قيادى بالتنظيم السرى يكشف دموية الاخوان حتى مع المعارضين من داخل الجماعة
أخر الاخبار, تاريخ الاخوان, جرائم الاخوان
ظلت العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية فى تاريخنا السياسى.
من هنا كانت محاولات البعض البحث عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة، فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان المسلمين «حركة طلابية»..
وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة العقالى، كما كانا - العقالى وقطب - صديقين فى مرحلة الطفولة والشباب وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.
لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.
ولعل اعترافاته التى أدلى بها للكاتب الصحفى سليمان الحكيم فى هذا التحقيق الذى نشرته فى وقت سابق المصرى اليوم ، تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير، خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.
عبدالناصر يرفض اعتقال الهضيبى
■ هل كانت ثورة 23 يوليو ثورة إسلامية أم إخوانية؟
- يؤكد المستشار الدمرداش العقالى- أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى للإخوان المسلمين فى ذلك الوقت- أن الإجابة عن ذلك السؤال هى نعم.. لقد كانت ثورة إسلامية!
ويقول العقالى إن ثورة 23 يوليو حاولت ومنذ اللحظة الأولى لميلادها أن تؤكد وجهها الإسلامى.. وذلك عبر أول قرارات صدرت عن قيادتها، وكانت تلك القرارات هى آخر ما تم الاتفاق عليه بين عبدالناصر والقيادة الشرعية لحركة الإخوان المسلمين- عبدالرحمن السندى- وذلك فى الاجتماع الذى ضمهما يوم 17 يوليو.. أى قبل قيام الثورة بخمسة أيام فقط.
وقد ذهب عبدالناصر إلى الاجتماع مع السندى ليضع معه اللمسات الأخيرة للتحركات المقررة ليلة الثورة.. والقرارات التى ينبغى إصدارها للإعلان عن الوجه الحقيقى لها.. وهو الوجه الإسلامى الذى تم الاتفاق عليه، والذى كانت ملامحه تتمثل فى ضرورة أن تصدر قيادة الثورة- أول ما تصدر من قرارات- قراراً بالإفراج عن جميع المعتقلين من الإخوان المسلمين ومن بينهم قتلة النقراشى باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، كما تصدر قراراً باعتقال إبراهيم عبدالهادى وهو رئيس الوزراء الذى نكل بالإخوان وملأ بهم السجون والمعتقلات.. وتأكيداً لوجه الثورة الإسلامى اتفق عبدالناصر والسندى على إطلاق اسم «الحركة المباركة» على عملية التغيير بدلاً من تعبير «الثورة».
ولم يكن هناك محل للخلاف بين عبدالناصر والسندى على كل النقاط السابقة، ولكن بدأ الخلاف حينما طرح السندى مسألة القبض على المستشار الهضيبى، المرشد العام للإخوان المسلمين، والذى كان فاروق قد نجح فى توصيله إلى هذا المنصب على غير رغبة عبدالرحمن السندى الذى كان يعتبر نفسه القائد الشرعى لحركة الإخوان بعد اغتيال حسن البنا.
وكان رأى عبدالناصر أن قراراً تصدره الثورة باعتقال زعيم الإخوان سوف يمحو الانطباع الذى تركته القرارات السابقة فى أذهان الجماهير والذى يطبع الثورة بالطابع الإسلامى الواضح.. وكان ذلك أول الخلافات بين عبدالناصر والقيادة الشرعية لحركة الإخوان.
ولكن عبدالرحمن السندى- وأمام هذا المنطق القوى الذى أبداه عبدالناصر بشأن عملية اعتقال الهضيبى- لم يجد أمامه غير الخضوع لجمال عبدالناصر ولكن بشرط.. هو تأجيل اعتقال حسن الهضيبى انتظاراً لموقفه من القرارات الخاصة بالإفراج عن قيادات الإخوان المسلمين وأعضاء التنظيم.. خاصة المتهمين منهم باغتيال النقراشى.. وقال السندى إذا وافق الهضيبى على تلك القرارات وباركها يبقى حراً دون اعتقال.. أما إذا هاجمها، وهنا قال له عبدالناصر «سوف أعتقله فوراً» فوافق السندى.
شرعية الثورة
وفى يوم 19 يوليو- يقول العقالى- أى بعد اجتماع السندى وعبدالناصر بيومين، وقبل قيام الثورة، صدرت إلينا الأوامر- نحن أعضاء الجهاز السرى الذين لم يشملهم أمر الاعتقال، لعدم انكشاف سرنا- بالتوجه فوراً إلى قرى الإسماعيلية الملاصقة لمعسكرات الإنجليز فى منطقة القناة، واحتلال الطريق، وكل الطرق المؤدية إلى مدينة القاهرة، ولم نكن نعلم بالسر من وراء ذلك التحرك المفاجئ، وذهب تفكيرنا إلى أنه ربما قررت قيادتنا إعادة ما كان يعرف باسم «كتائب القناة» وهذه الكتائب التى كانت تنتمى إلى الإخوان وتقوم ببعض الأعمال الفدائية ضد المعسكرات الإنجليزية بمنطقة القناة، ولكنها توقفت عن عملها إثر حريق القاهرة، والأحداث التى تلته.
ولكن بعد قيام الثورة ونجاحها فى الاستيلاء على السلطة بالبلاد عدنا إلى القاهرة ليخبرنا عبدالرحمن السندى بأن ذهابنا إلى القناة بهدف تأمين الثورة ضد القوات الإنجليزية فيما لو تحركت لإجهاض الثورة والدفاع عن الملك.. وأخبرنا السندى أن ذلك كان باقتراح عبدالناصر فى إطار احتياطاته لتأمين الثورة..
وكان عبدالناصر قد قال للسندى إنه لو تحركت القوات البريطانية نحو القاهرة للتصدى لقوات الثورة، فسوف نشتبك معها، ولكن المعركة فى هذه الحالة سوف تكون فى نظر العالم بين جيش وجيش، وربما نجح الإنجليز عبر جهازهم الإعلامى الواسع فى تصوير الثورة على أنها مجرد تمرد فى صفوف القوات المصرية ضد نظام الحكم، وبالتالى فإن هذا التمرد يفتقد إلى الشرعية، وإن تحرك القوات البريطانية للدفاع عن الملك سوف يبدو فى نظر العالم على أنه دفاع عن الشرعية والدستور، ضد حركة تفتقد إلى الشرعية وتخرق الدستور.
من هنا كان إصرار عبدالناصر على ضرورة إشراك الشعب بمختلف طوائفه ضد تحرك القوات البريطانية- أو حتى قوات الملك- فيما لو تحركت تصدياً للثورة. وقد جاء تحركنا إلى منطقة القناة لتحقيق هذا الهدف، انتظاراً للأوامر ليس فقط بالاشتباك مع القوات البريطانية المتحركة من قواعدها بالقناة فى اتجاه القاهرة، بل وتأليب الجماهير على تلك القوات لإظهار الثورة فى إطار شعبى لا يفتقد إلى الشرعية.
وقامت الثورة ولاقت من التأييد الشعبى ما لم يكن فى حسبان أى ممن خططوا لها، وأوفى عبدالناصر بكل التعهدات التى قطعها على نفسه أمام عبدالرحمن السندى، فأفرج عن جميع المعتقلين من الإخوان بمن فيهم قتلة النقراشى، كما أصدر أوامره باعتقال إبراهيم عبدالهادى وأدخله السجن.. إلى آخر ما تم الاتفاق عليه بين عبدالناصر وعبدالرحمن السندى.
الهضيبى يرفض
ولكن ما إن صدرت تلك القرارات حتى هاج حسن الهضيبى وملأ الدنيا ضجيجاً.. رفضاً لقرارات الإفراج عن الإخوان بحجة أنهم إرهابيون وقتلة وسفاكو دماء وأن ذلك ليس من الإسلام الذى يدعو إلى الله «بالحكمة والموعظة الحسنة».. كما قال حسن الهضيبى مبرراً رفضه لقرارات الثورة بالإفراج عن الإخوان المسلمين.
عند ذلك ذهب عبدالرحمن السندى إلى جمال عبدالناصر ليطالبه بالوفاء بوعده الذى كان قد قطعه على نفسه بالقبض على حسن الهضيبى إذا ما هاجم قرارات الثورة بالإفراج عن الإخوان المسلمين.. ولكن عبدالناصر رفض فخرج السندى من عنده غاضباً.
قرر عبدالناصر- الذى كان وزيراً للداخلية فى ذلك الوقت- الاجتماع بالقواعد الطلابية لتنظيم الإخوان المسلمين ليشرح لهم أسباب الخلاف بينه وبين السندى حول مسألة اعتقال الهضيبى.
كنت يومها طالباً بكلية الحقوق فى جامعة فؤاد الأول- جامعة القاهرة الآن- وكنت وكيلاً لرئاسة اتحاد طلابها، فذهبنا للاجتماع بعبدالناصر الذى أخذ يشرح لنا كيف أن اعتقال الهضيبى الآن سوف يثير الكثير من المشاكل والمعوقات فى طريق الثورة الوليدة.. وقال عبدالناصر إن الثورة أعدت مشروعاً لقانون الإصلاح الزراعى، تنوى إصداره خلال أيام، فإذا أصدر أمراً باعتقال الهضيبى الآن فقد تأييد الإخوان للثورة، وهو التأييد الذى تحتاجه الثورة لمواجهة الآثار المحتملة لصدور قانون الإصلاح الزراعى فى أوساط الإقطاعيين والطبقات الغنية والرأسمالية، وإذا فقدت الثورة تأييد الإخوان لها فسوف ينضمون- بطبيعة الحال- إلى صفوف الإقطاعيين فى تحالف مضاد ليست لدى الثورة الوليدة القدرة على مواجهته..
ولهذا فإنه يرفض اعتقال الهضيبى وإثارة الإخوان ضده.. وإن ذلك ليس أكثر من خطوة تكتيكية ولا يعنى أكثر من ذلك.. وإنه مضطر لتحمل الهضيبى وهجومه على الثورة لهذا السبب وحده، كما أنه لا يريد أن يفقد تأييد قواعد الإخوان للثورة بعد أن فقدت تأييد قادتها.
وقال عبدالناصر إنه سوف يؤجل قراره باعتقال الهضيبى حتى صدور قرارات الإصلاح الزراعى، فإذا عارضها الهضيبى عندئذ لابد من اعتقاله.
وقد صدرت قرارات الإصلاح الزراعى بالفعل فى 9 سبتمبر 1952، أى بعد قيام الثورة بشهر ونصف تقريباً، وما كاد الهضيبى يسمع بها حتى ثار ضدها رافضاً.
المواجهة إخوانية.. إخوانية
وهنا ذهب عبدالرحمن السندى إلى جمال عبدالناصر ليطلب منه اعتقال الهضيبى للمرة الثالثة، وربما الرابعة، لكن عبدالناصر رفض أيضاً، كما رفض فى المرات السابقة، فقال له عبدالرحمن السندى إننى أتهمك باللعب على الخلاف بين قيادات الإخوان تمهيداً لتصفية الحركة كلها، لحسابك الخاص، فإما أن تعطى وفاءك للدعوة التى أمثل أنا قيادتها كما جاء فى وصية حسن البنا فتنفذ أوامرى فيما اتفقنا عليه معاً، وإلا كان لك خبئ آخر تنوى القيام به لحسابك وبعيداً عن حركة الإخوان وقيادتها الشرعية.
لم يغضب عبدالناصر لدى سماعه تلك الاتهامات الصريحة التى ألقاها فى وجهه عبدالرحمن السندى، ولكنه تضاحك معه، وأخذ يهدئ من روعه ثم قال له:
لماذا تطالبنى أنا بالقضاء على الهضيبى، وتحملنى مسؤولية دمه أمام الإخوان فى الحركة؟ ولماذا لا تقومون أنتم- فى الجهاز السرى- باتخاذ القرار وتنفيذه بتصفية حسن الهضيبى.. بعيداً عنى، ويعلن الإخوان أنهم صححوا وضعهم بأيديهم، وأنا من جانبى سأقر هذا التصحيح؟!
ابتلع عبدالرحمن السندى الطعم الذى وضعه له جمال عبدالناصر، فأرسل فى يناير 1953 مجموعة من الجهاز الخاص، اقتحمت منزل الهضيبى بعد صلاة الجمعة- وكنت أنا واحداً من تلك المجموعة- وطلبنا منه أن يستقيل، وقال له المتحدث باسم الجماعة محمود فرغل- رحمه الله- «لست مرشدنا ولا نحن اخترناك، وجئنا نطلب منك أن تحل عنا بالحسنى».
كان محمود فرغل أحد المشاركين فى قتل محمود فهمى النقراشى، رئيس الوزراء الأسبق، ودخل المعتقل ليمضى فترة العقوبة حتى أفرجت عنه الثورة ضمن من أفرجت عنهم من الإخوان المسلمين فى أول القرارات التى صدرت عنها.. وهو القرار الذى أثار حفيظة حسن الهضيبى وأخذ يهاجمه، فكان محمود فرغل أكثر الحانقين على الهضيبى بسبب مهاجمته قرار الإفراج عنه وزملائه من قتلة النقراشى باشا.
وحين ذهب فرغل على رأس المجموعة من الجهاز الخاص إلى بيت الهضيبى.. ارتعد الأخير خوفاً ورعباً، ووعد بتقديم استقالته فوراً نزولاً على رغبة الجهاز الخاص، واستأذننا فى الدخول إلى غرفة المكتب ليحضر ورقة وقلماً ليكتب استقالته.
دخل الهضيبى إلى إحدى غرف بيته، وطال انتظارنا، حتى فوجئنا بدخوله علينا ومعه قوة من جنود الشرطة على رأسها أحد الضباط.. وأشار الهضيبى إلينا قائلاً: «هؤلاء هم يا حضرة الضابط».
تظاهر الهضيبى بإحضار ورقة وقلم حين دخل إحدى الغرف ببيته، ولكنه كان ينوى الهرب من الباب الخلفى لمنزله ليستعين بالشرطة فى التخلص منا.. وكانت نقطة الشرطة مجاورة لبيته بالروضة ولا تبعد عنه سوى بضعة أمتار فقط.
فشلنا مع الهضيبى
يبدو أن ضابط الشرطة الذى استعان به الهضيبى للقبض علينا لم يكن يعرف الهضيبى، لم تكن أجهزة الإعلام فى ذلك الوقت بمثل هذا الانتشار الواسع الذى هى عليه الآن، وقد فهمنا ذلك حين بادرنا سائلاً:
«ماذا تريدون من هذا الرجل ولماذا تتهجمون عليه فى بيته؟»
فأجبناه نحن بسؤال جماعى: «هل تعرف هذا الرجل ومن يكون؟»
قال الضابط: إنه مواطن ولا يهمنى أن أعرف من هو؟
قلنا له: إنه المرشد العام للإخوان المسلمين.
يبدو أن الضابط قد فوجئ فسكت قليلاً ثم قال: ولو.. لماذا جئتم إلى بيته؟
قلنا له: لأننا نحن الإخوان المسلمين!!
سكت الضابط.. وأخذ يتفرس فى وجوهنا مندهشاً، ثم كان علينا أن نزيل إحساسه بالحرج والدهشة فقلنا له: على أى حال.. إذا كان هو لا يريدنا فى بيته، فقد جئنا إليه لنقول له إننا لا نريده فى بيتنا. لم يجد الضابط ما يفعله معنا.. فخرج وتركنا مع الهضيبى الذى طالبنا بالخروج لأننا غير مخولين بقبول استقالته، فخرجنا ونحن نتوعده.
كنا قد اتفقنا مع عبدالرحمن السندى على أننا سوف نحصل من الهضيبى على الاستقالة ونذهب بها إليه فى مقر المركز العام «بالحلمية» ليعقد مؤتمراً عاماً يعلن فيه استقالة حسن الهضيبى من رئاسة الإخوان المسلمين.. ولكنا ذهبنا إلى مقر الحلمية نجر أذيال خيبتنا بعد أن فشلنا فى الحصول على الاستقالة، واجتمع بنا عبدالرحمن السندى وأخذنا نتدارس الموقف من جميع جوانبه وماذا علينا أن نفعل بعد فشلنا فى إقالة الهضيبى.
حل علينا الليل ونحن فى نقاش لا ينتهى مع عبدالرحمن السندى، وإذا بنا نفاجأ بجموع تسد جميع الشوارع المؤدية إلى المركز العام للإخوان المسلمين بحى الحلمية، وتعالت هتافاتهم تطالب بإهدار دمنا.
فقد وجدنا أنفسنا محاصرين بتلك الجموع الكبيرة التى تطالب بقتلنا، ولم نكن ندرى ماذا نفعل وكيف نتصرف إزاء هذا الموقف العصيب، ولكن عبدالرحمن السندى بحسه السرى والعسكرى، كان قد تحسب لهذا الأمر جيداً، حين فكر فى
احتمال فشلنا فى الحصول على الاستقالة، ورد فعل الهضيبى إزاء مطالبتنا له بالاستقالة.
كان السندى قد أعد العدة لمثل هذا الموقف المحتمل، فأمر مجموعة من أنصاره بحمل المدافع الرشاشة واحتلال سطح المبنى المقابل لمبنى المركز العام وكان مخصصاً لجريدة الإخوان.. حتى إذا نجح الهضيبى فى تأليب أنصاره وتحريكهم ضدنا، تعامل معهم أنصارنا من حملة المدافع.
وحتى لا تقع مذبحة لا نريدها، أمسك عبدالرحمن السندى «بميكروفون» وأخذ يطالب الجموع التى حشدها الهضيبى ضدنا بالابتعاد والتفرق وإلا فسوف تحصدهم المدافع من فوق أسطح المنازل.. عندئذ تفرق البعض مؤثراً السلامة، وبقى الكثيرون منهم ليطلقوا الهتافات ضدنا.. وأخذنا فى التراشق بالهتافات، نحن من نوافذ مبنى المركز العام.. وهم بالشارع، حتى كانت الساعة الواحدة ليلاً، حينما فوجئنا بدخول ثلاثة رجال علينا مخترقين الحصار المضروب حولنا.
عبدالناصر المنقذ
كان هؤلاء الثلاثة هم: جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، وعبدالعزيز كامل الذى كان عضو مكتب الإرشاد بالإخوان المسلمين وكانت تربطه علاقة وثيقة بجمال عبدالناصر لم نكن نعلم من أمرها شيئاً.. وقد تبين لنا فيما بعد أن الذى كان ينصح عبدالناصر بعدم اعتقال الهضيبى كما نصحه بعدم التمادى فى توطيد العلاقة مع عبدالرحمن السندى، هو عبدالعزيز كامل..
دخل عبدالناصر إلى حيث يجلس عبدالرحمن السندى وقال له: يا أخ عبدالرحمن.. ألم أقل لك إن النهر قد جرت فيه مياه كثيرة؟ هذه هى الجموع التى لم أكن أريد معاداتها للثورة، أو معاداة الثورة لها، ولكنك لم تكن تريد أن تصدقنى.
قال عبدالرحمن السندى معك حق.. قالها وطأطأ رأسه متحاشياً النظر فى عينى عبدالناصر الذى كان يبدو ساعتها منتشياً بصدق رؤيته للأمور.
وبدأ عبدالعزيز كامل فى الكلام فقال: يا أخ عبدالرحمن إن ترتيب بيتنا من الداخل كان يقتضى مهادنة حسن الهضيبى، ولكنكم أنتم الذين ربيتم له أنياباً وأطلتم له أظفاره، وجعلتم أصحاب المصلحة فى معاداة الثورة يلتفون حوله وإن كانوا من غير الإخوان.
على إثر ذلك، استقرت الأوضاع لصالح الهضيبى الذى خرج من المحنة أقوى مما كان قبلها، فقد أخذ الانطباع مما جرى له فى الأيام الأخيرة، بأنه أقوى من أن يقاوم، وقد ساعده ذلك على مزيد من التعنت فى وجه عبدالناصر وقطع الطريق على كل محاولات التفاهم أو الالتقاء التى كان يمكن أن تحدث بينه وبين جمال عبدالناصر، مما سارع فى دفع الأمور بينهما إلى التصادم.
الضربة الأخيرة
لقد أدرك الهضيبى أنه فى سباق مع الزمن، فلابد أن يستغل هذا النصر الذى حققه فى أول موقعة له مع الجهاز السرى، فى تجريد ذلك الجهاز الجبار من بقية أسلحته، كما أدرك أيضاً أن له من الجماهيرية ما يساعده على الوقوف فى وجه الثورة وإملاء شروطه عليها دون أن يخضع هو لشرط من شروطها.
أصدر الهضيبى قراراً بفصل جميع الإخوان الأعضاء بالجهاز السرى وكل المتعاطفين معهم مثل الشيخ الغزالى وصالح عشماوى وأحمد عادل كمال وأحمد زكى حسن، وقد رد الغزالى على قرار الهضيبى بكتابة عدة مقالات اتهم فيها حسن الهضيبى صراحة بـ«الماسونية».. وقال إن حركة الماسونية العالمية نجحت فى زرع الهضيبى وتنصيبه مرشداً عاماً للإخوان المسلمين.
أما عبدالرحمن السندى فقد أصابه الإحباط، فقرر التوارى والانزواء جانباً، وقد بدأ عبدالناصر فى الإحساس بأن هناك قوى أخرى فى الشعب المصرى يحظى بتأييدها، بعيداً عن الإخوان المسلمين، وأن تلك القوى الشعبية تدين له بالولاء لما قدمه لها من مكاسب خاصة فى صفوف العمال والفلاحين، وقد تساعده تلك القوى الشعبية فى التخلص من ربقة الإخوان المسلمين وحرصه الدؤوب على إرضائها، فهى قوى تحمله ولا يحملها كما هو الحال مع الإخوان المسلمين الذين كان يشعر معهم بأنه مطالب بدفع فواتير المشاركة وتقديم الحسابات مقابل التأييد.. أما تأييد القوى الجديدة له فكان تأييداً بلا ثمن.. أو حسابات أو فواتير مطالب بسدادها أولاً بأول.
وكان عبدالناصر هو صاحب الفضل مع مؤيديه من القوى الجديدة.. بعكس القوى القديمة المؤيدة له من الإخوان المسلمين الذين كانوا يشعرون بأنهم هم أصحاب الفضل عليه وليس هو.
فى هذا الوقت الذى شعر فيه كل من حسن الهضيبى.. وجمال عبدالناصر بقوته وجماهيريته، كان لابد أن يقع الصدام بينهما.. وقد كان صداماً مروعاً أشبه ما يكون بالصدام بين نجمين أو نيزكين من نيازك الفضاء!
إعترافات : المستشار الدمرداش العقالي
وكانت الصفقة الكبرى قد بدأت قبل ذلك، فى السنة الأولى التى نشأ فيها تنظيم الإخوان، يتحدث حسن البنا فى كتابه مذكرات الدعوة والداعية، عن ذكريات إنشائه لتنظيم الإخوان، ويعترف أنه تلقى مبلغ 500 جنيه من ضابط بالمخابرات البريطانية بعدما ذهب للجلوس معه فى الفرقة m6 التابعة للمخابرات البريطانية، وكان هذا المبلغ فى عام 1928 يعادل ملايين الجنيهات فى عصرنا الحالى.
مع المخابرات البريطانية فى بداية التأسيس.. ومع الملك ضد «الوفد».. ومع «عبدالناصر» ضد الملك.. ومع «السادات» حتى مقتله.. ومع «مبارك» حتى خلعه.. ومع «العسكرى» حتى تولى «مرسى» الحكم
وحين تولى «فاروق» الحكم، سار «البنا» بجماعته فى مسارين؛ الأول يظهر الولاء للملك فى مواجهة الأحزاب المعارضة له، والثانى فى المسار السرى، حيث ذهب لتكوين النظام الخاص، الذى سعى للانقلاب على الملك.
وفى عام 1937 بينما كان المصريون يهتفون لفاروق «ويكا يا ويكا.. هات أمك من أمريكا» تنديدا بالسلوك المستهتر للأسرة المالكة، ممثلة فى «نازلى» وولدها، كان «البنا» يكتب مقالا عن الملك فيصفه بأنه «ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه، وأن صلاح المسلمين فى كل الأرض سيكون على يديه، وأكبر الظن أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك».
وقبيل ثورة يوليو والبلاد تغلى، زار المرشد «حسن الهضيبى» الملك مؤكدا ولاء الجماعة وبُعدها عن كل القوى الثورية المناهضة له، كما جاء فى توقيعه فى سجل التشريفات 25 مايو 1952، بعبارته «نرفع فروض الولاء للملك المفدى ونستنكر الصيحات التى تعالت ضد أعتابكم السامية، ونؤكد بُعد الإخوان كل البعد عنها».
وبعد يوليو، ادعت الجماعة على لسان مرشدها الثانى، حسن الهضيبى، أنها اتفقت مع جمال عبدالناصر وقادة الضباط الأحرار على عدم اتخاذ قرار إلا بعد الرجوع إلى مكتب إرشاد الجماعة وأن عبدالناصر أسقط ذلك الاتفاق.
وباحتدام الصراع بين عبدالناصر والإخوان، نسق الشيخ محمود مخلوف وابن شقيقه «الهضيبى»، المرشد العام، مع السفير الأمريكى «هنرى»، لتسهيل سفر إحدى صديقات موشيشاريت، وزير خارجية إسرائيل، مقابل إزاحة عبدالناصر أو مساعدة الإخوان، وعرض «مخلوف» على السفير الأمريكى صفقة وهى عند وصول الإخوان للسلطة فمن الممكن عمل حوار أو مفاوضات للصلح مع إسرائيل.
وبعد تولى السادات الحكم فى 1971 بدأ شهر عسل جديد بين الإخوان والسلطة، ممثلة فى «السادات»، وبوساطة من «فيصل بن عبدالعزيز»، بعد لقاء قيادات الخارج برئاسة سعيد رمضان، وقيادات الداخل برئاسة عمر التلمسانى، فى استراحة جناكليس، التى أوجز «التلمسانى» فحواها ولخص علاقتهم بالسادات، بقوله: «تقدم منى الكلام عن موقف السادات من الإخوان، قلت إنه أخرج الإخوان من المعتقلات، وإنه ترك لهم جانبا كبيرا من الحرية فى التنقل وإقامة الاحتفالات الإخوانية فى المناسبات الدينية، واستقبل الإخوان كل ذلك بالحمد والثناء»، وبعدها بدأ التنظيم حربه ضد اليساريين والناصريين وانتهت الصفقة بقتل السادات عام 1981.
وبعد تولى «مبارك» الحكم بايع مأمون الهضيبى، ومعه أعضاء مجلس الشعب عن الإخوان الرئيس المخلوع مبارك، فى محاولة للتقرب من النظام وسجلت المبايعة فى مضبطة الجلسة، وبعدها استطاع الإخوان الدخول لمجلس الشعب المصرى عامى 84 و87.
وبدأت هدنة الإخوان ومبارك منذ توليه الحكم عام 81 وحتى عام 93 بعد القبض على خيرت الشاطر فى قضية عرفت بـ«سلسبيل»، حيث تمكنت أجهزة الأمن من كشف مخطط «التمكين» الذى كتبه الشاطر بخط يده، وأوضح كيف كان يخطط التنظيم للتغلغل فى مفاصل الدولة، وبعدها بدأت المحاكم العسكرية ضد الإخوان.
وفى 2005، بدأ التنظيم فى صفقة مع «مبارك»، يحكيها محمد مهدى عاكف فى حديث نشرته صحيفة «المصرى اليوم» بتاريخ 24 أكتوبر 2009، فقال: «فى 2005 زارنى أحد المسئولين الكبار وكان هناك حديث عن سفر الرئيس المصرى حسنى مبارك إلى أمريكا، وقال أرجو ألا تقوموا بأى شوشرة على زيارة الرئيس هناك، وأبديت استعداداً وجاء للقائى مرتين وطلبت فى إحداهما أن يحضر اللقاء معنا نوابى وبالفعل جرى اللقاء وكتبنا فيه الكثير من البنود واتفقنا عليها ثم ذهب والتزم بما اتفقنا».
وأضاف «عاكف»: فاز الإخوان بنحو 20% من المقاعد، بدأ الإخوان المرشحون يعقدون الندوات وينظمون المسيرات فى الشوارع وجميع مَن فى السجون أُفرج عنهم.
وبعد ثورة يناير، لم ينتظر الإخوان كثيرا دعوة عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية وقتها، حتى ذهبوا سرا للتفاوض معه للإفراج عن قيادات الإخوان المعتقلين، والسماح بإنشاء حزب سياسى، مقابل انسحاب شباب الجماعة من ميدان التحرير.
وتوالت بعدها صفقات التنظيم مع المجلس العسكرى، كانت أولاها الاتفاق على إجراء تعديلات دستورية، والاستفتاء على بقاء دستورى 71، والانسحاب من كل الفعاليات والمليونيات التى تندد بحكم المجلس العسكرى.
وفى الوقت الذى كان يحتشد فيه آلاف المتظاهرين فى ميدان التحرير، كانت المفاوضات تجرى بين الجماعة والمجلس العسكرى، وانتهت إلى اتفاق يقضى بإجراء الانتخابات الرئاسية فى نهاية يونيو، وإجراء الانتخابات التشريعية فى موعدها. وهى الصفقة التى أشعلت الخلافات ووسعت الشرخ بين الإخوان من جهة وبين الأحزاب الليبرالية واليسارية والمجتمع المصرى من جهة أخرى، كما أنها تسببت فى إشعال الخلافات بين الإسلاميين أنفسهم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire