Tunisiens Libres: تجارب تعليق أحادي الجانب لتسديد الديون خلال القرنين الأخيرين

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

samedi 11 juin 2016

تجارب تعليق أحادي الجانب لتسديد الديون خلال القرنين الأخيرين


تجارب تعليق أحادي الجانب لتسديد الديون خلال القرنين الأخيرين




عرف التاريخ إلغاءات فعلية للديون، أحادية الجانب أحيانا، وأحيانا أخرى حكم القانون بصحتها، وأحيانا قبلت بها القوى المهيمنة. سنقدم بعض الأمثلة الدالة.

إلغاءات الديون


الولايات المتحدة الأمريكية

في القرن التاسع عشر، بعد انتخاب أبراهام لنكولن[1] (Abraham Lincoln) رئيسا، انفصلت ولايات الجنوب وشكلت كنفدرالية الولايات الأمريكية. ونتجت عن هذا الانفصال حرب (حرب الانفصال) دامت من 1861 إلى 1865 انتهت بانتصار ولايات الشمال التي كانت معادية لنظام العبودية ودخلت آنذاك طور تصنيع. انتهزت هذه الأخيرة الفرصة لتقوم من جديد بإلغاء ديونها إزاء أغنياء ولايات الجنوب.

كانت قد حصلت على قروض في سنوات 1830 أساسا لتأسيس البنوك، وخاصة بلانتيرز بنك (Planter’s Bank) في الميسيسبي ويونيون بنك Union Bank في كارولين الشمالية، أو لضمان بناء السكك الحديدية. وقامت بالتسديدات الأولية، في الميسيسبي على سبيل المثال، ولكن قانونا سمح بتنظيم استفتاء في 1852 ليدلي السكان برأيهم مع أو ضد أداء المبالغ المتعلقة بسندات بلانتيرز بنك. وكان جوابهم ضد التسديد.

وبعد حرب الانفصال في سنة 1876، جرى تعديل في الدستور أدرج من خلاله بند ينص صراحة على رفض أداء المبالغ المتعلقة بسندات بلانتيرز بنك. وافقت السلطة الجديدة على هذا القرار ليكتسي وقف التسديد طابعا قانونيا. وقدرت المبالغ التي شملها هذا القرار في الولايات الثمانية المعنية بــ 75 مليون دولار.

روسيا

في يناير 1918، رفضت الحكومة الروسية الجديدة التي انبثقت من ثورة 1917 تحمل مسؤولية ديون روسيا القيصرية وألغت دون شرط جميع هذه الديون. فالدولة الجديدة التي نشأت عن ثورة تريد أن تضع حدا للحرب وأن تمنح الأرض للمزارعين، رفضت تحمل أعباء القروض الممنوحة أساسا لدعم المجازر التي أحدثها الحرب العالمية الأولى. وهكذا فقدت “القروض الروسية” الشهيرة قيمتها كاملة وبيع ما تبقى من سنداتها بأثمان رخيصة جدا طيلة سنوات.

المكسيك أو بلدان أخرى من أمريكا اللاتينية

سبق لبنيتو خواريز[2] (Benito Juarez) أن رفض في سنة 1867 تحمل أعباء القروض التي حصل عليها النظام السابق الذي مثله الامبراطور ماكسيميليان (Maximilien) من الشركة العامة لباريس عامين قبل ذلك لتمويل احتلال المكسيك من قبل الجيش الفرنسي.

وفي خضم الثورة في 1914، لما كان إيميليانو زاباتا[3] (Emiliano Zapata) و بانشو فيلا[4] (Pancho Villa) في وضعية هجوم، قامت المكسيك بتعليق تسديد ديونها الخارجية بشكل كامل. وهكذا، لم يسدد المكسيك، الذي كان البلد الأكثر مديونية في القارة آنذاك، سوى مبالغ رمزية جدا، بين 1914 و1942، بغرض التسويف فقط. وبين 1922 و1942 (أي طيلة 20 عاما!) جرت مفاوضات طويلة بين مجموعة متحدة من الدائنين يراسهم أحد مدراء بنك جب مورغان (JP Morgan) في الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي الفترة بين 1934 و1940، قام الرئيس لازارو كارديناس[5] (Lázaro Cárdenas)، وبدون تعويض، بتأميم الصناعة البترولية والسكك الحديدية التي كانت تملكها مقاولات من أمريكا الشمالية أو بريطانيا، وبمصادرة مساحات فاقت 18 مليون هكتار من الملكيات الزراعية الشاسعة (latifundias) التي كان يملكها محليون وأجانب، وتوزيعها على شكل “أملاك عامة” (ejido)، كما قام بإصلاح عميق لنظام التربية العمومي.

أدت طبعا هذه السياسة الجذرية الشعبية والمعادية للإمبريالية إلى احتجاجات من قبل الدائنين (أصول غالبيتهم من الولايات المتحدة الأمريكية ومن المملكة المتحدة). لكن صلابة موقف المكسيك عاد عليها بالربح. فقد تنازل الدائنون عن حوالي 80% من قيمة القروض (وفق ما كانت عليه في سنة 1914، أي أنهم تنازلوا أيضا على فوائدها المتبقية)، واكتفوا بتعويضات هزيلة مقابل المقاولات التي صودرت منهم.

وقامت بلدان أخرى، كالبرازيل، وبوليفيا، والإكوادور، أيضا بتعليق جزئي أو كلي للتسديدات بدءا من سنة 1931. وفي حالة البرازيل، دام التعليق الانتقائي للتسديدات حتى 1943، وهي السنة التي سمح فيها اتفاق بتقليص الديون بنسبة 30%. وقامت الإكوادور من جانبها بتعليق التسديدات من 1931 حتى سنوات 1950.

في سنوات 1930، قامت أربعة عشر بلدا في المجموع بتعليق التسديدات بشكل متواصل. وكانت الأرجنتين الوحيدة من بين البلدان المُدينة الكبيرة التي واصلت تسديد ديونها دون انقطاع. ولكن كانت أيضا البلد الوحيد في أمريكا اللاتينية الذي لم يحقق نتائج اقتصادية مُرضية لاحقا.

تعليقات حكم القانون بصحتها

كوبا

تعد كوبا إحدى الحالات الأولى التي ألغيت فيها فعلا الديون الكريهة (وفي هذه الحالة، يتعلق الأمر بديون الفترة الاستعمارية). في 1898، خرجت الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة من حربها ضد إسبانيا والتي شكلت كوبا (كانت حتى ذلك الحين مستعمرة إسبانية) رهانها. وبذلك انفصلت كوبا عن العرش الإسباني، كما هو الشأن بالنسبة لبورتو ريكو والفليبين، وأصبحت تحت نظام حماية الولايات المتحدة الأمريكية.

ولما انتهت هذه الحرب، طالبت إسبانيا من كوبا تسديد ديونها المستحقة، وهو ما رفضته الولايات المتحدة الأمريكية. وفي السنة ذاتها، عقد اجتماع بباريس لمعالجة المشكل دافعت فيه الولايات المتحدة عن كون هذه الديون كريهة لأنها كانت مفروضة من إسبانيا بهدف مصلحتها الصرفة ودون موافقة الشعب الكوبي. وتبنى الاجتماع حجة الولايات المتحدة، وقبلتها إسبانيا، وبذلك أعفيت كوبا من الأداء.

تركيا

بين 1889 و1902، عاشت تركيا أزمة مالية خانقة جعلتها عاجزة على الوفاء بتسديد ديونها إزاء روسيا القيصرية. وفي 1912، اعترفت محكمة التحكيم الدائمة التي يوجد مقرها بلاهاي (La Haye) بصحة حجة القوة القاهرة التي تقدمت بها الحكومة التركية.

كوستاريكا

في شتنبر 1919، تمت الإطاحة بحكومة فريديريكو تينوكو (Federico Tinoco) بكوستاريكا، وهي حكومة اعتبرتها الولايات المتحدة غير مشروعة، ولكن دولا أخرى، من بينها بريطانيا العظمى، اعترفت بها. وفي غشت 1922، ألغت الحكومة الجديدة جميع عقود القروض التي وقعت عليها الحكومة السابقة، خصوصا إزاء رويال بنك أوف كندا (Royal Bank of Canada) الذي كان دائنها الرئيسي. وحكمت المحكمة العليا بالولايات المتحدة لصالح كوستاريكا، لما أصدر رئيسها القاضي تافت (Taft)، وبصفته حكَما في 1923، حُكما ببطلان العقود.

“إن الصفقة التي نحن بصددها عقدت في مرحلة فقدت فيها حكومة تينوكو حظوة الشعب، وفي وقت كانت فيه موازين القوى لصالح الحركة السياسية والعسكرية التي كانت تهدف إلى قلب هذه الحكومة. أما قضية رويال بنك أوف كندا، فلا يمكن اختزالها في مجرد معاملة مالية، بل تتعلق بحسن نية البنك. وعلى هذا الأخير أن يثبت بأن الأموال التي منحها للحكومة كانت حقيقة من أجل استعمال مشروع. والحال أنه لم يقم بذلك. ولا يمكن أن نعتبر بأن رويال بنك أوف كندا أثبت بأن المبالغ التي دفعها كانت ستستعملها الحكومة بشكل مشروع. وبالتالي، ترفض المحكمة ادعاءه”. (القاضي تافت (Taft)، 1923).

إلغاءات قبلت بها القوى المهيمنة

بولونيا

في 1919، اعتبر اتفاق فرساي التي عقب نهاية الحرب العالمية الأولى بأن الديون التي حصلت عليها ألمانيا لتستعمر بولونيا لا يمكن أن تتحمل أعباءها الدولة البولونية الجديدة التي أعيد تشكيلها. ونص بندها 255 على إعفاء بولونيا من أداء “جزء تلك الديون الذي ستعزي لجنة جبر الأضرار أصله إلى التدابير التي اتخذتها الحكومة الألمانية والبروسية لكي تستعمر ألمانيا بولونيا [6]“. وكان اتفاق السلم بين إيطاليا وفرنسا في 1947 قد اتخذ حكما مماثلا نص على أنه “ليس مقبولا أن تتحمل إثيوبيا عبء ديونها إزاء إيطاليا والتي منحتها لها حتى تضمن هيمنتها على الأراضي الإثيوبية”.

ألمانيا

في 1953، ألغى اتفاق لندن نسبة 51% من ديون حرب ألمانيا. وكان الهدف ألا تتجاوز خدمة الدين 3,5% من صادراتها. هذه النسبة تم تجاوزها اليوم بشكل كبير في البلدان النامية، وتقدر بأكثر من 12% كمعدل في 2006 ! هذا ورغم أن ألمانيا لم تكن تتوفر آنذاك على أي من الشروط التي تتم المطالبة بها حاليا لتخفيض الديون، وسبب النظام الديكتاتوري الذي هيمن عليها خلال العشرية السابقة دمارا كبيرا في جزء كبير من العالم. وكان هذا الإلغاء مفيدا جدا لألمانيا التي استطاعت أن تكون القوة الأولى في أوروبا وقاطرة البناء الأوروبي[7].

ناميبيا والموزمبيق

نظرا لحساسيتها الناجمة عن نظام الميز العنصري طويل الأمد الذي مزق كامل منطقة افريقيا الجنوبية، ألغت أفريقيا الجنوبية بشكل أحادي الجانب ودون شرط ديونها المستحقة على ناميبيا في 1995 وعلى الموزمبيق في 1999.

المساعي التي قامت بها البلدان النامية منذ 1985


البيرو

في يوليوز 1985، قرر آلان غارسيا (Alan Garcia) رئيس البيرو الجديد، وضع سقف لتسديد الديون لا يتجاوز 10% من عائدات الصادرات، وهو ما أدى إلى إسقاط الحقوق الدولية عن بلده من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية واستطاعوا أن يعزلوه ويزعزعون استقراره. لكن التجربة لم تدم سوى بضعة أشهر وأضيفت الفوائد المتبقية التي قدرت بمبلغ 5 مليار دولار، منها 1,27 مليار لفرنسا، مباشرة إلى أصل الدين (رسلمة الفوائد).

كوبا (مرة أخرى !)

في يوليوز 1985، وأيضا بمناسبة اجتماع في هافانا، أطلق فيديل كاسترو نداء بعدم تسديد الديون وتشكيل جبهة رفض على صعيد بلدان أمريكا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي. بدأت تبرز الخطوط الرئيسية لهذه الجبهة، لكن حكومات المكسيك والبرازيل وكولومبيا نجحت في كبحها بسبب الضغط الذي مارسته في الكواليس الولايات المتحدة.

وبدءا من 1986، قررت كوبا وقف تسديد ديونها إزاء نادي باريس. وكانت الديون الخارجية للبلد في هذه الفترة إزاء نادي باريس تقارب 2,5 مليار دولار. ولاحقا في 1998، أي بعد مرور 12 سنة، ربطت اتصالات غير رسمية بين الحكومة الكوبية وممثلين عن النادي. وخيضت مفاوضات في هافانا لكنها انتهت بالفشل. ويعود هذا الفشل في عقد اتفاق إلى ثلاث عوامل: أولا، عارضت حكومة الولايات المتحدة إبرام الاتفاق طالما بقي فيديل كاسترو في السلطة.

ثانيا، وكون كوبا ليست عضوا في صندوق النقد الدولي يمنع تحقيق نموذج الاتفاقات التي يعقدها عادة نادي باريس. ثالثا، عارضت حكومة روسيا أيضا إبرام الاتفاق لأنها تطالب كوبا بتسديد ديونها المستحقة إزاء الاتحاد السوفياتي سابقا.

والحال أن كوبا ترفض تسديد هذه الديون متذرعة بتبدل أساسي لظروفها، حيث أن العملة التي صرفت بها هذه الديون (عملة الروبل قابلة للصرف) لم تعد موجودة، كما أن الدولة التي منحت هذه الديون اندثرت. وخيضت بشكل سري مفاوضات غير رسمية بباريس في 1999 لكنها لم تكلل بنجاح.

بوركينا فاسو

في يوليوز 1987، نادى توماس سانكارا (Thomas Sankara) رئيس بوركينا فاسو الشاب في خطابه أمام منظمة الوحدة الإفريقية هو الآخر بإلغاء أحادي الجانب للديون وتشكيل جبهة افريقية لرفض التسديد.

“لا يمكن أن نسدد الديون، أولا، نحن على يقين بأن امتناعنا عن التسديد لا يعني حتما موت الممولين، لكن بالمقابل، نحن على يقين أيضا بأن تسديدنا للديون سيؤدي حتما إلى موتنا (….) إن المسؤولين عن مديونتنا جازفوا كمن يلعب القمار. عندما يربحون، يطبقون الصمت. والآن وقد تكبدوا الخسارة يطالبوننا بالتسديد متذرعين بالأزمة.

جازفوا وخسروا، إنها قاعدة اللعبة. وتستمر الحياة (….) إذا رفضت بوركينا فاسو لوحدها تسديد ديونها، فأنا على يقين أنني لن أكون حاضرا في اجتماع المنظمة المقبل” (خطاب توماس سانكارا أمام اجتماع منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا بأثيوبيا في 1987). وبالفعل، فقد اغتيل توماس سانكارا يوم 15 أكتوبر 1987. ومنذ ذلك الحين، لم يظهر أي رئيس دولة افريقية لاستئناف مشوار إلغاء الديون.

الأرجنتين

منذ دجنبر 2001، طغت مديونية الأرجنتين على الأخبار بشأن الديون. ففي هذه الفترة، وبعد ثلاث سنوات من الانكماش، كان معدل النمو الاقتصادي سلبيا على مدى أكثر من ستة أشهر. كان البلد على حافة الإفلاس الاقتصادي، ورفض صندوق النقد الدولي منحه قرضا كان قد وافق عليه، هذا في الوقت الذي كان فيه قادة الأرجنتين يواصلون تطبيق الإجراءات اللاشعبية التي يفرضها صندوق النقد الدولي. وهذا ما أدى إلى اندلاع حوادث عنيفة وأغرق البلد في أزمة اقتصادية خانقة.

وكان رد فعل الرئيس فيرناندو دي لاروي (Fernando De la Rua) أن قام بتجميد الحسابات البنكية للمدخرين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن استعادة بعض المبالغ التي وفروها على مر السنوات وأحيانا على مر حياتهم بكاملها. وبصورة تلقائية، نزلت الطبقة الوسطى إلى الشارع، والتحقت بها جماهير “بدون” (بدون شغل، سكان أحياء الصفيح، غالبية الفقراء)[8]. في ليلة 19 إلى 20 دجنبر 2001، انتفض الشعب إذن ضد السياسة النيو-ليبرالية التي تنهجها حكومة فيرناندو دي لاروي ووزير الاقتصاد المشؤوم دومينغو كافالو (Domingo Cavallo)، ونجح حراك المواطنين والمواطنات في تعديل مسار التاريخ.

وتعاقب بعد ذلك ثلاث رؤساء على الجمهورية في أيام معدودة. فقد هرب دي لاروي في 21 دجنبر 2001، وخلفه أدولفو رودريغيز (Adolfo Rodriguez Saa) الذي عوضه هو الآخر إدواردو دوهالدي (Eduardo Duhalde) يوم 2 يناير 2002. وأصدر دوهالدي مرسوما نص على أكبر عملية وقف تسديد الديون الخارجية في التاريخ بمبلغ يفوق 80 مليار دولار، سواء إزاء الدائنين الخواص أو إزاء البلدان الأعضاء في نادي باريس.

وجرى احتلال مئات المصانع التي تخلى عنها مالكوها واستعادت نشاطها تحت إدارة العمال. ودعم العاطلون قدرة نشاطهم في إطار حركات “بيكيتروس” (piqueteros). وانخفضت قيمة العملة التي جرت مساعرتها نسبة إلى الدولار بشكل حاد. وهذا ما دفع بالمواطنين إلى سبك عملات محلية ورفعوا في وجه رجال السياسة الحقيرين مطلبا موحدا: “فليرحلوا جميعا !” (Que se vayan todos !).

بعد ربع قرن من الاتفاق المتواصل بين صندوق النقد الدولي والسلطات (بدءا من الديكتاتورية العسكرية بين 1976 و 1983 حتى حكومة دي لاروي مرورا بنظام كارلوس منيم (Carlos Menem) الفاسد)، بينت الأرجنتين أن بلدا يمكنه وقف تسديد ديونه على مدة طويلة دون أن يقدر الدائنون على تنظيم ردود أفعال انتقامية. فقد سبق لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي وحكومات البلدان المصنعة ووسائل الإعلام الكبرى أن أعلنوا بأن الفوضى ستنتشر بالبلد. وما وقع هو أن الأرجنتين عوض أن تغرق بدأت تنتعش، وعرفت معدل نمو تراوح خلال السنوات التالية بين 8 و 9% في السنة.

وقام الرئيس المنتخب في ماي 2003، نيستور كيرشنير (Nestor Kirchner) بتحدي الدائنين الخواص لما اقترح عليهم تبديل سنداتهم بأخرى جديدة أقل قيمة. وبعد مفاوضات طويلة انتهت في فبراير 2005، قبل 76% من هؤلاء الدائنين بالتنازل على أكثر من 60% من قيمة سندات القروض التي كانت بحوزتهم. ونرى هنا أيضا كيف عاد الموقف الحازم بالنفع على البلد.

إلا أن تتمة القصة ستكون للأسف مخيبة للأمل أكثر. لم يكن هذا الاتفاق في الأخير سوى بداية استئناف التسديدات لصالح الدائنين الخواص. وفي نهاية 2005، سددت الحكومة بشكل مسبق مجموع ديونها المستحقة إزاء صندوق النقد الدولي البالغة 9,8 مليار دولار. وهذا ما سمح لها بتوفير 900 مليون دولار على الفوائد، لكن قصة هذه الديون لم تكن معروفة.

فقد استعملت ديكتاتورية الجنرال جورج فيديلا (Jorge Videla) المدعمة من طرف صندوق النقد الدولي والقوى العظمى هذه الديون من أجل تدعيم نظامها، وإغناء قادته، وربط البلد بالنموذج المُهيمن. وحتى تتمكن من مواصلة التسديد، قامت الأنظمة اللاحقة بتصفية قسط كبير من الممتلكات العمومية وتعاقدت على ديون جديدة كانت هي الأخرى كريهة.

بل أكثر من ذلك، كان الحصول على هذه القروض الجديدة مشروطا بتطبيق إجراءات ليبرالية كثيفة، وخوصصة منهجية، وتقليص الميزانيات الاجتماعية. وبالتالي، كان لدى كريشنير كامل المشروعية لإلغاء الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والاستناد إلى حكم أولموس (Olmos وهو اسم الصحفي الذي رفع دعوى ضد ديكتاتورية جيورج فيديلا في 1982) الذي نطقت به محكمة العدل الفيدرالية والتي قدمت حججا قانونية دامغة لتنص على أن الديون كانت كريهة ولا يجب أن تسدد.

وفي الواقع، كان الاتفاق الذي قدم للدائنين الخواص نصرا باهض الثمن، لأن الحكومة وهي تريد أن تحثهم على التوقيع اقترحت عليهم إصدار سندات جديدة تتضمن بنودا كانت في صالحهم، مع آلية تعديل تلقائي للديون. فحسب إدواردو لوسيتا[9] (Eduardo Lucita )، “كانت هذه البنود في جزء كبير منها مسؤولة عن استدانة البلد الجديدة. أولا، لأن أكثر من 40% من الديون تتشكل من سندات ثم إصدارها بعملة البسيطة (pesos) التي تعود بمردودية قارة محدودة في نسبة 2%.

لكن الرأسمال يعاد تعديله بمعامل يحتسب على أساس معدل التضخم [أي بالارتفاع المتراكم لمجموع الأسعار (فقد يؤدي مثلا ارتفاع أسعار البترول في النهاية إلى إعادة تعديل الأجور نحو الارتفاع، وإلى ارتفاع الأسعار الأخرى، إلخ). فالتضخم يؤدي مع مرور الوقت إلى انخفاض حاد في قيمة الأوراق المالية، بحيث تلزم مبالغ كبيرة للحصول على بضاعة ما. وأول ما تسعى إليه السياسات النيو-ليبرالية هو محاربة التضخم لهذا السبب].

وبموجب هذا التعديل، كلما ارتفع التضخم بنقطة، ارتفعت المديونية بحوالي 600 مليون دولار. إذا بلغت نسبة التضخم الرسمي نسبة 8% التي كانت متوقعة فعلا لسنة 2008، فهذا يعني أن ارتفاع المديونية سيقارب 4,8 مليار دولار سنويا. ثم إن قسيمات سندات عديدة ثم إصدارها بالعملة الخارجية كانت ترتبط بمعدل نمو الناتج الداخلي الخام. وهذا عامل مهم في احتساب الفوائد لأن الأرجنتين كانت تشهد نموا يفوق نسبة 8% في السنة.

وأدى هذا البند إلى أداء فوائد إضافية بمبلغ 1,2 مليار دولار سنويا. وأخيرا، وبما أن 20% من الديون ثم صرفها بعملتي اليورو والين الياباني اللتان تزداد قيمتهما أمام الدولار، وأن عملة البسيطة الأرجنتينية المرتبطة بالدولار تفقد قيمتها، فهناك تعديل تقني ناتج عن فارق عمليات الصرف الذي يؤدي هو أيضا إلى ارتفاع الديون”.

عادت الأرجنتين من جديد إذن إلى وضعيتها الحرجة فيما يخص مديونيتها. وهي تعاني من صعوبة الحصول على تمويلات دولية، وفنزويلا هي التي تساعدها على إعادة تمويل ديونها. ويتضح أن ديونها المقبلة سترتفع. وهذا ما حدا بحكومة كريستينا فيرنانديز كريشنير (Cristina Fernandez de Kirchner)، زوجة نيستور كرشنير، التي انتخبت في أكتوبر 2007 رئيسة الأرجنتين، باتخاذ قرار رفع الرسوم على صادرات الصوجا والحبوب الأخرى في مارس 2008، وهو ما أدى إلى انتفاضة المنتجين الزراعيين وإلى أزمة سياسية كبيرة، مما جعلها تسحب مشروع قانونها في يوليوز 2008.

“إن التفاوض حول الديون، كيف ما كانت براعته، لا ينهي مشكل المديونية. فالديون تؤدي إلى أزمات سياسية وتصبح كابحا لأي تنمية وطنية. وليست هناك بدائل ممكنة. يكمن البديل الناجع في الامتناع عن تسديد ديون بلداننا” (إدواردو لوسيتا).

في الوقت الذي أبان فيه شريط “كرامة الشعب” لمخرجه فيرناندو سولاناس (Fernando Solanas) أوضاع الفقر الحاد التي كانت تعاني منها الأرجنتين، قامت الحكومة بخطوة كانت مؤشر واضحا على انتهاء صلابة الموقف إزاء الدائنين. ففي شتنبر2006، قصد نيستور كريشنير (Nestor Kirchner)، الذي كان رئيس الأرجنتين آنذاك، بورصة نيويورك ليعلن افتتاحها. وكان هذا إعلانا واضحا على خنوع الأرجنتين. وفي 2008، أعلنت كريستينا كريشنير عن نيتها في تسديد ديونها المستحقة لنادي باريس قبل حلول أجلها، والتي بلغت 6,7 مليار دولار…

الباراغواي[10]

في 1986-1987، تعاقد غوستافو غرامون بيريس (Gustavo Gramont Berres)، قنصل باراغواي بجنيف، مع بنك سويسري(Overland Trust Bank) للحصول على قرض بمبلغ 85 مليون دولار باسم دولة باراغواي، هذا في الوقت الذي لم تكن لديه في الواقع أي سلطات للنيابة عنها.

وفي سنوات 1990، باع البنك Overland Trust Bank سندات هذا الدين إلى تسع بنوك خاصة أخرى، وطالبت هذه الأخيرة بارغواي في 1995 بتسديد القرض وفوائده. رفضت الباراغواي هذا التسديد، ورفعت البنوك دعوى أمام القضاء السويسري تطالب بإدانة دولة باراغواي. في مايو 2005، قضت المحكمة العليا الفيدرالية السويسرية لصالح البنوك الدائنة.

ولكن حكومة باراغواي أصدرت، بدءا من شهر غشت التالي، المرسوم 6295 تعلن بموجبه رسميا إلغاء الديون محط الخلاف وتشرح أسباب هذا الإلغاء.

بالإضافة إلى ذلك، بعثت باراغواي رسميا قرارها عبر القنوات الدبلوماسية إلى الحكومة السويسرية. وفي أكتوبر 2005، أكد رئيس جمهورية باراغواي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قراره أحادي الجانب ورفضه تسديد ديونه، معلنا بأن “هذا التصرف الاحتيالي ارتكبه موظفو دكتاتورية فاسدة تواطؤوا مع مجموعة من البنوك الدولية لنهب الثروات التي يحتاجها بلدنا على نحو عاجل”.

وعلاوة على ذلك، رفعت باراغواي دعوى ضد سويسرا أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي، وطالبت بجبر الضرر. ومنذ 13 عاما، والباراغواي ترفض تسديد تلك الديون دون أن تتعرض لأي عقوبة.

الإكوادور

علقت الإكوادور من جانب واحد تسديد جزء من سندات دينها العمومي، وفرضت على الدائنين إعادة شرائها بسعر رخيص. هذا القرار ليس في حد ذاته إعادة هيكلة حقيقية لديونها، أولا، لم يكن هناك تبادل للسندات المالية، وثانيا، لم يكن هناك تفاوض مع الدائنين.

بعد سبعة أشهر من انتخابه، قرر الرئيس الاكوادوري رافائيل كوريا (Rafael Correa) إجراء تحليل لمديونية البلاد والظروف التي تشكلت فيها. وتحقيقا لهذه الغاية، أرسى، بدءا من يوليوز 2007، لجنة من أجل تدقيق الديون (CAIC) تتألف من 18 خبيرا، ومن ضمنهم اللجنة من أجل إلغاء ديون العالم الثالث (CADTM). وبعد 14 أشهر من العمل، قدمت اللجنة تقريرا بين بالخصوص أن العديد من هذه القروض منحت في انتهاك للقواعد الأساسية.

في نونبر 2008، قررت الحكومة الجديدة، بناء على هذا التقرير، تعليق تسديد سندات الديون التي بلغت آجالها، بعضها في عام 2012، وأخرى في عام 2030. وأخيرا، خرجت حكومة هذا البلد الصغير منتصرة في صراعها مع أصحاب البنوك في أمريكا الشمالية الذين يملكون سندات ديون الاكوادور.

إنها في الواقع، أعادت شراء 900 مليون دولار من هذه السندات التي سميت “السندات العالمية لفترة 2012-2030″ (bonos Global 2012-2030) والتي تبلغ قيمتها 3,2 مليار دولار، وهو ما يمثل خصم 65٪ مقارنة بخط القرض الأساسي.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفوائد التي لن تدفعها الإكوادور لأنها اشترت السندات، والتي ستبلغ آجالها في عام 2012 أو عام 2030، سنرى أن الخزينة العامة الاكوادورية وفرت في المجموع حوالي 7 مليار دولار، أي أن الحكومة حصلت على موارد مالية جديدة ستسمح لها برفع ميزانية النفقات الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وفي تطوير البنية التحتية للاتصالات.

في نهاية المطاف، كان هذا التعليق أحادي الجانب عموما مربحا جدا، لأن هذا لم يمنع الاكوادور، ورغم المخاوف السابقة، من ولوج الأسواق المالية من جديد، مستفيدة حتى من معدلات فائدة منخفضة مقارنة مع البلدان التي قامت بعمليات إعادة التفاوض مع الدائنين مثل الأرجنتين وفنزويلا (7٪ للإكوادور مقابل 12 و15٪ لهذين الأخيرين).

إيسلندا

كانت أيسلندا واحدة من أوائل الدول التي جرفتها الأزمة المالية في 2007-2008 والتي تسببت في انهيار النظام البنكي الخاص. كانت البنوك الرئيسية الثلاثة بالبلاد، التي تمت خصخصتها في عام 1999، قد نمت من خلال انخراطها في أنشطة محفوفة بالمخاطر، لدرجة أن ميزانية البنوك الايسلندية فاقت بعشر أضعاف الإنتاج السنوي للثروة الأيسلندية.

واحد من هاته البنوك اسمه لانسبانكي (Lansbanki) أنشأ فرعا اسمه ايس سيف (Icesave) عرض مكافأة جذابة لمن يفتح حسابات جارية في بريطانيا وهولندا. لكن هذا البنك تعرض للإفلاس في 2008 إبان الأزمة. وتدخلت الحكومات الهولندية والبريطانية لحماية مدخرات مواطنيها، ثم توجهت صوب السلطات الأيسلندية مطالبة إياها بتسديد الأموال التي صرفتها والتي بلغت 3,9 مليار يورو.

وتعبأ السكان مرتين معبرين عن رفضهم تسديد هذه الديون. وتعبؤوا مرتين أيضا، ليصوتوا بأغلبية ساحقة رفضهم (بنسبة 93٪ في استفتاء مارس 2010 وحوالي نسبة 60٪ خلال استفتاء أبريل 2011) قانون تسوية الخلاف الذي صوت عليه البرلمان وقدمه الرئيس مرتين للاستفتاء. إن الضغط الشعبي هو الذي حمل إذن السلطات الايسلندية على وضع هذه المؤسسات البنكية الخاصة في حالة إفلاس.

ورغم رفض الحكومات البريطانية والهولندية هذا القرار، فلم تتعرض أيسلندا إلى إجراءات انتقامية. وحتى تتجنب ترحيلا كثيفا للرساميل، فرضت عليها السلطات ببساطة رقابة تامة.

في حالة أيسلندا، لا يتعلق الأمر كذلك بهيكلة الديون، بل بقرار سيادي أحادي الجانب برفض أداء التعويضات التي تطالب بها قوتين اقتصاديتين كبيرتين. ورغم أن إيسلندا في هذه الحالة أيضا دخلت في مفاوضات، إلا أنها شهدت لاحقا انتعاشا اقتصاديا يفوق بشكل خاص البلدان الأوروبية.

كل هذه الأمثلة تثبت أن حالات نادرة من الحزم أعطت نتائج إيجابية للغاية بالنسبة للبلدان المثقلة بالديون. لذلك، فما سيحدث لو قامت عدة حكومات منتخبة ديمقراطيا ومدعومة من قبل حركات المواطنين بالإعلان جميعا على تجميد التسديدات؟ موقف حكومة الإكوادور جدير بالاقتداء هنا. من الضروري أن يتكفل المواطنون بمسألة الديون أينما أتيحت لهم الإمكانية ويدفعون الحكومات إلى التحرك في هذا الاتجاه.

نظمت عدة “محاكم الشعوب ضد الديون” في السنوات الأخيرة. في دجنبر 2000 بداكار، خلال لقاء “افريقيا، من المقاومات إلى البدائل”، قامت مجموعة من النساء من ضواحي داكار بتأليف مسرحية “محاكمة الديون” وتمثيلها، ووضعن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومجموعة السبع الكبار وحكومات جنوب في قفص الاتهام، واستمعن للمعاناة اليومية للنساء ضحايا برنامج التقويم الهيكلي. وخلال جميع أطوار هذا اللقاء، كان إشراك الناس (الشباب والنساء، والرياضيين، والنقابات العمالية، الخ) متميزا، وساعد على إعطاء هذا الحدث تأثيرا مثيرا للإعجاب.

في فبراير 2002، في إطار المنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو أليغري، نظمت محكمة الشعوب الدولية حول الديون، بمبادرة من شبكة يوبيل جنوب (Jubilé Sud) بالتعاون مع لجنة إلغاء ديون العالم الثالثCADTM. وقد ظهرت عدة محاكم أخرى من هذا النوع بعد ذلك. وتبين هذه الأمثلة الحاجة الماسة التي تشعر بها ساكنة الجنوب التي تعاني بحدة من تأثيرات الديون في محاولة لإدانة ومحاكمة (ولو بشكل رمزي حاليا) المسؤولين عن نظام الديون الجائر.

ومن ناحية أخرى، ظهرت عدة محاولات لتمكين الشعب أن يقرر ديمقراطيا بشأن آلية الديون. في إسبانيا، خلال الانتخابات العامة في مارس 2000، عقدت استفتاءات شعبية تدعو الى التصويت على إلغاء الديون الخارجية المستحقة على البلدان النامية إزاء الدولة الإسبانية. على الرغم من الصعوبات الهائلة التي خلقتها السلطات العمومية التي اعتبرت هذه الاستفتاء لا قانونيا، شارك في الاستفتاء أكثر من مليون شخص صوت أكثر من 95٪ منهم لصالح الإلغاء.

وفي البرازيل، في شتنبر 2000، خلال “أسبوع الوطن” الذي ينتهي يوم عيد الاستقلال الوطني، وخلال موكب “صرخة المقصيين” الذي يشارك فيه المزارعون دون أرض والعاطلون، شارك ستة ملايين في جميع أنحاء البلاد في استفتاء مماثل لإسبانيا صوت فيه 95٪ من المشاركين لوقف تسديد الديون البرازيلية. إن هذه المبادرات قيمة جدا لتعميم النضال ضد الديون وتسمح للسكان بالتعبير عن غضبهم.


7 يونيو 2015

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire