حركة النهضة التونسية: مؤشرات التمويل الأجنبي
لعلّ البعض
يتساءل بشكل ملحّ: لم الحرص على المراجعة المالية لحركة النهضة التونسية؟ قد لا
يجد البعض سببا، فيبدو المطلب وكأنّه مجرد خوف أو هاجس لا مبرر له. الإجابة ردّا
على هذا، تنبني على تصوّر يدعي بأن النزاهة الحزبيّة تقوم على الشفافيّة والتجرّد
لا على التموّل المتستر والمتصل بشبكات وجهات دولية تحمل غايات قد تكون خطرا محدقا
بالمجتمع والوطن. ليس في هذا مصادرة لأي حزب أو اتجاه في تصرفها المالي بقدّر ما
هو دعوة إلى الشفافيّة والصراحة، وسعيا إلى تطبيق اللوائح والقوانين التونسية.
ضمن هذا النص سأقدّم نقاطا تأشّر تاريخيّا أو قد تأكّد جزما عبر دليل مقنع وجود تمويل أجنبي مشبوه كان سببا رئيسيّا في تفعيل النشاط الحزبي للحركة، وتقديمها على النحو المضخّم الذي تبدو عليه. اعتمدت في هذا على مؤلفات اعتنت بالجانب المالي للحركة، وهي قليلة(1)، لاعتبار أن الحركة تمارس تعتيما هائلا على التصرّف المالي الداخلي والخارجي، فالمسألة المالية في مدى الحركة تعتبر سرّا تنظيميّا لا تعرض أو تناقش بالتفصيل في اجتماعات المكتب التنفيذي، إنّما تقع المحاسبة رأسا مع رئيس الحركة(2). بالإضافة، وقصد طمس أي تتبع للتبرعات التي تصل الحركة، اضطلع القائمون على الميزان المالي باستبدال الأسماء بالأرقام(3) منذ سنة 1986 وعلى اعتبار كلّ هذا، سنسعى ضمن قراءتنا جمع بعض المعطيات المتعلّقة بالوضع المالي للحركة في الثمانينات، وليس الآن، فالمجال الراهن للحركة وإن تطوّر ماليّا فإنه اكتسب قدرة أكبر على التعمية والإخفاء، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتتبع الدولي لمصادر التمويل الإرهابي في العالم.
العماد الرئيسي في كتابة هذا النص سيقوم على مؤلف هو في الأصل أطروحة التعمّق في البحث التاريخي بعنوان "حركة الاتجاه الإسلامي بتونس، 1987-1970" للدكتور اعلية علاني تمت مناقشتها سنة 1993 بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة قسم التاريخ (وحضت بملاحظة حسن جدّا) وتجدر الإشارة ضمن هذا المؤلف إلى اعتماد الباحث نهجا توثيقيا متقدّما عبر تسجيل شهادات حيّة لأبرز وجوه وقياديي الحركة ممّا مثل دفعا هاما إلى معرفة خفايا ودقائق الحركة على الصعيد التنظيمي والمالي بالخصوص.
- التمويل الإيراني: لن نعرض في هذا السياق إلى علاقة الحركة بإيران ما بعد الثورة، فهي معلومة بينة، يكفي أن نطالع بعض المؤلفات الخاصة برئيس الحركة لنكتشف البعد المرجعي للثورة الإيرانية في أدبيات الحركة، كما أن استعراض المواقف التاريخية السياسية في صلب الاتجاه الاسلامي تصبّ كلّها في صالح إيران حتى في حربها مع العراق. إضافة لكل هذا، سعى القائمون على سفارة إيران بتونس، في الثمانينات، إلى مدّ قياديي الحركة بمنشورات وأشرطة فيديو تتعلّق بكيفيّة إعداد الوسائل العملية لإنجاح ثورة إسلامية(4)
عكس ذلك، تبقى مسألة التمويل غير بيّنة، تقوم فقط على الإشاعة، من ذلك «ما شاع من خبر عن تلقي راشد الغنوشي هبة بأربعين ألف دولا من إيران بمناسبة اشتراكه في وفد إسلامي زار العاصمة الإيرانية في مسعى لدعم التضامن مع افغانستان وإغفاله عن تقديم تلك الهبة إلى صندوق التنظيم»(5) وهو ما تسبب في إثارة شقاق بين راشد الغنوشي وصالح كركر (أحد الوجوه القيادية البارزة في الحركة). إلّا أن المسألة برمتها خرجت عن الإشاعة، عبر الكشف عن شيك تسلمه أحد قيادي الحركة وهو الحبيب المكني عن طريق زوجته من السفارة الإيرانية بروما، وقد صرّح عبد الفتاح مورو*، في وقتت لاحق، تعليقا على هذا الحادث، قائلا: «لقد أجبت على هذا في السابق عندما كنت ناطقا رسميّا باسم الحركة وقلت أنه خطأ قام به المكني لأنه لم يتحرّى في علاقته التجارية. فالمكني باع المركز الإسلامي بروما الذي تموّله إيران 2000 نسخة من "المقالات" لراشد الغنوشي وقبض شيكا من السفارة الإيرانيّة بروما وهذا وقع شجبه في الإبان وقد أصدرت بيانا حول هذا الموضوع في جون أفريك في تلك الفترة وطالبت بمحاسبة المكني»(6) العجيب أن الرجل يغفل عن واقع كون موضوع البيع هو مؤلف للغنوشي، وليس لحبيب المكني، ممّا يعني عدم تنزل الصفقة ضمن المعاملات الخاصة إذ الرجل ليس بناشر ولا ممتلكا لحقوق تأليف الكتاب و إنما تتنزل الصفقة ضمن المعاملات المتصلة بالحركة.
- التنظيم الدولي للإخوان المسلمين: ليس من قبيل التجني الربط بين حركة الاتجاه الإسلامي/النهضة وبين هذا التنظيم، فبالإضافة إلى الإطار المرجعي لا يشك أحدا في متانة تلك العلاقة، حتى أنها تحولت إلى انتماء وانخراط وبيعة(7) منذ سنة 1973. وفي شهادة موثقة لنجيب العياري** يؤكد على أهمية موقع رئيس الحركة راشد الغنوشي داخل التنظيم، حيث يقول: «وقد أصبح راشد الغنوشي عنصرا فاعلا في التنظيم الدولي للإخوان خاصة مع قيام الثورة الإيرانية»(8)
وشكل التمويل المالي الذي اعتمده التنظيم لحركة النهضة، يتلخّص بحسب شهادة نجيب العيّاري** على: «مساهمات مادية تأتي من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في أشكال متعددة، كأن يشتري التنظيم الدولي عدّة آلاف من أعداد مجلة المعرفة أو يرسل لنا مئات وأحيانا آلاف من الكتب مجانا فنبيعها وننتفع بثمنها» بالإضافة إلى أنّ «بعض الأثرياء العرب من التنظيم الدولي للإخوان قدّم بعض المبالغ المالية للحركة وأذكر أنها في حدود 5 آلاف دولار و3آلاف دولار»(9)
من ناحية أخرى يؤكد العيّاري** على أنّ: «التنظيم الدولي للإخوان هو الذي يشرف في مرحلة أولى على تمويل التربصات التي يقوم بها أعضاء الحركة في الخارج ويتكفّل بكلّ جوانبها من تذكرة السفر إلى الإقامة"(10)
- التمويل الخليجي: لعلنا نتساءل عن الزعم باشتراك التمويل بين كل من السعودية وإيران، مع ما يفرقهما تاريخيا وعقائديا في المسار والاتجاه، وللإجابة عن هذا يجب مراعاة الخاصية تكوينية للحركة فهي قائمة على شقين أحدها مقرّب من الاتجاه الثوري الإيراني والآخر مقرب من الاتجاه الوهابي السعودي، مع السعي إلى تكوين رؤية تلفيقية هشّة تسمح، ولو إلى حين، بتوفير أرضية لتنويع مصادر الإمداد المالي؛ رؤية لم ترق دائما إلى رأب الصدع بين الحركة والسعودية.
يقول حسن الغضبان***: «كنت أسمع عن إعانات وتمويلات تأتي من السعودية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكان ذلك ضمن التنسيق مع الاتجاه الوهابي الذي كان يباشره على حدّ علمي كلّ من عبد الفتاح مورو والشيخ أبو بكر جابر الجزائري الذي كان يأتي في كلّ صائفة إلى تونس في فترة السبعينات لإجراء عدّة اتصالات مع الحركة. و أعتقد أن التمويلات في الثمانينات تأتي أساسا من السعودية وإيران. وقد حدثني راشد الغنوشي في بداية السبعينات عن مبالغ مالية قدّمها أجنبي عربي إلى الحركة فاستنكرت ذلك إلّا أنه أجابني بأنه يجوز أكل أموال الظالمين»(11)
- التمويل الليبي: علاوة على هذا صرّح عدد من المسؤولين عن شكوك حول تمويل الحركة من طرف الليبيين، ولا يعدّ هذا شذوذا في التوقّع إذا ما علمنا حجم الضغينة التي يحملها معمر القذافي للنهج البورقيبي ولتونس عموما في تلك الفترة. ففي شهادة لمحمد الصياح سنة 1992، وهو من الشخصيات السياسيّة الهامة في الفترة البورقيبيّة وتقلّد عدّة مناصب وزاريّة يقول: «هناك تخمينات وأفكار لدينا كمسؤولين في الدولة خاصة في خلال فترة 1986-1987 تقول بأن هناك دعما ماديّا هاما من ليبيا وأنا شخصيّا كنت متأكدا أن حركة الاتجاه الإسلامي لها تمويلات خارجيّة»(12).
*الاستثمار الأجنبي: سعت الحركة إلى تكوين بؤر استثمار خارج تونس لتمويل الحركة داخليّا عبر شبكة دقيقة ومخفية. ففي شهادة نجيب العياري**، المشار إليها بالهامش، يقول: «وقد وقع التفكير في مورد مالي ثان كبعث مكتبات لبيع الكتب أو مشاريع اقتصادية أخرى داخل تونس وحتى خارجها وأذكر مثلا أن الحركة اشترت في أواخر السبعينات مطعما بباريس بمبلغ 50 ألف دينار»(13)
- الدائرة المالية الخارجيّة وشبكات التهريب: اعتمدت الحركة على خلية تهريب فاعلة قوامها اختراق جهاز الديوانة التونسية واستثمار الرصيد المالي الخارجي في عمليات شتى وعبر التنسيق مع مختلف التنظيمات الاسلامية الخارجيّة، وفي هذا الصدد سأقتصر على نقل المشهد كما صوّره عبد الله عمامي، حيث يقول: «وشبكات التهريب التي تقام على نطاق واسع، لابدّ أن تتدخل فيها أطراف خارجية، و أن تستدعي الاستعانة بمن عرف هذا الميدان واكتسب فيه الخبرة و العلاقات المطلوبة. وللتنظيم التونسي ارتباطاته القديمة مع التنظيم الإخواني العالمي لذلك كان لابدّ من أن يستعين بالتنظيم الأم وبمن يمثله في أوروبا. أما في تونس فالشبكة كانت جاهزة ومحورها البرني الورتاني رجل القمارق الذي كان يفاخر بأنه قادر على أن يمرر كلّ يوم قطارا تركبه فلة، كناية على مركزه في الجهاز القمرقي يسمح له أن يفعل ما يشاء أو رجل المهمات بين الداخل والخارج فسيكون في مرحلة أولى المدعو محمد صغير بكار، ثم يحل محلّه ذلك المدعو سيد الفرجاني.
السيناريو المعتمد في هذه العمليات، كان ينطلق من تونس فباريس ثم فرنكفورت. ويتمثل في المبادرة عند الوصول إلى العاصمة الفرنسية بالتزود بالمال لدى الحبيب المكني و أحيانا لدى الأزهر العبعاب، ثم التوجه إلى ألمانيا حيث تكون هناك سيارة جاهزة أعدها المدعو كامل غضبان عضو التنظيم العالمي من ذوي الأصل الفلسطيني وصاحب التخصص في التعامل مع حركات الإرهاب في شمال افريقيا.
السيارة ستحمل حسب الظروف والاحوال سلعا مختلفة من الالكترونيك إلى الذهب وفي مرحلة أخيرة السلاح.
أصناف السيارات ستكون في الغالب من نوع "جيتا" و"أوبال" وذلك على الأقل بالنسبة لفرع الشبكة المتصلة بألمانيا، لأن الشهيّة تكبر دائما في هذا المجال، والخطوات الأولى الحذرة تصبح أكثر جرأة عندما يتضح أن الطريق معبدة وأن الربح الحاصل وفير. لذلك فإن التوريد من ألمانيا سيضاف إليه توريد من فرنسا ثم من إيطاليا، و في تونس تأخذ السلع مجراها في أسواق موازية وتنتهي أصنافها الثمينة لدى تجار من عائلة التنظيم وأتباعه، بينما يوجه الباقي إلى أسواق التهريب التقليدية، مثل سوق نهج زرقون في العاصمة التونسية.»(14)
شهادات حيّة وثقها الدكتور اعلية علاني:
* عبد الفتاح مورو (في 03/07/1992) وهو أحد القياديين الاسلاميين البارزين والرجل الثاني في الحركة ويعرف عنه بأنه أول من ربط صلات وثيقة بين الحركة ودول الخليج.
** نجيب العياري (في 10/02/1992 و 11/04/1992) رجل الجهاز التنظيمي لكامل فترة السبعينات.
*** حسن الغضباني (في 07/01/1992) وجه إسلامي بارز في السبعينات وتكمن أهميته في الوساطة التي قام بها مع السلطة لفائدة الحركة سواء في فترة السبعينات أو فترة الثمانينات وكانت لهذه الوساطة نتائج هامة.
1. د. اعلية علاني، الحركات الاسلامية بالوطن العربي: تونس نموذجا 1970-2007، دفاتر وجهة نظر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2008. عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي: أنموذج النهضة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1992.
2. د. اعلية علاني، الحركات الاسلامية ... ذكر أعلاه، ص 217
3. نفس المرجع، ص217
4. وليد منصوري، الاتجاه الاسلامي وبورقيبة محاكمة لمن؟، 1987، ص 98-99
5. عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب .... ذكر أعلاه، ص 185
6. د اعلية علاني، الحركات الاسلامية... ذكر أعلاه، ص 279
7. عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب... ذكر أعلاه، ص29
8. د اعلية علاني، الحركات الاسلامية... ذكر أعلاه، ص 276. كما نقل حسن الغضباني*** في شهادته التالي: «والذي أعلمه أن راشد الغنوشي يحضر ما يسمى بـ"ندوة الربيع" التي تعقد بباريس خلال عطلة الربيع المدرسيّة من كل عام وذلك في إطار نشاط ومهام الدعوة طبقا لأهداف الحركات الإسلامية المرتبطة أساسا بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين... ومما علمته أيضا أن مؤتمرا انعقد بمونريال بكندا خلال النصف الأول من شهر جانفي 1981 ضمّ ممثلين عن الثورة الإيرانية وممثلين عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين تمّ فيه توحيد مناهج العمل بين الجانبين وبمقتضى ذلك أصبح التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يسير في فلك الإيرانيين على اعتبار أن الخميني هو إمام الأمة الاسلامية وأن ثورته هي الرائدة»
9. نفس المرجع، ص219
10. نفس المرجع، ص 299
11. نفس المرجع، ص 219
12. نفس المرجع، ص 299
13. نفس المرجع، ص 218
عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب... ذكر أعلاه، ص 220-221
ضمن هذا النص سأقدّم نقاطا تأشّر تاريخيّا أو قد تأكّد جزما عبر دليل مقنع وجود تمويل أجنبي مشبوه كان سببا رئيسيّا في تفعيل النشاط الحزبي للحركة، وتقديمها على النحو المضخّم الذي تبدو عليه. اعتمدت في هذا على مؤلفات اعتنت بالجانب المالي للحركة، وهي قليلة(1)، لاعتبار أن الحركة تمارس تعتيما هائلا على التصرّف المالي الداخلي والخارجي، فالمسألة المالية في مدى الحركة تعتبر سرّا تنظيميّا لا تعرض أو تناقش بالتفصيل في اجتماعات المكتب التنفيذي، إنّما تقع المحاسبة رأسا مع رئيس الحركة(2). بالإضافة، وقصد طمس أي تتبع للتبرعات التي تصل الحركة، اضطلع القائمون على الميزان المالي باستبدال الأسماء بالأرقام(3) منذ سنة 1986 وعلى اعتبار كلّ هذا، سنسعى ضمن قراءتنا جمع بعض المعطيات المتعلّقة بالوضع المالي للحركة في الثمانينات، وليس الآن، فالمجال الراهن للحركة وإن تطوّر ماليّا فإنه اكتسب قدرة أكبر على التعمية والإخفاء، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتتبع الدولي لمصادر التمويل الإرهابي في العالم.
العماد الرئيسي في كتابة هذا النص سيقوم على مؤلف هو في الأصل أطروحة التعمّق في البحث التاريخي بعنوان "حركة الاتجاه الإسلامي بتونس، 1987-1970" للدكتور اعلية علاني تمت مناقشتها سنة 1993 بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة قسم التاريخ (وحضت بملاحظة حسن جدّا) وتجدر الإشارة ضمن هذا المؤلف إلى اعتماد الباحث نهجا توثيقيا متقدّما عبر تسجيل شهادات حيّة لأبرز وجوه وقياديي الحركة ممّا مثل دفعا هاما إلى معرفة خفايا ودقائق الحركة على الصعيد التنظيمي والمالي بالخصوص.
- التمويل الإيراني: لن نعرض في هذا السياق إلى علاقة الحركة بإيران ما بعد الثورة، فهي معلومة بينة، يكفي أن نطالع بعض المؤلفات الخاصة برئيس الحركة لنكتشف البعد المرجعي للثورة الإيرانية في أدبيات الحركة، كما أن استعراض المواقف التاريخية السياسية في صلب الاتجاه الاسلامي تصبّ كلّها في صالح إيران حتى في حربها مع العراق. إضافة لكل هذا، سعى القائمون على سفارة إيران بتونس، في الثمانينات، إلى مدّ قياديي الحركة بمنشورات وأشرطة فيديو تتعلّق بكيفيّة إعداد الوسائل العملية لإنجاح ثورة إسلامية(4)
عكس ذلك، تبقى مسألة التمويل غير بيّنة، تقوم فقط على الإشاعة، من ذلك «ما شاع من خبر عن تلقي راشد الغنوشي هبة بأربعين ألف دولا من إيران بمناسبة اشتراكه في وفد إسلامي زار العاصمة الإيرانية في مسعى لدعم التضامن مع افغانستان وإغفاله عن تقديم تلك الهبة إلى صندوق التنظيم»(5) وهو ما تسبب في إثارة شقاق بين راشد الغنوشي وصالح كركر (أحد الوجوه القيادية البارزة في الحركة). إلّا أن المسألة برمتها خرجت عن الإشاعة، عبر الكشف عن شيك تسلمه أحد قيادي الحركة وهو الحبيب المكني عن طريق زوجته من السفارة الإيرانية بروما، وقد صرّح عبد الفتاح مورو*، في وقتت لاحق، تعليقا على هذا الحادث، قائلا: «لقد أجبت على هذا في السابق عندما كنت ناطقا رسميّا باسم الحركة وقلت أنه خطأ قام به المكني لأنه لم يتحرّى في علاقته التجارية. فالمكني باع المركز الإسلامي بروما الذي تموّله إيران 2000 نسخة من "المقالات" لراشد الغنوشي وقبض شيكا من السفارة الإيرانيّة بروما وهذا وقع شجبه في الإبان وقد أصدرت بيانا حول هذا الموضوع في جون أفريك في تلك الفترة وطالبت بمحاسبة المكني»(6) العجيب أن الرجل يغفل عن واقع كون موضوع البيع هو مؤلف للغنوشي، وليس لحبيب المكني، ممّا يعني عدم تنزل الصفقة ضمن المعاملات الخاصة إذ الرجل ليس بناشر ولا ممتلكا لحقوق تأليف الكتاب و إنما تتنزل الصفقة ضمن المعاملات المتصلة بالحركة.
- التنظيم الدولي للإخوان المسلمين: ليس من قبيل التجني الربط بين حركة الاتجاه الإسلامي/النهضة وبين هذا التنظيم، فبالإضافة إلى الإطار المرجعي لا يشك أحدا في متانة تلك العلاقة، حتى أنها تحولت إلى انتماء وانخراط وبيعة(7) منذ سنة 1973. وفي شهادة موثقة لنجيب العياري** يؤكد على أهمية موقع رئيس الحركة راشد الغنوشي داخل التنظيم، حيث يقول: «وقد أصبح راشد الغنوشي عنصرا فاعلا في التنظيم الدولي للإخوان خاصة مع قيام الثورة الإيرانية»(8)
وشكل التمويل المالي الذي اعتمده التنظيم لحركة النهضة، يتلخّص بحسب شهادة نجيب العيّاري** على: «مساهمات مادية تأتي من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في أشكال متعددة، كأن يشتري التنظيم الدولي عدّة آلاف من أعداد مجلة المعرفة أو يرسل لنا مئات وأحيانا آلاف من الكتب مجانا فنبيعها وننتفع بثمنها» بالإضافة إلى أنّ «بعض الأثرياء العرب من التنظيم الدولي للإخوان قدّم بعض المبالغ المالية للحركة وأذكر أنها في حدود 5 آلاف دولار و3آلاف دولار»(9)
من ناحية أخرى يؤكد العيّاري** على أنّ: «التنظيم الدولي للإخوان هو الذي يشرف في مرحلة أولى على تمويل التربصات التي يقوم بها أعضاء الحركة في الخارج ويتكفّل بكلّ جوانبها من تذكرة السفر إلى الإقامة"(10)
- التمويل الخليجي: لعلنا نتساءل عن الزعم باشتراك التمويل بين كل من السعودية وإيران، مع ما يفرقهما تاريخيا وعقائديا في المسار والاتجاه، وللإجابة عن هذا يجب مراعاة الخاصية تكوينية للحركة فهي قائمة على شقين أحدها مقرّب من الاتجاه الثوري الإيراني والآخر مقرب من الاتجاه الوهابي السعودي، مع السعي إلى تكوين رؤية تلفيقية هشّة تسمح، ولو إلى حين، بتوفير أرضية لتنويع مصادر الإمداد المالي؛ رؤية لم ترق دائما إلى رأب الصدع بين الحركة والسعودية.
يقول حسن الغضبان***: «كنت أسمع عن إعانات وتمويلات تأتي من السعودية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكان ذلك ضمن التنسيق مع الاتجاه الوهابي الذي كان يباشره على حدّ علمي كلّ من عبد الفتاح مورو والشيخ أبو بكر جابر الجزائري الذي كان يأتي في كلّ صائفة إلى تونس في فترة السبعينات لإجراء عدّة اتصالات مع الحركة. و أعتقد أن التمويلات في الثمانينات تأتي أساسا من السعودية وإيران. وقد حدثني راشد الغنوشي في بداية السبعينات عن مبالغ مالية قدّمها أجنبي عربي إلى الحركة فاستنكرت ذلك إلّا أنه أجابني بأنه يجوز أكل أموال الظالمين»(11)
- التمويل الليبي: علاوة على هذا صرّح عدد من المسؤولين عن شكوك حول تمويل الحركة من طرف الليبيين، ولا يعدّ هذا شذوذا في التوقّع إذا ما علمنا حجم الضغينة التي يحملها معمر القذافي للنهج البورقيبي ولتونس عموما في تلك الفترة. ففي شهادة لمحمد الصياح سنة 1992، وهو من الشخصيات السياسيّة الهامة في الفترة البورقيبيّة وتقلّد عدّة مناصب وزاريّة يقول: «هناك تخمينات وأفكار لدينا كمسؤولين في الدولة خاصة في خلال فترة 1986-1987 تقول بأن هناك دعما ماديّا هاما من ليبيا وأنا شخصيّا كنت متأكدا أن حركة الاتجاه الإسلامي لها تمويلات خارجيّة»(12).
*الاستثمار الأجنبي: سعت الحركة إلى تكوين بؤر استثمار خارج تونس لتمويل الحركة داخليّا عبر شبكة دقيقة ومخفية. ففي شهادة نجيب العياري**، المشار إليها بالهامش، يقول: «وقد وقع التفكير في مورد مالي ثان كبعث مكتبات لبيع الكتب أو مشاريع اقتصادية أخرى داخل تونس وحتى خارجها وأذكر مثلا أن الحركة اشترت في أواخر السبعينات مطعما بباريس بمبلغ 50 ألف دينار»(13)
- الدائرة المالية الخارجيّة وشبكات التهريب: اعتمدت الحركة على خلية تهريب فاعلة قوامها اختراق جهاز الديوانة التونسية واستثمار الرصيد المالي الخارجي في عمليات شتى وعبر التنسيق مع مختلف التنظيمات الاسلامية الخارجيّة، وفي هذا الصدد سأقتصر على نقل المشهد كما صوّره عبد الله عمامي، حيث يقول: «وشبكات التهريب التي تقام على نطاق واسع، لابدّ أن تتدخل فيها أطراف خارجية، و أن تستدعي الاستعانة بمن عرف هذا الميدان واكتسب فيه الخبرة و العلاقات المطلوبة. وللتنظيم التونسي ارتباطاته القديمة مع التنظيم الإخواني العالمي لذلك كان لابدّ من أن يستعين بالتنظيم الأم وبمن يمثله في أوروبا. أما في تونس فالشبكة كانت جاهزة ومحورها البرني الورتاني رجل القمارق الذي كان يفاخر بأنه قادر على أن يمرر كلّ يوم قطارا تركبه فلة، كناية على مركزه في الجهاز القمرقي يسمح له أن يفعل ما يشاء أو رجل المهمات بين الداخل والخارج فسيكون في مرحلة أولى المدعو محمد صغير بكار، ثم يحل محلّه ذلك المدعو سيد الفرجاني.
السيناريو المعتمد في هذه العمليات، كان ينطلق من تونس فباريس ثم فرنكفورت. ويتمثل في المبادرة عند الوصول إلى العاصمة الفرنسية بالتزود بالمال لدى الحبيب المكني و أحيانا لدى الأزهر العبعاب، ثم التوجه إلى ألمانيا حيث تكون هناك سيارة جاهزة أعدها المدعو كامل غضبان عضو التنظيم العالمي من ذوي الأصل الفلسطيني وصاحب التخصص في التعامل مع حركات الإرهاب في شمال افريقيا.
السيارة ستحمل حسب الظروف والاحوال سلعا مختلفة من الالكترونيك إلى الذهب وفي مرحلة أخيرة السلاح.
أصناف السيارات ستكون في الغالب من نوع "جيتا" و"أوبال" وذلك على الأقل بالنسبة لفرع الشبكة المتصلة بألمانيا، لأن الشهيّة تكبر دائما في هذا المجال، والخطوات الأولى الحذرة تصبح أكثر جرأة عندما يتضح أن الطريق معبدة وأن الربح الحاصل وفير. لذلك فإن التوريد من ألمانيا سيضاف إليه توريد من فرنسا ثم من إيطاليا، و في تونس تأخذ السلع مجراها في أسواق موازية وتنتهي أصنافها الثمينة لدى تجار من عائلة التنظيم وأتباعه، بينما يوجه الباقي إلى أسواق التهريب التقليدية، مثل سوق نهج زرقون في العاصمة التونسية.»(14)
شهادات حيّة وثقها الدكتور اعلية علاني:
* عبد الفتاح مورو (في 03/07/1992) وهو أحد القياديين الاسلاميين البارزين والرجل الثاني في الحركة ويعرف عنه بأنه أول من ربط صلات وثيقة بين الحركة ودول الخليج.
** نجيب العياري (في 10/02/1992 و 11/04/1992) رجل الجهاز التنظيمي لكامل فترة السبعينات.
*** حسن الغضباني (في 07/01/1992) وجه إسلامي بارز في السبعينات وتكمن أهميته في الوساطة التي قام بها مع السلطة لفائدة الحركة سواء في فترة السبعينات أو فترة الثمانينات وكانت لهذه الوساطة نتائج هامة.
1. د. اعلية علاني، الحركات الاسلامية بالوطن العربي: تونس نموذجا 1970-2007، دفاتر وجهة نظر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2008. عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي: أنموذج النهضة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1992.
2. د. اعلية علاني، الحركات الاسلامية ... ذكر أعلاه، ص 217
3. نفس المرجع، ص217
4. وليد منصوري، الاتجاه الاسلامي وبورقيبة محاكمة لمن؟، 1987، ص 98-99
5. عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب .... ذكر أعلاه، ص 185
6. د اعلية علاني، الحركات الاسلامية... ذكر أعلاه، ص 279
7. عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب... ذكر أعلاه، ص29
8. د اعلية علاني، الحركات الاسلامية... ذكر أعلاه، ص 276. كما نقل حسن الغضباني*** في شهادته التالي: «والذي أعلمه أن راشد الغنوشي يحضر ما يسمى بـ"ندوة الربيع" التي تعقد بباريس خلال عطلة الربيع المدرسيّة من كل عام وذلك في إطار نشاط ومهام الدعوة طبقا لأهداف الحركات الإسلامية المرتبطة أساسا بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين... ومما علمته أيضا أن مؤتمرا انعقد بمونريال بكندا خلال النصف الأول من شهر جانفي 1981 ضمّ ممثلين عن الثورة الإيرانية وممثلين عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين تمّ فيه توحيد مناهج العمل بين الجانبين وبمقتضى ذلك أصبح التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يسير في فلك الإيرانيين على اعتبار أن الخميني هو إمام الأمة الاسلامية وأن ثورته هي الرائدة»
9. نفس المرجع، ص219
10. نفس المرجع، ص 299
11. نفس المرجع، ص 219
12. نفس المرجع، ص 299
13. نفس المرجع، ص 218
عبد الله عمامي، تنظيمات الإرهاب... ذكر أعلاه، ص 220-221
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire