمؤسسات المالية الأجنبية التي فرضت خوصصتها وحولتها إلى خادم لمصالح الرأسمال المتقلبة، ونزعت عنها دورها الاستراتيجي في تطوير المعارف والعلوم والحفاظ على الهوية الوطنية وإثرائها والمساهمة في النهوض بالمجتمع والبلاد.
كما أنه أفرغ البرامج الدراسية في كافة المستويات مما ينمي الروح النقدية لدى المتعلم وحرم التلميذ والطالب من حرية الرأي والتعبير وأخضع المؤسسات التعليمية للمراقبة المباشرة للبوليس السياسي وضرب الحريات الأكاديمية في العمق وحوّل الأساتذة والباحثين إلى مجرد ملقنين، ومنع البارزين منهم المتشبثين باستقلالهم من مواصلة التدريس والبحث بالجامعة حال بلوغهم سن التقاعد (60 سنة).
ألم يكن أحرى بأصحاب هذه المواقف أن يجعلوا هذه المسألة على رأس اهتماماتهم، لو كانوا حقّا غيورين على المؤسسة التعليمية وعلى دورها التنويري؟ أليس ما تتعرض له من سياسات بن علي هو أخطر بكثير من ارتداء جزء من التلميذات الخمار؟
و إلى ذلك فإن كانوا حقـّا غيورين على المكتسبات العلمانية للمجتمع التونسي، أليس أحرى بهم، عوض المطالبة بقانون جديد لقمع المحجّبات العاملات في الإدارات العمومية، التركيز على مقاومة الاستغلال الفاحش والفساد المستشري والاستبداد والنهب الامبريالي للبلاد والتصحّر الثقافي وما تُولّده كل هذه المظاهر من فقر وإملاق وتجهيل وشعور بالمهانة في صفوف الطبقات والفئات الفقيرة وهو ما يدفع بأقسام منها إلى البحث عن الخلاص في العودة إلى الماضي. أليس الخطر الحقيقي على المكاسب العلمانية يجد قاعدته في هذا الواقع المزري؟ أليس اللجوء إلى القمع في معالجة ظاهرة الحجاب (والظاهرة السلفية بشكل عام) وسيلة لطمس هذا الواقع ومسؤولية نظام الحكم فيه؟
إن المراهنة على النظام القائم للدفاع عن مكاسب المجتمع العلمانية وتطويرها وصيانتها هي مراهنة خاسرة مسبقا لأن الدكتاتورية تعرض المكاسب للتدمير والتلاشي وتجرد المجتمع من وسائل الدفاع عن نفسه. وليس أدل على ذلك من توظيف نظام بن علي للدين لتشريع استبداده و تشجيعه الزوايا والكتاتيب وبعث "فرق الدعوة والتبليغ" المرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية وإطلاق العنان للشعوذة والمشعوذين وإنشاء إذاعة "الزيتونة" لإظهار العائلة الحاكمة بمظهر الراعية للدين وتغطية ضلوع أفرادها في الفساد الاقتصادي والمالي.
كل ذلك في الوقت الذي يُحاصَر فيه أصحاب الرأي الحر والمثقفون والمبدعون الجادون الذين يرفضون بيع ذمتهم.
إن مطالبة اليساريين والتقدميين بمساندة بن علي في منع الخمار وقمع المتحجّبات بدعوى الحفاظ على المكتسبات العلمانية إنما هو محاولة لتحويل اليسار إلى مجرد ذيل للدكتاتورية ومسوغ لقمعها وعسفها. وهو ما يعرض مستقبل العلمانية ذاتها للمخاطر في بلادنا.
إن العلمانية كمنظومة ليست قائمة في تونس، بل إن ما هو موجود لا يعدو أن يكون علمانية مشوهة و أن الادعاء بأنها موجودة وأن المطلوب "استكمالها" يجعل منها أي العلمانية رديفا للقمع والاستبداد.
إن العلمانية بمعناها الصحيح، أي بوصفها رديفا للحرية ما تزال مشروعا للتحقيق في بلادنا، لأن العلمانية لا يمكن أن تترعرع إلا في مجتمع ديمقراطي، حيث تكون هي إحدى ركائز هذه الحرية وتلك الديمقراطية.
إن الاستقواء بالقمع الإداري والبوليسي والتوهم بأن ذلك كفيل بتعديل ميزان قوى سياسي راجح راهنا لصالح القوى السلفية في العالم العربي والإسلامي، بدل التعاطي الفكري مع المسألة وخوض الصراع في صفوف النخب والجماهير بنفس طويل ورؤية واسعة الأفق من أجل إحداث النقلة الحقيقية في الأذهان وفي ميزان القوى، إن ذلك تعبير صارخ عن ضيق أفق البورجوازي الصغير وقلة صبره أمام الصعوبات.
ومهما يكن من أمر علينا أن ندرك أنه ما من جواب علماني في مجتمعنا على الأطروحات السلفية والظلامية خارج النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية وهي كلها محاور تؤدي بالضرورة إلى النضال ضد الدكتاتورية القائمة. وكما أكدنا أكثر من مرة، فإن سدّ الباب أمام الاستبداد باسم الدين يقتضي إعطاء المثال اليوم في مقاومة الاستبداد النوفمبري لا التواطؤ معه أو مجاملته.
الاشتراكية والحرية الدينية
إن الذين يَعْرِفون التراث الاشتراكي يدركون أن مَن وضعوه وطوّروه لم يدافعوا، خلافا لما تدعيه بعض الأطراف "اليسارية"، عن الأساليب الإدارية القمعية في التعامل مع القضايا العقدية. فـ كارل ماركس وفريدريك أنجلس مؤسّسا الاشتراكية العلمية ناهضا بشدة التطرف اللاديني أو الإلحادي لما فيه من ضرر بقضية العمال والكادحين.
إن ماركس الذي دعا الاشتراكيين إلى النضال من أجل تحرير العمال من الأوهام الدينية التي تستغلها البورجوازية لتحملهم على قبول واقعهم المزري والتخلي عن السعادة في دنياهم في انتظار "سعادة الآخرة" التي يُقال لهم إنها ستعوّض لهم بؤسهم الدنيوي، دافع بحزم عن حرية الضمير مؤكدا أنه "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يُلـَبـّيَ حاجاته الدينية والجسدية(الطقوس– من عندنا) على السّواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع" (كارل ماركس- نقد برنامج غوته). و هذا هو معنى أن يكون الدين "قضيّة خاصة بالنسبة إلى الدولة"، لا تتدخل فيه و لا تفرض شكلا من أشكال العقائد أو القناعات على مواطنيها.
أما أنجلس الذي كتب الكثير حول الدين وحول الحركات الدينية عبر التاريخ، فإنه سَخـَرَ أيّما سخرية وهو بصدد الرد على الفوضوية والفوضويين الذين يمثلون الترجمة المكثفة للنفسية البرجوازية الصغيرة التي تخفي عجزها بالبريق الراديكالي، سخر من أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على إلغاء الدين من حياة الناس وفرض الإلحاد بمجرد قرار فوقي، مبينا أنه بإمكان المرء أن يُسطـّر ما يريد على الورق دون أن يجد ذلك طريقه إلى التنفيذ، وأن القرارات التعسّفية هي أحسن وسيلة لتقوية القناعات الغيبية.
وفي نفس الإطار انتقد أنجلس بشدة قوانين بيسمارك التي سنـّها في إطار ما سُمّي "النضال الثقافي" للتضييق على الحزب الكاثوليكي الألماني بواسطة القمع البوليسي للكاثوليكية والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ بل عُلّقت ثم أُلغيت لطابعها الفوقي التعسّفي، علما وأنها لم تفعل شيئا سوى توطيد الإكليريكيّة الكاثوليكية وإنزال الضرر بقضية الثقافة الفعلية أي الثقافة التقدّميّة التي ترتقي بوعي الشعب (أنجلس، نصوص حول الدين. ص 142 – المنشورات الاجتماعية، فرنسا 1972).
لقد اعتبر أنجلس هذا التمشـّي الإداري خطيرا لأنه "يبرز إلى السّطح الانقسامات الدّينيّة بدلا من الانقسامات السّياسيّة و يصرف انتباه فئات من الطبقة العاملة وعناصر ديمقراطية أخرى بعيدا عن المهامّ الجوهريّة للصراع الطبقي والثوري نحو عداء الإكليريكيّة السطحي جدّا و الكاذب بشكل بورجوازيّ جدّا" (لينين، نصوص حول الموقف من الدّين، ص 100-101، دار الطليعة، بيروت،1978).
وبناء على هذا الموقف المادّي الجدلي، ناضل أنجلس كما ناضل الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان في أواخر القرن التاسع عشر من أجل إلغاء كلّ التدابير الزجريّة البوليسيّة ضدّ أيّ دين من الأديان في نفس الوقت الذي كانوا يشرحون فيه للعمّال الجذور التاريخيّة و الاجتماعيّة لهذه الأديان و ينبّهونهم إلى دور الكنيسة في محاولة إخضاعهم للاستغلال و إلهائهم عن النضال ضدّه.
وكان أوغـست بيبل الزعيم الاشتراكي الألماني سَخـَرَ من التطرف اللاديني ونفى أن تكون له صلة بالاشتراكية العلمية واصفا النزعة المتطرفة في معاداة الأكليروس (anti-cléricalisme) بأنها "اشتراكية البورجوازية الصغيرة" باعتبارها تعزل الدين عن قاعدته الاجتماعية وتحاربه بصورة تبشيريّة تجريدية موضحا أن الخطاب المتطرف ضد الدين لا يعني بالضرورة أنه الخطاب القادر على تخليص الجماهير الكادحة من الأوهام الدينية، بل إنه خطاب بورجوازي راديكالي يترجم عن فكرة سطحيّة تزعم أنّ الفكر و الثقافة يفعلان فعلهما بواسطة نفسيهما و ليس من خلال الصراع الطبقي الملموس.
وقد انتقد لينين في كتاباته السياسية انتقادا لاذعا دور الكنيسة في مساندة الاستبداد القيصري وبث الأوهام الدينية الرجعية في صفوف العمال والفلاحين حتى يقبلوا بواقعهم المزري ويتخلوا عن النضال من أجل تغييره كي يكدّس الملاكون العقاريون وأصحاب المصانع الثروات على حسابهم و دعا إلى مقاومة تلك الأوهام، ولكنه كان في الآن نفسه حازما بخصوص الأسلوب الذي ينبغي اتـّباعه في هذه المقاومة: لا حربَ سياسيّة على الدّين بل حربًا على الاستغلال الرأسمالي الذي تكمن فيه الجذور الاجتماعيّة للأوهام الدّينيّة، ولا قمعَ بوليسيًّا للأديان و القناعات بل الحريّة لها جميعًا، ولا صراعَ مع العقائد المختلفة إلا بالأسلحة الفكريّة المحظة، ولا تقسيمَ للعمّال و الشعوب على أساس العقيدة بل توحيدها ضدّ الاستغلال و الاضطهاد.
و لم يتردّد لينين في الدّعوة إلى قبول العمّال المتديّنين في صفوف الحزب طالما أنهم يتبنـّون برنامجه السياسي و يدافعون عنه مشدّدا على عدم توجيه أي إساءة إلى قناعاتهم الدّينيّة. لقد كان الهمّ الأوّل للينين توحيد نضال العمّال ضدّ الاستغلال الرأسمالي باعتباره العامل الذي من شأنه أن يرتقي بوعيهم و يحرّرهم من تأثيرات الكنيسة الرجعيّة. (لينين، نصوص حول الموقف من الدين، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1978).
إن هؤلاء المفكرين الاشتراكيين العظام لم يكن برنامجهم السياسي "محاربة الدين" و"نشر الإلحاد"، بل إن هدفهم لم يكن خوض معركة مجردة ومقطوعة عن الواقع ضد الدين. إن ذلك مناف لنظرتهم أصلا، التي تركز أولا وقبل كل شيء على تغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعمال والكادحين، لخلق الشروط الإنسانية لحياة لا يحتاج فيها الفقير والضعيف لأوهام دينية كي يهرب من واقعه المزري.
عودة إلى "إعلان هيئة 18 أكتوبر"
وهكذا فإن ما جاء في "الإعلان" بصدد الحجاب/الخمار سليم كما أكدنا سلفا، فلا يمكن لأي يساري، ديمقراطي، تقدمي، أن لا يندد بالقمع الذي يسلطه النظام القائم على المتحجّبات وأن لا يطالب بإلغاء المنشور عدد 108 وأن لا يواجه في نفس الوقت الدعوات السلفية الاستبدادية التي تريد إكراه الفتيات والنساء على لباس الخمار، بدعوى أنه "فريضة دينية" وأن التي لا تقوم بذلك "آثمة" ومخلة بدينها وبـ"الطهر" و"الفضيلة".
وبالطبع ما كان بالإمكان، أن يصدر أكثر من هذا في بيان سياسي مشترك بين أطراف متعددة المشارب الفكرية والسياسية، ومن بينها طرف إسلامي، بل إنه ما كان بالإمكان إقرار أكثر من ضرورة عدم "حشر البوليس أنفه" اليوم و غدًا في ضمائر الناس.
وهذا في حد ذاته خطوة إيجابية وهامة. ويبقى لكل طرف بطبيعة الحال حق الدفاع عن موقفه في كل جوانبه وأبعاده الأخرى و بالتالي حقنا كاشتراكيّين في نشر أفكارنا الفلسفيّة و السّياسيّة و مقارعتها بأفكار الآخرين بمختلف مشاربهم.
وقد تعدّدت كما هو معلوم ردود فعل "الإسلاميين" على "إعلان 8 مارس" ولم يتردّد بعضهم بمن فيهم عناصر من "حركة النهضة" ذاتها، في اتهام السّيّدين علي العريض وزياد الدولاتلي، القياديين النهضويين المعروفين، اللذين ساهما في بلورة "الإعلان" بـ"الانحراف عن تعاليم الدّين الإسلامي".
ولكن هذين الأخيرين لم يتراجعا، أمام حملات الانتقاد والتشهير، وتمسكا، كما تمسكت قيادة حركتهما، بـ"الإعلان" بل إن العريض، لم يتردد في حوار صحفي، نشر على شبكة الانترنيت، في تأكيد أن الإسلام لم يحدد زيّا معينا للمسلمين والمسلمات وأن الرسول والصحابة رجالا ونساء "كانوا يلبسون لباس قومهم وعصرهم"، مضيفا "أن اللباس شأن شخصي تدخل في تحديده عند كل شخص قيمه وعاداته وسنه وذوقه وأغلب هذه العناصر متغيرة في الزمان والمكان بل وحتى متقلبة".
ويرى العريض "أن اللباس يفترض فيه مراعاة الآداب العامة والأمن العام وفيما عدا هذين الاعتبارين فكل مواطن حر في لباسه سواء لبسه اعتقادا أو وراثة أو مجاراة". (موقع نواة – 7 أفريل 2007).
إن مزية هذا الموقف أنه يعيد مسألة الخمار إلى نصابها التاريخي، ويخرجها من بوتقة "المقدس" ليسمح بنقاشها داخل التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي وليس خارجه. ولم يتردّد الدّولاتلي من ناحيته، في حوارات عمومية، من تأكيد أن اللباس بشكل عام يندرج في إطار الحرية أي في إطار الاجتماعي/الثقافي، لا في إطار المقدس. وهذه المواقف جد هامة وهي تمثل خطوة نحو إرساء حوار جدي ومسؤول، بعيدا عن التوتر أو بالأحرى التوتير العقائدي بين مختلف مكونات الساحة الفكرية والسياسية في بلادنا.
وبطبيعة الحال لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا الموقف ليس الموقف السائد حاليا في صلب الحركة الإسلامية التونسية بما في ذلك داخل "حركة النهضة"، إذ توجد عناصر وتيارات ترفض اعتبار الحجاب/الخمار لباسا وتتمسك بأنه "فريضة".
وهي لا تثير مسألة "الحرية" إلا بصورة انتهازية أحادية الجانب، أي عندما تكون لصالحها وتحديدا عندما يتعلق الأمر بارتكاب نظام الحكم اعتداءات على حساب المتحجّبات، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط ترفع عقيرتها بالصياح لإدانة انتهاك "حرية المتحجّبات" وتطالب الأحزاب والجمعيات باتخاذ مواقف تتهجم على الذين لا يدينون ممارسات النظام التعسفية، ولكننا لا نسمع لها صوتا يدافع عن حرية النساء اللواتي يرفضن ارتداء الخمار. كما أننا لا نسمع لها صوتا يُدين الإكراه الذي تتعرض له النساء في بلدان مثل إيران والسعودية، حيث يرتبط لباس الحجاب/الخمار بمنظومة قمعية كاملة تبدأ بتشريع تعدد الزوجات وتزويج القاصرات (9 سنوات في إيران) وتصل إلى فرض الحجاب عليهن ومعاقبة من ترفض لباسه.
ونحن ندرك أن تلك العناصر والتيارات وإن كانت اليوم عاجزة عن فرض الحجاب/الخمار على النساء بالقوة الغاشمة، لافتقارها القوة المادية فإنها لن تتردد في القيام بذلك يوم تمتلك هذه القوة علما وأنها لا تتورع اليوم عن استعمال الإرهاب الفكري من تكفير وتعهير وتهديد بسوء المصير لحمل النساء على ارتداء الخمار.
وبالتالي فإن السيناريو الذي يتحدث عنه البعض من أن هؤلاء يريدون اليوم تمرير الحجاب/الخمار تحت غطاء الحرية لفرضه غدا بالقوة تحت غطاء الشريعة هو سيناريو حقيقي ووارد. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة، بالنسبة إلى أي ديمقراطي، تقدمي متماسك، وبالأحرى إلى أي يساري، جدير بهذه الصفة، للتخلي عن مواقفه المبدئية وغض الطرف عن القمع الذي تمارسه السلطة على الحجاب بدعوى أن التصدي له سيستفيد منه "الإسلاميون" على حساب حرية النساء وحقوقهن. إن نقد الحجاب/الخمار من الناحية الفكرية ينبغي أن يقترن بنقد الأساليب التعسفية للسلطة ورفضها، وبهذه الصورة يرسم الديمقراطي، التقدمي طريقه المستقل للنهوض بواقع النساء خاصة والمجتمع عامة.
إن إرساء حياة ديمقراطية تتوفر فيها حرية الصراع الفكري يبقى الضامن الوحيد للسير بالمجتمع التونسي نحو الأفضل. وفي ما عدا ذلك من مواقف، سواء اتكأت على الدكتاتورية بدعوى مواجهة الخطر السلفي أو هادنت الحركات السلفية بدعوى مواجهة الدكتاتورية، فهو إن لم يُطِلْ حياة الدكتاتورية الحالية، يفتح الباب لدكتاتورية جديدة.
وخلاصة القول إن معارضة الحجاب/الخمار ينبغي أن تكون جزءا من بديل ديمقراطي تقدمي وطني شامل، يهدف إلى وضع حدّ للاستبداد في بلادنا، ويسدّ الباب أمام أي استبداد آخر مهما كان لونه، ويفتح آفاقا للشعب التونسي بأسره وللنساء خصوصا ويخلصهن من كافة أشكال الاستلاب الفكري والاقتصادي والسياسي ويجعل منهم سيّدات مصيرهن وأجسادهن وذواتهن المعنوية، ومن المؤكد أنه يوم يتحقق كل هذا للنساء التونسيات فإنهن سيتخلّيْن طواعية عن الخمار، ولكن أيضا عن كل أشكال اللباس التي تشيّؤهنّ، وستنظرن إلى ذلك على أنه مجرد ذكريات تنتمي إلى عصور "الوحشية". وفي انتظار ذلك وطالما أن الاستبداد ولاَزِماته من استغلال وفساد وتبعية، ما يزال قائما فإن مكتسبات المجتمع العلمانية ستظل هشة وقابلة للتراجع في أي لحظة.
إنّ حزب العمّال لا يتوجّه في دعايته و نشاطه العملي إلى صنف معيّن من النساء بل إلى كافـّة بنات الشعب التونسي اللواتي يتعرّضن للتمييز و الاستغلال والاضطهاد بهدف توحيدهنّ ضدّ عدوّهنّ المشترك و تخليصهنّ من براثنه، وهو لا يميّز بين سافرة أو متحجّبة لإيمانه العميق بأنّ محاولات تقسيم النساء على أساس عقائديّ يديم استعبادهنّ ولا يخدم سوى مصلحة الاستبداد ويلهيهنّ عن النضال ضدّه.
حمّه الهمّامي، صائفة 2007
إن هذا الموقف القسري، التعسفي، يتعارض مع المبدأ العلماني القاضي باحترام حرية العقيدة. فمهما كان الحجاب/الخمار مهينا من الناحية الموضوعية للمرأة، فإنه توجد من المتحجّبات من تعتقد أنه "فريضة" و"جزء من العقيدة".
كما أن من بينهن من ترى فيه "جزءا من شخصيتها الإسلامية". وهذا الموقف الشخصي لا يمكن معالجته بالقمع، إذ لا يجوز قمع النساء المتحجّبات بدعوى أن ذلك من "مصلحتهن" وفيه "دفاع عن تحررهن" ويهدف إلى "إنقاذهن من الاستعباد الذاتي" أو من "استعباد الرجل والمجتمع".
إن القمع لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتحرير الإنسان من الأوهام الدينية أو من الخرافات والأساطير التي تتخذ طابعا عقديا.
لأن القناعات سواء كانت دينية أو إيديولوجية لا تتغير إلا بالنقاش والإقناع، بل لا تتغير إلا إذا توفرت الأرضية الاجتماعية والثقافية المناسبة التي تجعل المعنيات أو المعنيين يقتنعون بأن القناعات الجديدة تمكنهم من تحقيق ذواتهم.
والمرأة التي تلبس اليوم الحجاب/الخمار يمكن أن تتخلى عنه غدا إذا اقتنعت بأنه لا يلائمها وأنه مناف لحريتها وتحررها. أما القمع فيولـّد الخوف، ولا يخلق قناعات جديدة، بل على العكس من ذلك، يعمّق العقائد والقناعات القديمة التي تبقى تنتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسها بشكل مكثف أكثر من ذي قبل.
وليس أدلّ على ذلك من الواقع في تونس. فمنذ أواسط الثمانينات ونظام الحكم يشن الحملة تلو الحملة على المتحجّبات، ومع ذلك فإن عددهن لم يقل، بل أكدت التجربة أنه ما أن يتراجع القمع حتى تعود الظاهرة إلى البروز.
و إذا كانت في وقت من الأوقات لا تستقطب سوى أتباع التيار الإسلامي، فإنها منذ وقت معيّن تجاوزت هذا المدى لتشمل العديد من الفتيات والنساء اللواتي لا علاقة لهن بهذا التيار. وهكذا أصبح لباس الخمار ظاهرة اجتماعية وثقافية.
ولابد من الإشارة إلى أن مقاومة السلطة للخمار لا تنطلق من نظرة تُدافع عن حرية النساء وحقوقهن ولكنها تكرّس صراعا مع خصم سياسي يهدّد هيمنتها على الحياة العامة والمجتمع، ناهيك أن بن علي لا يرفض الحجاب بشكل عام ولكنه يرفض شكله المرتبط بالتيار الإسلامي.
ولم يتردد في أكثر من مناسبة إلى الدعوة إلى العودة إلى أشكال الحجاب الأخرى كـ "السفساري" و"البخنوق" الخ... هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السلطة لم تتوان عن منع مناقشة الظاهرة في الفضاءات العمومية وفي وسائل الإعلام بمشاركة الأحزاب والجمعيات والمنظمات المهنية والثقافية وخاصة منها المنظمات النسائية، والسبب في ذلك أن ما يهمّها أوّلا وقبل كل شيء هو مواصلة احتكار الحياة العامة وسدّ الباب أمام أي إمكانية للنقاش الحر.
إنّ مقارنة الدفاع عن الحجاب/الخمار كجزء من الحرية الذاتية بالدفاع عن العبودية أو "الانتحار" لتبرير منعه، هو من قبيل المقارنات الخرقاء.
فلباس الخمار، طالما أنه اختيار شخصي، يمثل سلوكا فرديا، لا يحتمل الاعتداء على أي شخص آخر. في حين أن الاستعباد يمثل جريمة على حساب شخص آخر لما يُلحقه به من أذى مادي ومعنوي ويكرهه عليه من خضوع ويحرمه من التمتع بالحقوق، وفي حالة كهذه ينبغي أن يتدخل القانون لمنع الاستعباد منعا تاما، سواء كان ذلك في الفضاء الخاص أو في الفضاء العام.
ولو كان لباس الخمار كالاستعباد، فلماذا يطالب أصحاب هذه المواقف بتحريمه في الفضاءات العمومية فحسب؟ هل يعقل أن تُحرَّم جريمة ما في فضاء معيّن وتباح في فضاء آخر؟
أليست الجريمة جريمة مهما كان المكان الذي تُرتكب فيه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الانتحار، فالتشجيع عليه جريمة مهما كان المكان، وهو جريمة لأن فيه ضررا لا رجعة فيه لشخص آخر.
بينما الأمر يختلف بالنسبة إلى الخمار كما قلنا، فمتحجبة اليوم يمكن أن تكون سافرة الغد. و هو ما نلحظه في محيطنا، إذ أن العديد من الفتيات نزعن خُمُرهن بعد ارتدائها مدة معينة نتيجة تحوّل في قناعاتهن.
ومن نافل القول إن لباس الحجاب/الخمار يكفّ عن أن يكون حرية شخصية إذا كان ناجما عن إكراه، لأن الإكراه يمثل اعتداءً على تلك الحرية.
وإذا كان للقانون أن يتدخل، في نظام ديمقراطي تُضمن فيه الحريات الفردية، ففي هذا المستوى، وذلك لمنع الإكراه وتجريمه ومعاقبة مرتكبيه صيانة للحرية الشخصية.
وفي مناخ كهذا فقط، يمكن أن تتوفر للفتيات والنساء إمكانية اختيار لباسهن بحرية، وفقا لقناعاتهن الشخصية وهن يعرفن أنه بإمكانهن اللجوء إلى القانون إذا حاول طرف ما إرغامهن على ارتداء هذا اللباس أو ذاك.
أما على المستوى الفكري فالأمر يختلف. إن الديمقراطي، التقدمي، المتماسك فكرا وممارسة، الذي يتصدّى سياسيا لقمع المتحجّبات ويندد به ويدافع عن حريتهن الشخصية، طالما أنهن يعتبرن ارتداء الخمار قناعة أو "عقيدة"، إن هذا الديمقراطي من حقه، بل من واجبه أن يخوض معركة مبدئية وعميقة ضد هذا اللباس لإبراز المضامين الرجعية للمنظومة القيميّة و الاجتماعية التي يندرج ضمنها و التي تستنقص المرأة.
وهذه المعركة ينبغي له أن يخوضها بأسلحة فكرية وفكرية فقط، بعيدا عن كل إرهاب إيديولوجي، لأن العلمانية، كما بيّنا، فضاء للمساعدة على الحوار/النقاش الحر والديمقراطي.
هل المنشور 108 من "صميم العلمانية والديمقراطية"؟
بودّنا هنا أن نتطرق إلى موضوع المنشور 108 الذي يمنع لباس الخمار في المؤسسة التعليمية والذي رأى فيه صاحب الكراس إجراء من صميم الديمقراطية بدعوى أنه يدافع عن العلمانية.
وقبل الخوض في لبّ الموضوع لا بد من الإشارة إلى أن هذا المنشور لا يمكن أن يكون حتى في شكله من صميم الديمقراطية لأن الحياة العامة لا تـُنـَظـّمُ بمناشير صادرة عن هذا الوزير أو ذاك بل بقوانين صادرة بعد نقاش وغير منافية للدستور وتأتي المناشير بعد ذلك لتيسير التنفيذ ليس إلاّ.
أمّا واقع الحال هنا فإنه يتعلق بمنشور متـّصل بوجه من أوجه الحياة العامة الذي يثير إشكالات جدّيّة تمَسّ مسألة الحرية الشخصية، وقد صدر دون أن يحظى بنقاش حتى داخل البرلمان الصوري التونسي. وهو ما يؤكد طابعه التعسفي والتسلطي حتى من الناحية الشكلية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما معنى أن تكون المؤسسة التعليمية علمانية؟ و هل أن منع التلميذات من لباس الخمار هو أحد مظاهر تلك العلمانية؟ لا نعتقد ذلك، لأن التلاميذ مهما كانت قناعاتهم الفكرية والدينية من حقهم أن يؤمّوا المدرسة أو الجامعة وليسوا مطالبين بأن يكونوا علمانيين أو متدينين أو يساريين أو قوميين...
والخمار، إذا كان ناجما عن قناعة أو عقيدة فمن حق التلميذة لباسه. وليس التلميذ(ة) والطالب(ة) مطالبا بأكثر من احترام الدرس وعدم التحريض على مدرِّسه أو ترهيب زملائه وزميلاته واستفزازهم والاعتداء على كرامتهم لأسباب عقائدية أو أتنية أو ثقافية.
إن المؤسسة التعليمية هي المطالبة، في نظام ديمقراطي، عصري، بأن تكون علمانية وهذه العلمانية تهم إطار التدريس الذي عليه أن يقوم بالدرس دون استفزاز لعقيدة أو عقائد تلاميذه، كما تهم البرامج الدراسية التي ينبغي أن تنبني على حرية البحث والمعرفة وعدم إخضاعها لأي قيد لأسباب عقدية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك عدم تدريس الأديان مثلا، فهذا المفهوم ليس علمانيا بالضرورة أو لا يمكن حصر العلمانية فيه، إذ أن تدريس الأديان دراسة تاريخية، موضوعية، هو من صميم العلمانية، وبإمكان هذا النوع من التدريس تنسيب الأمور ونشر ثقافة التسامح، بل الاحترام بين أصحاب الأديان والعقائد المختلفة، وحتى غير المؤمن لأسباب فلسفية، فلا تضيره دراسة الأديان بهذه الطريقة لأنها تندرج ضمن المعرفة.
وأخيرا، فإن الفضاء المدرسي ينبغي أن يبقى فضاءً للعلم والمعرفة ولا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يوظَّف لأغراض دينية تخل بوظيفته هذه.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن منع الفتاة من الذهاب إلى المدرسة بسبب ارتدائها الحجاب/الخمار لا يخدم مصلحتها ولا يساعدها على الإنعتاق في شيء، لأن هذا المنع سيعيدها إلى البيت لتعيش بين أربعة جدران حيث تكون عرضة لشتى الضغوط من أفراد العائلة، الذكور منهم خاصة. وفي المقابل فإن بقاءها بالمدرسة أو الجامعة يفسح لها المجال كي تنمّي قدراتها على التفكير والتمييز والنقد وهو ما يساعدها على تكوين شخصيتها وتصليبها ويخلق لديها القدرة على التمرد على أغلالها.
هذا هو المناخ السليم الذي ينبغي توفيره للفتاة المتحجبة سواء عن قناعة شخصية أو مكرهة، كي تتفتق طاقاتها. أما أن تـُعتبر هذه الفتاة ضحية (للأب أو الأخ أو العم أو الخال أو..) وتـُعاقَب في نفس الوقت بالطرد من المدرسة أو الجامعة بدعوى مساعدتها على تحرير نفسها، فذلك ما لا يقبله عقل، بل ذلك ما لا علاقة له بالعلمانية التي هي رديف الحرية. (انظر حول هذه القضية السجال الذي دار في فرنسا بمناسبة ما سمي بـ"قضية الخمار" سنة 2003. ومن بين المنشورات المهمة في هذا الصدد كتاب: Le Foulard Islamique En Questions- مجموعة نصوص صادرة عن دار أمستردام للنشر – باريس 2004).
أزمة المؤسّسة التعليمية ليس سببها الخمار
وفوق ذلك كله، فهل أن المؤسسة التعليمية في تونس ليس لها من خطر تواجهه إلا لباس الخمار؟ لا بالطبع. إننا نعتقد أن الضجيج الذي أُقيم حول هذه المسألة وأن القمع الذي سُلط على المتحجّبات ليس سوى وسيلة لطمس المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها هذه المؤسسة (وتتخبط فيها البلاد بأكملها) و عجز نظام الحكم عن إيجاد الحلول لها بل إمعانه في مفاقمتها.
إن نظام بن علي خرّب المؤسسة التعليمية في بلادنا. فقد أخضعها بالكامل لمشاريع الدول والمؤسسات المالية الأجنبية التي فرضت خوصصتها وحولتها إلى خادم لمصالح الرأسمال المتقلبة، ونزعت عنها دورها الاستراتيجي في تطوير المعارف والعلوم والحفاظ على الهوية الوطنية وإثرائها والمساهمة في النهوض بالمجتمع والبلاد.
كما أنه أفرغ البرامج الدراسية في كافة المستويات مما ينمي الروح النقدية لدى المتعلم وحرم التلميذ والطالب من حرية الرأي والتعبير وأخضع المؤسسات التعليمية للمراقبة المباشرة للبوليس السياسي وضرب الحريات الأكاديمية في العمق وحوّل الأساتذة والباحثين إلى مجرد ملقنين، ومنع البارزين منهم المتشبثين باستقلالهم من مواصلة التدريس والبحث بالجامعة حال بلوغهم سن التقاعد (60 سنة).
ألم يكن أحرى بأصحاب هذه المواقف أن يجعلوا هذه المسألة على رأس اهتماماتهم، لو كانوا حقّا غيورين على المؤسسة التعليمية وعلى دورها التنويري؟ أليس ما تتعرض له من سياسات بن علي هو أخطر بكثير من ارتداء جزء من التلميذات الخمار؟
و إلى ذلك فإن كانوا حقـّا غيورين على المكتسبات العلمانية للمجتمع التونسي، أليس أحرى بهم، عوض المطالبة بقانون جديد لقمع المحجّبات العاملات في الإدارات العمومية، التركيز على مقاومة الاستغلال الفاحش والفساد المستشري والاستبداد والنهب الامبريالي للبلاد والتصحّر الثقافي وما تُولّده كل هذه المظاهر من فقر وإملاق وتجهيل وشعور بالمهانة في صفوف الطبقات والفئات الفقيرة وهو ما يدفع بأقسام منها إلى البحث عن الخلاص في العودة إلى الماضي. أليس الخطر الحقيقي على المكاسب العلمانية يجد قاعدته في هذا الواقع المزري؟ أليس اللجوء إلى القمع في معالجة ظاهرة الحجاب (والظاهرة السلفية بشكل عام) وسيلة لطمس هذا الواقع ومسؤولية نظام الحكم فيه؟
إن المراهنة على النظام القائم للدفاع عن مكاسب المجتمع العلمانية وتطويرها وصيانتها هي مراهنة خاسرة مسبقا لأن الدكتاتورية تعرض المكاسب للتدمير والتلاشي وتجرد المجتمع من وسائل الدفاع عن نفسه. وليس أدل على ذلك من توظيف نظام بن علي للدين لتشريع استبداده و تشجيعه الزوايا والكتاتيب وبعث "فرق الدعوة والتبليغ" المرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية وإطلاق العنان للشعوذة والمشعوذين وإنشاء إذاعة "الزيتونة" لإظهار العائلة الحاكمة بمظهر الراعية للدين وتغطية ضلوع أفرادها في الفساد الاقتصادي والمالي.
كل ذلك في الوقت الذي يُحاصَر فيه أصحاب الرأي الحر والمثقفون والمبدعون الجادون الذين يرفضون بيع ذمتهم.
إن مطالبة اليساريين والتقدميين بمساندة بن علي في منع الخمار وقمع المتحجّبات بدعوى الحفاظ على المكتسبات العلمانية إنما هو محاولة لتحويل اليسار إلى مجرد ذيل للدكتاتورية ومسوغ لقمعها وعسفها. وهو ما يعرض مستقبل العلمانية ذاتها للمخاطر في بلادنا.
إن العلمانية كمنظومة ليست قائمة في تونس، بل إن ما هو موجود لا يعدو أن يكون علمانية مشوهة و أن الادعاء بأنها موجودة وأن المطلوب "استكمالها" يجعل منها أي العلمانية رديفا للقمع والاستبداد.
إن العلمانية بمعناها الصحيح، أي بوصفها رديفا للحرية ما تزال مشروعا للتحقيق في بلادنا، لأن العلمانية لا يمكن أن تترعرع إلا في مجتمع ديمقراطي، حيث تكون هي إحدى ركائز هذه الحرية وتلك الديمقراطية.
إن الاستقواء بالقمع الإداري والبوليسي والتوهم بأن ذلك كفيل بتعديل ميزان قوى سياسي راجح راهنا لصالح القوى السلفية في العالم العربي والإسلامي، بدل التعاطي الفكري مع المسألة وخوض الصراع في صفوف النخب والجماهير بنفس طويل ورؤية واسعة الأفق من أجل إحداث النقلة الحقيقية في الأذهان وفي ميزان القوى، إن ذلك تعبير صارخ عن ضيق أفق البورجوازي الصغير وقلة صبره أمام الصعوبات.
ومهما يكن من أمر علينا أن ندرك أنه ما من جواب علماني في مجتمعنا على الأطروحات السلفية والظلامية خارج النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية وهي كلها محاور تؤدي بالضرورة إلى النضال ضد الدكتاتورية القائمة. وكما أكدنا أكثر من مرة، فإن سدّ الباب أمام الاستبداد باسم الدين يقتضي إعطاء المثال اليوم في مقاومة الاستبداد النوفمبري لا التواطؤ معه أو مجاملته.
الاشتراكية والحرية الدينية
إن الذين يَعْرِفون التراث الاشتراكي يدركون أن مَن وضعوه وطوّروه لم يدافعوا، خلافا لما تدعيه بعض الأطراف "اليسارية"، عن الأساليب الإدارية القمعية في التعامل مع القضايا العقدية. فـ كارل ماركس وفريدريك أنجلس مؤسّسا الاشتراكية العلمية ناهضا بشدة التطرف اللاديني أو الإلحادي لما فيه من ضرر بقضية العمال والكادحين.
إن ماركس الذي دعا الاشتراكيين إلى النضال من أجل تحرير العمال من الأوهام الدينية التي تستغلها البورجوازية لتحملهم على قبول واقعهم المزري والتخلي عن السعادة في دنياهم في انتظار "سعادة الآخرة" التي يُقال لهم إنها ستعوّض لهم بؤسهم الدنيوي، دافع بحزم عن حرية الضمير مؤكدا أنه "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يُلـَبـّيَ حاجاته الدينية والجسدية(الطقوس– من عندنا) على السّواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع" (كارل ماركس- نقد برنامج غوته). و هذا هو معنى أن يكون الدين "قضيّة خاصة بالنسبة إلى الدولة"، لا تتدخل فيه و لا تفرض شكلا من أشكال العقائد أو القناعات على مواطنيها.
أما أنجلس الذي كتب الكثير حول الدين وحول الحركات الدينية عبر التاريخ، فإنه سَخـَرَ أيّما سخرية وهو بصدد الرد على الفوضوية والفوضويين الذين يمثلون الترجمة المكثفة للنفسية البرجوازية الصغيرة التي تخفي عجزها بالبريق الراديكالي، سخر من أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على إلغاء الدين من حياة الناس وفرض الإلحاد بمجرد قرار فوقي، مبينا أنه بإمكان المرء أن يُسطـّر ما يريد على الورق دون أن يجد ذلك طريقه إلى التنفيذ، وأن القرارات التعسّفية هي أحسن وسيلة لتقوية القناعات الغيبية.
وفي نفس الإطار انتقد أنجلس بشدة قوانين بيسمارك التي سنـّها في إطار ما سُمّي "النضال الثقافي" للتضييق على الحزب الكاثوليكي الألماني بواسطة القمع البوليسي للكاثوليكية والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ بل عُلّقت ثم أُلغيت لطابعها الفوقي التعسّفي، علما وأنها لم تفعل شيئا سوى توطيد الإكليريكيّة الكاثوليكية وإنزال الضرر بقضية الثقافة الفعلية أي الثقافة التقدّميّة التي ترتقي بوعي الشعب (أنجلس، نصوص حول الدين. ص 142 – المنشورات الاجتماعية، فرنسا 1972).
لقد اعتبر أنجلس هذا التمشـّي الإداري خطيرا لأنه "يبرز إلى السّطح الانقسامات الدّينيّة بدلا من الانقسامات السّياسيّة و يصرف انتباه فئات من الطبقة العاملة وعناصر ديمقراطية أخرى بعيدا عن المهامّ الجوهريّة للصراع الطبقي والثوري نحو عداء الإكليريكيّة السطحي جدّا و الكاذب بشكل بورجوازيّ جدّا" (لينين، نصوص حول الموقف من الدّين، ص 100-101، دار الطليعة، بيروت،1978).
وبناء على هذا الموقف المادّي الجدلي، ناضل أنجلس كما ناضل الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان في أواخر القرن التاسع عشر من أجل إلغاء كلّ التدابير الزجريّة البوليسيّة ضدّ أيّ دين من الأديان في نفس الوقت الذي كانوا يشرحون فيه للعمّال الجذور التاريخيّة و الاجتماعيّة لهذه الأديان و ينبّهونهم إلى دور الكنيسة في محاولة إخضاعهم للاستغلال و إلهائهم عن النضال ضدّه.
وكان أوغـست بيبل الزعيم الاشتراكي الألماني سَخـَرَ من التطرف اللاديني ونفى أن تكون له صلة بالاشتراكية العلمية واصفا النزعة المتطرفة في معاداة الأكليروس (anti-cléricalisme) بأنها "اشتراكية البورجوازية الصغيرة" باعتبارها تعزل الدين عن قاعدته الاجتماعية وتحاربه بصورة تبشيريّة تجريدية موضحا أن الخطاب المتطرف ضد الدين لا يعني بالضرورة أنه الخطاب القادر على تخليص الجماهير الكادحة من الأوهام الدينية، بل إنه خطاب بورجوازي راديكالي يترجم عن فكرة سطحيّة تزعم أنّ الفكر و الثقافة يفعلان فعلهما بواسطة نفسيهما و ليس من خلال الصراع الطبقي الملموس.
وقد انتقد لينين في كتاباته السياسية انتقادا لاذعا دور الكنيسة في مساندة الاستبداد القيصري وبث الأوهام الدينية الرجعية في صفوف العمال والفلاحين حتى يقبلوا بواقعهم المزري ويتخلوا عن النضال من أجل تغييره كي يكدّس الملاكون العقاريون وأصحاب المصانع الثروات على حسابهم و دعا إلى مقاومة تلك الأوهام، ولكنه كان في الآن نفسه حازما بخصوص الأسلوب الذي ينبغي اتـّباعه في هذه المقاومة: لا حربَ سياسيّة على الدّين بل حربًا على الاستغلال الرأسمالي الذي تكمن فيه الجذور الاجتماعيّة للأوهام الدّينيّة، ولا قمعَ بوليسيًّا للأديان و القناعات بل الحريّة لها جميعًا، ولا صراعَ مع العقائد المختلفة إلا بالأسلحة الفكريّة المحظة، ولا تقسيمَ للعمّال و الشعوب على أساس العقيدة بل توحيدها ضدّ الاستغلال و الاضطهاد.
و لم يتردّد لينين في الدّعوة إلى قبول العمّال المتديّنين في صفوف الحزب طالما أنهم يتبنـّون برنامجه السياسي و يدافعون عنه مشدّدا على عدم توجيه أي إساءة إلى قناعاتهم الدّينيّة. لقد كان الهمّ الأوّل للينين توحيد نضال العمّال ضدّ الاستغلال الرأسمالي باعتباره العامل الذي من شأنه أن يرتقي بوعيهم و يحرّرهم من تأثيرات الكنيسة الرجعيّة. (لينين، نصوص حول الموقف من الدين، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1978).
إن هؤلاء المفكرين الاشتراكيين العظام لم يكن برنامجهم السياسي "محاربة الدين" و"نشر الإلحاد"، بل إن هدفهم لم يكن خوض معركة مجردة ومقطوعة عن الواقع ضد الدين. إن ذلك مناف لنظرتهم أصلا، التي تركز أولا وقبل كل شيء على تغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعمال والكادحين، لخلق الشروط الإنسانية لحياة لا يحتاج فيها الفقير والضعيف لأوهام دينية كي يهرب من واقعه المزري.
عودة إلى "إعلان هيئة 18 أكتوبر"
وهكذا فإن ما جاء في "الإعلان" بصدد الحجاب/الخمار سليم كما أكدنا سلفا، فلا يمكن لأي يساري، ديمقراطي، تقدمي، أن لا يندد بالقمع الذي يسلطه النظام القائم على المتحجّبات وأن لا يطالب بإلغاء المنشور عدد 108 وأن لا يواجه في نفس الوقت الدعوات السلفية الاستبدادية التي تريد إكراه الفتيات والنساء على لباس الخمار، بدعوى أنه "فريضة دينية" وأن التي لا تقوم بذلك "آثمة" ومخلة بدينها وبـ"الطهر" و"الفضيلة".
وبالطبع ما كان بالإمكان، أن يصدر أكثر من هذا في بيان سياسي مشترك بين أطراف متعددة المشارب الفكرية والسياسية، ومن بينها طرف إسلامي، بل إنه ما كان بالإمكان إقرار أكثر من ضرورة عدم "حشر البوليس أنفه" اليوم و غدًا في ضمائر الناس.
وهذا في حد ذاته خطوة إيجابية وهامة. ويبقى لكل طرف بطبيعة الحال حق الدفاع عن موقفه في كل جوانبه وأبعاده الأخرى و بالتالي حقنا كاشتراكيّين في نشر أفكارنا الفلسفيّة و السّياسيّة و مقارعتها بأفكار الآخرين بمختلف مشاربهم.
وقد تعدّدت كما هو معلوم ردود فعل "الإسلاميين" على "إعلان 8 مارس" ولم يتردّد بعضهم بمن فيهم عناصر من "حركة النهضة" ذاتها، في اتهام السّيّدين علي العريض وزياد الدولاتلي، القياديين النهضويين المعروفين، اللذين ساهما في بلورة "الإعلان" بـ"الانحراف عن تعاليم الدّين الإسلامي".
ولكن هذين الأخيرين لم يتراجعا، أمام حملات الانتقاد والتشهير، وتمسكا، كما تمسكت قيادة حركتهما، بـ"الإعلان" بل إن العريض، لم يتردد في حوار صحفي، نشر على شبكة الانترنيت، في تأكيد أن الإسلام لم يحدد زيّا معينا للمسلمين والمسلمات وأن الرسول والصحابة رجالا ونساء "كانوا يلبسون لباس قومهم وعصرهم"، مضيفا "أن اللباس شأن شخصي تدخل في تحديده عند كل شخص قيمه وعاداته وسنه وذوقه وأغلب هذه العناصر متغيرة في الزمان والمكان بل وحتى متقلبة".
ويرى العريض "أن اللباس يفترض فيه مراعاة الآداب العامة والأمن العام وفيما عدا هذين الاعتبارين فكل مواطن حر في لباسه سواء لبسه اعتقادا أو وراثة أو مجاراة". (موقع نواة – 7 أفريل 2007).
إن مزية هذا الموقف أنه يعيد مسألة الخمار إلى نصابها التاريخي، ويخرجها من بوتقة "المقدس" ليسمح بنقاشها داخل التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي وليس خارجه. ولم يتردّد الدّولاتلي من ناحيته، في حوارات عمومية، من تأكيد أن اللباس بشكل عام يندرج في إطار الحرية أي في إطار الاجتماعي/الثقافي، لا في إطار المقدس. وهذه المواقف جد هامة وهي تمثل خطوة نحو إرساء حوار جدي ومسؤول، بعيدا عن التوتر أو بالأحرى التوتير العقائدي بين مختلف مكونات الساحة الفكرية والسياسية في بلادنا.
وبطبيعة الحال لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا الموقف ليس الموقف السائد حاليا في صلب الحركة الإسلامية التونسية بما في ذلك داخل "حركة النهضة"، إذ توجد عناصر وتيارات ترفض اعتبار الحجاب/الخمار لباسا وتتمسك بأنه "فريضة".
وهي لا تثير مسألة "الحرية" إلا بصورة انتهازية أحادية الجانب، أي عندما تكون لصالحها وتحديدا عندما يتعلق الأمر بارتكاب نظام الحكم اعتداءات على حساب المتحجّبات، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط ترفع عقيرتها بالصياح لإدانة انتهاك "حرية المتحجّبات" وتطالب الأحزاب والجمعيات باتخاذ مواقف تتهجم على الذين لا يدينون ممارسات النظام التعسفية، ولكننا لا نسمع لها صوتا يدافع عن حرية النساء اللواتي يرفضن ارتداء الخمار. كما أننا لا نسمع لها صوتا يُدين الإكراه الذي تتعرض له النساء في بلدان مثل إيران والسعودية، حيث يرتبط لباس الحجاب/الخمار بمنظومة قمعية كاملة تبدأ بتشريع تعدد الزوجات وتزويج القاصرات (9 سنوات في إيران) وتصل إلى فرض الحجاب عليهن ومعاقبة من ترفض لباسه.
ونحن ندرك أن تلك العناصر والتيارات وإن كانت اليوم عاجزة عن فرض الحجاب/الخمار على النساء بالقوة الغاشمة، لافتقارها القوة المادية فإنها لن تتردد في القيام بذلك يوم تمتلك هذه القوة علما وأنها لا تتورع اليوم عن استعمال الإرهاب الفكري من تكفير وتعهير وتهديد بسوء المصير لحمل النساء على ارتداء الخمار.
وبالتالي فإن السيناريو الذي يتحدث عنه البعض من أن هؤلاء يريدون اليوم تمرير الحجاب/الخمار تحت غطاء الحرية لفرضه غدا بالقوة تحت غطاء الشريعة هو سيناريو حقيقي ووارد. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة، بالنسبة إلى أي ديمقراطي، تقدمي متماسك، وبالأحرى إلى أي يساري، جدير بهذه الصفة، للتخلي عن مواقفه المبدئية وغض الطرف عن القمع الذي تمارسه السلطة على الحجاب بدعوى أن التصدي له سيستفيد منه "الإسلاميون" على حساب حرية النساء وحقوقهن. إن نقد الحجاب/الخمار من الناحية الفكرية ينبغي أن يقترن بنقد الأساليب التعسفية للسلطة ورفضها، وبهذه الصورة يرسم الديمقراطي، التقدمي طريقه المستقل للنهوض بواقع النساء خاصة والمجتمع عامة.
إن إرساء حياة ديمقراطية تتوفر فيها حرية الصراع الفكري يبقى الضامن الوحيد للسير بالمجتمع التونسي نحو الأفضل. وفي ما عدا ذلك من مواقف، سواء اتكأت على الدكتاتورية بدعوى مواجهة الخطر السلفي أو هادنت الحركات السلفية بدعوى مواجهة الدكتاتورية، فهو إن لم يُطِلْ حياة الدكتاتورية الحالية، يفتح الباب لدكتاتورية جديدة.
وخلاصة القول إن معارضة الحجاب/الخمار ينبغي أن تكون جزءا من بديل ديمقراطي تقدمي وطني شامل، يهدف إلى وضع حدّ للاستبداد في بلادنا، ويسدّ الباب أمام أي استبداد آخر مهما كان لونه، ويفتح آفاقا للشعب التونسي بأسره وللنساء خصوصا ويخلصهن من كافة أشكال الاستلاب الفكري والاقتصادي والسياسي ويجعل منهم سيّدات مصيرهن وأجسادهن وذواتهن المعنوية، ومن المؤكد أنه يوم يتحقق كل هذا للنساء التونسيات فإنهن سيتخلّيْن طواعية عن الخمار، ولكن أيضا عن كل أشكال اللباس التي تشيّؤهنّ، وستنظرن إلى ذلك على أنه مجرد ذكريات تنتمي إلى عصور "الوحشية". وفي انتظار ذلك وطالما أن الاستبداد ولاَزِماته من استغلال وفساد وتبعية، ما يزال قائما فإن مكتسبات المجتمع العلمانية ستظل هشة وقابلة للتراجع في أي لحظة.
إنّ حزب العمّال لا يتوجّه في دعايته و نشاطه العملي إلى صنف معيّن من النساء بل إلى كافـّة بنات الشعب التونسي اللواتي يتعرّضن للتمييز و الاستغلال والاضطهاد بهدف توحيدهنّ ضدّ عدوّهنّ المشترك و تخليصهنّ من براثنه، وهو لا يميّز بين سافرة أو متحجّبة لإيمانه العميق بأنّ محاولات تقسيم النساء على أساس عقائديّ يديم استعبادهنّ ولا يخدم سوى مصلحة الاستبداد ويلهيهنّ عن النضال ضدّه.
حمّه الهمّامي، صائفة 2007
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire