Tunisiens Libres: هل يستفيد اليسار التونسي من الدرس اليوناني؟

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

mercredi 15 avril 2015

هل يستفيد اليسار التونسي من الدرس اليوناني؟


هل يستفيد اليسار التونسي من الدرس اليوناني؟



الدكتور والباحث والمحاضر: مرتضى العبيدي

كل الذين التقوا أليكسيس تسيباراس في السنوات الأخيرة في أي محفل من المحافل الدولية،  ولم يكن يفرّط في الحضور في أيّ منها وخاصّة تلك التظاهرات التي انتظمت في عديد البلدان في إطار المنتدى الاجتماعي العالمي، خرجوا بانطباع حول الإيمان العميق لدى الرجل بأن الحركة التي يقودها، حركة سيريزا ستكون في السلطة في القريب العاجل. 

فكيف تمكّن هذا الشاب ذي الأربعين سنة أن يحدث في ظرف وجيز هذا الزلزال التي ترتعد له اليوم، لا البورجوازيات المحافظة في كافة الدول الأوروبية فحسب، بل وكذلك خدمها من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي طلّقت منذ عشرات السنين النضال الاجتماعي وخدمة الطبقات المضطهدة لتكون جزءا من النظام الرأسمالي في أبشع مظاهره؟

 وكيف استطاع قادة حزب سيريزا حديث العهد أن يقنعوا الشعب اليوناني ببرامجهم في حين فشل في ذلك كل من الحزبين الاشتراكي والشيوعي في اليونان؟

ولادة صعبة، بطيئة ومتعثّرة

كلمة “سيريزا” هي اختصار لعنوان أطول يعني باليونانية “تحالف اليسار الراديكالي” وقد شكّلت في بداياتها تحالف لحركات يسارية، بعضها تكوّن على إثر انشقاقات داخل الحزبين الشيوعي والاشتراكي اليونانين.

 و لم يتخذ هذا اللقاء اليساري شكلا تنظيما محدّدا في بداياته، إذ هو ظهر سنة 2001 كفضاء للتحاور حول إمكانية توحيد قوى اليسار في نضالات مشتركة، 

وأهمّ ما كان يشغله في تلك الفترة الحروب الدائرة في دول البلقان القريبة من اليونان كالحرب في كوسوفا 

ومسائل الخوصصة التي شرعت الحكومة اليونانية في تنفيذها بشكل متوحّش. 

لكن سرعان ما تبيّن لمكوّنات هذا اللقاء اليساري أنّ هذا السقف المرسوم غير كاف وغير مجد لتطوير النضال في اليونان واحتلال قوى اليسار موقعا متقدّما فيه، 

فتحوّلت النقاشات من القضايا النظرية المحضة إلى الجوانب العملية اليومية من بينها إمكانية المشاركة بأكثر فاعلية في الحياة السياسية عن طريق خوض المعارك الانتخابية مثلا، ووفرت لهم الانتخابات المحلية لسنة 2002 فرصة لتشكيل قائمات مشتركة لخوض غمارها. 

أمّا الولادة الفعلية لهذه الجبهة فيمكن القول إنّها حصلت بمناسبة الانتخابات التشريعية لسنة 2004 حيث أقدم ناشطو هذا الفضاء الحواري على صياغة برنامج مشترك لخوض تلك الانتخابات، وكانت أهم الحركات والأحزاب التي شاركت في هذا العمل التأسيسي هي: “سيناسبيسموس”  وتعني ” تحالف اليسار والحركات البيئية “(وهو انشقاق عن الحزب الشيوعي، وهو الحزب الذي سيصبح تسيباراس رئيسا له بداية من سنة 2008)، التجديد البيئي والشيوعي اليساري، اليسار العمالي الأممي، حركة اليسار الموحّد في النضال (وهي انشقاق عن الحزب الشيوعي كذلك)، وحركة المواطنين النشطاء. 

وقد حصلت قائماتها في انتخابات 2004 على 241.539 صوتا أي 3.3 بالمائة من أصوات الناخبين و6 مقاعد بالبرلمان. لكن كون الفائزين الستة كان جميعهم ينتمي إلى نفس الحزب (سينا سبيسموس) خلق شيئا من التوتّر بين مكوّنات هذا اللقاء أدّى إلى انسحاب بعضها. 

لكن سرعان ما تمّ تجاوز الخلافات بما مكّنهم من الحصول على نتائج أفضل في انتخابات 2007 حيث حصلت “الجبهة” الناشئة على 360 ألف صوت أي بنسبة 5 بالمائة من مجمل الأصوات و14 مقعدا في البرلمان، خصوصا في كبرى المدن اليونانية. 

وحصل تراجع طفيف في انتخابات 2009  فقدت فيه الجبهة مقعدا ممّا أدّى إلى انسحاب بعض مناضليها الذين حمّلوا القيادة الشابّة مسؤولية هذا التراجع. 

لكن سرعان ما عادت إلى التقدّم بمناسبة انتخابات 6 ماي 2012 حيث تحصلت على مليون و 61.265 صوتا أي بنسبة 16.78 بالمائة و52 مقعدا. 

وأمام استحالة تشكيل أغلبية أعيدت الانتخابات بعد 40 يوما أي بتاريخ 17 جوان 2012

من الجبهة إلى الحزب

 وبما أنّ القانون الانتخابي اليوناني يمنح مقاعد إضافية للحزب الأوّل (خمسون مقعدا في الجملة) وليس للقائمات الائتلافية، فقد قرّرت جبهة سيريزا بتاريخ 22 ماي 2012 التحوّل إلى حزب سياسي موحّد، تحت اسم “سيريزا، الجبهة الاجتماعية الموحّدة” الذي أصبح بحكم تقهقر الحزب الاشتراكي، الحزب اليساري الأوّل في البرلمان.  

وسجّل حزب سيريزا تقدّما جديدا في الانتخابات المُعادة إذ حصل على مليون و655.053 و71 مقعدا وجاء في المرتبة الثانية. بل وتمّ تكليف زعيمه بتشكيل الحكومة لمّا استحال ذلك على حزب “الديمقراطية الجديدة” اليميني لكنه رفض. 

فأجبر الحزب الأوّل على تشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الاشتراكي وهي الحكومة التي لم تستطع أن تعمّر حتى الموعد الانتخابي القادم أي إلى سنة 2016، فدعت إلى انتخابات سابقة لأوانها يوم 25 جانفي 2015 وهي التي حصل فيها حزب سيريزا على المرتبة الأولى بـ 149 ممّا بوّأه الى تشكيل الحكومة الجديدة. 

لكن هل يُمكن أن نعزو تحوّل جبهة سيريزا إلى حزب موحّد إلى القانون الانتخابي فقط؟ 

كلاّ. إذ أنّ التطوّر الذي شهده الحزب خلال السنوات الثلاث الأخيرة يعود إلى أسباب عديدة منها الموضوعي ومنها الذاتي. 

أمّا الموضوعي فيخصّ حالة الأزمة التي تتخبط فيها البلاد منذ أكثر من خمس سنوات والتي سنأتي على ذكر أهمّ مظاهرها.

 أمّا الذاتي فيتعلّق بمسألتين أساسيتين: 

1ـ الانغراس في الجماهير وخوض النضال إلى جانبها وفي طليعتها، 

2ـ والاهتمام بالجانب الاجتماعي للشعب المفقّر والعمل على التخفيف من معاناته بإنشاء شبكات عديدة ومتنوعة للتضامن والتكافل الاجتماعي.

الأزمة الاقتصادية باليونان

نعلم أن اليونان عانى ويعاني من تبعات أزمة النظام الرأسمالي العالمي التي اندلعت منذ أواسط سنة 2008 وانعكست بدرجات متفاوتة على اقتصاديات البلدان الرأسمالية والتابعة. 

واليونان كما البرتغال واسبانيا وإيطاليا وإيرلندا هي من أكثر البلدان الأوروبية تضرّرا من الأزمة نظرا لهشاشة اقتصادها أصلا، زادته هشاشة سياسات اقتصادية ليبيرالية لا وطنية وتابعة انتهجتها الحكومات المتعاقبة منذ اندلاع الأزمة والتي كانت تسيّرها إمّا أحزاب ليبيرالية كحزب “الديمقراطية الجديدة” اليميني، أو تحالفات حزبية انتهازية كالتي كانت تجمع هذا الأخير بالحزب الاشتراكي اليوناني. 

وهي سياسات كانت في مجملها مملاة من الدول الغربية وخاصة دول الاتحاد الأوروبي عبر أجهزتها مثل البنك المركزي الأوروبي والتي لم تكن تقدّم لليونان من حلول إلا مزيدا من الاقتراض حتى صار البلد لا يقترض للاستثمار في التنمية بل لتسديد القروض السابقة حيث تطوّرت نسبة المديونية من 110 إلى 175 بالمائة من الناتج القومي الخام بين سنتي 2010 و2014. وهي تُقدّر اليوم بحوالي 320 مليار يورو . 

فمئات المليارات التي تقترضها اليونان سنويا تُستعمل أساسا لتسديد الديون القديمة، كما صرّح بذلك أحد أصحاب البنوك الألمانية بقوله: “نحن نُقرض اليونان لنمكّنها من الإيفاء بالتزاماتها تجاهنا أي بتسديد ديونها القديمة”. 

و تُعتبر دول منطقة اليورو هي أكبر البلدان المانحة لليونان إذ أنّ 90 بالمائة من القروض متأتية من فرنسا وألمانيا والمؤسسات المالية الدولية. ويقدّر الخبراء أنّ خدمة الدين وحدها ستتراوح بين 2016 و2047 ما بين 4 و18 مليار يورو سنويا. 

لذلك كان المسؤولون الماليون والسياسيون الأوروبيون يعقدون الاجتماعات تلو الاجتماعات للتباحث في كيفية التخفيف من هذا العبء الثقيل على الدولة اليونانية خاصّة في ظل الحكومات اليمينية حتّى لا تفقد السيطرة نهائيا على الأوضاع التي كانت كلّ المؤشرات تبرز ضيق الشعب اليوناني بها ذرعا واستعداده للإقدام على التغيير وهو ما كانت تخشاه الرجعيات الأوروبية. 

وهو ما يجعل هذه الرجعيات اليوم في حالة ارتباك شديد بعد فوز حزب سيريزا بالأغلبية البرلمانية وتشكيله للحكومة الجديدة،

 هذا الحزب الذي جعل من مسألة المديونية نقطة رئيسية في برنامجه واقتراحه حلولا لتجاوزها لا تقتصر فقط على إعادة الجدولة بل وكذلك بتعليق التسديد لمدّة معيّنة ومراجعة لها لتحديد الكريهة منها بل ومطالبة بعض الدول كما هو الشأن بالنسبة لألمانيا بجبر الضرر عمّا اقترفته في اليونان من أضرار ودمار خلال الحرب العالمية الثانية.

وقد شهدت نفس الفترة تدحرج الأجر الأدنى من 750 إلى 510 يورو.  وفي نفس الوقت شهد اليونان انتشارا كبيرا لمظاهر الفساد والرشوة والمحسوبية والتهرّب الجبائي والثراء الفاحش لقلة قليلة 

 مقابل الفقر المدقع لفئات متزايدة من الشعب في ظل غياب تام لما يُسمّى  بالحوكمة الرشيدة.

 وفي هذه الظروف شهد النسيج الاقتصادي تمزّقا لم يعرف له مثيلا في أحلك أزمات النظام الرأسمالي في السابق حيث أعلنت، على سبيل المثال لا الحصر،  أكثر من 300 ألف مؤسسة صغرى ومتوسطة الإفلاس. 

فتضاعف عدد المعطّلين عن العمل ليبلغ في ظرف خمس سنوات نسبة 28 بالمائة. 

وبهذا فاقت نسبة اليونانيين الذين يعيشون تحت عتبة الفقر ربع سكان البلاد. بل أخطر من ذلك لدى اليونانيين شعور مقيت بالعجز أمام الكارثة الاقتصادية وبالإذلال تجاه الآخر الغربي وبالمهانة إذ عرفت البلاد عودة بعض الأمراض التي انقرضت نهائيا منذ عشرات السنين كأمراض السل والجرب وغيرها، وتضاعف عدد الانتحارات ثلاث مرّات عمّا كان عليه قبل الأزمة.  

فهل يكفي القول أنّ ظروف الأزمة هي التي كانت وراء الصعود المطرّد لحزب سيريزا؟ 

لا أعتقد ذلك، لأمر بسيط وهو أن بلدانا أخرى عاشت وتعيش أوضاعا مشابهة ولم يؤدّي ذلك إلى انتصار قوى التغيير فيها. 

ما تكون إذن الأسباب الأخرى الكامنة وراء هذا الانتصار؟

الانغراس في الأوساط الشعبية

إنّ انتصار سيريزا هو انتصار قوّة الإيمان لدى قادتها بحتمية النصر ومثابرتهم على عمل دؤوب تربوي توعوي تثقيفي لم يتوقّفوا على أدائه إزاء الجماهير لحثها على رفض الخنوع وبثّ روح المقاومة لديها رغم ما تعرّض له الحزب من هجومات وتشويهات متعدّدة المصادر طوال سنوات. 

فأحيانا يتمّ تقديمه على أنّه خطر على الديمقراطية تماما كحزب النازية الجديدة “الفجر الذهبي” الذي مكّنته البورجوازية من  النشاط القانوني والترشّح في مختلف الانتخابات والحصول على المقاعد في الهيئات التمثيلية رغم ممارسته للعنف والقتل تجاه المعارضين لسياساته والمهاجرين خاصّة. 

وأحيانا أخرى يوصف بكونه حزب فوضوي يريد جرّ البلاد إلى الهاوية. 

فقد حاول حزبا الباسوك (الحزب الاشتراكي) والديمقراطية الجديدة، جاهدَين، ترهيب الناس بالقول إن اليونان إذا غادرت الاتحاد الأوروبي أو إذا شكل حزب سيريزا الحكومة، فلن يبقى هناك أموال في البنوك، وسيهجم الفقر على الناس، ولن يكون هناك ما يكفي من المال لتمويل المدارس العامة 
والمستشفيات، 

لكن الناس أصبحوا لا يصدقون الحكومة التي لم تقدّم لهم سوى المزيد من القمع والتفقير. 

 ورغم كل الحملات الدعائية المضادّة فإنّ الحزب واصل عمله من خلال الاتصال المباشر لبسط برامجه لعموم الشعب اليوناني وإقناعه أن حالة البؤس التي وصل إليها ليست قضاء وقدرا. 

فتنامى التعاطف مع أطروحات حزب سيريزا والقوى اليسارية عموما ولم يحصل ذلك بنجاح الدعاية فقط بل جاء خاصّة بخوض النضالات أي الاضرابات والاعتصامات واحتلال المؤسسات المغلقة وأماكن العمل من أجل فرض المطالب العمّالية والشعبية ضدّ موجات تسريح العمّال والموظفين. 

لقد أدرك الناس، عبر سنوات من المسيرات في الشوارع وتنظيم الإضرابات والاعتصامات، أن الطريق الوحيد للدفاع عن مستويات المعيشة هو المقاومة. وهذه المقاومة أدت، بطبيعة الحال، إلى نمو اليسار بشكل كبير

  كما أنّ الحزب اقتحم بكل جرأة غداة الانتخابات التشريعية لسنة 2012 برنامجا ملموسا في مجال العمل الاجتماعي تحت مسمّى “تضامن من أجل الجميع” حثّ فيه على إقامة مؤسّسات الاقتصاد التضامني (تعاونيات، تعاضديات الخ… ) 

كما ساعد على خلق شبكات متعدّدة للتضامن بما فيها من مراكز صحية ومطاعم شعبية وجمعيات للدعم المدرسي، حيث أمكن له في منطقة “الأتّيك” وحدها أي أثينا وأحوازها فتح 114 مركزا من هذا النوع. فتطوّر عدد منخرطي الحزب خلال بضعة شهور من عدد ضئيل إلى 35 ألف منخرط. وقد لعب المناضلون المشرفون على النشاط الاجتماعي المذكور دورا حاسما في تطوير إشعاع الحزب بفتح فروع له في كل الأحياء والبلدات. 

وهكذا زاوج الحزب بين النشاط السياسي النضالي والعمل الاجتماعي الذي فتح له أبوابا كانت إلى حدّ تلك الساعة حكرا إمّا على الكنيسة ورجال الدين أو على حزب أقصى اليمين النازي “الفجر الذهبي”. 

وقد لعب هذا الشكل من الانغراس دورا حاسما في تحويل الحزب من حزب للنخبة إلى حزب جماهيري وسهّل على زعيمه الشاب رهانه في تحويل سيريزا من قوة احتجاج إلى حزب يعمل على الفوز بالسلطة وحكم البلاد ببرنامجه الخاص.

ما هو البرنامج الذي انتخب على أساسه حزب سيريزا؟

لقد حرص حزب سيريزا على التباين مع سياسات اليمين اليوناني والأوروبي بشقيها الليبيرالي والاشتراكي الديمقراطي، خاصة سياسات الحزب الاشتراكي اليوناني حليف الأحزاب اليمينية وشريكها في الحكومات التي أدّت سياساتها إلى حالة الإفلاس التي تعاني منها البلاد منذ سنوات وذلك بخضوعها الكلي إلى املاءات الترويكا المدمّرة والمتمثّلة في البنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي التي لم تجن منها اليونان سوى الوبال كما ذكرنا آنفا.

          وإن كانت مسألة المديونية تحتلّ مكانة بارزة في برنامج الحزب لما لها من أثر عن السيادة الوطنية  والكرامة الوطنية، هذه الكلمة السحرية التي تعود مرّات ومرّات في خُطب قادة سيريزا حتّى أن عديد المراقبين يعتقدون أن الكثير من الناخبين الذين قد لا يتفقون مع مجمل برنامج الحزب إلا أنّهم منحوه أصواتهم لا لشيء إلا لتأكيده على استرجاع كرامة البلاد وصونها، 

فإنّ هذا البرنامج لا يقتصر على هذا الملف فحسب بل هو يرفض مجمل املاءات الترويكا والمتمثّلة :

- في برنامج الإصلاح الهيكلي والذي يعني فيما يعني التخفيض في الأجور وفي منح الشيخوخة والتقاعد، وتحرير قوانين انتداب وتسريح العمّال، والتخفيض في عدد موظفي الدولة والمزيد من الخوصصة في كل القطاعات، 

وهي التزامات تعهّدت الحكومات اليمينية المتعاقبة باحترامها 

ويخشى الساسة الأوروبيون اليوم أن تتنكّر لها حكومة سيريزا وهو ما حدا بفرنسوا هولاند بالتصريح ” إنّ للشعب اليوناني الحرية المطلقة في اختيار من يراه صالحا لحكمه، لكن على الحكام الذين سيُفرزهم الصندوق أن يفوا بالتزامات الدولة اليونانية”، 

 وهو نوع من التهديد المسبق للفائزين الجدد أيّاما فقط قبل موعد الانتخابات. 

وقد صرّحت أنجيلا مركيل ووزير خارجيتها في نفس الفترة أنهما يأملان رؤية وجوه معروفة ومحبّبة تحكم اليونان من جديد. 

والواقع أنّ هذه الرجعيات لا تريد أن تجد نفسها تتفاوض مع سيريزا حول برامج وإجراءات تسعى هي نفسها لتنفيذها في بلدانها لأنّ ذلك سيفتح عليها أبواب جهنّم في عقر دارها. 

فالرفض المطلق من طرف هؤلاء لاحتمال فوز سيريزا هو بالأساس موقف سياسي ناتج عن الخوف من أن تصبح “الحالة اليونانية” مثال يُحتذي وبعض البلدان الأوروبية من بينها اسبانيا خاصة تستعدّ للانتخابات التشريعية في غضون هذا العام.

كما يتضمّن البرنامج العاجل لحزب سيريزا الاجراءات التالية: 

- تخفيض الضرائب لذوي الدخل المحدود، 

-الترفيع في الأجر الأدنى حتى يعود لمستوى سنة 2009، 

- إعادة صرف منحة إضافية (الشهر الثالث عشر) لأصحاب الجرايات المحدودة من المتقاعدين، 

- صرف منح سكن للعائلات المعوزة، 

- إعادة تفعيل الاتفاقيات الشغلية المشتركة ومراجعة قائمات المسرّحين من الوظيفة العمومية.

 ومن شأن هذه الاجراءات التحسين الفوري في ظروف عيش فئات واسعة من الشعب اليوناني الذي ينتظر هذه الإصلاحات بفارغ الصبر وقد تعهّد قادة سيريزا خلال حملتهم الانتخابية بإلوفاء بوعودهم في حال فوزهم وهم يُدركون الصعوبات الفعلية من أجل الإنجاز إذ هم لن يواجهوا الرجعية المحلية فحسب، بل الرجعية الأوروبية وحتى الدولية التي بدأت بعد بالتكشير على أنيابها حال الإعلان عن النتائج.

إنّ انتصار سيريزا يبعث الأمل لا لدى الشعب اليوناني فحسب بل لدى الشعوب الأوروبية جمعاء التي تعاني من نفس السياسات الليبيرالية المتوحّشة والتي يناضل نساؤها ورجالها ضدّ  ما يسمّى بسياسات التقشّف والتي عادت وتعود عليهم بالوبال. 

لقد صوّت الشعب اليوناني ضدّ املاءات الترويكا، وضدّ الفساد والنهب ومن أجل إعادة إرساء التفاوض الحرّ حول القوانين الشغلية وإعادة المنح الملغاة بحكم هذه السياسات ومن أجل الترفيع في الأجر الأدنى إلى حدود 750 يورو ومن أجل وقف الخوصصة وتعميم الاستفادة من خدمات التعليم العمومي والصحة والكهرباء والماء. 

وسيكون الشعب اليوناني في حاجة إلى كل طاقاته التعبوية والكفاحية لمواجهة إملاءات الترويكا وأصحاب البنوك والشركات المتعددة الجنسيات. 

لكنه سيكون كذلك بحاجة إلى تضامن أممي قوي من أجل احترام خياره الديمقراطي في وجه التهديدات والابتزازات التي بدأت الرجعيات العالمية تلوّح بها.

سيريزا واليسار اليوناني

لكن لسائل أن يتساءل لماذا نجحت سيريزا في إقناع الشعب اليوناني ببرنامجها لكنها لم تنجح في ٌقناع بقية قوى اليسار به؟

لماذا نطرح هذا السؤال؟

 لأنّه لا شكّ أنكم تعلمون أن حزب سيريزا الفائز الأول في الانتخابات لم يحصل رغم ذلك على الأغلبية المطلقة، فاضطرّ إلى تشكيل حكومة ائتلافية، مع من؟ مع حزب “اليونانيين المستقلين” اليميني القومي الحاصل على 13 مقعدا بينما حصل الحزب الشيوعي اليوناني على 15. ......
....... 
المواجهة مع الرجعيات وضرورة التضامن الأممي مع الشعب اليوناني

ما أن تمّ التصريح بالنتائج حتّى شرعت البورجوازيات الأوروبية للتخطيط لإلغاء هذه النتائج والالتفاف على الاختيار الحر للشعب اليوناني. فتتالت تصريحاتهم المؤكّدة على ضرورة التزام الحكومة الجديدة بجميع الاتفاقات المهينة المفروضة على الشعب اليوناني. 

وبعد التصريحات، جاءت ساعة الجدّ وقد تكفّل البنك المركزي الأوروبي أحد أضلع مثلث الدمار بالضغط على اليونان والمساومة والابتزاز. 

وقد وصفت الصحافة الاجراءات المتخذة من قبل هذه المؤسسة والقاضية بإيقاف تمويل البنوك اليونانية بالسيولة “بالانقلاب المالي”. 

وقد اتخذ مجلس إدارة هذا البنك قراره الجائر بينما كان الوزير الأول اليوناني ووزير ماليته بصدد القيام بجولة في العواصم الأوروبية للتفاوض بخصوص المديونية اليونانية. 

وهكذا يتخفى السياسيون الأوروبيون وراء قرارات البنك المركزي للضغط على اليونان، فتتخذ هذه المؤسّسة قرارا سياسيا بامتياز وهي التي ينصّ قانونها الأساسي على أنها مؤسسة مستقلّة عن الحكومات ومحايدة، وهي كذلك المؤسسة الوحيدة من ترسانة مؤسسات الاتحاد الأوروبي غير المنتخبة. 

وهي بهذا الصنيع لا تفعل غير الانقلاب على إرادة الشعب اليوناني والسعي إلى إخضاع اليونان كما أخضعت في السابق حكومتي قبرص وإيرلندا.  

وقد بلغت الرسالة إلى السلطات اليونانية الجديدة التي أجاب أحد كبار مسؤوليها “أن اليونان لا يعتزم الخضوع إلى أيّ نوع من أنواع الابتزاز” وأكد نفس المصدر أنّ السيولة ستكون متوفرة من مصادر أخرى إذا ما واصل البنك المركزي الأوروبي تعنّته”.

وفي المقابل، ما أن تم التصريح بالنتائج حتّى انطلقت حملات التضامن الشعبي مع هذا الانتصار، فخرجت المسيرات التلقائية في أغلب المدن الأوروبية ليس فقط للتعبير على التضامن مع الشعب اليوناني بل للضغط على الحكومات الأوروبية الرجعية من أجل فسخ الديون اليونانية أو جزء منها على الأقلّ وهو ما يتطلّب تصوّر خطط نضالية منظّمة حتى لا تضيع هذه الجهود بين العفوية والظرفية. 

ولعل أهمّ هذه التحرّكات التجمّع الجماهيري الحاشد الذي دعت إليه حركة “بوديموس” (وترجمتها قادرون) في مدريد والذي حضره قرابة المائتي ألف شخص. 

وحيّت أحزاب اليسار والنقابات في ألمانيا هذا الانتصار الذي اعتبرته تاريخيا ويفتح الآمال أمام الطبقة العاملة في أوروبا. 

كما تظاهر الآلاف في باريس احتجاجا على اجراءات البنك المركزي الأوروبي تجاه اليونان. 

كما تلت هذا الانتصار زيارات عديدة لوفود من الحركات الثورية والتقدمية في العالم للتعبير على المساندة والبحث في سبل تفعيلها. 

وهذا يطرح على الحركة التقدمية والديمقراطية في العالم عامّة وفي أوروبا خاصّة مهمّة جديدة على جدول أعمالها ألا وهي تفعيل التضامن مع الشعب اليوناني بجميع الأشكال النضالية المُتاحة. 

ولعلّ أفضلها هو بناء المقاومة عبر أرجاء أوروبا ضد إجراءات تقشف الاتحاد الأوروبي ذاتها التي أدّت باليونان إلى هذا المآل. 

فمن المفيد أن نرى العمال يضربون في بلدان مثل بلجيكا أو إسبانيا أو إيطاليا والبرتغال وهي البلدان التي تكتوي شعوبها بنيران سياسات التقشف. 

فسيكون ذلك بمثابة الإجابة الملموسة على محاولات عزل اليونان لكي لا يصبح انتصار شعبه مُحفّزا لبقية الشعوب فتنتفض على السياسات الوحشية المتّبعة. 

فحينما يرى الشعب اليوناني الجماهير في أوروبا تتحدى إجراءات التقشف ، فإن ذلك سيعطيه القوة والثقة للمضي قدماً في معركته ضد أعدائه الطبقيين والوطنيين.

ويبقى التحدي الأكبر أمام الجماهير الأوروبية هو بناء الجبهات والائتلافات الواسعة التي تجمّع شتات التنظيمات العديدة الحزبية منها والاجتماعية المناهضة للرأسمالية من أجل إرسال رسالة مفادها أن هناك أمام الشعوب الأوروبية بدائل أخرى مناهضة لسياسات التقشّف والعنصرية والفاشية. 

إنّه لمن المهم للغاية أن تخرج الشعوب من هذه الأزمة الاقتصادية ببناء شيء جديد وقوي يبشّر بميلاد مجتمع جديد.

ماذا يعني انتصار حزب سيرسزا اليساري في الانتخابات التشريعية في اليونان؟

ـ إن الشعب اليونان بمنحه الثقة لحزب سيريزا حطّم الهجمة الايديولوجية التي كانت تستهدفه وتستهدف كامل شعوب أوروبا والقائلة بأن لا بديل عن سياسات التقشف التي تنتهجها الدول الأوروبية، وهم بذلك يبثّون جرعة من ألأمل لدى تلك الشعوب بإمكانية هزم السياسات الليبيرالية المتوحّشة، وهذه الثغرة المحدثة في هذا النظام الاستغلالي البغيض تفتح أبواب الأمل أمام شعوب إيرلندا وإسبانيا والبرتغال وغيرهم.

 فعلى العمّال والشباب في كافة الأقطار الأوروبية التعبير بجميع الأشكال على تضامنهم مع الشعب اليوناني ، وعليهم أن يفرضوا على حكّامهم احترام الاختيار الحرّ للشعب اليوناني.
لكن ما هي العوامل التي ساعدت حقا على تحقيق الانتصار هذه السنة؟

ـ منذ انتخابات 2012، طالبت سيريزا الناخبين بالتصويت لها لا كصوت احتجاجي بل كمشروع حكم وقد كان إيمان قادتها بالنصر كبير خاصة وأنّ الأحزاب اليسارية التقليدية (الحزب الاشتراكي أساسا) لم يعد بمقدورها تقديم برنامج يختلف عن برامج أحزاب اليمين الليبيرالي (نفس الأمر يحدث اليوم في فرنسا مع الحكومة الاشتراكية)، فقدّم الحزب بدائل برنامجية حقيقية وليست مجرّد شعارات عامّة.

ـ من المؤكد أن حزب سيريزا سجّل تطوّرا ملحوظا في نتائج الانتخابات من دورة إلى أخرى، لكن لا يجب النظر إلى انتصاره اليوم كمجرّد تطوّر كمّي لما حصل في الدورات السابقة، إذ أن ما أقدم عليه الحزب منذ انتخابات سنة 2012 يختلف نوعيا عمّا كان عليه في السابق. فانتصاره اليوم جاء نتيجة لسيرورة نضال متعدّدة الأوجه فيها أعمال التعبئة النضالية والتثقيف والتربية والشرح وفيها الصراع الايديولوجي ضدّ أفكار الاستكانة والقدر المحتوم، وقد اتسمت هذه الأعمال بالنضج  نتيجة حُسن إصغاء القادة للجميع (خبراء، مناضلين نقابيين، مناضلين في الحقل الاجتماعي والجمعياتي الخ…)

ـ وجاء هذا الانتصار كذلك نتيجة للعمل اليومي الدؤوب مع الجماهير وفي طليعتها، إن في النضال الاحتجاجي أو في الأعمال التضامنية للاستجابة للحاجيات الآنية لجماهير المفقّرين الغذائية منها والصحية والتعليمية وغيرها
ـ وبهذا الشكل، ظهر حزب سيريزا كحزب مختلف، كحزب عصري استطاع تجميع قوى قادمة من مشارب مختلفة لكنها قادرة  وعازمة على سلك نفس الطريق، منها من عاش تجارب حزبية غير موفّقة ومنها من لم ينتم أصلا ونها خاصّة من هو قادم من الحراك الاجتماعي الذي ولّدته الأزمة كالمنتدى الاجتماعي أو حركة “الساخطين” الخ…

ـ ثمّ أن حزب سيريزا اختار منذ سنوات أن يمنح ثقته إلى قادة شبّان منفتحين على الآخر قادرين على الاستفادة من تجارب الغير إن في الداخل أو في الخارج، كما أنهم يتميّزون بحضور ميداني كبير، فهم لا يتخلّفون على خوض المعارك إلى جانب العمّال والشباب والنساء والمعطّلين ولا يخلقون الحواجز بينهم وبين محيطهم الطبيعي.

لكن ذلك لا يعني أنّ الأمر يتعلق بصراع الأجيال، فحزب مثل هذا لا يمكن أن يفرّط في أيّ من الطاقات النضالية الممكنة، لذلك نجده يضع على رأس إحدى قائماته الوجه التاريخي للمقاومة في اليونان “مانوليس غليزوس” ذي الثماني وثمانين سنة والذي كان صعد ذات يوم من سنة 1941 إلى أعلى مبنى الأكروبوليس لينزع العلم النازي بضعة أيام فقط بعد احتلال اليونان من قبل جيوش هتلر. وهو الذي يقود اليوم حملة دولية لمطالبة ألمانيا بجبر الضرر عن حالة الدمار التي خلّفها احتلالها لليونان في الحرب العالمية الثانية.  

ـ وفي المُحصّلة، فأن البرنامج الذي تمّت صياغته جاء نتيجة عمل جماعي تضافرت فيه جهود الخبراء مع الدروس المستخلصة من التجارب النضالية اليومية ممّا جعل منه برنامجا طموحا وواقعيا يستجيب لحاجيات أوسع فئات المجتمع ويسهل استيعابه من الجميع لأنّه يفتح الأمل في تغيير حقيقي. ففي كلمة هو تعبير عن طموح وعن إرادة سياسية ملموسة وليس تعبيرا عن خطاب إيديولوجي جاف.

فهل يمكن لليسار التونسي الاستفادة من الدرس اليوناني؟ ذاك ما نطرحه للنقاش.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire