تعليق سداد
دُيون نظام بن علي: الحلّ الشرعي والضّروري
بقلم فتحي الشامخي :
يتناول برنامج الجبهة الشّعبيّة، حصريّا، مديُونيّة الدّولة التّونسيّة، خاصّة جزئها الذّي تكوّن في عهد نظام بن علي الدّكتاتوري، وكذلك الجزء الذّي يتطوّر الآن بسرعة مُفزعة. أي المديونيّة التّي أصبحت، خلال ربع القرن الأخير، ثقبا أسود، ما انفكّ يلتهم قسما مُتزايدا من الموارد الماليّة للدّولة، ويُضعف بالقدر نفسه قُدرتها على الإيفاء بالتزاماتها الاجتماعيّة تجاه مُواطناتها ومُواطنيها، ويصبح سيفا مسلطا على رقبة هاته الدّولة ويُخضعها لإملاءات الدّوائر الرّأسماليّة الأجنبيّة ولمصالحها الخاصّة.
ويُميّز هذا البرنامج ما بين القُروض الدّاخليّة، التّي تُعقد بالدّينار التّونسي في السّوق الماليّة المحليّة، والقُرُوض الخارجيّة التي تُعقد بالعُملة الأجنبيّة، التّي هي ‘عُملة صعبة’ بأتمّ معنى الكلمة. وهو يضُمّ ثلاثة إجراءات أساسيّة مُترابطة ومُتكاملة، وهي: تعليق تسديد خدمة الدُّيُون العُموميّة الخارجيّة، والتّدقيق في مُجمل الدُّيُون العُمُوميّة الدّاخليّة والخارجيّة، وإلغاء الدُّيُون الكريهة التّي يكشف عنها التّدقيق. وفي تصوّر الجبهة الشّعبيّة يتزامن دُخول قرار تعليق تسديد خدمة الدّيْن حيّز التّنفيذ والبدء في التّدقيق. علما بأنّ التّدقيق المفصّل والشّامل للدّيون العُموميّة يتطلّب، بناء على كلّ التّجارب الدّوليّة السّابقة، مُدّة زمنّيّة تتراوح ما بين سنة ونصف وسنتين.
يجب الإشارة هُنا إلى أنّ الجبهة الشّعبيّة هي الائتلاف السّياسي الوحيد في تُونس، الذّي يثير في برنامجه ونشاطه قضيّة المديُونيّة ويعتبرُها حجر عثر أمام تحقيق مطالب الثّورة. وهو ما يجلب له غضب الأطراف الأجنبيّة والمحليّة التّي لها مصلحة في استمرار منظُومة المديونيّة دون مسائلة ومعالجة وإصلاح. وبالتّالي لا غرابة في أن تتركّز ضدّ الجبهة الشّعبيّة نيران الدّائنين الأجانب وحُلفائهم المحليّين، الذّين يتفوّقُون عليها، سواء من حيث القُوّة الماليّة، أو من حيث القُدرة الدّعائيّة. في المقابل لا تُحدّد الجبهة الشّعبيّة موقفها من المديُونيّة كما تُريد القُوى الرّأسماليّة الأجنبيّة، وإنّما تحدّدُه بناء على ما تقتضيه مصلحة الشّعب التّونسي، كلّفها ذلك ما كلّفها من خُصُومها.
لا يُفيد في شيء الحديث بصفة عامّة عن فوائد المديونيّة أو مضارّها بالنّسبة إلى تُونس، ومدى مُساهمتها في تحسين أوضاع عيش عُموم المواطنين ، ما لم نربط ذلك بتجربتها الملمُوسة، الماضية والحاضرة، أي الظّروف التّي تتنزّل فيها المديونيّة، كطبيعة السّلطة التّي تقترض ومدى حرصها على حماية حُقوق الشّعب التّونسي، والذّود عن مصالح البلاد وسيادتها، ودوافعها والشّروط التّي تخضع إليها، ومآل الأموال الطّائلة التّي تقترضها، ومن هُم المستفيدون منها وكذلك المتضرّرون، ومدى شفافيّة مُؤسّسات الدّولة ذات الصّلة واستقلاليّتها، ومدى ضمان حقّ المواطنات والمواطنين في النّفاذ إلى المعلومة، وحقّهم في المُساءلة. وكذلك طبيعة الجهة المُقرضة، وشُروطها وأهدافها.
لا نغالي إن قلنا بأنّ النظام الدّكتاتوري هو النّظام السّياسي الأسوأ على الإطلاق فيما يتعلّق بضمان الظّروف المثلى لحُسن استعمال أموال القُروض. بالتّالي تعتبر الجبهة الشّعبيّة أن جُزءا هامّا من الدُّيُون، التّي تركها الدّكتاتُور بن علي وراءه، هي دُيون كريهة، أي دُيون نظامه الدّكتاتوري التّي لم يستفد منها الشّعب التّونسي، والتّي أضرّت كذلك بمصالحه، وبالتّالي فإنّ الشّعب التّونسي غير ملزم بها ومن حقّه، بعد أن أطرد الدّكتاتور، أن ‘يُطرد’ كذلك ديُونه. أمّا الأطراف التّي تفصل ما بين طبيعة السّلطة الدّكتاتوريّة وإدارتها للماليّة العموميّة فهي أطراف تتستّر على جرائم نظام بن علي، وتعرقل سير العدالة وتهضم حقوق المتضرّرين.
واعتبارا لما تقدّم، تُطالب الجبهة الشعبيّة بتعليق تسديد دُيُون نظام بن علي، الذّي تعبره شرطا ضرُوريّا لوقف تدهوُر الماليّة العُموميّة، ولتمكين الدّولة والاقتصاد من الاستجابة لمطالب الثّورة الأكثر إلحاحا، ممّا سيسمح بدوره بتخفيض حدّة التّوتّر الاجتماعي والسّياسي والأمني بالبلاد، ويوفّر مُناخا مُناسبا لحفز الاستثمار والعمل؟ كما سيسمح ذلك من تقليص ضغوط الدّوائر الأجنبيّة على الحكومة التّونسيّة.
لكن، وبرغم ما في المديُونيّة التّونسيّة عامّة، ودُيون نظام بن علي بوجه خاصّة، من شوائب وعلل وما تراكم ضدّها من قرائن تُثبت مسؤوليّتها في تدهور أوضاع البلاد، إلاّ أنّ الحُكومات المُتعاقبة بعد 14 جانفي 2011 تمسّكت بشدّة بآليّة المديُونيّة، التّي ورثتها من النّظام الدّكتاتُوري، دُون مُراجعتها أو حتّى وضعها موضع تساؤُل، وواصلت تسديد دُيون نظام بن علي، رغم الوضع الصّعب الذّي تمُرّ به البلاد، وحاجتها الماسّة لتعبئة كافة مواردها الماليّة لمُعالجته الأزمة، ولتجاوز هذه الفترة الحرجة مع أوفر حُظوظ النّجاح. كما دفعت هذه الحكومات بالبلاد نحو مُسلسل تداين جديد بلغ مُستويات غير مسبُوقة.
في المقابل، تكتفي الأطراف المُتشبّثة بمواصلة تسديد ديون نظام بن علي، بترديد حُجج واهية وأكاذيب، الغرض منها تضليل الرّأي العامّ وتبرير غدرها بمطالب الثّورة من خلال مواصلة إجبار الشّعب التّونسي على تسديد هذه الدّيُون، على حساب حُقوقه واحتياجاته الأساسيّة وأمنه. وتُواصل، مقابل ذلك، إغراق البلاد في الدّيون التّي لم تمنع، كما هُو متوقّع، مزيد تردّي أوضاع البلاد.
كما تطالب الجبهة الشّعبيّة بإجراء تدقيق شامل ومُفصّل للمديُونيّة. وهو إجراء يمكّن من فحص دقيق للماضي. ولكنّه يُمثّل في ذات الوقت، وسيلة لتعبئة المواطنات والمواطنين، ممّا يسمح لهُم أيضا بالسّيطرة على الحاضر، والتّخلّي عن فكرة تعتبر الدّيون قضاء وقدرا مبرمين، والحيلولة دون تأبيدها إلى يوم البعث.
إنّ التدقيق حقّ ديمقراطي أساسي، أي الحقّ في المساءلة. كما أنّه وسيلة قويّة في مُتناول المواطنين لاسترجاع جانب من السّلطة من نفوذ الدّولة. وهو مدرسة حيث بالإمكان فهم الآليّات المتحكّمة في العلاقات الدّولية والاقتصاد العالمي. وهو يُمثّل كذلك، مُناسبة لتطبيق آلّيات الرّقابة على جميع المستويات الشّعبيّة والبرلمانيّة والقضائيّة والحكوميّة والدّوليّة، ممّا يضمن عدم تكرار سيرورة التّداين الكريه.
من يُواصل منع عرض مشرُوع القانُون عدد 2012/45 المُسجّل بتاريخ 4 أوت 2012 لدى المجلس الوطني التّأسيسي، المُتعلّق بالتّدقيق في المديُونية على جلسته العامّة؟ ولماذا تَمنُع المؤسّسات الماليّة العالميّة الحُكومة التّونسيّة من فتح ملفّات دُيون النّظام السّابق، فيما تدفعُها لإجراء تدقيق مُفصّل وشامل في حسابات البُنوك العُموميّة الثّلاثة؟ ومن له مصلحة في بقاء ملفّ المديُونيّة خارج طائلة المراقبة الدّيمقراطيّة والمُسائلة المواطنيّة، هل هُم المستفيدون منها أم المتضرّرون؟ من يُروّعه كشف الحقيقة حول المديونيّة؟ أسئلة كثيرة نطرحها في انتظار أن يجيب عنها التّدقيق.
توجد، بالإضافة إلى شرعيّة الثّورة التّونسيّة ضدّ الدكتاتوريّة، تُرسانة من الحُجج الأخلاقيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والدّينيّة، وخاصّة منها التّشريعية النّابعة من القانُون العامّ الدّولي، التي تدعم مطالب تُونس ضدّ المديونيّة الكريهة وغير الشرعيّة.
ومن بين الحجج التشريعيّة، التّي نستمدّها بصفة خاصّة من مُعاهدة فيّنا لسنة 1969 المتعلقة بقانون الاتفاقيات، ومعاهدة فيّنا لسنة 1986 حول قانون الاتفاقيات بين الدّول والمنظّمات الدّولية، بالإمكان الاشارة إلى ما يمكن أن يشُوب عقد القرض من اختلالات، منها عيُوب الرضا، التّي من شأنها أن تؤدّي إلى بطلان هذا العقد. مثل عدم كفاءة المتعاقد. وارتشاء هذا الأخير بصفة مباشرة أو غير مباشرة أثناء التفاوض. وممارسة ضُغُوط عليه أو تهديده والاحتيال (الفصول 46 و49 و50 و51 و52 من معاهدتي فينّا لسنة 1969 ولسنة 1986). ومن الأسباب غير القانونيّة أو غير الأخلاقية الأخرى لعقد القرض، نجد كذلك شراء تجهيزات عسكرية، والمساعدة المقيّدة، والتّمويل المشروط بتطبيق التّعديل الهيكلي، وإقامة مشاريع غير مُربحة ومُؤذية للسّكان ومُضرّة بالبيئة، واستعمال الأموال المقترَضة استعمالا مُنافيا للقانُون، والقُروض الممنُوحة إلى الأنظمة “الدّيمقراطيّة” والتّي تنتهك “القواعد الآمرة”، واختلاس القُروض بتواطؤ مع الدائنين، إلخ.
وكذلك سداد الدّيون التي سبق أن تمّ خلاصُها. وهو ما ينطبق بدوره على دُيون نظام بن علي التّي تم سدادها بالكامل، إذ أنّ هذا النّظام اقترض 41 مليار دينار ما بين 1987 و2010 فيما سدّد الشّعب التّونسي، خلال نفس الفترة، 48 مليار دينار، وأضاف 18 مليار دينار بعد 14 جانفي، حيث أنّ جزءا كبيرا من هذه المبالغ موضوعه مُواصلة سداد نفس الدّيون. وبالتّالي فإنّه من حقّ تُونس نبذ هذه الدّيُون، والمطالبة بعودة مَا تمّ استخلاصُه من قبل الدّائنين بغير وجه حقّ، بناء على حُجّة الإثراء غير المشرُوع. وتنُصّ العديد من مَجلاّت القانُون المدني، للعديد من البلدان على هذه القاعدة، على غرار ما هُو موجُود في المجلّة المدنيّة الفرنسيّة (الفصل 1376 والموالي).
لا وجود في القانون الدولي لإلزام مُطلق لسداد الديون، بل على خلاف ذلك يفرض هذا الأخير على السّلطات العُمُوميّة واجب حماية حُقوق الإنسان بصفة أولويّة. وبناء على ذلك يتعيّن على الحكومة التّونسيّة استخدام حقّها في تعليق سداد الدّيون الخارجيّة من جانب واحد. وهو إجراء يستجيب لضرورة تفادي المزيد من التّدابير التّقشفيّة الضارّة بالسكّان، والتّي تُهدّد أمن البلاد واستقرارها، بالإضافة إلى مجمل الشّروط المؤذية الأخرى الاقتصاديّة والماليّة والسّياسيّة التّي ترافقها والتّي لا تتردّد الدّوائر الرّأسماليّة الأجنبيّة في مواصلة فرضها على تونس.
وبإمكان الحكومة التّونسيّة، فيما بعد، الاستناد إلى قواعد القانون الدّولي العامّ وإلى مطالب الثّورة، أن تعلن من جانب واحد عن بطلان الدّيون غير الشّرعية، كما حدث في الباراغوي سنة 2005. وليس هذا المثال حالة معزُولة. فقد رفضت العديد من الحُكومات عبر التّاريخ دفع الدّيون المورُوثة عن النّظام الذّي سبقها بحُجّة أنّ هذه الدّيُون لا تُلزم سوى الأنظمة التي تعاقدت عليها ولا تُلزم الدّولة. ليس قرار رفض تسديد الدّيون، الذّي هو قرار أحادي الجانب، قرارا مُخالفا للقانُون الدّولي. إنّه قرار سيادي، وهو مصدر القانُون الدّولي.
من حقّ تونس التخلّص من عبء المديونيّة الكريهة البغيض. إنّ مزيد التّأخير في اتخاذ القرار الوطني الحاسم في هذه المسألة، لن يزيد أوضاع البلاد إلا تأزّما، ويباعد بالقدر نفسه الأمل في بناء تونس حرّة وديمقراطيّة واجتماعيّة ومزدهرة.
فتحي الشّامخي
يتناول برنامج الجبهة الشّعبيّة، حصريّا، مديُونيّة الدّولة التّونسيّة، خاصّة جزئها الذّي تكوّن في عهد نظام بن علي الدّكتاتوري، وكذلك الجزء الذّي يتطوّر الآن بسرعة مُفزعة. أي المديونيّة التّي أصبحت، خلال ربع القرن الأخير، ثقبا أسود، ما انفكّ يلتهم قسما مُتزايدا من الموارد الماليّة للدّولة، ويُضعف بالقدر نفسه قُدرتها على الإيفاء بالتزاماتها الاجتماعيّة تجاه مُواطناتها ومُواطنيها، ويصبح سيفا مسلطا على رقبة هاته الدّولة ويُخضعها لإملاءات الدّوائر الرّأسماليّة الأجنبيّة ولمصالحها الخاصّة.
ويُميّز هذا البرنامج ما بين القُروض الدّاخليّة، التّي تُعقد بالدّينار التّونسي في السّوق الماليّة المحليّة، والقُرُوض الخارجيّة التي تُعقد بالعُملة الأجنبيّة، التّي هي ‘عُملة صعبة’ بأتمّ معنى الكلمة. وهو يضُمّ ثلاثة إجراءات أساسيّة مُترابطة ومُتكاملة، وهي: تعليق تسديد خدمة الدُّيُون العُموميّة الخارجيّة، والتّدقيق في مُجمل الدُّيُون العُمُوميّة الدّاخليّة والخارجيّة، وإلغاء الدُّيُون الكريهة التّي يكشف عنها التّدقيق. وفي تصوّر الجبهة الشّعبيّة يتزامن دُخول قرار تعليق تسديد خدمة الدّيْن حيّز التّنفيذ والبدء في التّدقيق. علما بأنّ التّدقيق المفصّل والشّامل للدّيون العُموميّة يتطلّب، بناء على كلّ التّجارب الدّوليّة السّابقة، مُدّة زمنّيّة تتراوح ما بين سنة ونصف وسنتين.
يجب الإشارة هُنا إلى أنّ الجبهة الشّعبيّة هي الائتلاف السّياسي الوحيد في تُونس، الذّي يثير في برنامجه ونشاطه قضيّة المديُونيّة ويعتبرُها حجر عثر أمام تحقيق مطالب الثّورة. وهو ما يجلب له غضب الأطراف الأجنبيّة والمحليّة التّي لها مصلحة في استمرار منظُومة المديونيّة دون مسائلة ومعالجة وإصلاح. وبالتّالي لا غرابة في أن تتركّز ضدّ الجبهة الشّعبيّة نيران الدّائنين الأجانب وحُلفائهم المحليّين، الذّين يتفوّقُون عليها، سواء من حيث القُوّة الماليّة، أو من حيث القُدرة الدّعائيّة. في المقابل لا تُحدّد الجبهة الشّعبيّة موقفها من المديُونيّة كما تُريد القُوى الرّأسماليّة الأجنبيّة، وإنّما تحدّدُه بناء على ما تقتضيه مصلحة الشّعب التّونسي، كلّفها ذلك ما كلّفها من خُصُومها.
لا يُفيد في شيء الحديث بصفة عامّة عن فوائد المديونيّة أو مضارّها بالنّسبة إلى تُونس، ومدى مُساهمتها في تحسين أوضاع عيش عُموم المواطنين ، ما لم نربط ذلك بتجربتها الملمُوسة، الماضية والحاضرة، أي الظّروف التّي تتنزّل فيها المديونيّة، كطبيعة السّلطة التّي تقترض ومدى حرصها على حماية حُقوق الشّعب التّونسي، والذّود عن مصالح البلاد وسيادتها، ودوافعها والشّروط التّي تخضع إليها، ومآل الأموال الطّائلة التّي تقترضها، ومن هُم المستفيدون منها وكذلك المتضرّرون، ومدى شفافيّة مُؤسّسات الدّولة ذات الصّلة واستقلاليّتها، ومدى ضمان حقّ المواطنات والمواطنين في النّفاذ إلى المعلومة، وحقّهم في المُساءلة. وكذلك طبيعة الجهة المُقرضة، وشُروطها وأهدافها.
لا نغالي إن قلنا بأنّ النظام الدّكتاتوري هو النّظام السّياسي الأسوأ على الإطلاق فيما يتعلّق بضمان الظّروف المثلى لحُسن استعمال أموال القُروض. بالتّالي تعتبر الجبهة الشّعبيّة أن جُزءا هامّا من الدُّيُون، التّي تركها الدّكتاتُور بن علي وراءه، هي دُيون كريهة، أي دُيون نظامه الدّكتاتوري التّي لم يستفد منها الشّعب التّونسي، والتّي أضرّت كذلك بمصالحه، وبالتّالي فإنّ الشّعب التّونسي غير ملزم بها ومن حقّه، بعد أن أطرد الدّكتاتور، أن ‘يُطرد’ كذلك ديُونه. أمّا الأطراف التّي تفصل ما بين طبيعة السّلطة الدّكتاتوريّة وإدارتها للماليّة العموميّة فهي أطراف تتستّر على جرائم نظام بن علي، وتعرقل سير العدالة وتهضم حقوق المتضرّرين.
واعتبارا لما تقدّم، تُطالب الجبهة الشعبيّة بتعليق تسديد دُيُون نظام بن علي، الذّي تعبره شرطا ضرُوريّا لوقف تدهوُر الماليّة العُموميّة، ولتمكين الدّولة والاقتصاد من الاستجابة لمطالب الثّورة الأكثر إلحاحا، ممّا سيسمح بدوره بتخفيض حدّة التّوتّر الاجتماعي والسّياسي والأمني بالبلاد، ويوفّر مُناخا مُناسبا لحفز الاستثمار والعمل؟ كما سيسمح ذلك من تقليص ضغوط الدّوائر الأجنبيّة على الحكومة التّونسيّة.
لكن، وبرغم ما في المديُونيّة التّونسيّة عامّة، ودُيون نظام بن علي بوجه خاصّة، من شوائب وعلل وما تراكم ضدّها من قرائن تُثبت مسؤوليّتها في تدهور أوضاع البلاد، إلاّ أنّ الحُكومات المُتعاقبة بعد 14 جانفي 2011 تمسّكت بشدّة بآليّة المديُونيّة، التّي ورثتها من النّظام الدّكتاتُوري، دُون مُراجعتها أو حتّى وضعها موضع تساؤُل، وواصلت تسديد دُيون نظام بن علي، رغم الوضع الصّعب الذّي تمُرّ به البلاد، وحاجتها الماسّة لتعبئة كافة مواردها الماليّة لمُعالجته الأزمة، ولتجاوز هذه الفترة الحرجة مع أوفر حُظوظ النّجاح. كما دفعت هذه الحكومات بالبلاد نحو مُسلسل تداين جديد بلغ مُستويات غير مسبُوقة.
في المقابل، تكتفي الأطراف المُتشبّثة بمواصلة تسديد ديون نظام بن علي، بترديد حُجج واهية وأكاذيب، الغرض منها تضليل الرّأي العامّ وتبرير غدرها بمطالب الثّورة من خلال مواصلة إجبار الشّعب التّونسي على تسديد هذه الدّيُون، على حساب حُقوقه واحتياجاته الأساسيّة وأمنه. وتُواصل، مقابل ذلك، إغراق البلاد في الدّيون التّي لم تمنع، كما هُو متوقّع، مزيد تردّي أوضاع البلاد.
كما تطالب الجبهة الشّعبيّة بإجراء تدقيق شامل ومُفصّل للمديُونيّة. وهو إجراء يمكّن من فحص دقيق للماضي. ولكنّه يُمثّل في ذات الوقت، وسيلة لتعبئة المواطنات والمواطنين، ممّا يسمح لهُم أيضا بالسّيطرة على الحاضر، والتّخلّي عن فكرة تعتبر الدّيون قضاء وقدرا مبرمين، والحيلولة دون تأبيدها إلى يوم البعث.
إنّ التدقيق حقّ ديمقراطي أساسي، أي الحقّ في المساءلة. كما أنّه وسيلة قويّة في مُتناول المواطنين لاسترجاع جانب من السّلطة من نفوذ الدّولة. وهو مدرسة حيث بالإمكان فهم الآليّات المتحكّمة في العلاقات الدّولية والاقتصاد العالمي. وهو يُمثّل كذلك، مُناسبة لتطبيق آلّيات الرّقابة على جميع المستويات الشّعبيّة والبرلمانيّة والقضائيّة والحكوميّة والدّوليّة، ممّا يضمن عدم تكرار سيرورة التّداين الكريه.
من يُواصل منع عرض مشرُوع القانُون عدد 2012/45 المُسجّل بتاريخ 4 أوت 2012 لدى المجلس الوطني التّأسيسي، المُتعلّق بالتّدقيق في المديُونية على جلسته العامّة؟ ولماذا تَمنُع المؤسّسات الماليّة العالميّة الحُكومة التّونسيّة من فتح ملفّات دُيون النّظام السّابق، فيما تدفعُها لإجراء تدقيق مُفصّل وشامل في حسابات البُنوك العُموميّة الثّلاثة؟ ومن له مصلحة في بقاء ملفّ المديُونيّة خارج طائلة المراقبة الدّيمقراطيّة والمُسائلة المواطنيّة، هل هُم المستفيدون منها أم المتضرّرون؟ من يُروّعه كشف الحقيقة حول المديونيّة؟ أسئلة كثيرة نطرحها في انتظار أن يجيب عنها التّدقيق.
توجد، بالإضافة إلى شرعيّة الثّورة التّونسيّة ضدّ الدكتاتوريّة، تُرسانة من الحُجج الأخلاقيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والدّينيّة، وخاصّة منها التّشريعية النّابعة من القانُون العامّ الدّولي، التي تدعم مطالب تُونس ضدّ المديونيّة الكريهة وغير الشرعيّة.
ومن بين الحجج التشريعيّة، التّي نستمدّها بصفة خاصّة من مُعاهدة فيّنا لسنة 1969 المتعلقة بقانون الاتفاقيات، ومعاهدة فيّنا لسنة 1986 حول قانون الاتفاقيات بين الدّول والمنظّمات الدّولية، بالإمكان الاشارة إلى ما يمكن أن يشُوب عقد القرض من اختلالات، منها عيُوب الرضا، التّي من شأنها أن تؤدّي إلى بطلان هذا العقد. مثل عدم كفاءة المتعاقد. وارتشاء هذا الأخير بصفة مباشرة أو غير مباشرة أثناء التفاوض. وممارسة ضُغُوط عليه أو تهديده والاحتيال (الفصول 46 و49 و50 و51 و52 من معاهدتي فينّا لسنة 1969 ولسنة 1986). ومن الأسباب غير القانونيّة أو غير الأخلاقية الأخرى لعقد القرض، نجد كذلك شراء تجهيزات عسكرية، والمساعدة المقيّدة، والتّمويل المشروط بتطبيق التّعديل الهيكلي، وإقامة مشاريع غير مُربحة ومُؤذية للسّكان ومُضرّة بالبيئة، واستعمال الأموال المقترَضة استعمالا مُنافيا للقانُون، والقُروض الممنُوحة إلى الأنظمة “الدّيمقراطيّة” والتّي تنتهك “القواعد الآمرة”، واختلاس القُروض بتواطؤ مع الدائنين، إلخ.
وكذلك سداد الدّيون التي سبق أن تمّ خلاصُها. وهو ما ينطبق بدوره على دُيون نظام بن علي التّي تم سدادها بالكامل، إذ أنّ هذا النّظام اقترض 41 مليار دينار ما بين 1987 و2010 فيما سدّد الشّعب التّونسي، خلال نفس الفترة، 48 مليار دينار، وأضاف 18 مليار دينار بعد 14 جانفي، حيث أنّ جزءا كبيرا من هذه المبالغ موضوعه مُواصلة سداد نفس الدّيون. وبالتّالي فإنّه من حقّ تُونس نبذ هذه الدّيُون، والمطالبة بعودة مَا تمّ استخلاصُه من قبل الدّائنين بغير وجه حقّ، بناء على حُجّة الإثراء غير المشرُوع. وتنُصّ العديد من مَجلاّت القانُون المدني، للعديد من البلدان على هذه القاعدة، على غرار ما هُو موجُود في المجلّة المدنيّة الفرنسيّة (الفصل 1376 والموالي).
لا وجود في القانون الدولي لإلزام مُطلق لسداد الديون، بل على خلاف ذلك يفرض هذا الأخير على السّلطات العُمُوميّة واجب حماية حُقوق الإنسان بصفة أولويّة. وبناء على ذلك يتعيّن على الحكومة التّونسيّة استخدام حقّها في تعليق سداد الدّيون الخارجيّة من جانب واحد. وهو إجراء يستجيب لضرورة تفادي المزيد من التّدابير التّقشفيّة الضارّة بالسكّان، والتّي تُهدّد أمن البلاد واستقرارها، بالإضافة إلى مجمل الشّروط المؤذية الأخرى الاقتصاديّة والماليّة والسّياسيّة التّي ترافقها والتّي لا تتردّد الدّوائر الرّأسماليّة الأجنبيّة في مواصلة فرضها على تونس.
وبإمكان الحكومة التّونسيّة، فيما بعد، الاستناد إلى قواعد القانون الدّولي العامّ وإلى مطالب الثّورة، أن تعلن من جانب واحد عن بطلان الدّيون غير الشّرعية، كما حدث في الباراغوي سنة 2005. وليس هذا المثال حالة معزُولة. فقد رفضت العديد من الحُكومات عبر التّاريخ دفع الدّيون المورُوثة عن النّظام الذّي سبقها بحُجّة أنّ هذه الدّيُون لا تُلزم سوى الأنظمة التي تعاقدت عليها ولا تُلزم الدّولة. ليس قرار رفض تسديد الدّيون، الذّي هو قرار أحادي الجانب، قرارا مُخالفا للقانُون الدّولي. إنّه قرار سيادي، وهو مصدر القانُون الدّولي.
من حقّ تونس التخلّص من عبء المديونيّة الكريهة البغيض. إنّ مزيد التّأخير في اتخاذ القرار الوطني الحاسم في هذه المسألة، لن يزيد أوضاع البلاد إلا تأزّما، ويباعد بالقدر نفسه الأمل في بناء تونس حرّة وديمقراطيّة واجتماعيّة ومزدهرة.
فتحي الشّامخي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire