Tunisiens Libres

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

samedi 22 février 2014

حزب العمال الشيوعي التونسي: أمميٌون لكن مفعمون بالعزَة القومية

حزب العمال الشيوعي التونسي: أمميٌون لكن مفعمون بالعزَة القومية

كثر الحديث في الفترة الأخيرة حول مسألة "الهوية" التي تطرح رأسا قضية الانتماء القومي و الحضاري لشعبنا. و قد أسال ذلك حبرا كثيرا. وأصبحت هذه المسألة الفرس الرابح الذي تسعى لركوبه كل حركة أو حزب سياسي أو فرقة ثقافية أو جريدة أو مجلة بدءا بالحزب الحاكم، ووصولا إلى "الاتجاه الإسلامي" و مرورا ببعض الليبراليين المستقلين و"الاشتراكيين التجمعيين".
فالجميع يتغنى بألف لحن ب"حضارتنا العربية الإسلامية" و الجميع يسعى إلى إظهار نفسه في مظهر الأكثر دفاعا عنها و تمسكا بها و الآخرين في مظهر المتنكرين و المعادين لها. واتخذ الأمر أحيانا أشكالا فلكلورية تبعث على السخرية و الاستهزاء، من ذلك أن بعض الساسة عادوا بقوة (والعود أحمد) يؤمون الجوامع بعد هجر طويل لها، و أصبحت السبحة لا تفارقهم، و هم يهمسون في آذان أتباعهم بان يروجوا الخبر وسط الناس. والبعض الآخر مثل راشد الغنوشي انتابه هوس النبوة و ذهب في اعتقاده أنه مبعوث الله في هذا القرن"ليجدد للأمة دينها"و يعيد لها مجدها. و هلم جرا...
و في غمار هذه "المباراة" اختلط الحابل بالنابل و غدا من العسير على المرء أن يميز الخط الفاصل بين المنافق الذي يريد خداع الشعب و بين الغيور على تراثه و على ذاتيته القومية، بين الذي يلهث وراء كرسي في الحكومة أو وراء صفقة مع هذا الاتجاه أو ذاك و بين الإسهام في نهضة هذا الشعب الوطنية.
و في الحقيقة ما كان لهذه المسألة أن تأخذ مثل هذه الأبعاد، و أن تركب عليها هذه الممارسات، لولا أن هناك واقعا موضوعيا يطرحها بإلحاح. فنحن في بلد مطعون في كرامته الوطنية بسبب سياسة التبعية للامبريالية التي ما انفكت تنتهجها البرجوازية الكبيرة و التي مكنت هذا الوحش الضاري -أي الامبريالية- من التسلل من كل الفلول لضرب كل ما هو أصيل في حضارة شعبنا و محق مميزاته القومية في إطار سياستها التقليدية إزاء الشعوب والأمم الصغيرة و الضعيفة، هذه السياسة القائمة على تجاهل تراثها و تقاليدها التقدمية، و التحقير من قدراتها الفكرية، و الحط من عزَتها القومية، كل ذلك لتسيير استغلالها الاقتصادي و استعبادها السياسي، و تأبيد تبعيتها.
لكن ما من "قطوس يصطاد لربِي" كما يقول المثل الشعبي. فالصراعات الفكرية و السياسية التي إثارتها مسألة "الهوية" بين مختلف القوى السياسية و العائلات الفكرية ليست مجرد رياضات عقلية و لكنها تعكس رؤى طبقية متباينة حول هذه المسألة، مباراة، بين مختلف الطبقات التي تمثلها تلك القوى و العائلات للفوز بالسيطرة على المجتمع. فليس هناك إلا السذج أو المختبلون الذين يذهب بهم الظن أن هذه الصراعات "بريئة" أو أن هدفها "خدمة الوطن".
و حري بنا نحن الماركسيين اللينينيين أن ندلو بدلونا في القضية، و أن نعبر عن وجهة نظرنا فيها أي عن وجهة نظر الطبقة العاملة ، خاصة و أننا مرمى سهام عديدة. سهام:
- ممثلي البرجوازية الكبيرة الذين يقترفون رذيلة الخيانة الوطنية و يتهموننا بها لإبعاد الشبهة عن أنفسهم.
- و القوى الظلامية الفاشية (" الاتجاه الاسلامي" و " حزب التحرير الإسلامي") التي لا تتوانى عن نعتنا و نعت كل الثوريين و الد يمقرا طيينو العلمانيين بشتى النعوت ك " التغريبيين" و " المنبتين" و اللاوطنيين" لمغالطة الطبقات الكادحة و جرها وراء مشروعها ألظلامي الرجعي.
- و أولئك المسمين أنفسهم " الإسلاميين التقدميين" الذين يرددون نفس أقوال القوى الظلامية في خصوص القوى التقدمية.
- و انتهازي " التجمع الاشتراكي" الذين يزعم بعض رموزهم، كذبا و بهتانا، لتبرير اصطفافهم وراء البرجوازية الكبيرة، إن الماركسية اللينينية لا تعير المسألة القومية أية أهمية...إلخ
و إذا كنا مرمى سهام كل القوى الرجعية و الظلامية فلأننا في الحقيقة أعلنا و نعلن أننا معشر الماركسيين اللينينيين امميون، ننتمي لهذه العائلة الكبيرة التي اسمها الطبقة العاملة العالمية التي لم يترك لها تدويل لرأس المال و ما يصاحبه من تدويل لطرق الاستغلال و الاضطهاد أي مجال للانغلاق القومي.
و لأننا أعلنا و نعلن إن هدفنا النهائي، نحن و شيوعيو العالم أجمع، هو تأسيس الجمهورية العالمية للعمال التي ينتفي فيها أي استغلال الإنسان للإنسان، و اضطهاد امة لأخرى بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين، كما هو الحال في ظل النظام البرجوازي الحالي، و التي يتمكن فيها كل شعب من تطوير ثقافته و تقاليده خارج أي ضغط مسهما بذلك في تطوير الكنز الثقافي الإنساني العام.
و هذا لا نخفيه أبدا، بل نعتز به أيما اعتزاز و هو نقطة قوتنا، و قوة الطبقة العاملة المكبلة في مختلف أصقاع العالم بأغلال رأس المال. لذلك فنحن نهتف مع كل بروليتاري العالم " يا عمال العالم اتحدوا".
و لكن هل ان امميتنا، تعني اننا من أنصار العدمية القومية أو اننا منبتون، نبصق على المشاعر القومية للجماهير الكادحة و نعتبرها مجرد رواسب رجعية؟ هل تعني أننا مجرد مناضلين نقابيين يمكن أن نصلح فقط لرفع بعض المطالب الاقتصادية و السياسية(الحريات) و لسنا أهلا لنكون حملة مشروع نهضة وطنية(وهي المهمة الموكولة "للإسلاميين ") حسب زعم احميدة النيفر و صلاح الدين الجوشي؟
كلا و ألف كلا. و من يعتقد ان هذه هي الماركسية الينينية فهو اما جاهل و غبي. و في هذه الحالة لا يمكن للماركسية ان تكون مسؤولة عن جهله و غباوته.و إما انتهازي و في هذه الحالة لا يسعنا الا ان نقول له :" إن لم تستحي فافعل ما شئت"، لكننا نعدك باننا لن نصمت عن اتهازيتك و سنرفع عن عورتك ورقة التوت التي تتخفى بها.
الماركسية تناهض العدمية القومية و لكنها تعادي القومية البرجوازية
ان الماركسية اللينينية لا تناصر العدمية القومية وهي لا تعادي القومية بشكل مطلق، بل هي تعادي على وجه التحديد القومية البرجوازية، بوصفها ايديولوجية رجعية، ايديولوجية رأس المال التي تهدف الى زرع الشقاق بين الامم و تشريع سيطرة الدول الراسمالية الاقوى على الدول الصغيرة او الضعيفة تحت غطاء نظريات عنصرية تروج لافضلية أمة على أخرى أو شعب على اخر' و قد استعمرت تونس و غيرها من البلدان العربية تحت مثل هذه التعلات). كما تهدف الى زرع الشقاق بين كادحي مختلف البلدان و اثارتهم ضد بعضهم البعض و استخدامهم كلحم مدافع في الحروب الاستعمارية التي تثيرها الراسمالية من اجل السيطرة و التوسع فتمنعهم بالتالي من ان يتحدوا في نضالهم التحرري ضد عدوهم المشترك، الراسمالي القومي و العالمي.و لنا كمثال على ذلك الحرب العالمية الاولى و الحرب العالمية الثانية في طورها الأول.و العديد من الحروب المحلية و الجهوية الرجعية الاخرى.
و في تضاد مع القومية البرجوازية، بلورت الماركسية اللينينية، أسس وطنية جديدة، وطنية الطبقة العاملة، الوطنية الاشتراكية القائمة على الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج، اي على اساس انتفاء استغلال الانسان الذي يشكل القاعدة المادية للتناحر القومي في ظل سيطرة البرجوازية. و هذه الوطنية الاشتراكية هي التي عناها كلاسيكيو الشيوعية عندما أكدوا ان الحركة حركة الطبقة العاملة الاممية في مضمونها تأخذ في كل بلد شكلا وطنيا أي إنها تنمو و تتطور على قاعدة الخصائص القومية لكل شعب، على قاعدة ما لديه من تقدمي و جميل في تراثه و تقاليده العريقة و إلا استحال بناء الاشتراكية الذي لا يمكن ان يشيد على العدم او بصورة مجردة. لذلك فغن الأممية البروليتارية لا تعني البتة، كما يزعم المحرفون و المغرضون، لا مبالاة الطبقة العاملة و الشيوعيين ازاء بلدهم ووطنهم بل على العكس من ذلك، فهي تجمع بشكل منسجم بين حبهم اللا متناهي لوطنهمو رغبتهم في ان يروه محررا من كل اضطهاد وطني و اجتماعي، هذه الرغبة التي يحوَََََلونها الى عمل دؤوب و كفاح مستمر من اجا تحقيق الهدف المنشود و بين تاييدهم الكامل لنضال العمال في البلدان الاخرى من اجل الحرية و الاشتراكية و السلم.
ان هذا المفهوم الثوري التقدمي للوطنية و الاممية هو الذي قاد كلاسيكيي الشيوعية على الصعيدين النظري و العملي في مناهضة كل شوفينية قومية و كل اضطهاد قومي و في مناصرة كل قضايا التحرر الوطني العادلة. فماركس نفسه، واضع اسس الاممية البروليتلرية، و مبدع (بمعية انجلس) شعار يا عمال العالم اتحدوا. و هو الذي أطلق تلك القولة الشهيرة:" إن شعبا يضطهد شعوبا أخرى لا يمكن أن يكون حرًا" و ساند بتماسك كل قضايا التحرر القومي العادلة التي طرحت في عصره، و من ضمنها القضية الايرلندية.
أما لينين فقد تزعم أول ثورة اشتراكية ظافرة في تاريخ البشرية، قدَمت حلولا ثورية ملموسة لمسألة القوميات التي كانت ترزح تحت نير القيصرية الرَهيب، مقدمة للبشرية مثالا حيا على ان العلاقات بين قوميات مختلفة ان تقوم على اساس من الخاء و الاحترام و التعاون، شريطة القضاء على النظام الرأسمالي و الامبريالي و بناء الاشتراكية. و قد تمكنت مختلف القوميات في ظل الجمهورية السوفياتية من الحفاظ على ذاتيتها بل وعلى تطويرها و دفعها على اسس سليمة و تقدمية. و علاوة على كل هذا فان أعمال لينين النظرية السياسية المفعمة بالدفاع عن النضال القومي للشعوب و الأمم المقهورة، و المليئة حقدا على الظلم القومي و الشوفينية البرجوازية بما فيها شوفينية بورجوازية بلده لا تحصى و لا تعدُ. و قد قاوم لينين النزعة الاشتراكية الشوفينية التي كان ابطالها زعماء الأممية الثانية من امثال كاوتسكي و شايدمان،وغيرهما، الذين اصطفُوا وراء بورجوازيات بلدانهم في نهبها و اضطهادها للمستعمرات، و في الحرب العالمية الامبريالية الاولى. و تفطن لينين الى الدور الهائل للحركة التحررية للشعوب و الامم المضطهدة في السيرورة الثورية في عصرنا الحالي. و بلور "تلاحم الثورة الاشتراكية في البلدان الراسمالية و الثورة الديمقراطية المعادية للامبريالية في المستعمرات و البلدان التابعة في الشعار الشهير:" يا عمَال العلم، يا شعوب و امم العالم المضطهدة اتَحدوا". و قد وجدت هذه الامم( بما فيها العرب) في الجمهورية السوفياتية قبل ان تنحرف و تتحول الى امبريالية بعد ستالين خير سند في كفاحها التحرُري
و في خصوص هذا الاخير، فبالاضافة الى مواصلته لعمل لينين الجبَار في ارساء علاقات الأخوَة و الاحترام المتبادل بين مختلف القوميات المنضوية تحت لواء الجمهورية السوفياتية الكبرى، فانه قاوم بحزم على الصعيدين النظري والسياسي في الساحة العالمية شوفينية البلدان البورجوازية التي بلغت اقصاها مع النازية و الفاشية المسؤولتين عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، و ازر قضايا التحرُر الوطني في كامل انحاء المعمورة، بل وكان للاتحاد السوفياتي بقيادته دور محدَد في الاطاحة بالوحش النازي، و تخليص شعوب العالم من هوله. وليس ثم ابلغ من هذه الفقرة لحوصلة موقف ستالين الاممي من المسألة القومية.
" يقدًر أناس في بلد السوفيات، ان لكل أمة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، خصائصها النوعية، و طابعها المميًز الدي تنفرد به دون سواها، و لا تشاركها فيه الأمم الأخرى، و هي خصائص تشكل إسهام كل امة في الكنز المشترك للثقافة العالمية يكمله و يثريه. و في هذا المعنى فان كافة الأمم صغيرة كانت ام كبية، في وضع متساو و ليس هناك امة أفضل من اخرى.". (ستالين-الماركسية و المسألة القومية و الكولونيالية-دار نورمن بيتين 1974 )
و تشكل البانيا البلد الاشتراكي الوحيد اليوم في العالم، بعد الردصة التحريفية في الاتحاد السوفياتي و بلدان الديمقراطيات الشعبية سابقا، مثالا حيا على الربط الخلاًق بين الوطنية الاشتراكية و الاممية البروليتارية. فالشعب الالباني لم يعرف نهضة وطنية شاملة، في الاقتصاد و السياسة و الثقافة كالتي عرفها بقيادة الحزب الشيوعي(حزب العمل حاليا) و هو أمريعترف به حتي أعداؤه الذين يشهدون له بانه قضى على كل تبعية للامبريالية، و غلى الفقر و البؤس و الأميًة و البطالة، و بانه ارتقى بثقافة الوطن الى درجة عليا، فازدهرت حركة الادب و الفن و العلم فيه و ان شعور الذل و الخذلان القومي الذي حاول ان يزرعه فيه غزاته بتواطئ مع الرجعية المحلية في العهود الماضية، ترك مكانه للشعور بالعزة القومية و الثقة في النفس. و في الان ذاته تسلك ألأبانيا الاشتراكية على الصعيد العالمي سياسة اممية ثورية معادية للامبريالية و مناصرة لكل قضايا التحرر الوطني و الاجتماعي بما فيها قضايانا العربية. و تنعكس هذه الروح في الثقافة الألبانية التي تطفح بالمشاعر الانسانية و الحب للشعوب الاخرى و الاحترام لتراثها و تقاليدها النيرة و التقدمية.
هذا هو مضمون الاممية البروليتارية. و هو كما نرى يتنافى بصورة قطعيًة مع الكونية (الكوسموبوليتية) التي تشكل سلاحا ايديولوجيا بيد الامبريالية لضرب الاستقلال الوطني للشعوب و إخضاعها اقتصاديا و سياسيا. ففي تضاد مع الاممية البروليتارية تشيع هذه النظرية في صلب الطبقة العاملة و الشعوب روح اللامبالاة إزاء المصالح و التقاليد و الثقافة الوطنية بدعوى ان لكل انسان وطنا واحدا هو العالم. و تحت هذا الستار تسعى الامبريالية الى ضرب كل المميزات القومية لمختلف الشعوب، و احلال ثقافتها و قيمها الفاسدة و المتعفنة محلها. و قد قاوم الماركسيون اللينينيون بشدة التحلل "الكوني" منذ ظهوره على الساحة اليديولوجية.
مفعمون بالعزًة القومية و لكن...
تعرًضنا في الفقرات السابقة بعجالة لموقف الماركسية اللينينية العام من المسألة القومية. وسنمر الان الى بيان موقفنا نحن الماركسيين اللينينيين التونسيين منها حتًى نسحب البساط من تحت اقدام كل الرجعيين و الانتهازيين الذين لا ينتعشون الا في الغموض، و قد ساعدهم على ذلك مصادرة الحرًيات السياسية و عدم توفر الفرصة لكلً تيًار فكري او حركة سياسية لكي بعبًر في العلن و باللغة التي تريد عن موقفها من كل القضايا.
و من البدء يهمُنا ان نعلن اننا، معشر الشيوعيين(الماركسيين - اللينينيين) التونسيين لسنا من أنصار العدمية القومية، و اننا نعادي الكونية كنظرية امبريالية أشد عداء بل نحن مفعمون بالعزة القومية و قلوبنا تطفح بالمحبًة للغة الضاد و لهذه الأرض الطيبة التي تحتضن الملايين من جماهير شعوبنا من الخليج الى المحيط. ولكن الفارق بيننا و بين خصومنا يكمن في الموقع الطبقي الذي يتناول منه كل منا هذه المسألة. فاذا كانوا هم يتناولونها من موقع الدفاع عن مصلحة البورجوازية او البورجوازية الصغيرة القومية، فنن نتناولها من زاوية المصلحة العليا للطبقة للطبقة العاملة. و هذا الموقع يتخلل نظرتنا، كما يتخلل نظرتهم لماضي شعبنان و الشعوب العربية عامة و حاضرها و مستقبلها.
أولا و قبل كل شيء نحن نقرُ ان هذه البلاد -تونس- كانت لها قبل ان تستعرب ما بين القرنين الثامن و العاشر ميلادي حضارة، و نقاوم بكل حزم النظرة الشوفينية التي يروًجها القوميون البرجوازيون و الشوفينيون الدينيون(الاسلاميون) و التي تعتبر ان تاريخها لم يبدأ الا مع استعرابها و دخولها دين الاسلام، او ان سكانها اصلهم عرب... الى غير ذلك من الطروح المنافية الحقائق التاريخية. و من موقعنا المذكور نعتزُ بالحضارة البربرية، كما نعتز بحنًبعل و يوغرطا، و نتعاطف مع مقاومة السكان الأصليين (البرابرة) و استماتتهم في الدفاع عن ذاتيتهم في وجه غزاتهم.
و نحن نعتبر ايضا ان تاريخ المغرب العربي الحالي عموما ام يبدأ منذ مجيء العرب فقط ولكنه أعمق من ذلك بكثير و أن هناك شعبا بربريا عاش على هذه الأرض طوال قرون، و له حضارته، و ان هذه الحضارة هي جزء من حضارته اليوم بعد ان استعرب.
و كذلك بالنسبة لمصر، مصر أبو الهول، و الأهرام...الخ. فنحن لسنا من دعاة دفن ماضي هذه البلاد الفرعوني، و تحطيم اثاره بدعوى انها وثنية.كما ينادي بذلك "الاخوان المسلمون" والفرق الدينية الشوفينيةالاخرى.بل نعتبره انه من حق المصري بل من واجبه ان يحافظ على هذه الاثار كجزء من مخزون الانسانية الثقافي الدذي يعكس مرحلة معيًنة من تاريخها في مصر.
و من نفس المنطلق نعتبر ان الاستعراب الكامل لبلاد ما بين النهرين، لا ينبغي ان ينسي الحضارات العظيمة التي شيدت في هذه المنطقة و منهاالضارتان البابلية و الاشورية اللتان لعبتا دورا تاريخيا كبيرا في المنطقة و تركتا اثارا، و مخزونا ثقافيا هاما، لا بد من صيانتها. وينبغي على اهل العراق اليوم ان يعتزُوا بحمور ابي الذي عاش على ارضهم و كان- حسب ما بينته العلوم التاريخية الى حد الان- واضع اول مجلة قانونية في العالم.
و يمكننا أن نعمم هذا الموقف على كل الشعوب ذات الحضارات القديمة و التي استعربت لاحقا. و حتًى بالنسبة للجزيرة العربية، مهد الديانة الاسلامية، و التي انطلقت منها الحملات التي تأسست على قاعدتها الامبراطورية العربية-الاسلامية، فنحن لا نعتبر ان ما وجد قبل الاسلام "جاهلية" و كفر، و ان ليس من شيء حسن الا وجاء به الاسلام.نحن نقدر ان شعب الجزيرة خلف ماثر كثيرة منها تلك الحضارة العظيمة التي شيًدت في في الجنوب(مملكتا تدمر و سبأ) ومنها ذلك الشعر الصيل الذي خلفه لنا امرىء القيس، عروة بن الورد، و الشنفرى،و عنترة... و غيرهم و الذي يحمل وصفا دقيقا لحياة العرب قبل ظهور الاسلام. كما نفقدر انه ما كان بالامكان ان تنشأ حضارة عربية كالتي ظهرت منذ أواخر القرن السادس ميلادي، دون ان تكون لها جذور في التاريخ، و نشعر بالاحتقار ازاء تلك النظرة التبسيطية و التسطيحية المنافية للعلم التي يدرًس بها تاريخ الجزيرة او التي يروج لها الشوفينيُون الدينيون و التي تقدمه على انه كان خلاابا و جهلا و كفرا، فجاء الاسلام فانقلب الأمر رأسا على عقب.ففي هذه النظرة نكران لحقبة هامة من حياة شعب الجزيرة و تجن عليها ينبغي ان تحظى بالعناية.
نحن مع عدم نكراننا لماضي الحضارات التي شيًدت هنى و هناك في الوطن العربي، فاننا فخورون بانتمائنا للقومية العربية الذي يرجع الى قرون عديدة، والذي تم في ظروف تاريخية ليس المجال هنا لشرحها.
و نعادي أشد العداء الدعوات الاقليمية لايديولوجيًي البرجوازية الكبيرة الذين يمتدحون ماضي تونس الفينيقي، او القرطاجني و ماضي مصر الفرعوني لينكروا انتماءهما العربي الراهن و ليخدموا مصلحة الامبريالية القائمة على مبدأ " فرًق تسد".
نحن فخورون بالانتماء لهذه القومية التي قدًمت للانسانية اعمالا جليلة و روًادا في الرياضيات و الطب و الفلك و شعراء و أدباء و فنًانين كبارا لن يقدر ايديولوجيو الامبريالية على محوهم من الذاكرة الانسانية مهما تفنًنوا في المغالطة و التحريف.
نحن نشعر بالاعتزاز عندما نعرف ان هذه القومية انشات المعتزلة و ابن رشد و أبا العلاء المعرًي و غيرهم ممًن أعطوا للعقل مكانة هامة في التفكير العربي و حرَروه- الى حدً بالطبع - من قيود الجبرية و الاستسلام فكانوا خير مواصل للجوانب المضيئة في الفلسفة اليونانية، بل و يرجع الفضل لبعضهم-ابن رشد- في تعريف الوروبيين بعظماء الفلسفة ( أرسطو مثلا). كما نشعر بالاعتزاز القومي عندما نعرف ان هذه الأرض الطيبة أنجبت جابر ابن حيان و بن الجزار و بن البيطار و بن زهر و بن الهيثم و المقريزي و الادريسي و غيرهم ممَن أبدعوا في ميادين الرياضيات و الطَب و الفلك و الجغرافيا فاتحين مرحلة جديدة في العلوم الصحيحة. و قد أكد انجلز أحد مؤسسي النظرية الشيوعية هذه الحقيقة بقوله:
" فأسس العلوم الطبيعية الصحيحة قد وضعت من قبل اغريق المرحلة الاسكندرية بادئ الأمر،و من قبل العرب فيما بعد، و في القرون الوسطى"(ف.انجلس-أنتي-دوهرنغ-ط.دار دمشق-تعريب الد. فؤاد أيوب-ط جامعية 1981-ص.27).
و يغمرنا نفس الشعور أيضا عندما نعلم ان اصحاب "رسالة الغفران" و "المقامات" و " البخلاء" هم من اسلافنا المبدعين في وصف أحوال عصرهم بعبارة أدبية صافية و ذكية. وان من بينهم ايظا الخليل بن احمد الفراهيدي واضع العروض، و غيره من اللغويين الذين صنَفوا أولى المعاجم العربية.
إن نفس هذا الشعور بالعزة القومية، يغمرنا أيضا عندما نلتفت الى ماضينا فنجد فيه اباذرَ الغفاري و القرامطة، و غيرهم ممن قاوموا الظلم و الاستبداد و رفعوا راية المساواة و العدل في وجه الطغاة الجائرين.
مما يزيدنا اعتزازا ان القطر التونسي قد ساهم في صنع هذا البناء الحضاري الشامخ عن طريق أسماء لمعت في تاريخ الطب كابن الجزار و الرياضيات كالقلصداوي و الأدب كابن رشيق و التاريخ كابن خلدون.
لكن هذا الشعور بالعزة القومية لا يعمينا عن الاعتراف بالجميل للعديد من عظماء الرجال المنحدرين من اقوام أخرى و خاصة من بلاد فارس وأسهموا ايما اسهام في تطوير الحضارة العربية بما كتبوا و أبدعوا بلغتنا من أمثال الطبيب ابن سينا و اللغوي سيبويه الذي وضع أسس النحو العربي و عبد اللَه بن المقفع مترجم كليلة و دمنة و غيرهم كثير.
غير أننا و إن كنا نشعر بالعزة القومية أمام هذه الاسهامات التلريخية العظيمة الشان فاننا لا نخفي ابدا، الجوانب المظلمة من تاريخنا القومي.نحن لا نخفي ازدراءنا الاستغلال الاجتماعي الفظيع الذي استهدف الطبقات الشعبية لقوميتنا طوال قرون عديدة من قبل الاقطاعيين و الاسياد و العسكريين. و من الاستبداد الفكري و السياسي الذي عرفته ربوعنا. فبين ظهرانينا نشأ ألف حجاج، و اصبح "السفاح" من ألقاب أمرائنا، و تفنن حكام اسلافنا في خلق أساليب التعذيب الوحشية التي لا يتصوضرها الخيال و التي عدَ بعضها مثل قطع اليد و الرجم و بتر الأعضاء من سبيل المقدسات الشرعية، و قد ذهب ضحية هذا التعسف اكثر من مفكر و أديب كبير بدعوى الزندقة فنكل بالمعتزلة، و أحرقت كتب بن رشد و جلد بشار حتَى الموت و اعدم بن المقفع الخ... و ينتابنا شعور بالاستياء عندما ننظر الى ماضينا القومي، فنلاحظ تلك المهانة الكبيرة التي خصَ بها النساء. فابيح تعدُد الزوجات، و التسرَي و الاماءو الجواري، حتي أصبحن يملأن بلاطات خلفاء و أمراء أفنوا أعمارهم في السكر و الدعارة، و يكفي القارئ أن يلقي نظرة على الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني و على كتب التاريخ حتى يتبين المظالم الكبرى التي ألحقتها الطبقة الاقطاعية بذلك الكائن النبيل.
و ينتابنا هذه الشعور أيضا أمام ما يقدمه لنا تاريخنا القومي من مظاهر الجور التي مارسها الحكام الاقطاعيون العرب تجاه القوميات الأخرى. فنحن نستاء مما ألحقه هؤلاء بالفرس من اضطهاد قومي و نقر بشريعة الكفاح الذي خاضه هؤلاء دفاعا عن ذاتيتهم و اتخذ أشكال عدة و قد عرفت حركتهم في الأدب "بالشعبوية" التي كان بشار بن برد و ابو نواس من روادها. كما نستاء من القهر الذي تعرضت له الأديان الأخرى الذين ظلوا معتبرين "كفرة" من " أهل الشيطان" و في أحسن الحالات، من "أهل الذمة". و سلطت عليهم مظالم كالجزية خاصة، و حرما من حقوقهم السياسية...
نحن لا ننكر هذا الماضي و لا نسعى الى تبريره و تجميله بشتى الطرق، و لسنا ممن يعتبرون ان العرب " خير أمة أخرجت للناس" و لكننا نقدر أن تاريخ كل امة يحمل في طياته الأنوار و الظلمات.لذلك لا تنتابنا العقد عندما نتحدث عن ماضينا و لا نخجل من نقده و من وضع كل ظاهرة في سياقها التاريخي بالاعتماد على سلاحنا العلمي، سلاح المادية الجدلية و التاريخية.
غير ان تاريخ قوميتنا لم يتوقف عند هذا الحد الذي تطورت فيه الحضارة العربية تطورا هائلا، فقد جاء عهد تكلس فيه الفكر العربي و توقفت العلوم عن التطور، و سادت عقلية "النقل" و "التقليد" تحت ضربات المذاهب المحافظة و الحكام الجائرين. و من وقتها بدأ عهد الانحطاط العربي، فوقعت هذه القومية تحت نير الاضطهاد العثماني ثم تحت نير الاضطهاد الاستعماري و الامبريالي.
و نحن كماركسيين لينينيين ينتابنا الألم و الحسرة عندما نعاين ما اصبحت عليه أحوال هذه القومية في عصرنا الحالي.فهي ممزقة، مشتتة، ينهب ثرواتها و خيراتها الهائلة الامبرياليون و الامبرياليون الاشتراكيون و الصهاينة. و ما كان لهؤلاء ان يعيثوا فسادا في هذا الوطن ، لولا الطغمالبرجوازية و الاقطاعية التي تحكم اقطاره و تمرغ الشرف و الكرامة القوميين في الوحل. و هي تصبح و تمسي على الخطب الرنانة حول العروبة و حول "قضية العرب المركزية" القضية الفلسطينية، و هي في الواقع تبيع هذا الوطن بالمزاد العلني للامبرياليين و تشكل منهم مستشاريها و حرَاسها و تطعن الشعب الفلسطيني بالف خنجر، و لم تفلح الا في حياكة الدسائس ضدَه و ضدَ بعضها، في الوقت الذي تعجز فيه على ان ترفع التحدي الصهيوني و لو لحظة واحدة عن اجزاء ارضها المحتلة. و قد اصبح المواطن العربي في ظلَ حكم الطوائف هذا، يخجل في ياعات اليأس من انتسابه القومي، و يغمره الخذلان و يتمنى لنفسه الموت على يعيش هذه المهانة.
قومية يكدح عمَالها و فلاَحوها من الصبح الى المساء و لا يحصلون على قوت يومهم. و يموت فيها الالاف جوعا و اراضي قطر واحد من أقطارها يمكن ان تسد حاجياتها كاملة من الحبوب.
و هي بقدر ما كانت مركزا للاشعاع الحضاري و الثقافي بقدر ما اصبحت نموجذا في التخلف و الأمية.
قومية نساؤها مازلن يرزحن تحت نير الاضطهاد الأبوي و يملأن حريم الذين لم يبقى للشرف عندهم من معنى سوى في تلبيس "حوَاء" حجابا و يعد فيها تعدد الزوجات "رحمة و رأفة بالمرأة" و يعتبر فيها مشاركتها في الانتخابات كفرا والحادا...قومية محكومة بالحديد و النار معتقلاتها تنافس مدارسها و مستشفياتها عدًا و لا تزال تقطع فيها الرؤوس بتهمة الزندقة، و يرجم الناس و تقطع اليدي و يناقش على صفحات بعض جرائدها ان كانت اليد المقطوعة ملكا للحكومة او لصاحبها.
النهضة القومية آتية لا ريب فيها:
هذه هي احوال قوميتنا التي تدمي قلوبنا. لكننا بالرغم من ذلك نشعر بالعزة لان هذه القومية لم تنجب الخونة و العملاء و الجلاَدين والمجرمين فقط بل أنجبت أيضا أبناء بررة يعدُون بالملايين و ما انفكوا يفدون هذا الوطن الكبير بأرواحهم و يسقونه بدمائهم.
نحن نشعر بالعزة القومية عندما تجول بخاطرنا صورة المجاهد الجزائري... صورة جميلة بوحيرد وصورة الفدائي الفلسطيني الذي ضرب أروع المثال في البطولة و الدفاع عن شرف هذه القومية... و صورة سناء يوسف عروس لبنان بمسلميها و مسيحييها، و تزداد هذه العزة شموخا عندما نرى ان هذه القومية قد انجبت عملاقا جبَارا مازال عوده يافعا لا محالة، غير انه ما انفك يتدرب الصراع و يتأهب للانقضاض النهائي على العدو الوطني و الطبقي و هذا العملاق هو ملايين العمَال الذين اصبحوا يشكلون في معظم الأقطار العمود الفقري لنضالها الاجتماعي و الوطني.
ان كل العناصر الايجابية التي تبعث فينا الاعتزاز، هي التي تغمرنا بالامل بان النهضة القومية العربية آتية، لا ريب فيها، بل ان العاصفة الثورية التي بدأت تهب فيها تؤكد ان كل الشروط اصبحت متوفرة لهذه النهضة غير اننا نحن الماركسيين اللينينيين، لسنا مثاليين، لا نحلم " بنبوات" جديدة من شأنها ان تحقق هذه النهضة، و لا بقيام صلاح الدين من قبره ليحرر القدس. بل نعتبر ان كل شعب يبني نهضته وفق ظروف عصره. و ليس وفق أوهام بعض مثقفيه أو دجَاليه . و عصرنا الحالي، هو غير عصر العرب منذ 15 قرنا خلت. فقد تغيرت المعطيات الفكرية و الاقتصادية و الاجتماعية و العسكرية للعصر و من واجب شعوبنا أن تأخذ بعين الاعتبار هذا التغير، لا أن تبقى تمجَد السَلف الصالح و تندب حظَها، و تنتظر إحدى المعجزات لإنقاذها لان ذلك لن يجديها نفأخرى.عصرنا يتميز بكونه، يقابل بين قوتين أساسيتين هما الرأسمالية و الامبريالية و التي تمثلها اليوم على حدَ السواء الولايات المتحدة الأميركية و الاتحاد السوفياتي و الصين و انجلترا و فرنسا و ألمانيا و غيرها. من جهة الاشتراكية، هذه النظرية التي استوعبت كل ما هو تقدمي في تاريخ الإنسانية بما فيها تاريخنا العربي، و ما حققته العلوم المعاصرة من تقدم هائل، لتطرح فكرا ثوريا جديدا متماسكا يقطع مع نقائص الفكر التقدمي الماضي من جهة أخرى . و قد وافق ظهور هذه النظرية بروز طبقة العمال التي تشكل الاشتراكية العلمية(أو الماركسية اللينينية) التعبير الواعي عن مصالحها، و هي الطبقة المحورية للسيرورة الثورية لعصرنا و التي عبَرت عن قدرتها على النضال و التغيير في أكثر من مرة و في أكثر من بلد(الاتحاد السوفياتي بقيادة لينين و ستالين، ألبانيا...)
هذه المعطيات الأساسية لعصرنا و التي يندرج فيها نضال القومية العربية من اجل نهضتها و هي غير معطيات القرن السادس أو العاشر ميلادي. و لا يمكن البتة الاعتقاد في أي نهضة إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار لان محاولة طمسها، و الاكتفاء بالتغني بالماضي لن يقود إلاَ إلى المآزق. إن ماضينا القومي، لا يفيدنا إلا بقدر ما نستلهم منه و ليس بنقله. و من هذه الزاوية ينبغي أن نستلهم من أسلافنا نهلهم من ثقافات عصرهم، و استيعابها دون عقد ضمن خصائصهم القومية و تمكنهم على قاعدة ذلك من تقديم إسهامات كبرى في ميادين الطب و الرياضيات و الفلك و الأدب و الفن...
و من المتأكد أن أسلافنا لو توقفوا في حدود لوك الماضي لعجزوا عن تقديم أي شيء. و ليس أدل عن ذلك من عصور الانحطاط التي تميزت بتوقف العرب عن "الاجتهاد" و التفكير باهتمامهم بتقليد "السلف الصالح". لذا يصبح من واجب شعوبنا اليوم أن تستفيد من تطور العلوم، و من الماركسية اللينينية، النظرية الثورية لعصرن. و على الطبقة العاملة في الأقطار العربية أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية، بعد أن ثبت الفشل الذر يع للبرجوازية القومية الخاضعة للرأسمال العالمي و المنضوية تحت البعث أو الناصرية أو الأحزاب المسماة زيفا شيوعية عربية، في التقدم خطوة واحدة بقضية العرب، أن تتحمل مسؤولياتها في قيادة العملية الثورية التحررية من نير الهيمنة الامبريالية و الرجعية في كل قطر من هذه الأقطار، و من الأكيد أنها لا يمكن أن تقوم بهذه المهمة، دون أن تتوفر لها هيئة أركانها " الحزب الشيوعي"(الماركسي اللينيني)، الذي يطرح على الماركسيين اللينينيين في كل قطر تكوينه، و تحقيق انصهاره بطبقته و التفاف الشعب حولهما.
ونحن نعتبر كشيوعيين (ماركسيين ليينين) أن نهضتنا القومية ليست ذات بع ديني لأن صراع شعوبنا مع أعدائها الوطنيين ة الطبقيين ليس صراعا صليبيا، تحرَكه أغراض دينية. و لكنه صراع يحركه (الاستغلال و الفقر و النهب) و سياسي( القمع و الإرهاب و القهر) و ثقافي (التجهيل و تذويب الشخصية القومية) و بالتالي فان نهضة هذه الشعوب التي يعمل من أجلها الشيوعيون (الماركسيون اللنينيون) الحقيقيون هي:
أولا: اقتصادية؛ لان العرب إذا لم يضعوا أيديهم على ثرواتهم و خيراتهمالطبيعية و في مقدمتها البترول لتوظيفها في خدمة مصالحهم الوطنية، ولم يكنسوا كل وجود امبريالي بأقطارهم كنسا نهائيا و لم يتملكوا التكنيك العصري و لم يسدوا حاجياتهم بأنفسهم فمن واجبهم أن يطرحوا من بالهم إمكانية تحوَلهم إلى أمة حرة.
ثانيا: اجتماعية؛ لأن شعوبنا إذا لم تقضي على الفوارق الاجتماعية، و لم ترس العدالة بين ظهرانيها و ذلك وسائل الإنتاج من ملكية خاصة إلى ملكية اجتماعية. و إذا لم تحرر آخر فقير من قيود فقره و لم تشغل آخر بطال فلا يمكنها أن تحلم باستعادة عزتها القومية.
ثالثا: سياسية؛ لأن نهضة دون القضاء على الاستبداد الفكري و السياسي و دون إقرار نظام ديمقراطي بحق قائم على سيادته الشعب، يكنس إلى الأبد كل تعسف طائفي أو ديني، وكل تعد على حقوق الكادحين في التعبير و التنظيم و التظاهر، و يقبر بلا رجعة الممارسات المشينة التي لا تزال قائمة في بعض أقطارنا من قطع للأيدي و جلد و رجم و غيرها، و يعطي السلطة للشعب.
رابعا: ثقافية؛ إذ لا نهضة قومية أيضا دون نشر المعارف العلمية و القضاء على الأمية قضاء تاما، و دون تطوير آدابنا و فنوننا و علومنا، بالاعتماد على ما في مخزوننا الثقافي من تقدمي و جميل، و على ما حققته الإنسانية من مكاسب.
هذا هو مضمون النهضة الذي يستجيب لظروف عصرنا، و الذي من شأنه أن يعيد لشعوبنا العربية عزتها. و هو مضمون له أبعاد إنسانية تقدمية علمية خال من كل شوفينية و عرقية و تعصب ديني، يربط مع نضال الشعوب الأخرى من أجل التحرر الوطني و الاجتماعي و يدعمها. و من الواضح، و هو ما أكدته التجربة التاريخية أن لا قوة اجتماعية غير الطبقة العاملة تقدر على تحقيق هذه المهمات بتماسك لأنها الطبقة الوحيدة التي تتعارض موضوعيا مصالحها مع الامبريالية و مع رأس المال و كل بقايا المجتمع الإقطاعي حتى النهاية، و لأنها الطبقة الوحيدة التي يملك فكرا(الاشتراكية) قادرا على رسم السبل الموصلة إلى هذه الغاية. و نحن كماركسيين لينينيين، نتحرك ضمن القطر التونسي فأن رسالتنا تتمثل في أن نعمل من أجل تحقيق الأهداف المذكورة ضمن حدودنا و من الأكيد أن الماركسيين-اللينينيين في الأقطار العربية الأخرى سيقومون إن عاجلا أم آجلا بما هو منوط بعهدتهم. إن الماركسيين اللينينيين لا يختارون ظروف نضالهم، و لكنهم يعملون ضمن ظروف موضوعية موجودة و مستقلة عن إرادتهم يسعون إلى تغييرها
أمميون و أمميتنا مادة جذورها في وطننا
هذا هو نحن الماركسيين اللينينيين التونسيين، إننا أمميون. ولكن أمميتنا مادة جذورها في تربة هذا الوطن. نحن الورثة الشرعيين لكل ما هو نير و ايجابي في تاريخه. لا ندافع عنه بالكلام فحسب و لكن نفديه بكل غال و نفيس، و لا نكتفي بالتأمل فيه في متحف التاريخ و لكن نستلهم منه و نطوره متجاوزين حدوده و نقائصه. و بعبارة أخرى نحن تواصل لابن رشد و لكل رموز العقلانية في تاريخنا الذين شكلوا منارة العرب في العصور السالفة. و لكننا لسنا تواصلا لهم بالمعنى السطحي للكلمة. لسنا مجرد ناقلين عنهم أو مكيفين لأفكارهم مع عصرنا، بل تواصل لهم بمعنى إننا استوعبنا ما حققته البشرية من مكاسب معرفية منذ عصرهم على ضوء تقدم العلوم و الحياة الاقتصادية، (وهي المهمة التي قاموا بها هم في عصرهم ليقدموا ما قدموا من إسهامات) لتسليح شعبنا بمفهوم أرقى لتطور الطبيعة و المجتمع، و الذي تمثله نظرية المادية الجدلية و التاريخية التي تشكل تجاوزا للطابع المثالي و الميتافيزيقي لعقلانيتهم و قطيعة معه.
نحن تواصل لأبي ذر الغفاري و لكل رموز مقاومة الاستغلال و القهر في تاريخنا. و الطبقة العاملة هي طبقة "العبيد" و "الأقنان" المعاصرة. و لكننا لسنا تواصلا لهم أيضا بالمعنى التسطيحي للكلم أي أننا لسنا مجرد دعاة "للعدل" و "الإخاء" فقط...
و لكننا تواصل لهم بمعنى أننا نحن الممثلون الحقيقيون للقوى الرافضة للاستغلال في عصرنا مثلما كانوا هم في عصرهم، مع الفارق أن بيننا و بينهم قرونا من الزمن و أن العدل الاجتماعي في عصرنا أصبحت قاعدته في التطور المادي للمجتمع البشري، و أصبحت هناك نظرية صحيحة(الاشتراكية العلمية) تحدد كيف يتحقق، بين كان هذا الشعار في عهد أبي ذر الغفاري و أمثاله من التقدميين شعارا مثاليا، غير ممكن التحقيق لعدم توفر الشروط الموضوعية و الذاتية لذلك مما جعل الغلبة تكون للطبقات الإقطاعية التي كانت تمثل طبقات عصرها. و لئن كانت الطبقة العاملة هي طبقة "العبيد" المعاصرين فهي ليست أيضا ذلك بالمعنى الحرفي للكلمة. و لكن بمعنى أنها الطبقة الأساسية المنتجة للخيرات المادية في عصرنا و التي تتعرض لاستغلال فاحش مع الفارق أن بين ظروف العبيد من جهة و الطبقة العاملة من جهة ثانية بونا واسعا في كيفية استغلالهم، و في أن هذه الطبقة و هو الأهم جاءت في ظرف - ظرف نمط النتاج الرأسمالي- أصبح فيه- بحكم التطور الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي للمجتمع – تحرير نفسها و تحرير كافة المجتمع من استغلال الإنسان للإنسان أمرا ممكنا بينما كان في العهود السابقة مجرد حلم طوباوي.
هكذا، إذن، نمثل نحن الماركسيين اللينينيين، في العصر الحالي لقوميتنا المكافحين الحقيقيين من أجل نهضتنا الوطنية، لأن الاشتراكية التي نرمي إلى إرسائها تعني الخلاص للوطن، و ستفتح له الطريق نحو الارتقاء كما تعني صيانة ثقافته و تراثه و تقاليده بكل ما فيها من تقدمي و جميل، و المضي بها قدما إلى الأمام من أجل مكاسب جديدة.
خصومنا بين التقوقع في الماضي
و" الحلم الغربي"
و الآن بعد أن حاولنا أن نبين موقفنا من مسألة الهوية، نمر إلى استعراض مواقف خصومنا. و سنركز بصورة خاصة على الذين لم يفتضحوا بعد بما فيه الكفاية. سنبدأ ب "حركة الاتجاه الإسلامي" التي تطرح نفسها كبديل للواقع الحالي، و كوصي على " التراث" و على "الحضارة العربية الإسلامية" ثم سنعرج على مواقف التيار القومي البرجوازي و بعض التيارات الليبرالية الأخرى من هذه المسألة. و أننا لا نرى فائدة من التعرض في هذا المجال إلى موقف ممثلي البرجوازية الكبيرة، أي موقف التبعية إلى الغرب الذي يعكس التبعية الاقتصادية و السياسية ، لان هذا الموقف افتضح، و ما كان لهذه القضية أن تطرح لولا هذه التبعية و ما نجم عنها من ضرب للشخصية الثقافية لشعبنا.
إن ما يميز " الاتجاه الإسلامي" هو انه يتستر بشعار "التمسك بالحضارة العربية الإسلامية" لإخفاء مفاهيم و ممارسات موغلة في الرجعية تتنافى مع شروط كل نهضة وطنية لشعبنا. فباسم هذا الشعار و مقاومة "التغريب" يغرق " الاتجاه" شعبنا في غربة أخرى، غربة عن حاضره و مستقبله، غربة عن مكتسبات الإنسانية التقدمية الفكرية و العلمية، و من البديهي، إن مثل هذه النظرة لا تقود، شاء أصحابها أم لم يشاؤوا، إلا إلى إبقاء شعوبنا غارقة في التخلف،و هو ما يجعلها باستمرار فريسة للهيمنة الأجنبية.
فعلى المستوى الفكري، ينظر "الإسلاميون" إلى الحضارة العربية الإسلامية، نظرة إطلاقية تغيب فيها كل روح نقدية، بل انه يحصر كل تراث العرب و الإنسانية في القران و السنة الذين يخرجهما عن كل مكان و زمان و يحولهما إلى إكسير صالح لكل شيء، معتبرا كل تجديد بدعة و كل إعمال للعقل بدعة. و هذه النظرة السكونية، الجامدة هي نظرة عصر الانحطاط التي تبرز لنا الإسلاميين كورثة شرعيين لمذاهب هذا العصر السائدة الزارعة للعجز، للاعقلانية الغزالي، و لجمود ابن تيمية و ابن حنبل. و مثلما رمى هؤلاء السكونيون كل عقلانيي الحضارة العربية من أمثال رشد و المعتزلة، و أبي العلاء بالكفر و الزندقة’ معتبرين أن كل تفكير من شأنه أن يسقط في الابتعاد عن " الدين" فان "الإسلاميين" يواصلون نفس ما قام به أسلافهم. فعلاوة على مشاركتهم نفس النظرة لأعلام الحضارة العربية’ فأنهم يقومون بنفس المهمة القذرة تجاه القوى التقدمية في عصرنا، التي تعمل من أجل النهضة الفكرية لهذا الوطن. فتراهم يستنكفون من ذكر محمد عبده و يرمون علي عبد الرازق بالكفر، و يكلون شتى التهم للطاهر الحداد، و ينعتوننا نحن الماركسيين- اللينينيين "باللا وطنية"و " التغريب". و هكذا يتحول التمسك بالحضارة العربية الإسلامية لدى "الإسلاميين" إلى و سيلة لقتل ملكة التفكير عند شعبنا، و إسقاطه في الجمود، و التصدي لكل تطور أو نهضة فكرية و رمي كل مجدد بالكفر و الزندقة. و هي وسيلة أيضا للحيلولة دون كل تفاعل مع المكتسبات الفكرية للإنسانية، بصورة خاصة نظرية المادية الجدلية و التاريخية التي تمثل المنهج المعرفي المكتمل و المتماسك في عصرنا الراهن. و من البديهي أن من يدعو إلى الجمود لا يمكن أن يشكل نواة نهضة، لأن النهضة حركة تتضمن تجاوز سلبيات القديم، و تطوير ايجابياته، بل القفز إلى مرحلة جديدة أرقى.
أما على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي، ماذا يطرح هؤلاء؟ و هل أن ما يطرحونه يقدر على تحقيق نهضة شعبنا فيخرج من التخلف و يقضي فيه على الفقر و البؤس و الفوارق الاجتماعية؟ إن ما نلاحظه في سلوك "الإسلاميين" أنهم يتهربون من تقديم برامجهم بدعوى أنهم ليسوا في السلطة و ليسوا حكومة ليطالبوا ببديل.
لكن هذه الديماغوجيا لا تقدر على طمس حقيقة "الاتجاه" فهو مع الاستغلال و ليس ضده و هو مع انقسام المجتمع إلى طبقات، إلى أغنياء و فقراء، و يعتبر ذلك أمرا طبيعيا، ومن باب "سنة الله في خلقه" تماما كما كان الأمر في "حضارتنا العربية الإسلامية" التي وجد فيها الأغنياء و الفقراء و المساكين و العبيد، و كانت الزكاة و الصدقة و ما إلى ذلك من "أعمال الخير" هي الوسيلة التي يغطي بها الغني ثراءه و يكمم أفاه معارضيه. و مثل هذا الموقف القائم على تقديس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، "كنازع فطري" في الإنسان، و يقدمون له العون المادي و المعنوي و يراهنون عليه مستقبلا لصد تنامي الحركة الشعبية و العمالية التي تناضل من أجل غد أفضل، من أجل مجتمع متحرر من الاستغلال. لذلك فان الإسلاميين ليسوا سوى امتداد لقوى الاستغلال القديمة، مع فارق أنهم المدافعون عن نظام الاستغلال المميز لعصرنا و هو الرأسمالية، رغم تخفيهم وراء "مساندة المستضعفين" و معارضة "المستكبرين"للمغالطة و التمويه.
و هكذا يتضح بأن "التشبث" بالحضارة "العربية الإسلامية" و نبذ "التغريب" ليس سوى تعلة بالنسبة للإسلاميين لتأبيد الاستغلال في مجتمعنا و صرف أنظار الطبقة العاملة و الكادحين عن الاشتراكية العلمية التي تمثل طريق خلاصهم، بدعوى أنها "دخيلة على حضارتنا". و من البديهي أن الاتجاه الإسلامي، بمثل هذا المنظور لن يتمكن من قيادة شعبنا في نضاله من اجل التخلص من استغلال الطبقات الرجعية و من الهيمنة الاقتصادية الأجنبية. بل سيؤبدها ويؤبد معها التعاسة و الفقر و البطالة و كل هذه الأمراض اللصيقة بالنظام الرأسمالي.
أما على الصعيد الاجتماعي، فأن أمر "الاتجاه الإسلامي" يفتضح أكثر في قضية أساسية من قضايا مجتمعنا، و هي قضية المرأة التي تشكل جزءا أساسيا من المسألة الديمقراطية. فالإسلاميون يتظاهرون بنقد مظاهر التحلل البرجوازي الذي استفحل في مجتمعنا(البغاء...الخ)، و لكنهم ماذا يطرحون كبديل للنهوض بالمرأة و المجتمع؟ إنهم يطرحون الرجوع إلى حضارتنا العربية الإسلامية لنستلهم منها ماذا: عودة المرأة إلى البيت و حبسها فيه و حرمانها من الشغل و إعادة إقرار تعدد الزوجات و حرمان المرأة من حق الطلاق و فرض لباس الحجاب عليها... في كلمة الرجوع بها إلى وضعية عصور الانحطاط بدعوى أن "تقاليدنا" تأبى أن تتساوى "ناقصة عقل و دين" مع الرجل الذي تتوفر فيه كل الشروط الجسمانية و العقلية ليستعبدها. و قد نسي الإسلاميون أن من تقاليدنا إباحة الجواري و السراري و الإماء و الغلمان.
و انطلاقا من هذه النظرة يعتبر الإسلاميون أن كل من ينادي بتحرر المرأة و بمساواتها مع الرجل في الحقوق و الواجبات "تغريبيا"و "منبتا" و هم يتهمون الماركسيين اللينينيين بصورة خاصة بأنهم من دعاة "الحرية الجنسية" و اتهام يثير الاستهزاء و الشفقة في نفس الوقت ، إذ ترى من هو داعية الفجور و الزن اهو المدافع عن تعدد الزوجات (و لما لا الجواري أيضا) و الذي يعتبر المرأة "وعاء" ليس إلا، حاصرا وظيفتها في تلبية شهوات الرجل و إنجاب الصغار و تربيتهم؟ أم هو الذي يناضل من أجل استعادتها لكرامتها ككائن بشري عبر إقرار مساواتها مع الرجل بإدماجها في الحياة الاقتصادية و تمكينها من كسب المعارف و المساهمة النشيطة في الحياة السياسية، و عبر القضاء على كل الظروف التي ترمي بالمرأة في أحضان البغاء و عبر خلق الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي تحول الزواج الأحادي إلى واقع فعلي. يقول أنجلس احد مؤسسي الشيوعية العلمية، ردا على الذين يتهمون الشيوعيين بأنهم من دعاة "مشاعة النساء":
"إن مشاعة النساء ظاهرة لا يعرفها سوى المجتمع البرجوازي وحده و تحقق اليوم عن طريق البغاء، غير أن البغاء يرتكز إلى الملكية الفردية، و بزوالها يزول، و عليه فإن النظام الشيوعي لن بمشاع لنساء، بل بالعكس سوف يلغيه".(انجلس مبادئ الشيوعية"
و يزعم الاسلاميون أن تعدد الزوجات وسيلة لمنع الزنا،بينما المناداة بالزواج الاحادي تحريض عليه. أفليس تعدد اللزوجات نفسه زنا؟ ثم متى اختفى الزنا من تاريخ العرب ( و معظم الشعوب) رغم تعدد الزوجات؟ و علاوة على ذلك أليس في هذه الحجة دلالة على الحط من قيمة الرجل والمرأة على حد السواء: الرجل وحش جنسي و المرأة أداة متعة، و هو المفهوم الذي ساد طوال العصور الذي تسيطر فيه الطبقات الاستغلالية التي استعبدت الرجل و المرأة على حد السواء.
هكذا اذن يتضح لنا كيف أن "التمسك بالحضارة العربية الاسلامية" ليس سوى وسيلة بالنسبة للإسلاميين على مستوى اجتماعي، لتأبيد استعباد المرأة و قهرها. وتراهم يفعلون معنا نحن الماركسيين اللينينيين ومع كل التقدميين تماما كما فعل اسلافهم مع قاسم أمين في مصر ومع الطاهر الحداد في تونس. أفلم يرم الحداد بالكفر والزندقة لأنه نادى بتشغيل المرأة وتعليمها والمساواة بينها وبين الرجل في الإرث و بمنع تعدد الزوجات, على أنه لم يخرج في الدفاع عن أفكاره عن الاستناد إلى الدين؟ فكيف يمكن لحركة "كحركة الاتجاه الاسلامي" أو ما شابهها(حزب التحرير) ان تقود نهضة اجتماعية ببلادنا؟
و على المستوى السياسي لا يخفي "الاسلاميون" الاستبداد. فباسم "التمسك بالحضارة العربية الاسلامية" أيضا, يعتبر هؤلاء الديمقراطية بدع غريبة, ولا يرون من أنموذج لنظام الحكم الا ذاك الذي ساد في العصور الاسلامية الاولى, اي ذاك النظام التيوقراطي المبني على الحكم الفردي والذي تنتفي فيه حرية التفكير والتعبير والتنظيم و يضطهد فيهالإنسان سبب معتقده بدعوى"ان الحاكمية لله" التي تعني في حقيقة الأمر حاكمية الغنوشي او مورو المستترة بالدين لتتخذ هالة قدسية ولتصبح كل معارضة لهما معارضة لله يعاقب عليها صاحبها بالقتل. أما أن يأخذ الشعب مصيره بيده, ويشرع القوانين ويراقب تنفيذها, يختار ممثليه ويمارس ضدهم العزل كلماخرجوا عن الخط الذي رسمه ويعامل كل فرد منه على اساس المساواة فذلك "بدعة"و"كفر"و"تغريب".
ويظهر الوجه البشع "للاسلاميين" عندما يعبرون بوضوح عن عزمهم على إعادة العمل " بالحدود " أي بقطع الأيدي و الأرجل والجلد والرجم. ويعتبرون ذلك من باب "التمسك بالحضارة العربية الإسلامية" و يربطون "نهضة الأمة" بالعودة إلى هذه الممارسات و يستهزؤون بمن يعارض هذه الممارسات (الماركسيون اللنينيون و القوى التقدمية) و يدعو إلى تجاوزها و خلق مجتمع يحافظ على حياة البشر. و تنمي فيه أجسامهم و عقولهم, و هو المجتمع الاشتراكي الذي ينتفي فيه استغلال الإنسان و يقضي على أسباب السرقة و البطالة والبؤس كأمراض اجتماعية.
و هكذا يتضح أن "التمسك بالحضارة العربية الإسلامية" ليس إلا طريقة بالنسبة للإسلاميين لحرف الطبقة العاملة والشعب عن النضال من أجل نظام سياسي ديمقراطي يجعل من إسعاد الإنسان المادي والمعنوي هدفه الأول و الأخير, بدعوى أن هذا يتنافى مع "حضارتنا" و مع "ديننا". و بهذه الصورة يبرز "الإسلاميون" كورثة للوجه المظلم من حضارتنا, كورثة للاستبداد, للحجاج و السفاح... و مثلما كان أسلافهم يمثلون الطبقات الإقطاعية فإنهم اليوم يمثلون غلاة البرجوازية الكبيرة التي لنتتورع لصد النضال الطبقة العاملة والشعب عن العودة إلى تلك الممارسات الإقطاعية الهمجية التي رأينا كيف مورست في السودان

الاشتراكية والدين


الاشتراكية والدين


إن مسألة الاشتراكية والدين، لا تعني توضيح موقف الاشتراكية من الدين للجماهير فحسب، بل تسعى إلى توضيح أبعاد علاقة الاشتركيين من الدين للاشتراكيين أنفسهم


الاتهام الأساسي الذي يوجه للاشتراكية هو "الإلحاد". يستند هذا الاتهام على مقولة ماركس"الدين أفيون الشعوب"، وهي عبارة ناقصة تحتاج إلى توضيح ، فتكملة العبارة "..الدين أفيون الشعوب..وروح في عالم بلا روح وعزاء لمن لا عزاء له.."، وبالمناسبة كان الأفيون يستخدم في العلاج كمسكن ومخدر طبي، والمقولة تعني في مجملها أن الجماهير الكادحة التي تكتوي بنار المعاناة والاغتراب، لا تجد لها عزاءا إلى في الدين، وهو بمثابة روح في ذلك االعالم المادي. كما أن الكنيسة في أوروبا، كانت جزءا من مؤسسة الحكم والسيطرة والاستغلال المباشر، لذا فكانت تعتبر عدوا مباشرا امام الجماهير في سبيل تحررها. فبينما اتخذت الثورة الروسية مواقف حازمة من الكنيسة، اعطت حقوقا أكثر للمسلمين في الجمهوريات الإسلامية، منها حق استخدام اللغات المحلية، وفتح المدارس الدينية، واللجوء للقضاء الشرعي.


الصهيونية تستخدم الدين في تبرير استعمارها لفلسطين وإبادة أهلها، في الوقت الذي تحمل المقاومة، في لبنان وفلسطين، مرجعية دينية. فالنصوص الدينية دائما قابلة للتأويل، وكمثال على ذلك، كان الاستعمار الأسباني والبرتغالي لأمريكا اللاتينية يستخدم النصوص الدينية في تبرير احتلاله واستغلاله للشعوب الأصلية للقارة، ويعتبر نفسه مبشرا بالمسيحية، ويعطي نفسه حق مقاتلة كل من لا يقبلون سيطرته "المقدسة"، كان هذا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وفي سبعينيات القرن العشرين، تبلور في القارة نفسها "لاهوت التحرير" وهو تأويل ثوري للمسيحية، يقف إلى جانب الكادحين والمستغلين، وحقهم في النضال من أجل التحرر من الظلم والاستغلال. وهناك الكثير من الامثلة التاريخية في جميع الديانات التي ينطبق عليها الأمر نفسه.


تاريخيا، كان الاستعمار هو من ألصق تهمة الإلحاد بالشيوعيين، لتبنيهم قضايا مواجهة الاستعمار، بينما ترَفَّع الشيوعيون العرب عن مواجهة تلك التهمة، اعتمادا على انخراطهم الحقيقي بين الجماهير المناضلة، ولعل المد الوهابي منذ السبعينيات مقابل تراجع دور اليسار، كان سببا في ترويج تلك الاتهامات.


نظريا، ترى الاشتراكية الثورية الدين كجزء من تكوين المجتمع لا يمكن فهمه بمعزل عن فهم وتحليل تطور هذا المجتمع، والعلاقة بين القوى الفاعلة فيه، وبالتالي لا يمكن أن تنظر للدين في كل زمان ومكان باعتباره شيء واحد. فالاشتراكيون الثوريون يقفون ضد شيخ الازهر وضد البابا، ليس لأنهم يمثلون االمؤسسات الدينية، بل لأنهم يقفون في صف النظام الحاكم ضد نضالات الجماهير، وبالتالي يتخذ الاشتراكيون الموقف نفسه من أي شخص، حتى لو اعتبر نفسه يساريا، و وقف في معسكر النظام.


يقف الاشتركيون موقفا صلبا ضد استخدام الدين في السيطرة على مقدرات الشعوب ونهبها، ضد كل من يقول بتحريم الخروج على الحاكم مهما فعل، أو من يطالب الجماهير الكادحة بالصبر والصمت على معاناتها، ضد كل من يستغل الدين في التحريض الطائفي، أو في إخفاء أفكاره السياسية الرجعية لخداع البسطاء،.


في المقابل، وقف الاشتراكيون مع الطالبات المنتقبات في نضالهم ضد تعسف إدارة الجامعة، ووقفوا ضد اعتقال الإسلاميين، وتعذيبهم، انطلاقا من مبدأ حرية التعبير والممارسة السياسية، كما وقفوا مع الاقباط مطالبين بحرية بناء دور العبادة.


كذلك يساند الاشتراكيون موقف قوى التحرر، ذات المرجعية الإسلامية، في فلسطين ولبنان وحتى أفغانستان، مع عدم إعفاءها من النقد السياسي لمواقفها. فالمبدأ هو الوقوف في صف القوى التي تناضل ضد الاستعمار، حتى لو كانت من مرجعية مختلفة، والوقوف ضد أية قوى مهادنة أو متخاذلة، حتى لو كانت أقرب نظريا لليسار.


النظام الرأسمالي هو نظام قائم على الاستغلال والسيطرة، سيطرة قلة تملك وتحكم، على أغلبية تعمل وتشقى، وهو يسيطر حتى على أفكارها، من أجل تعبئتها دائما بأفكار تبقيها خاضعة أو تشحن الكادحين بالكراهية والعدوانية ضد بعضهم البعض. لكن مجتمع العدل والمساواة والحرية، وهو طموح الاشتراكيين، هو بالضرورة مجتمع يتمتع فيه كل فرد بحرية العقيدة.

العلمانية مفهوما وتاريخا وراهنية



العلمانية مفهوما وتاريخا وراهنية


1 - لماذا العودة إلى طرح العلمانية ؟
نسعى في ما يلي إلى إعادة طرح موضوع العَلمانيّة على بساط التعريف وبيان المفهوم والمضمون والتطوّر ونبدأ بالوقوف على الدّوافع التي تدفع اليوم إلى معاودة النظر في العلمانيّة، والتي نلخصها في أمرين أوّلهماالغموض الذي عاد من جديد كي يلفّ العَلمانيّة ويجعل لها صورة محرّفة ومشوّهة عند الشباب وبين أفراد المجتمع عامّة، صورة ما انفكّ دعاة الانغلاق والتعصّب واستعباد الأرواح والأبدان يعملون على ترويجها ويمعنون في إخفاء حقيقتها، فإذا بالعلمانيّة حسب زعمهم "مفهوم غريب ودخيل وملحد وفاسد". أمّا الأمر الثاني الذي دعانا إلى التذكير بالعلمانيّة ونفض الغبار عنها وإجلاء صورتها وإظهار حقيقتها فهو الظروف والأوضاع الرّاهنة التي يمرّ بها العرب والمسلمون والحروب الطائفيّة والدّينيّة التي تجري مقدّماتها في العراق وتتهدّد باقي البلاد العربيّة والإسلامية وتمتدّ شظاياها إلى بلاد أخرى كثيرة شرقا وغربا حتّى لكأنّ العالم يوشك أن يغرق في عتمة "قرون وسطى" جديدة، ممّا حتم على حمَلة الأنوار وعلى التقدّميّين والأحرار في بلادنا العربيّة والإسلامية أوّلا، وفي سائر أرجاء المعمورة ثانيا التنبّه إلى خطورة التيّار وإلى العمل على إحياء القيم المدنيّة الكبرى والبحث عن قارب النجاة من طوفان الدّم الطائفي والعنصري الذي بات يحصد أرواح الآلاف في بلد كالعراق، بعد أن سلّمه المحتلّ الأمريكي-الغربي إلى "المرجعيّات" الدينيّة ورؤساء الطوائف والعشائر العملاء.
إنّ الكتابات الصّادرة، منذ ما يزيد على القرن، بل منذ عصر النهضة الأوروبيّة ثمّ الثورة الفرنسيّة وغير الفرنسيّة ليست هي التي تعوز القارئ والباحث والرّاغب في الاطلاع والتثقّف، وهي كتابات بمختلف اللغات لمفكرين وقادة سياسيّين، لأنصار الفكرة ومناهضيها، لمن تولّى بلورتهــا النّظريّة ولمن مارسها على أرض الواقع. وفي هذا السّياق كان للمهتمّين العرب والمسلمين بالمسألة إسهام ذو بال تناول العلمانيّة من جوانبها المختلفة. وقبل أكثر من عشرين عاما شهدت السّاحة الفكريّة والثقافيّة والسّياسيّة بتونس حراكا أتاحته الفجوة التي تلت أحداث قفصة 1980 وانقلاب 7 نوفمبر 1987 والتي سرعان ما أصبحت ذكرى، وتجسّد في تلك النقاشات والسّجالات الواسعة حول أمّهات الملفّات الشاغلة بال النخبة والمجتمع، بين المشروع المدني الدّيمقراطي ومشروع الدّولة الدّينيّة، وكان لا بدّ أن تكون العلمانيّة (أو اللائكيّة بعبارة تلك السّاعة) في قلب المواضيع المطروحة واتسعت منابر عديدة (الدّوريّة الفكريّة "أطروحات" خاصّة) لطرح تلك الملفّات واحتضان مادّة المطارحات.وقد أثمر الجدل حول "اللائكيّة" والدّولة الدّينيّة مادّة جديرة بالجمع والنشر لم يجمع منها وينشر – فيما نعلم - سوى كتاب "في اللائكيّة" لحمّه الهمّامي، لكن هذا التأليف على قيمته الوثائقيّة وقيمة الرّؤية التنويريّة والتقدّميّة التي قادته، يبقى متأثرا بظروف السّجال التي ولّدته، ومعنى ذلك أنّه أثر نظري يتوفر على قيمة عمليّة من كونه نتاج مواجهة لأسئلة الواقع ومجابهة للأضداد، لكن مهمّته لم تكن تثقيفيّة بالمعنى المدرسي والتكويني الذي نحتاج اليوم إليه، ولا يمكن أن تسدّ مسدَّ المراجع الأساسيّة المطلوبة في الموضوع. ولعلّ من الآثار الإيجابيّة لتلك النقاشات التي قابلت بين الرّؤى والمشاريع في الثمانينات والتسعينات حول صورة المجتمع التّونسي المنشود، ما تمّ على صعيد الجامعة من اهتمام بعض دوائر البحث والباحثين في الحضارة وعلم الاجتماع بالموضوع ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى العمل الذي أنجزه الأستاذ فتحي القاسمي في إطار المرحلة الثالثة تحت عنوان "العلمانيّة وطلائعها في مصر" والذي لم يتسنّ له أن ينشره كاملا غير مبتور إلا بمصر سنة 1999. هذا الكتاب ثمرة بحث وتقصّ، ويضمّ حصيلة نظر صاحبه في نشأة العلمانيّة وتطوّرها وطروحها العربيّة والإسلاميّة والأطراف المتقابلة عليها وبالتالي فإنّ الكتاب يكتسي أهمّيّة تثقيفيّة رغم ما نختلف فيه معه حول نظرته التي نراها تحتاج أحيانا إلى تعديل حتّى يقع إنصاف العلمانيّة من غلاة خصومها دون تردّد أو احتشام.
أمّا الملابسات التي تحفّ اليوم بإعادة العلمانيّة إلى دائرة الضوء فلا أحد يجهلها أو يحقّ له أن يتجاهلها، بل لعله لم تكن الحاجة إلى الحلّ العلماني ماسّة في البلاد العربيّة مثلما هي الآن، وهذه البلاد تقف على بركان الحروب الطائفيّة والدّينيّة، فضلا عن مخاطر صعود تيّارات دينيّة متطرّفة لا تميّز بين الدّين والسّياسة، وفضلا عن استغلال الأنظمة الحاكمة للدّين في خطابها الانتخابي وفي محاربة المعارضة الدّيمقراطيّة. وقد دلّت التّجربة على أنّ التشويه لا يأتي إلى العلمانيّة من خصومها الموجودين داخل الحكم وخارجه فحسب، بل كذلك من بعض "المدافعين" عنها مثلما يحدث أن يشاهد النظارة في بعض القنوات العربيّة، حين يتولّى الدّفاع لسان الامبريالية والصّهيونيّة فيبدو لمن يجهل حقيقة العلمانيّة كأن كلام أعدائها هو الصّواب، أو مثلما نسمع ونرى أحيانا في بلادنا حين يصبح بعض "أصوليّي العلمانيّة" حلفاء للدّكتاتوريّة تحت غطاء "مقاومة الظلاميّة" فإذا به متواطئ معها أو مبرّر لقمعها وفسادها وعمالتها.
ولذا سنسعى إلى تقديم مادّة تعريفيّة وتاريخيّة ونبدأ بتدقيق المصطلح وإيضاح العلاقة بين العَلمانيّة (بفتح العين" والعِلمانيّة (بكسر العين) واللائكيّة، هذا الثالوث الجاري على ألسنة النّاس والذي كثيرا ما يختلط أمره عند أغلبيّتهم.
2 - في التسمية
يتداول المتكلمون في كلامهم اليومي كما يتداول الباحثون المتخصصون في كتاباتهم أكثر من مصطلح لتسمية ما نسميه بالعلمانية. فهم حينا يستخدمون العَلمانية (بفتح العين) وحينا العِلمانية (بكسر العين) وحينا آخر اللائكية من الأصل الفرنسي Laïcité. وإن كانت الصيغة الأولى أقل هذه الصيغ رواجا رغم كونها تبدو الأصح والأنسب مثلما سنبين ذلك لاحقا.
وقد اختلف المترجمون والدارسون في التسمية اختلافهم في المفهوم الدقيق. اختلفوا بين العلمانية (بفتح العين) والعلمانية (بكسر العين) واللائكية وتباينت آرائهم حين أرادوا الاتفاق على تعريف موحد لهذا المتصور، ونحن نسعى إلى عرض مختصر لهذا الجدل الذي دار ويدور حول المسألة عسانا نخرج بما نراه الرأي الأصوب، حتى يقع تجاوز عتبة الموضوع نحو الجوهر الذي هو حقيقة العلمانية ولبها النافع، علما وأن خصومها وأعداءها أسهموا دائما في الإبقاء على التباس مفهومها بل وفي الترويج لمفاهيم هي براء منها، مما يستوجب التصحيح والتوضيح، وإزالة الشُّحن العقدية والذاتية التي تحجب الرؤية الموضوعية وتحُول دون المعرفة، وتهدف إلى التشويه. أول ما نريد الإشارة إليه هو أن هذه المصطلحات نشأت في فضاء الثقافة الغربية، فكانت التسميات الأولى من نصيب أهل المواليد. ومثل هذا المنشأ لا ينفي طبعا الطابع الإنساني عن الأفكار. فالعَلمانية (بفتح العين) يقابلها في اللسان الفرنسي sécularisme والعلمانية (بكسر العين) scientisme واللائكية Laïcité.
أما العَلمانية (بفتح العين) فتعود إلى أصلٍ هو العَالم (بفتح اللام) الدنيوي، ومنها العلمنة sécularisation من علمن séculariser ذي الجذر اللاتيني بمعنى siècle (قرن) إذن دلالة الزمان الواقعي، والحياة الوضعية. وتتفق العَلمانية (بفتح العين) والعِلمانية (بكسر العين) في الوقوف على أرضية التطور العلمي والترقي الذهني للإنسان، وإذا كانت الأولى مفهوما قديما عريقا على صلة بالمنازع الفلسفية المادية وبمسار السيطرة على الطبيعة واكتشاف قوانينها وتسخيرها لخدمة البشر، فإن الثانية لم تزدها إلا رسوخا بما تحقق للعلوم من فتوح متتالية قلصت سلطان الجهل وأتاحت إحاطة أكبر بظواهر الكون وفهما أعمق للأديان وعقلية أوسع لإدارة شؤون الاجتماع البشري.
وتعود اللائكية إلى الأصل اللاتيني "لايكوس" laikos بمعنى ما هو من مشمولات أنظار الشعب لا أنظار رجال الدين (الإكليروس) وما هو مستقل عن الهيئات الدينية (دولة لائكية، قضاء لائكي، تعليم لائكي... أي منظم وفق قواعد اللائكية وقيمها مع وجوب ملازمة الحياد على الصعيد العقيدي).
وحسب ما انتهى إليه الباحث فتحي القاسمي في أطروحته "العَلمانية وطلائعها في مصر" فإن اللائكية تجسم الجانب العملي والسياسي للعلمانية" وأنها "أصبحت في القرن التاسع عشر تيارا فكريا قويا وموجة ذهنية نشيطة استقطبت الاهتمام وأصبحت لها نواديها ومؤلفوها المدافعون عنها" (ص35).
وتاريخ اللائكية هو تاريخ صراعها ضد الكنيسة من أجل رفع وصايتها على الأرواح والأبدان وفرض احترام حرية المعتقد وحرية الفكر عملا على تكريس ما ورد في إعلان حقوق الإنسان الذي أفرزته حركة النهضة والتنوير وتوجته الثورة الظافرة في فرنسا. واستمر التيار اللائكي هناك يرسخ مبادئ الحرية السياسية والشخصية ويعمل على علمنة السلطة، الأمر الذي لم يكتمل دستوريا إلا في أواسط القرن الماضي، ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان غداة الحرب العالمية الثانية كي يدعم هذا التيار. وكثيرا ما تم الخلط بين العَلمانية واللائكية حتى عند الباحثين وذلك نظرا إلى كون الثانية اتخذت شكل الأولى أحيانا، وبعضهم استخدم "الحيادية" و"التسامح" بدل اللائكية. وبينوا أنها مذهب عقلاني يقول باستقلالية الدولة عن المسلمات الغيبية. ويستخلص القاسمي من التعاريف التي استعرضها ومن المسار التاريخي الذي عرفته اللائكية أن الهدف كان "جعل الإنسان المسؤول الأول والأخير أمام مصيره في الدنيا. وأن التدين أمر لا يهم إلا صاحبه، وثمة قانون يخضع له الجميع منذ ولادة كل فرد، فلا فرق بين متدين وغير متدين..."(ص39) إذن فهي لا تعني الفصل بين الدين والسياسة فحسب وإن كان ذلك هو حجر الزاوية لأن بقية الإجراءات استتباعية متولدة عن الفصل بين الدين والدولة، بين الشأن العقـَدي الذي يُحل فرديا والشأن السياسي الذي يُحتكم فيه إلى المجموعة.
وفي المحصّلة قد يبدو النقاش حول التسمية من قبيل الترف خصوصا والفرق بين تسمية وأخرى لا يتجاوز حركة (فتح العين أو كسرها). واعتقادنا أن الحياة، أي الاستعمال المطرد، بصدد انتخاب التسمية المناسبة صوتيا (سهلة التداول) ودلاليا (حمّالة المعنى المراد) وثقافيا (ذات الأصل في اللسان العربي) وقد تكون "العلمانية" (بكسر العين أو بفتحها) هي الحل، والتجربة كفيلة بفرض الكسر أو الفتح حين يصبح مشروع العلمنة (أو الأليكة) مطروحا على جدول الأعمال والأقوال في المجتمع وحين يقع تجاوز حلقات المثقفين المتخصصين علميا أو سياسيا. إن الحراك الفكري والسياسي والاجتماعي هو الذي يفرز مصطلحاته وتسمياته، لا النقاش المجرد والنظر الذهني الصرف.
3 - شيء من التاريخ :
ونعود إلى العلمانية، بعد حديث المقدمات والتسميات، كي نقف على مسار نشأة الفكرة ونموها وتطورها واتساع نفوذها، حتى لا يتصور أحد أن العلمانية كانت مجرد شطحة فكرية أو -كما لا يزال خصومها المتزمتون يرددون بين الفينة والأخرى في بعض الفضائيات- مجرد بدعة.
لقد عرفت العلمانية مخاضا طويلا في رحم المجتمعات الغربية التي كانت تعيش حراكها التاريخي المعروف وتستيقظ من سبات القرون الوسطى وتدخل عصر الأنوار والثورات الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية، وتبحث عن الأسس والقواعد المتينة التي تكفل لها بناء نفسها وإقامة الأنظمة التي يتعايش في ظلها البشر مهما شطت بهم الأجناس والأعراق والأديان والألوان.
لم تعرف المجتمعات قبل ظهور النظام العلماني العلمانية لكنها عرفت – في فترات ازدهارها الحضاري- مظاهر من التحرر الفكري والتسامح الديني والنفوذ العقلي يمكن اعتبارها بمثابة المقدمات التي انتهت في العصر الحديث إلى وعي العلمانية وإقرارها ركنا من أركان النظام الديمقراطي.
والناظر في التاريخ، وتحديدا هناك حيث تبلورت فكرة العلمانية وشهدت نضجها وتقنينها دستوريا وتطبيقها، يقف على دور التطور العلمي والاجتماعي الذي عاشته مجتمعات الثورة الصناعية، في هذه العملية، خلال القرون الثلاثة الماضية، وخاصة منها التاسع عشر وما كان للثورة الفرنسية (1789) والثورات الاجتماعية المتلاحقة، داخل فرنسا وفي المراكز الأروبية الكبرى (انجلترا، ألمانيا، إيطاليا...) التي قادتها البورجوازية ضد النظام الإقطاعي الذي كانت الكنيسة سنده في تعطيله لعجلة التقدم، ويقف أيضا على الدور الذي يعود إلى الصراع داخل الكنيسة نفسها بين الجمود ونزعة التطور، تحت تأثير الكشوف العلمية والثورة الاجتماعية.
ولسنا في حاجة إلى إعادة عرض المحطات الكبرى التي عرفها تاريخ المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة، وسرد قائمة الأعلام الذين أضاءوا طريق المعرفة بالقلم والاختراع والاكتشاف منذ أن قال فولتير ما معناه:" لننشغل بخدمة حديقتنا" وما يعنيه ذلك من انصراف إلى العمل والعمل على تسخير الطبيعة والارتقاء بنوعية الحياة، وما معناه: "قد أختلف معك في الرأي لكني مستعد كي أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك" بما يعني ذلك من رفع ليد القوى المتسلطة والمكبلة (الكهنوت، الإقطاع...) عن الإنسان حتى يتسنى له أن يحقق إنسانيته ويتمتع بالمواطنة، ويفتق مواهبه المخبوءة وطاقاته المطموسة، فوق الأرض.
لقد غيرت الثورة الصناعية وبروز قوى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية - التقدمية مقارنة بالنمط الإقطاعي- أسلوب الحياة التقليدي وقلصت من نفوذ الجماعة على الفرد وأطلقت النزعة الاستقلالية والإرادة الفردية من عقالها، وأحدثت نقلة في مستوى النظرة والعلاقات، وسلّم القيم. ثم جاء المشروع الاشتراكي الذي أعطى نفسا إضافيا لتيار العلمنة وارتقى نظريا وسياسيا بالطرح العلماني حين رسخ حرية المعتقد واعتبر التدين مسألة شخصية لا دخل للدولة فيها، ففصل فصلا واضحا وحاسما بين السياسة والدين ومنع تديينها وتسييسه، وعمل على محاربة الاستغلال والفاقة المادية والمعنوية وسائر الآفات التي من شأنها دفع الناس إلى الإغراق في الماورائيات والانصراف عن إرادة الحياة.
والتحولات الاجتماعية الناهضة على قاعدة الثورة الصناعية إنما هيأت لها ورافقتها حركة فكرية وفتوح علمية ردت سلطان الجهل على أعقابه ومكنت من ترويض الطبيعة والمسك بزمام القوانين التي تحكمها، فضلا عن إدراك القوانين التي تحكم تطور المجتمع البشري، وفي مقدمتها قانون الصراع الطبقي، بعد النقلة النوعية في علم الفلسفة وعلم الاجتماع المحققة على يد الماركسية. وتجسدت العلمانية بتماسك خلال التجربة الاشتراكية الأولى في كافة مجالات الحياة العامة، رغم الغلو البيروقراطي والممارسات القسرية أحيانا، والغريبة عن جوهر الخط العلماني في سياسة الدولة الاشتراكية، وذلك نتيجة الخلط بين الموقف الفلسفي والموقف السياسي من الدين.
وقد راهن العلمانيون على المدرسة في إنجاح المشروع، فنادوا بعلمنة –أو أليكة- التعليم الذي بنوه على شعارات ثلاثة من شأنها أن تفتحه أمام العموم، ألا وهي :
- 
مجانية التعليم
- 
إلزامية التعليم
- 
لائكية التعليم
وشهدت المدرسة الفرنسية تطبيق هذه السياسة التي ما إن وصل الاشتراكيون عن طريق "كومونة باريس" إلى الحكم حتى سارعوا بتكريسها. وكانت العلمانية تمثل الاتجاه الرسمي للدولة في ظل الجمهورية الثالثة بفرنسا على امتداد 70 عاما من حياتها (1870 - 1940) وكانت القوانين الخاصة بعلمنة المدرسة الفرنسية قد بدأت في الصدور منذ أواسط القرن 19. لكن رياح العلمنة كانت تهب منذ القرن 18 وعلى إثر الثورة (1789) خاصة حين تم إعلان حقوق الإنسان الذي كرس إرادة التحرر من الهيمنة الدينية والسياسية، والذي خصص البند الثامن عشر لاعتبار الاعتقاد مسألة شخصية تلقائية لا يفرضها جهاز، فضلا عن تحريم الرق والمساواة في الحقوق وجعل التعليم حقا مجانيا. ثم جاء قانون 1790 الذي ألغى الأوامر الدينية (فيما يتصل بالدولة) ورفض نابليون بونابرت وهو يعتلي عرش فرنسا أن يتولى البابا وضع تاجه. وتم في 1905 صدور القرار القاضي بالفصل بين الكنيسة والدولة، كما تم قطع العلاقات الديبلوماسية مع البابا. إلا أن الكنيسة كانت تسعى بدورها إلى تليين مواقفها والتكيف مع كثير من المفاهيم الحديثة حتى جاء الوقت الذي أقرت فيه بأهمية الديمقراطية الليبرالية وبالمؤسسات الديمقراطية رغم عدم تخليها عن مناهضة التيار العلماني، وظهرت الأحزاب "الديمقراطية المسيحية" وتعززت نزعة التمرد داخل الكنيسة ضد الكهنوت المتحجر.
وفي حلقة قادمة نواصل رصد العوامل التاريخية التي أفضت إلى تثبيت العلمانية ركنا من أركان النظام الديمقراطي الحديث، قبل أن نخلص إلى رصد الفكرة العلمانية عبر إرهاصاتها المبكرة في التراث العربي الإسلامي.
4 - الفكرة العلمانية وليدة التطور والارتقاء
إن العلمانية نتاج تطور تاريخي وسيرورة حضارية عرفهما المجتمع الإنساني في أكثر ربوعه المعاصرة نضجا واستعدادا لنشوء الفكرة وتقبلها. ومثل سائر الأفكار الكبيرة في العالم سواء أكانت شرقية أم غربية، يونانية أم هندية أو عربية أو فارسية أو فرنسية أم ألمانية أم انجليزية أم روسية أم صينية أم غيرها، فهي تدخل ضمن الرصيد المعرفي الإنساني وتعدو صالحة للتعميم ما دامت تخدم مشروع التحرر والانعتاق وتسهم في رفع كابوس الظلم والاضطهاد، سواء تم باسم الله أو باسم "عبد الله".
والعلمانية شأنها شأن الديمقراطية والاشتراكية قيمة إنسانية عابرة للقارات والأجناس والجنسيات، فمن الخطإ ومن سوء النظر القول بأنها نبتة غريبة لأنّها غربية المنشإ، وحلّ لا يصلح إلا للمجتمعات ذات الديانة المسيحية، وكأن استغلال الدين لإضفاء الشرعية على استعباد الناس خاص بأهل هذه الديانة. قول مردود من عدة نواح أخرى لعل أكثرها إقناعا أن المجتمع البشري شرقا أو غربا، وبقطع النظر عن الخصوصيات، يخضع في تطوره لقانون عام، ما دام مجتمعا طبقيا والإنسان فيه يستغل الإنسان ويمكر به من أجل سلبه ونهبه وقهره. والمكر يلبس لبوس الدين كما يلبس لبوس حقوق الإنسان عند الأمريكان وحلفائهم. إضافة إلى ذلك فإن الحضارة العربية الإسلامية لم تخل في حقب ازدهارها من خمائر المنزع العقلي والنزعة المادية التي قلصت من سلطان الدين على السياسية والمجتمع، تحت ضغط "أحوال الوقت"ومقتضيات الواقع التي تفرض مراعاتها، وتكون بذلك قد ساهمت ولو عن بعد في دفع التطور نحو اكتمال الفكرة العلمانية. وهذا موضوع يحتاج عودة. ومما يؤكد عالمية هذه الفكرة وحيويتها في علاج أورام مجتمعاتنا الراهنة ما يشاهد اليوم وبالحجم المكبر، من وبال الاقتتال بين الطوائف الدينية في عديد البلدان الإسلامية، جراء تواصل الخلط بين الدين والسياسة، وتسليط السماء على الأرض، والاحتكام إلى الشرع في الشأن الوضعي، بل ما يشاهد أيضا، وفوق ذلك، من تفشي الخرافة و"العرافة"، وانتشار "البدع" التي لا علاقة لها بالدين وإن هي نبتت على أرضيته وأرضية استغلاله في المآرب الشخصية والسياسية. إن العلمانية في شكلها المكتمل (نسبيا) كانت وليدة الثورات التي حققت القطيعة مع الذهنية القروسطية، وهي ثورات علمية وصناعية وسياسية واجتماعية وثقافية وفكرية، ضد الإقطاع والقنانة والكهنوت المتأله، والجهل المتغطرس. وكان لا بد للثورة التي تمت على أسوار "قرن الأنوار" (الثامن عشر ميلادي) واضطلع فيها الفلاسفة والمفكرون والعلماء والأدباء والفنانون بدور الممهد، أن تفضي إلى علمنة المجتمع، ووضع حد للتسلط الكنسي على الأبدان والأرواح والضمائر، وأن تثمر ثمرة العلمانية التي حققت الإنجاز الكبير التالي: حفظ الدين من التوظيف السياسي وحفظ السياسة من التحريف الديني، والتفريق بين هذه باعتبارها شأنا جمعيا تعاقديا، وذلك باعتباره شأنا فكريا تعبديا.
لم تكن العلمانية إذن فكرة مجردة مفصولة عن التاريخ، وعن التطور العلمي والتقني، والاكتشافات والاختراعات والسيطرة على الطبيعة، والتصنيع، وصراع الطبقات، والثورة البرجوازية، والثورة العمالية، ولذا فهي لم تتشكل على نحو متطور ولم تحظ بالتطبيق (رغم التردد، والتفاوت، والانتكـاس، والثورة المضادة) إلا حديثا وهناك حيث الأوضاع ناضجة لتقبلها، وقد باتت ركنا أساسيا من أركان البنيان الديمقراطي، وشرطا جوهريا من الشروط الضامنة لحقوق الإنسان والمواطنة. وفي ظل غيابها تسود أنظمة الاستبداد وتستفحل الطائفية والقتل على الهوية، وعلى الشبهة، يكفر الأحرار والمعارضون في الحملات الانتخابية، وتجيش "العامة" ضد أهل الفكر والرأي، المرشوقين بـ"الزندقة" و"الإلحاد" بل وضد أصحاب الديانات الأخرى، والمذاهب والطوائف المخالفة ووضعهم تحت طائلة التكفير.
وإذا كانت النهضة العلمية والحضارية حاضنة الفكرة العلمانية في المجتمع الغربي فإن ذلك لم يتحقق إلا عبر صراع مرير بين قوى التقدم والتنوير المحمولة طبقيا على أعناق التشكيلة الاجتماعية الصاعدة (البرجوازية زمن ثوريتها) وقوى الشد إلى الوراء المتمترسة بترسانة القيم الإقطاعية والعبودية، والحاكمة باسم الحق الإلهي.
5 - الفكرة العلمانية والحضارة العربية
الفكرة العلمانية وليدة التطور التاريخي الذي شهده المجتمع البشري ونتاج تحولات تاريخية أكدت حاجة البشر إلى إدارة شؤون الاجتماع والسياسة بأدوات وآليات عقلانية وأرضية وبالتعاقد الذي يقع الاتفاق عليه دون تدخل أي قوة متعالية. وكانت الثورة البورجوازية القائمة على نمط الإنتاج الرأسمالي وبنيته الفكرية والثقافية والقيمية هي التي آذنت بوجوب رفع القيود المادية والمعنوية المكبلة للإنسان بما فيها القيود التي فرضتها المؤسسة الدينية وضرورة إقرار حرية المعتقد والنظر إلى الدين باعتباره شأنا شخصيا ومسألة خاصة تحسم بين الإنسان ومعبوده، ولا دخل لأحد فيها، جماعة كان أو فردا. ولقد نكصت البورجوازية بعد ذلك كما هو معروف وغلبت عليها، وهي تنزع منزع القوة الرجعية المحافظة، نزعة استغلال الدين لصالحها واستحضار أرواح العالم القديم أملا في تأبيد نفوذها وكبح جماح القوى الصاعدة التي تهدد بتجاوزها.
أما علاقة الفكرة العلمانية بالثقافة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل فهي لا تحتاج إلى دليل رغم وجود من ينفيها ويزعم - بناء على نفيها- أن مجد الحضارة العربية الإسلامية قام على أسس ودعائم دينية.
لكن الإقرار بوجود الفكرة وتأثيرها في مجرى تطور هذه الحضارة وفي منح لحظات إشعاعها وقوتها ليس من شأنه أن يدعو إلى القول بأن تلك الفكرة كانت متبلورة ومكتملة منذ البدء لأن الأمر كان أقرب إلى التحسس وينبغي أن ينتظر نضج المعطيات واستعداد البيئة الحاضنة وصعود التركيبة الاجتماعية الحاملة كي يتشكل في رؤية واعية وهو ما تم إبان الثورة البورجوازية قبل قرون من الآن. لقد تحسس المتعقلون والمتنورون وأهل الرأي والاجتهاد من بُناة الحضـارة العربية قيمة الفصل بين الشأن الديني والشأن الدنيوي حتى يستوي أمر المدينة المنشودة وسوغوا ذلك، في ظل النظام الإقطاعي وإيديولوجيته الدينية، بذرائع وحيل مثل "مراعاة أسباب النزول" و"مراعاة أحوال الوقت" و"الحيل الشرعية" و"دفع المضار" إلخ.. وغالبا ما مورست القناعات ذات النسغ العلماني من دون تبريرات نظرية سوى ما كان من قبيل الخطرات والتلويحات سواء تم ذلك في ميدان العلوم أو الأدب أو الاجتماع أو السياسة. ونريد أن نستدل على دور المنظور العلماني في تطور الحضارة العربية الإسلامية بما بلغته هذه إبان العصر الوسيط، الذي كان ظلاما على أوروبا والغرب (بعد استثناء إسبانيا الأندلسية). وبالعودة إلى تراث الحركة الماركسية التونسية الحديثة نفسه في سنوات الثمانين من القرن الماضي وإلى المساحات التي قابلتها بالحركة الأصولية حول موضوع الدين والدولة، وقضية المرأة، نقرأ في سياق الحديث عن العلمانية وفضائلها ما يلي، وهو من صميم مضمون هذه الحلقة: "ينبغي البحث عن سر تطور الحضارة العربية إبان العصر الوسيط لا في الإيديولوجيا الدينية نفسها ولكن أولا وقبل كل شيء في الواقع المادي للعرب الذين انتقلوا نهائيا مع مجيء الإسلام إلى المجتمع الطبقي وشهدوا منذ الدولة الأموية تركز النظام الإقطاعي (...) وإذا أمعنا النظر في الجانب الفكري لهذا التطور الحضاري فإننا نجد أن المنطلقات التي ارتكز عليها هي في تناقض مع الإيديولوجيا الدينية الإسلامية القائمة على تفسير ميتافزيقي للكون والمجتمع. إن أهم عنصر فلسفي تطور في هذه الفترة وحكم بالتالي تطور العلوم والثقافة هو العقلانية المبنية على بعض التصورات المادية. وكمثال على ذلك نذكر المعتزلة وابن سينا والمعري وابن رشد لقربهم من أذهان القراء. فالمعتزلة هم أصحاب نظرية القدرية (نسبة إلى القدرة لا إلى القدر) التي تؤمن بحرية إرادة الإنسان ضد الجبرية الإيديولوجية الإسلامية في ذلك الوقت (...) أما المعري فالجميع يعلم أنه اعتـبر ذات خطرة أن "لا إمام سوى العقل..."(...) وطور ابن رشد العناصر المادية في فكر أرسطو فأكد أن المادة والحركة خالدان ولم يقع خلقهما كما أنكر خلود الروح والحياة الآخرة (...) ومن جهة أخرى طور ابن سينا المعارف التجريبية القائمة على التجربة والملاحظة والحجة المنطقية (...). إن الخيط الرابط بين جميع هذه المواقف هو الصراع بين الفكر المادي والفكر المثالي الذي يجسمه الفكر الديني أجلى تجسيم. وقد شق هذا النزاع حتى المعارف اللغوية فانقسم اللغويون إلى قسمين: القائلون بأن اللغة ظاهرة اجتماعية تاريخية وبالتالي من صنع البشر والقائلون بقدمها وبكونها من خلق الله. إن جميع هذه العناصر المادية العقلانية هي في الحقيقة الأساس الفلسفي لذلك التطور الحضاري الذي عرفه العرب في العصر الوسيط وفي ظل الهيمنة الإقطاعية. وما أن استنفذ النظام الإقطاعي إمكانياته التاريخية حتى دخل بدوره في أزمة خانقة...". (في اللائكية، حمه الهمامي، 1988، ص59 – 61).
تعمدنا إطالة الشاهد الذي يستجيب لحاجة هذا المقال والذي يذكر بما سبق من إسهامنا الفكري في القضايا التي نراها تعود عودا على بدء اليوم، وإن كان الشاهد يبقى مقتضبا ومجملا ولا يغني من العودة إلى الكتاب، فأمثلة التمشي العقلاني والرؤى "العلمانية" كثيرة في التراث العربي الإسلامي وفي الممارسة الواقعية سواء تعلق ذلك بسياسة الساسة أو بأدب الأدباء ونقد النقاد وقضاء القضاة أو بغيره، حيث كان يوجد من يعتبر هذه الأنشطة "الدنيوية" بمعزل عن الدين، وأن تديينها لا يزيدها فضيلة على سواها. وأمام الراغب في التوسع والتزود جهود جمة عربية وتونسية، داخل الجامعات وخارجها، لباحثين حرصوا، وإن بتفاوت ومن مواقع ومنطلقات غير متجانسة، على الاقتراب من الحقيقة وإصابة الموضوعية في قراءة ومعرفة التاريخ وإعادة فتح الملفات المحنطة ومعرفة أسباب التطور وعلله وأسراره.
6 - العلمانية سبيل الخلاص من آفة الطائفية والتكفير واستغلال الدين
سعينا إلى الإحاطة بالعلمانية مصطلحا ومفهوما ومخاضا تاريخيا وجذورا في تربة الحضارة العربية الإسلامية، ونرى اليوم كيف يعود الحديث عن العلمانية في مهد تطورها الغربي وفي البلدان التي اعتمدتها نظاما ونصت عليها في دساتيرها وتشريعاتها.وذلك فضلا عن الحديث الذي يجري بين الفينة والأخرى على ألسنة المفكرين وأهل الرؤى والبدائل السياسية والمجتمعية في البلاد العربية والإسلامية، وعبر الفضائيات، إن بالرفض أو القبول. وما من شك في كون العود على بدء في موضوع العلمانية سواء في مواطنها التقليدية أو في مشرقنا مردّه إلى ما يشهده العالم عامة والبلاد ذات الديانة الإسلامية خاصة، من استباحة لأبسط حقوق البشر ومن تضييق على حرية التفكير والتعبير والرأي واللباس والطعام والشراب والصداقة والتنقل والسفر إلخ... ومن توظيف للدين في الاعتداء والقتل والترهيب والترغيب فضلا عن السياسة والانتخاب وعامة الشأن المجتمعي والدنيوي، بما جعل العلاقة بين الدين والدولة والدين والسياسة، في حاجة إلى تسوية جديدة من شأنها إعادة الاعتبار للحريات العامة والفردية التي تضمن للإنسان، مهما كانت عقيدته، أن يتمتع بحقوقه الأساسية في ظل دولة ديمقراطية وضمن عقد اجتماعي قائم على مبدإ المساواة في المواطنة.
وما من شك في أن المشهد الدامي لما يحدث في العراق وفلسطين، وبلدان عربية وإسلامية أخرى، من تناحر طائفي وقتل على الشبهة المذهبية وتقتيل بالجملة لأبناء هذه الطائفة أو تلك سواء داخل مواطن تعبّدها أو مواطن تواجدها في الحياة العامة، هو الذي كان له دور كبير في العودة بموضوع الحل العلماني، إلى الواجهة، وفي اعتباره، عند عدد متزايد من أهل النظر، الأفــق الوحيد ما دام ينبني على الفصل بين الشأن المعتقدي، وهو فردي وخاص، والشأن السياسي، وهو مجتمعي وعام، وما دام بالتالي كفيلا بوضع حد للاقتتال الطائفي ولمصادرة أبسط الحريات واستعباد الأرواح فضلا عن الأبدان. فبلاد كالعراق أو فلسطين أو سوريا أو السودان أو لبنان، أو غيرها من بلاد الشرق والغرب، لا يستوي أمرها إلا بإقرار العلمانية في تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ما دامت بلادا متعددة الأديان والعقائد والطوائف، لا يجوز لطرف واحد أن يبسط نفوذه ويفرض سلطانه على بقية الضمائر بالقوة المولدة للانفجار، وحمامات الدم. بل إن عدم الإذعان للحل العلماني على الواجهة الفلسطينية، مثلا، كان سببا حتى الآن في تشتيت الصف السياسي والتنظيمي للحركة الوطنية الفلسطينية وشرذمتها إلى رايات مذهبية وطائفية متعددة تعمل كل منها لحسابها الخاص، وتأبى التنازل عن نرجسيتها الفصائلية لحساب الحركة، بما أضعف مردود المقاومة ووفر على المحتل متاعب جمة. لكن ولئن كان في موروث الدولة العربية والإسلامية عناصر علمانية هي التي شكلت قاعدة للخلق والإبداع والتطور الحضاري فإن مهمة إرساء النظام العلماني اليوم، باعتباره حجر زاوية في الدولة الديمقراطية الحديثة، لا نراها منتظرة من أنظمة الاستبداد والفساد والعمالة القائمة حاليا، ولذا فإن استكمال هذه المهمة التاريخية مرتبط بالتحولات الديمقراطية الوطنية التي على قوى التغيير الحقيقي أن تنجزها والتي نعيش مخاضها العسير راهنا. وليس معنى ذلك أن على هذه القوى انتظار تلك الساعة الفاصلة وتعليق تحركاتها، بل المطروح هو العمل الدؤوب والنضال اليومي من أجل تقريب تلك الساعة ومراكمة المكاسب مهما كانت جزئية وعدم الاستسلام لتيار الردة.
لكن ذلك لا يكفي لكي يجعل من العلمانية قناعة واسعة النفوذ في المجتمع خصوصا أمام مساعــي التشويه التي ما انفك شيوخ التكفير يلحقونه بها، وأمام الأحكام المسبقة ذات الخلفية التكفيرية التي زرعتها الدولة القائمة عبر المؤسسة الدينية وعلى منابر المساجد والجوامع، وعبر المؤسسة التربوية والتعليمية والثقافية والقيم السائدة ذات الحمولة الإقطاعية والعبودية في جانب كبير منها.
إن الحل العلماني الذي هو بمثابة قارب النجاة لكافة أفراد المجتمع مهما باعدت بينهم المعتقدات، يكتسب مصداقيته ويلقى الآذان الصاغية ويعمّر حين يتنزل – وهو القيمة الكونية - في الهوية الثقافية والحضارية الخاصة، ويُطرح ضمن مشروع النهضة الوطنية والقومية وبرنامجها المناهض للهيمنة الأجنبية.
ويزعم دعاة الدولة الدينية وأعوان الدكتاتورية وهم يحاربون الديمقراطية أن العلمانية تعني الإلحاد وأنها نبتة غريبة عن التربة العربية والإسلامية، متعمدين خلطا تكذبه حقيقة العلمانية مفهوما وتاريخا وتشريعا، وجاهلين أو متجاهلين حقائق التراث الحضاري العربي والإسلامي، وهم الذين اعتبروا الحرية والديمقراطية – كما العلمانية - نبتة مستوردة ولا تصلح إلا لأهلها.
لكن من يطرح الحل العلماني من موقع الاستخفاف بمعطى الهوية الوطنية والقومية، والاصطفاف وراء المحتل "الديمقراطي" والمستعمر "الحضاري" وتبنـّي نقده العنصري والصليبي لديانات الآخرين والإسلام تخصيصا، يخسر الجولة حتما بل ويقدّم خدمة جليلة لأعداء الفكرة العلمانية والمشروع الديمقراطي الذين سيظهرون بمظهر المدافعين الوحيدين عن الهوية، المناهضين الوحيدين للاحتلال والوصاية الأجنبية، الرافضين الوحيدين للإلحاق والإذلال!

الهوية في سوق المتاجرين بالدين

الأحد، 24 أبريل، 2011

الهوية في سوق المتاجرين بالدين


نعود مرة أخرى لتناول موضوع العلمانية/اللائكية بعد أن سال حوله في العديد من المناسبات و في كل المنعرجات و عند اشتداد الأزمات و خاصّة وخاصّة قبل كل الإنتخابات حبرٌ كثير خاصة على صفحات الفايسبوك وفي ملاحظات بعض رموز وقواعد التيارات الدينية،أو الموالين لهم ويتمحور الحديث أساسا حول كون "العلمانية/اللائكية معادية وناسفة للدين وهي "نبتة غريبة عن بلادنا وحضارتنا" وهي أيضا "خطر على الهوية وعلى الأخلاق، إلخ. واتخذت هذه الدعاوي صيغة الحملات التي طالت الفكر والحركة الديمقراطية، كما طالت رموزا مثل الرفيق حمه الهمامي الناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي التونسين ووصلت إلى حد التشهير في المساجد وبعث رسائل التهديد و"إهدار الدم". نعود لهذا الموضوع لا لمقاربته من زاوية نظرية وتاريخية، بل سنركز على الجوانب السياسية والعملية أساسا.
 1 - لماذا هذه الحملة الآن؟ من حقـّنا أن نطرح هذا السؤال، إذ في الوقت الذي ينشغل فيه شعبنا بقضايا مصيرية مثل إسقاط الحكومة وحل التجمع والبوليس السياسي والدعوة إلى المطالبة بالمجلس التأسيسي... وفي الوقت الذي تتركز فيه جهود أبناء الشعب وبناته في مختلف المناطق والجهات على الدفاع عن مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، وفي الوقت الذي يشتد فيه الجدل بين القوى السياسية والمدنية حول أشكال وأساليب التعبير عن إرادة الثورة في هذه المرحلة الانتقالية، في هذه اللحظة الفارقة في تاريخ شعبنا تطلع علينا بعض القوى لتركز على فكرتين أساسيتين: الهوية في خطر، ولا حل إلا الدولة الدينية. وهذا في اعتقادنا تحريف خطير لنضال شعبنا وقضاياه، فالشعب الثائر منذ 17 يسمبر 2010 لم يطرح في أي لحظة من لحظات مساره الثوري هذه القضايا لا من بعيد ولا من قريب. بل إن الجميع في تونس يعرف أن هذه القضاايا طرحت لأول مرة بعد 14 جانفي، أي بعد فرار الدكتاتور واكتساح الشعب للفضاء العام وفرض هامش واسع من الحركة والتعبير. ويمكن التأريخ لظهور هذه الدعاوي بحادثة شارع الحرية بالعاصمة حين تجمّع بعض الأفراد أمام الكنيس اليهودي للمطالبة بغلقه، ومن الغد للمطالبة بغلق ماخور العاصمة والهجوم على المشتغلات به، وفي ترابط الحدثين أكثر من معنى، فالمختلف الديني (اليهود) مثله مثل المختلف الاجتماعي (البغاء) يجب نسفه. وقد تزامن ذلك مع ظهور دعاوي وممارسات وشعارات مماثلة في اعتصام القصبة الثاني خاصة. إننا نعود لهذه التدقيقات لنقول إن الأفكار التي يزرعها الجماعة ليست أفكار شعبنا ولا ثورته، ومن غير المقبول قول ذلك. إن الأصح هو كون هذه الأفكار هي خاصة بأصحابها ونحن لا نجادل حقهم في ذلك بل نحن نتساءل عن توقيت ظهور هذه الأطروحات ولمصلحة من رفعت، فضلا عن أسلوب أصحابها الذي يتسم بصفتين: المغالطة والعنف، العنف من خلال الاعتداء المادي على الخصوم وكذلك استعمال العنف اللفظي ومعجم التكفير والتشهير.
 2 – خطاب مهزوز يقوم على المغالطة ما من شك أن كل الأفكار الرجعية بما فيها العنصرية والتمييزية والظلامية، دائما تقوم على مغالطات وتراهن على جهل الجمهور وأحيانا خوفه. وهي تلعب على جوانب المشاعر مستعملة أساليب الاستعطاف والتخويف، وهو نفس الأسلوب الذي تعمد إليه القوى الظلامية في كل البلدان العربية والإسلامية، إذ تركز دعايتها أن المسلمين في خطر ولا خيار أمامهم سوى التمسك بهويتهم وإقامة دولتهم على شاكلة السلف الصالح وهو نفسه ما يبثونه اليوم في بلادنا، إن هذه المجموعات بعملها هذا إنما تريد – شاءت أم أبت- التشويش على نضال شعبنا الذي يريد أن يركز في هذه المرحلة الدقيقة على القضايا الأساسية التي وفقا لها سيتحدد مستقبله، هذا لا يعني أن هوية الشعب مسألة لا قيمة لها، بل بالعكس إن شعبنا بنضاله الميداني هو يرسم ملامح هويته كشعب حر، واعي، أبي، له عزة وكرامة، منغرس في جذوره ومتطلع إلى مستقبله المضيء، جذوره ليست في قصور الأمراء وبلاطات الملوك وشعوذات الدجالين وظلم الجبابرة من مضطهدي الفقراء والبؤساء والنساء وأصحاب الرأي المختلف، إن جذور شعبنا هي التي تحركه اليوم، إنها الجذور الضاربة في تاريخ انتفاضات الفقراء، انتفاضات العبيد والفلاحين ضد مضطهديهم ومصاصي دمائهم من أمراء وملوك لم يكن لهم من شاغل سوى تكديس الثروات وتمضية العمر بين تعدد الزوجات والغلمان. إن ما أردنا قوله هو كون مسألة الهوية وعلاقتها بالعلمانية أو اللائكية مسألة مفتعلة وتطرح في غير سياقها الموضوعي والمعقول، وثانيا هي تطرح بشكل مغلوط، فكلمة الهوية حمّالة أوجه ومعاني ومضامين مختلفة عن الجماعة يرمونها هكذا لأن التعمق في دلالاتها ومضامينها يفتح عليهم قضايا لا يريدون الخوض فيها ويتهربون منها. إن الجواب على سؤال الهوية إذا حصر في إجابة سطحية وشعارات ديماغوجية ينحرف بالموضوع تماما، هذا فضلا عن كون مسألة الهوية غالبا ما تطرح حين يكون هناك تهديد ما ( استعمار، اعتداء على الأقليات، نفي الخصوصات...) وهو أمر غير وارد في بلادنا، بل إنه لا يوجد من ينفي بأن شعب تونس شعب عربيّ مسلم، فهذا معطى موضوعي لا يختلف فيه اثنان، الاختلاف في مضمون هذه الهوية الثقافية والحضارية، فالأطروحات السلفية والرجعية عموما تقف عند حدود الكلمتين، أما التقدميون فيعطون للهوية معناها الذي ذكرناه سلفا، إضافة لكون الهوية هي نتاج لتشكل تاريخي بين عديد العناصر، فلا نعتقد أن هناك شعب ما له "هوية نقية" أي لم تكن نتيجة تداخل وتمازج بين مراحل تاريخية وثقافات متعددة، وهو حال شعبنا الذي يضرب تاريخه في العمق ويعود إلى ثلاثة آلاف سنة مر فيها بحضارات مختلفة: فينيقية، بربرية، رومانية، عربية، إسلامية... بما شكـّل هذه الشخصية القائمة اليوم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن نقول أننا شعب عربيّ مسلم، فكلمة مسلم لا تحمل على معنى العقيدة، بل تحمل على معنى الحضارة، فجانب العقيدة ليس كل التونسيين مسلمين، ففيهم من يحمل ديانة أخرى أو من لا يحمل أي ديانة، أما بمعنى الحضارة فالجميع دون استثناء ينتمون إلى هذه الحضارة، هذا في مستوى دلالة اللفظ، أما في مستوى المضامين ومثلما بينا فإن موطن الخلاف هو: أيّ مضمون للهوية العربية الإسلامية؟ هل هو المضمون النير، التقدمي أم المضمون الرجعي والظلامي؟ وهذا الأمر تطرحه كل الشعوب، فالهوية الفرنسية مثلا يمكن أن تنحاز إلى ما هو مضيء (الثورة الفرنسية، فلسفة ديكارت وفولتير...)، أو إلى ما هو رجعي ومظلم (القرون الوسطى مثلا). والتقدميون ينحازون لكل ما هو نير فكرا وممارسة، ويرفضون كل ما هو مظلم ورجعي. أيضا، كلمة عربي مسلم لا تعني في أي حال من الأحوال انغلاقا أو تعصبا أو رفضا وإقصاء للآخرين، فمثلما تشكلت هذه الهوية في إطار تلاقح وتمازج بين عناصر مختلفة، مطروح عليها اليوم أن تتفاعل أخذا وعطاء مع الحضارة الإنسانية العصرية لمختلف الشعوب دون تبعية، نحن ندافع عن التلاقح والحوار والإثراء المشترك ونرفض هيمنة حضارة/ثقافة باسم التفوق الذي تشيعه الامبريالية العالمية التي تريد فرض هيمنتها على العالم بمختلف الأساليب بما فيها تحقير الثقافات الأخرى وفرض ثقافتها وحضارتها الخاصة. أمّا الوجه الآخر لطرح مسألة الهوية، فإن شعار "الدولة الدينية هي الحل"، باعتبارها الفضاء الذي تتحقق فيه إمكانية الحفاظ على هذه الهوية، وهذا في اعتقادنا أمر خطير للغاية. إن الدولة الدينية هي الدولة التي ينبني تشريعها وقوانينها ومختلف أوجه حياتها على الدين، وهنا من حقنا أن نسأل: أي دين؟ ووفقا لأي قراءة وأي مذهب وأي تأويل؟ طبعا هذه الدولة ستختار فهمها للدين وتأويلها له حسب مصالح الطبقات التي تمثلها وتدافع عن مصالحها، فماذا سيكون مصير المذاهب الأخرى؟ فضلا عن الديانات الأخرى وغير المتدينين. وفي هذه الدولة، كيف سيكون مصيرنا إن نحن عارضنا الحاكم باسم الدين؟ إذن نحن "ضد الدين"، وهنا يجب "تطبيق الحد". إن الدولة الدينية في اعتقادنا ليست مطلبا من مطالب شعبنا ولا تحمل حلا لأي من مشاكله، فضلا عن كونها لن تكون إلا دولة جور وتعسف ودكتاتورية. إن ما يطمح إليه شعبنا هو دولة مدنية، ديمقراطية منتخبة من قبله، فضلا عن كون الدولة الدينية لن تحمي الهوية بل ستعزل الشعب، وهذا في غير صالحه، علما وأن كلمة الدولة الدينية كثيرا ما تردف بلفظ دولة الخلافة كما يدعو لها "حزب التحرير" وأنصار السلفيّة الجهادية الذين يعمدون إلى العنف المادي للدفاع عن أفكارهم، كما يعمدون لحملات التكفير مثل التي طالت ولا تزال الرفيق حمّه الهمامي من أجل التصدي لإمكانية ترشيحه لرئاسة الدولة، فهذا أمر مرفوض لأن المواطن حين يكون صاحب رأي آخر أو عقيدة أخرى هو مرفوض في الدولة الدينية، وهذا في رأينا نموذج حي لفكر هؤلاء ولما ستكــــــون عليها الوضعية إن وصلوا إلى السلطة، فكل معارضيهم سيحرمون من حقوقهم السياسية وبالتالي من حقهم في المواطنة، وهذه هي الدولة التي يبشر بها هؤلاء، إنها كما قلنا دولة ظلم وقهر. إن الدين في اعتقادنا يجب أن يبقى أمرا شخصيا وحميميا. أما السياسة ومنها الدولة فهي شأن عام يهم كل المواطنين والمواطنات. إن الدين إذا امتزج بالسياسة ينتج التكفير والإقصاء والاضطهاد وهو ما أنتجته تاريخيا الدولة الدينية في الشرق والغرب. ففي القرون الوسطى الأوروبية كان الملك يفرض ديانته ومذهبه وكانت الرعية تبدل مذهبها مع كل ملك جديد، وفي الدولة الإسلامية، عدى حالات محدودة، كانت تقوم على التمييز حتى في الجباية وتوزيع الثروة مع الديانات الأخرى ومع المذاهب الإسلامية التي غالبا ما حكمت بالحديد والدم، فضلا عن معاناة المفكرين خاصة من يتطاول على الدين" وهي تهمة جاهزة تطلق على الفلاسفة والعلماء، وكذلك النساء اللواتي طالهن الغبن والحجب والرفض طيلة ردهات دولة الخلافة. إن توظيف الدين لتمرير مشروع سياسي واجتماعي أصبح اليوم مرفوضا حتى من قطاعات في الحركة الإسلامية في عدة بلدان، والرجوع إلى هذه الدعاوي بهذا الشكل الهجومي وفي هذا الوقت بالذات يثير لدينا عدة أسئلة حول من يقف وراء هذا ومن له المصلحة فيه؟ لا شك ان قوى الثورة المضادة الظاهرة والخفية لها مصلحة أكيدة في ظهور هذه الدعاوي التي تربك مسار الثورة وتخلط أوراق القوى السياسية، وتثير حفيظة جزء من الشعب خاصة الفئات الوسطى التي أصبحت ترفع صوتها أن كفى، إننا في خطر لا يجب أن نتقدم أكثر، وهذا أمر لا يخدم إلا مصلحة تحالف رجال الأعمال والبوليس السياسي وفلول التجمع، هذا التحالف الذي يقف وراء الستار ويتحكم في العديد من الأنشطة في مختلف الجهات وهو مستعد لعمل أي شيء إلا أن تنتصر الثورة وتحقق أهدافها التي اندلعت من أجلها في منتصف ديسمبر الماضي.
3 – التقسيم العقائدي للشعب لا يخدم إلا الثورة المضادة. وكنتيجة لما قلنا ظهرت بعض ردود الأفعال التي اعتبرت أن البلاد والشعب والجمهورية في خطر، والخطر هو في هذا المد الظلامي، وبالتالي يجب التصدي له عمليا ووقعت الدعوة لبعض التحركات من أجل اللائكية شارك فيها العديد من المثقفين والمناضلين الديمقراطييين، وعلى هامش هذه التحركات صارت مناوشات مع أنصار التيارات الظلامية وصاحب هذه الأنشطة حوارات صحفية حول موضوع اللائكية، وظهرت بوادر اصطفاف جديد في البلاد: لائكي/متدين، وهذا في اعتقادنا اصطفاف مغلوط، وطرح مسألة اللائكية أو العلمانية بهذا الشكل مضر ولا يخدم مصلحة الشعب التونسي. نحن نرى أن المسألة فيها بعد بيداغوجي، يجب علينا أن نبسط المفاهيم أمام الجماهير، فالظلاميون وحدهم يستفيدون من الطلاسم وليس المفاهيم وغموضها وهو ما حدث واقعيا. ومن جهة أخرى نحن نرى أن مسألة العلمانية لا يجب أن تطرح بمعزل عن القضايا الأخرى التي يناضل الشعب من أجلها، قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي لن تتحقق إلا في إطار جمهورية ديمقراطية، شعبية، عصرية، تقوم على الفصل بين تكريس مبدا المواطنة والفصل بين السلط واحترام حقوق الإنسان وكرامته وحرمته الجسدية والمعنوية، إن دولة مثل هذه ليس لها من اسم سوى كونها علمانية. إننا حين نبسّط هذه المفاهيم للشعب ليستسيغها ويقبلها ويدافع عنها، وهو ما لم يحدث في "معركة اللائكية" التي استغلها الخصوم للتشويه ولبعث فزاعة جديدة أمام الشعب هي فزاعة اللائكية التي انخرط فيها ليس فقط القوى السلفية بل حتى لفيف من قوى يفترض أنها مدنية وحداثية وديمقراطية. لذلك علينا تنظيم معاركنا بشكل جيد ومسؤول ومنظم وإخضاع كل المعارك للتناقض الرئيسي والتناقض الثانوي وطرح المحاور في توقيتها بالضبط وبشكل جماهيري واسع. إن شعبنا اليوم في حالة ثورة ووعيه السياسي بصدد التطور وهو قادر على الفهم والاستيعاب وتنظيم المعارك فلنرتبط به ولتكن كل المعارك بمشاركته الواسعة ومن تنظيمه نشرت بصوت الشعب لسان حزب العمال الشيوعي التونسي24/04/2011

vendredi 21 février 2014

أوباما متعطّش للحوم البشر

أوباما متعطّّش للحوم البشر

صحيفة أمريكية تؤكد العلاقة الوثيقة بين باراك أوباما وأخيه الإخوانى.. مالك أوباما القيادى بمنظمة الدعوة الإسلامية زار البيت الأبيض والتقط صورا عديدة مع الرئيس الأمريكى

الأحد، 25 أغسطس 2013 - 12:25
الرئيس الأمريكى باراك أوباما
كتبت ريم عبد الحميد
نشرت صحيفة "جارديان أكسربس" الأمريكية المحلية الصادرة فى مدينة لاس فيجاس، تقريرا تحدثت فيه عن صلة عائلة الرئيس الأمريكى باراك أوباما بجماعة الإخوان المسلمين، أرفقته بصورة لأوباما مع أخوه غير الشقيق مالك والذى ينتمى للجماعة ولو بشكل غير مباشر.


وقالت الصحيفة إن ولاء أوباما للإخوان وقضية الأسلمة بشكل عام واضح تماما، كما أنه من المزعج أن يضع رئيس أمريكا هذه الولاءات بشكل واضح فى المقدمة على حساب مصالح البلاد، ويصبح الأمر أقل غموضا عندما يدرك أن الرئيس لديه روابط عائلية مباشرة بجماعة الإخوان المسلمين عن طريق أخاه غير الشقيق مالك أوباما، وهو ولو بشكل غير مباشر عضو فى التنظيم.



وتؤكد الصحيفة أن الإخوان منظمة إرهابية، وأن هذا ليس رأى أو تكهن، فقد كانت الجماعة مهدا لعدد من الجماعات الإرهابية ومن بينها شبكة تنظيم القاعدة وكذلك حماس، التى تعد الفرع الفلسطينى للإخوان، وحتى خلال الأزمة الحالية فى مصر فإن أنصار الإخوان شنوا حملات إبادة جماعية ضد الأقباط، وقاموا باختطاف وإعدام قوات الأمن، وأعربوا عن دعمهم علانية للمعارضة السورية المرتبطة بالقاعدة، كما أن الرئيس المعزول محمد مرسى كان على صلة شخصية بهجمات إرهابية من بينهما هجوم حماس على السجن المصرى الذى كان محبوسا فيه، والهجوم على القنصلية الأمريكية ببنغازى. 



وتتابع الصحيفة قائلة "إن واحدة من الحقائق غير المعروفة عن حياة أوباما وتاريخه لعائلة أصبحت واضحة بشكل صارخ مع التطورات فى مصر، فقد تناولت الصحافة المصرية والسعودية وأيضا الموقع العربى لـ"السى إن إن" الأنشطة التى قام بها أخو أوباما غير الشقيق باعتباره السكرتير التنفيذى لمنظمة الدعوة الإسلامية والتى قام بتأسيسها حسن الترابى، القيادى الإسلامى السودانى، وهى فرع من الإخوان المسلمين، وظل الترابى يوفر ملاذا آمنا لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن لسنوات فى السودان".



وهناك صلة أخرى أكثر إثارة للقلق تجمع مالك أوباما بالرئيس السودانى عمر البشير المطلوب أمام المحكمة الجنائية الدولية لتهم جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، ورغم حرص مالك أوباما والبشير على عدم التقاط صور لهم، إلا أن كليهما كان متحدثا فى مؤتمر للدعوة الإسلامية فى الخرطوم عام 2010، وكان حاضرا أيضا حسن الترابى وسوار الذهب، الذى يترأس منظمة الدعوة الإسلامية، وهو على صلة بحركة حماس ويوسف القرضاوى.



وتقول الصحيفة إنه على الرغم من أن أوباما لا يتحمل مسئولية أفعال أو صلات أخيه، لكن لا يمكن إنكار أنهما كانا قريبين من بعضهما البعض، فقد زار مالك البيت الأبيض، وتم التقاط صورة لهما معا عدة مرات، وكان مالك مرافقا لباراك فى عرسه. وأسس مالك مؤسسة باراك أوباما التى تقدم ما يشبه حالة إعفاء الضرائب فى أمريكا.



وأشارت الصحيفة ختاما إلى أن الصلات العائلية بمنظمات إرهابية يمكن أن تجعل المواطن الأمريكى غير مؤهل للخدمة فى القوات المسلحة وحتى توظيفه فى الحكومة، كما أنها تجعله أيضا يخضع للمراقبة وربما التحقيق.



وتساءلت الصحيفة كيف استطاع أوباما أن يتملص من كل عمليات التدقيق الذى يفترض أن يخضع لها، وفى حين أنه فى المجتمعات الحرة ينبغى أن يكون عدد أقل من الحواجز أمام الترشح للمناصب العامة، إلا أن منصب القائد العام للقوات المسلحة أكثر حساسية ومهم جدا بما يتطلب كشف مثل هذه الصلات المريبة للرئيس الحالى.