مقتطفات من الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة
مجدي عزالدين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3589 - 2011 / 12 / 27 - 17:18
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أولاً:
فقه الطاعة والخضوع: ثقافة الديمقراطية أم ثقافة الاستبداد
بادئ ذي بدء، لو بدأنا بطرح السؤال التالي: هل استطاع الفقه السياسي الإسلامي عبر تاريخه الطويل أن ينتج لنا أو يساعد في بلورة خطاب سياسي حديث في المسألة السياسية بعامة ونقد الاستبداد السياسي بخاصة؟ وفي سبيل الإجابة على هذا التساؤل، فمن المؤكد أن ما حدث من صراعات دموية في التاريخ الإسلامي الباكر، وفي ظل " اغتصاب الخلافة وتعاقب الخلفاء اللا شرعيين على عرش الدولة الإسلامية". وبسبب من الاستبداد الذي عاشته الأمة طويلاً( في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين وحتى اليوم)، كل ذلك " أوجد في الأمة حالةً من الرضا والتسليم بالحكم الديكتاتوري، وأصبحت الديكتاتورية من صميم نظم المجتمع واعتقاداته، واستغل الحكام هذا الوضع المتردي فأصبغوا على عروشهم صبغةً شرعية تمنعهم سخط الناس عليهم وتجعل المعارضين في موقف وكأنه معاد للأمة جمعاء كما حدث للإمام الحسين وللثورات المناهضة التي جاءت نتيجة لثورته في كربلاء... وانحصرت الممارسات الديمقراطية في نطاق ضيق ومحدود لا يسمح بانتشارها وصيرورتها جزءً من نظم المجتمع واعتقاداته وسلوكه العام، وأصبح القمع والإرهاب والاضطهاد من المظاهر المألوفة التي اعتاد عليها الإنسان العربي، ولم تشهد الأمة الإسلامية منذ اغتصاب الخلافة أي فترة عمت فيها معاني الحرية والتسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر، بل كان التمييز الطائفي والتكفير وجميع سياسات الاضطهاد هي الغالبة"
في ظل ما سبق، لم يكن لأي نسق فقهي أن يسود سوى ما يحض على طاعة الحكام والخضوع لهم، ولذلك كانت السمة الغالبة للفقه السياسي الإسلامي هي أنه فقه (طاعة وخضوع). و" أصبحت الدكتاتورية متغلغلةً في كل شئون الحياة، في الأمزجة والعادات والتقاليد وفي جميع نظم المجتمع، ولم يعد المجتمع الإسلامي مؤهلاً للديمقراطية على الإطلاق" وهو الشيء الذي يجعلنا نقول بأنه لم يكن لنقد الاستبداد السياسي تاريخاً في الثقافة السياسية الإسلامية، فقد غلب على هذه الثقافة التشريع للدولة السلطانية والملك القهري حتى عُدّ الخروج على السلطان والتمرد عليه " رديفاً للمروق عن الدين وتهديد وحدة الجماعة وبيضة الجماعة لدى المسلمين في سائر أعصر الاستبداد"
قديماً مثل مذهب أهل السنة والجماعة التيار المحافظ الموالي والمعبر عن أشواق السلطة ومصالحها، وهو بذلك يكون التيار الرسمي للدولة المسلمة آنذاك، وتتكون قاعدته العريضة من جماهير المسلمين الذين كانوا يوالون الحكام رهبة أو رغبة، خوفاً أو طمعاً. ومن المعلوم أن (السياسة الشرعية) لم تكن في نظر القدماء علماً مستقلاً بذاته وإنما كانت مبحث من مباحث علم الفقه الإسلامي. وقد مثل فقه السياسة الشرعية في العصر الوسيط لحظة التأسيس الأولى للفقه السياسي الإسلامي، وقد تناول فقه السياسية الشرعية جملة من القضايا والمشكلات، مثل: وجوب تنصيب الإمام، والاختلاف في وجوب الإمامة: هل تجب بالعقل أم بالشرع؟ شروط الإمامة: ما هي الشروط التي يجب توفرها في الإمام؟ شرط القرشية: الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الأكفأ بغض النظر عن نسبه. أسلوب اختيار الحاكم، وواجباته وحقوقه، الشورى: الخلاف حول كنه الشورى، وهل هي معلمة أم ملزمة للحاكم؟ هل يجوز للرعية (المسلمين) أن تنزع البيعة من الحاكم أو تعزله؟ متى وكيف يكون عزل الحاكم؟ وكيفية محاسبتهم للحاكم؟ مسألة البيعة: الاختلاف حول هل تكون البيعة من أهل الحل والعقد ـ نيابة عن جميع المسلمين ـ لمن يرونه صالحاً للإمامة؟ أم تكون من عامة المسلمين مباشرةً؟ وهل يشترط رضا أهل الحل والعقد عند استخلاف الإمام لغيره من بعده؟..الخ.
والقراءة الفاحصة للقضايا والمشكلات التي أهتم الفقه السياسي الإسلامي بمعالجتها طوال تاريخه الطويل، تبين أن النفس الغالب على الثقافية الفقهية الإسلامية عبر الحقب التاريخية المختلفة هو التشريع للدولة السلطانية وللملك القهري. وعلى ذلك فقد جعل الفقه السياسي الإسلامي بؤرة اهتمامه وتركيزه منصبة على التقنين والتشريع لسلطة الخليفة وفي المقابل عمل على إهمال الدور الحيوي المنوط بالأمة في عملية تدبير شؤونها بما فيه حقها في اختيار من يحكمها وحقها في عزله والخروج عليه إن أرادت ذلك.
وإذا نظرنا إلى فقه السياسة الشرعية من خلال ثنائية ( السلطان/ الأمة) نجده قد أعطى الأولوية والأهمية للطرف الأول(السلطان) بينما تم تهميش الطرف الثاني(الأمة) وتغييبه لصالح توطيد دعائم سلطة الأول. وفي ظل سلطة الملك القهري المستبد كان لا بد من سيادة الفقه السلطاني الذي يصبغ الشرعية الدينية لحكام لا شرعيين اغتصبوا حق السيادة من الأمة قهراً وقوة، ليصبح اللا شرعي شرعياً، وكان لا بد من فقه يوجب على الأمة طاعة حكامها ويضمن خضوعها لحكمهم الجبري والصبر على جورهم وظلمهم وفسقهم! باختصار كان لابد من فقه (الطاعة والخضوع) الذي يضمن لهم إحكام سيطرتهم على الأمة وبالتالي استمرارية ملكهم وحكمهم. ويقوم فقه الطاعة والخضوع على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل الأساس النظري الراسخ الذي على أساسه تشيّدت المضامين والأنسقة الفقهية السنية المتعددة، وهي وإن تباينت على مستوى التخريج النهائي لأفكارها إلا أنها انطلقت من ذات المبادئ والأسس والتي جملناها في ثمانية مبادئ رئيسية. وإذا قمنا بتفحص هذه الأسس النظرية والمبادئ الأولية ومنهجيات التناول التي قام العقل السياسي الإسلامي طوال تاريخه بتطبيقها وبتوظيفها في إنتاج ثقافة سياسية محددة، فسنعرف حينئذ إلى أي مدى تناهض هذه المبادئ والأصول ثقافة الديمقراطية وفي المقابل تجذر وترسخ لثقافة الاستبداد. لنلقي نظرة على بعض هذه المبادئ الأوليةـ المتعلقة بموضوع بحثنا تحديداً ـ التي هي بمثابة أصول بالنسبة للفقه السياسي الإسلامي.
1/ مبدأ طاعة ولي الأمر:
يعتبر مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين من الأصول المجمع علي وجوبها عند أهل السنة والجماعة، حتى وإن جاروا وفسقوا وظلموا وفجروا. ويستدلون على وجوب الطاعة لأولى الأمر بقوله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" سورة النساء: 59 وعند الإمام النووي " المراد بأولى الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم" وعند ابن تيمية: " أولوا الأمر صنفان الأمراء والعلماء" أي الفقهاء.
ويستدل أهل السنة والجماعة على وجوب هذا المبدأ بمجموعة من أحاديث الرسول (ص) منها: ما رواه البخاري: " حدثنا مسدد حدثنا يحيي بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وفي الحديث الذي رواه مسلم: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فأسمع وأطع"
وأورد البخاري في صحيحه حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" ويورد أيضاً في باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): " اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"
وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: " السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصيةٍ فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة"
وفي الأحكام السلطانية للماوردي: " فرض الله علينا طاعة أولى الأمر فينا وهم الأئمة المتآمرون علينا. وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: (سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فأسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم)" ويصل هذا المبدأ إلى أقصى مدى يمكن أن يبلغه مع الإمام الغزالي (ت505هـ) الذي رأى " إن الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة الإمام لا تزيد على الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد في حق ساداتهم، ولا على الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله ... وما من شخص يقدر مخالفته في أمر من الأمور إلا وهو بعينه إذا انتهى إلى العتبة الشريفة• صفع على الأرض خاضعاً وعفّر خده في التراب متواضعاً، ووقف وقوف أذل العبيد على بابه، وانتهض ماثلاً على رجليه عند سماع خطابه، ...، فأية طاعة في عالم الله تزيد عن هذه الطاعة! وأية شوكة في الدنيا تقابل هذه الشوكة!"
2/ القرشية كشرط مسبق ومحدد للحاكم:
رأت المؤسسة الفقهية السنية أن خليفة المسلمين يجب أن يكون من قبيلة قريش، وقد تحدث الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية عن شروط الإمامة، وكان شرط القرشية هو الشرط السابع الذي أورده، بقوله: " النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه... لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي (ص): (الأئمة من قريش). فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا (منا أمير ومنكم أمير) تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء)... وليس مع هذا النص المسلم به شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له "
وأورد البخاري في صحيحه: كان محمد بن جبير بن مُطعم يُحدّثُ أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفدٍ من قريش أن عبد الله بن عمرو يُحدّثُ أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يُحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثرُ عن رسول الله (ص) وأولئك جُهّالكم فإياكم والأماني التي تُضلُّ أهلها فإني سمعتُ رسول الله (ص) يقولُ: " إنّ هذا الأمر في قريشٍ لا يُعاديهم أحد إلا كبّهُ اللهُ في النار على وجهه ما أقاموا الدين" وأيضاً، يأتي في ذات السياق حديث ابن عمر عن رسول الله (ص): " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان"
ويعلق فرج فودة على شرط القرشية، بقوله: " نصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحاً، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي"
في مقابل المؤسسة الفقهية السنية الموالية، نجد أن العقيدة السياسية للخوارج تساوي بين جميع المسلمين عرباً كانوا أم عجماً، أحرار أم أرقاء، دون تمييز في الحقوق والواجبات. ويرون أن معيار التفاضل قوله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات. وعلى أساس هذا المبدأ قرروا قاعدتهم الثورية في أصول الحكم: لكل مسلم الحق في الخلافة بغض النظر عن جنسه أو لونه، سواء أكان عربياً أو غير عربي، حراً أو عبداً. وعلى ذلك فهم معارضون لفقهاء السنة الذين حصروا الخلافة في قبيلة قريش وحدها. " وقد أخذ عن معبد الجهني غيلان بن مروان الدمشقي فقال بالقدر خيره وشره: إنه من العبد، وقال في الإمامة: إنها تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. وكانت نهاية أمره أن أخذه هشام بن عبد الملك بن مروان فأمر بقطع يديه ورجليه"
على ذلك فإن شرط القرشية يتنافي مع أبسط المبادئ الديمقراطية الحديثة التي تكفل الحق لأي فرد من أفراد الشعب بأن يتمتع بحق ترشيح نفسه لرئاسة الدولة مهما كان عرقه أو لونه أو عقيدته أو جنسه أو آراؤه السياسية.
3/ الشورى معلمة وليست ملزمة للحاكم:
مبدأ الشورى في الإسلام كان ولا يزال موضع خلاف بين علماء وفقهاء المسلمين، ولا يزال الجدال دائرا حوله وخاصة في المسألة المتعلقة بإلزامية الشورى من عدمها، والتي يمكن التعبير عنها بالسؤال: هل الشورى ملزمة للحاكم؟ هذا السؤال يعبر عن واحدة من أهم القضايا المتعلقة بمبدأ الشورى في الإسلام وهي قضية إلى أي مدى يمكن أن تكون الشورى ملزمة للحاكم؟ هذا التساؤل بدوره يتفرع إلى سؤالين: فمن جهة أولى: هل يجب على الحاكم أن يستشير؟ ومن جهة ثانية: إذا استشار الحاكم، فهل هو ملزم بالأخذ بما تُفضي إليه الشورى من نتائج أم أن الأمر يرجع إلى تقديره وتدبيره وإلى رأيه وإن كان مخالفاً لما أفضت إليه الشورى؟
هناك من الفقهاء من قال بأن الحاكم ملزم بأن يستشير ولكنه في نفس الوقت غير ملزم بإتباع ما تؤول إليه الشورى من نتائج! " وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم بإتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم" وفي ذات السياق، يقول الإمام النووي: " ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم صاحب الأمر يفعل ما ظهر له مصلحة" يقول القرطبي: " الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولاً إلى كتاب الله والسنة إن أمكنه. فإذا أرشده الله إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه"
في المقابل، ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن الحاكم ليس ملزماً بأن يستشير من الأساس! وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية: " وإذا استشارهم، فإن بيّن له بعضهم ما يجب إتباعُه من كتاب الله وسنة رسوله، أو إجماع المسلمين، فعليه إتباع ذلك" والمتفحص لقول ابن تيمية يلاحظ أن يُعطي الحاكم خيار أن لا يستشير أصلاً وهو ما نقرأه بكل وضوح في افتتاحية عبارته "وإذا استشارهم" فهذه الصيغة لا توجب الشورى كمبدأ إلزامي على الحاكم أن يأخذ به في تدبيره لكل صغيرة وكبيرة من شئون المسلمين. فعبارة ابن تيمية السابقة تسكت عن تساؤل آخر: وإذا لم يستشرهم؟! بطريقة أخرى يمكن أن نفهم عبارة ابن تيمية على النحو التالي: الحاكم ليس ملزماً بأن يستشير، ولكن إذا استشار، فعليه الإتباع. وهناك من يرى أن " القول بإلزامية الشورى يُذهب بمعنى الخلافة، ويسلب الإمام حقه الذي قرره الشارع له، وحديث رسول الله (ص) يؤكد حق الخليفة ويوضحه، وهو أن الخليفة له السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية"
ما سبق يبين لنا بما لا يدع مجال للشك بأن الشورى كمبدأ ليست ملزمة للحاكم في أدبيات الفقه الإسلامي القديم، ولا نلمس لها أي مضمون إيجابي ولا أثراً عميقاً على مستوى الممارسة السياسية في تاريخ المسلمين. وهي الحقيقة التي يلحظها المفكر الإسلامي المعاصر حسن الترابي، ويصيغها على النحو التالي: " أن ميراثنا السياسي لا يحتوي من الشورى في انتخابات الولاة وتقرير السياسات العامة إلا تلك السُّنن المحدودة لعهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلا ما يمثله مفهوم الإجماع في الأحكام الفقهية وما يمثل مفهوم أهل الحل والعقد الذي كان حظه في الواقع أدنى بكثير من حظ الإجماع" وعلى ذلك فإن الشورى كمصطلح لم تأخذ مضموناً عميقاً وبعداً فاعلاً في أدبيات الفقه السياسي القديم، ولم تكن لها قيمة ذات شأن ولم تُعطى أية أهمية، ويرجع سبب ذلك إلى أن: " الممارسة السياسية الشورية لم تكن واسعة ولا ذات خطر في التاريخ الإسلامي... فكلمة الشورى اليوم تثير معنى أكبر وأخطر مما تثيره في الفقه التقليدي حيث كانت تشير إلى إجراء عفوي، أن يشاور المرء من اتفق ممن عنده ثم يدبّر أمره كيف شاء إلا أن يستأنس بالرأي الآخر، ولم يكن معناها السياسي هو المتبادر، إذ هي أكثر استعمالاً في المعاملات الاجتماعية والشؤون الشخصية"
وكذلك الحال على مستوى أدبيات الإسلام السياسي الحديث وهو الأمر الذي يؤكده يوسف القرضاوي بقوله: " رأينا ممن ينتسبون إلى الفقه في عصرنا، ومن يُحسبون ضمن فصائل الصحوة الإسلامية، من يقول: إن الشورى معلمة لا ملزمة، وإن من حق ولي الأمر أن يستشير ليستنير، ثم يضرب برأي أهل الشورى عرض الحائط إن شاء وينفذ رأيه هو! وإنه الذي يعين مجلس الشورى، ثم يقره إن شاء، ويحله متى شاء!" وهاهو تيار من تيارات الإسلام السياسي المعاصر يقول في إحدى منشوراته: " المشرِّع إنما هو الله، وليس الأمة. وصاحب الصلاحية في تبني الأحكام التي تلزم لرعاية شؤون الناس وتسيير الحكم إنما هو الخليفة وحده، فيأخذ الأحكام من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله بناءً على الدليل الأقوى باجتهاد صحيح. ولا يجب على الخليفة أن يرجع لمجلس الأمة لأخذ رأيه فيما يريد تشريعه من أحكام، وإن كان يجوز له ذلك،... فإذا رجع الخليفة إلى مجلس الأمة لأخذ رأيه في الأحكام التي يريد أن يتبناها، فإن رأي المجلس لا يكون ملزماً له، ولو كان بالإجماع أو بالأكثرية"
4/ الثورة على الحاكم الجائر أساس كل شر وفتنة:
أجمع فقهاء أهل السنة والجماعة على أن الخروج على الحاكم الجائر والظالم حرام شرعاً، وذلك لأن هذا الخروج يترتب عليه فساد كبير وشر عظيم لما فيه من الفتن وإراقة الدماء. وهو أصل من أصول أهل السنة والجماعة. وعلى ذلك يرون حرمة الخروج على الحاكم الجائر ولا يجوزونها إلا في حالة واحدة وهي إذا صدر أو ظهر منه كفر بواح عليه من الله برهان! ولا يدخل في دائرة الكفر البواح: ارتكاب الكبائر باستثناء كبيرة الشرك، ولا يدخل ظلم الحاكم للرعية، ومصادرة حقوقها، واضطهادها، كل ذلك لا يُدخل في دائرة الكفر البواح، وبالتالي لا يجوز الخروج على الحاكم! وإن أخذ مالك وضرب ظهرك بالسياط! قال ابن القيم: " الإنكار على الملوك والخروج عليهم أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" ويقول ابن تيمية: " نهى النبي (ص) عن القتال في الفتنة وكان ذلك أصل من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة المدينة من فقهائهم وغيرهم... ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغي من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم بل لا يبيحه بل من الأصول التي دلت عليها النصوص أن الإمام الجائر الظالم، يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه كما أمر النبي (ص) بذلك في غير حديث، فلم يأذن في دفع البغي مطلقاًً بالقتال بل إذا كانت فيه فتنة نهي عن دفع البغي به وأمر بالصبر... فلهذا نهى النبي (ص) عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظلم لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم" ويقول أيضاً في كتابه منهاج السنة: " ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج عن الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بدون قتال ولا فتنة. فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته"
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال (ص): " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فراه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة" وعلى ذلك فإن منطق مذهب أهل السنة والجماعة هنا يتمثل في أنه لا يجوز إزالة الضرر بضرر أكبر منه، ومن شروط تغيير المنكر ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه. يترتب على هذا القول نتيجة فحواها أن الخروج على الحاكم الجائر فتنة، بمعنى آخر: الخروج على الحاكم الجائر بقصد إزالة فساده وظلمه لا يؤدي في الواقع إلا إلى فساد أعظم وشر أكبر، ولذلك وحتى نتقي الفتنة فيتوجب علينا الصبر. وتحمل جور الحاكم وظلمه أفضل من فتنة الخروج عليه، لأن قتاله فيه فساد أعظم من فساد ظلمه وجوره.
5/ القهر والاستيلاء طريقاً للحكم:
استنبط الفقهاء من الطرائق التي بواسطتها تم اختيار الخلفاء الراشدين قواعد للكيفية التي يتم بها تنصيب الخليفة وهي: أن يتم اختيار الخليفة من أهل الحل والعقد (خلافة أبو بكر الصديق نموذجاً). أو أن يعهد الخليفة لمن يختاره للخلافة (خلافة عمر بن الخطاب نموذجاً). وبعد خلافة عثمان بن عفان " وقع خلل في التزام السُّنن الشورية وكاد التاريخ الإسلامي أن يخلو من الإجراءات الشورية المطلقة في تعيين الولاة، وما كان من الشورى لم يكن عن حرية ورضى وضبط.... أما السُّنة الأغلب في الممارسة السياسية الإسلامية فالذي يغلب عليها هو ولاية العهد وميراث الخلافة واستلاب الأمر بالانقلاب أو التمكّن" ولما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض أجازت المؤسسة الفقهية السنية أن يعهد الخليفة لابنه من بعده أو أخيه، كما أجازوا أن يعهد لأكثر من واحد من أبنائه بعد ترتيب الخلافة بينهم. كذلك أجازوا الخلافة لمن ينالها بالقوة والغصب حتى ولو كان من ينالها فاجراً لكيلا يبيت المسلمون بغير إمام! وبذلك يكون فقهاء أهل السنة والجماعة قد جعلوا ثبوت البيعة بالقوة والغلبة والقهر طريقاً ثالثاً بجانب تقلد الإمامة بطريق العهد وبطريق الاختيار. وفي ذات السياق، يقول الإمام النووي( ت676هـ): " أما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فوجهان: أصحهما انعقادها لما ذكرناه وإن كان عاصياً بفعله" وقد جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني(ت852هـ): " أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء"
ويعلق باحث إسلامي معاصر بقوله: " إن الاستبداد والاستيلاء على حق الأمة بالقوة ـ وإن كان يحقق مصلحة آنية ـ إلا أنه يفضي إلى ضعف الأمة مستقبلاً وتدمير قوتها وتمزيق وحدتها، كما هو شأن الاستبداد في جميع الإعصار والأمصار، وأن ما يخشى من افتراق المسلمين بالشورى خير من وحدتهم بالاستبداد على المدى البعيد، وهذا ما تحقق اليوم" ومن الواضح أن المؤسسة الفقهية السنية الرسمية تُفهم وظيفتها تاريخياً في إضفاء الصبغة الشرعية لما يحدث على أرض الواقع بقوة السلطان وذلك من خلال العمل على تطويع النصوص وتأويلها حتى تتفق مع طبيعة السلطة الحاكمة. ومعلوم أن مبدأ القهر والاستيلاء كطريق موصل للحكم ( بلغة اليوم الوصول إلى السلطة بواسطة الانقلاب العسكري) يتنافى مع مبدأ الانتخاب ومبدأ التداول السلمي للسلطة وهما من أهم المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية كصيغة للحكم. فبواسطة آلية الانتخاب الحر النزيه يتسنى للشعب انتخاب رئيس الدولة أو رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان. ويستطيع من خلال هذا الأسلوب الديمقراطي السلمي نفسه تغيير حكومته.
6/ مبدأ الصبر على جور الأئمة وعدم الخروج عليهم:
لا يجوّز مذهب أهل السنة والجماعة الخروج على الحاكم، ويعتبرون أن الصبر على جوره أصل من أصولهم. وفي هذا الصدد، يقول الإمام الطحاوي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" ونقل الإمام النووي الإجماع على عدم الخروج على الإمام الجائر بقوله: " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته، وأجمع أهل السنة إنه لا ينعزل السلطان بالفسق"
وجاء في السنة النبوية: عن ابن عباس قال: قال النبي (ص): " من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارقُ الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية"
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: " ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".
وعن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: " ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" " الأحاديث توجه إلى الصبر على مفسدة أمراء الجور، وترك قتالهم لما يترتب عليه من الفتنة الكبيرة والشر المستطير، قال ابن تيمية: " فأمر ـ مع ذكره لظلمهم ـ بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة، ... فقتال ولاة الأمور إن فيه فتنة وشراً أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر"
ويقول ابن تيمية عن الفتنة ما يلي: " ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر. فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر ترك المأمور"
يقول باحث إسلامي معاصر: " في الخروج على الظالم مصلحةُ عزله وتوليةُ العدلِ، وإشاعة الصلاح، وإزالة الفساد، إلا أنه لما يؤول إليه ويفضي من استباحة دماء أهل الإسلام، وحصول الفتن في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك من أسباب ـ أمر النبي (ص) بالصبر على جور الأئمة، وعدم منابذتهم أو الخروج عليهم"
وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه والبزار من حديث ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم، كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر"
7/ مبدأ الدعاء للإمام الجائر بالصلاح ومناصحته:
يؤكد أبو الحسن الأشعري على هذا المبدأ بوصفه أصل من أصول أهل السنة والجماعة الذين " يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة"
ويورد ابن تيمية في معرض حديثه عن ضرورة الإمارة: " ولهذا روي ( إن السلطان ظل الله في الأرض)، ويقال: ( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان) والتجربة تبين ذلك، فإن الوقت والمكان الذي يعدم فيه السلطان بموت أو قتل، ولم يقم غيره، أو تجرى فيه فتنة بين طائفتين، أو يخرج أهله عن حكم سلطان، يجري فيه من الفساد في الدين والدنيا، ويفقد فيه من مصالح الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا الله. ولهذا كان السلف ـ كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم ـ يُعظِّمون قدر نعمة الله به، ويرون الدعاء له ومناصحته من أعظم ما يتقربون به إلى الله تعالى، مع عدم الطمع في ماله ورئاسته، ولا لخشية منه، ولا لمعاونته على الإثم والعدوان" وقد قال رسول الله (ص): ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه أمركم) وقال: ( ثلاث لا يغلُّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: ( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال الإمام أبو محمد البربهاري: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فأعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت رجلاً يدعو للسلطان بالصلاح فأعلم أنه صاحب سنة إنشاء الله" وبذلك يصبح الدعاء للسلطان سمة دالة ومؤكدة على الانتماء لأهل السنة والجماعة، والعكس صحيح فكل من يدعو على السلطان فهو صاحب هوى!
8/ مبدأ السيادة: الله مصدر السلطان لا الأمة
حاولت الأنظمة المستبدة عبر التاريخ الإسلامي، استغلال الدين بتطويع نصوصه من أجل أن يمنحها ذلك غطاءً شرعياً يستر عوراتها ويداري سوءاتها ويكسبها الشرعية التي تفتقدها، خاصة وأن هذه الأنظمة المتسلطة لم تأتي برضا وموافقة المسلمين عليها وإنما استولت على الحكم بالغصب والقوة والشوكة والقهر. وبالرغم من أن هذه الأنظمة المستبدة قد فرضت سلطانها على الأمة المسلمة إلا أن مسألة لا شرعية سلطتها كانت مصدر خوف وإزعاج وقلق لها، ولذلك كان همها الدءوب في البحث عن سُبل تستطيع بواسطتها تحصيل المشروعية المفقودة، ولم يكن هناك أفضل من سبيل الدين لأداء هذه المهمة. ولذلك نجد في ميراثنا الفقهي من يرى أن الاستيلاء على الحكم بالقوة والقهر لا يقدح في صحة انعقاد الخلافة.
وفي سبيل تحقيق المشروعية تم أيضاً توظيف نظرية الحق الإلهي ومقولة السلطان ظل الله في الأرض في السياق الإسلامي التي تذكرنا بمقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان في رده على الثوار المسلمين الذين طلبوا منه اعتزال الحكم: ( لا والله، لن أنزع رداءً سربلنيه الله)، الذين أخذوا بهذه المقولة ـ وهم الغالبيةـ رأوا " أن الله تعالى هو الذي يولّي الخليفة، ومن ثم فلا حق للرعية في نزع الإمام من مكان رفعه الله إليه" في حين رأت أقلية أن الأمة هي مصدر السلطة، وبالتالي هي التي تولى وهي التي تقيل. ف" في الإسلام السيادة للشرع وليست للأمة، فالله هو وحده المشرِّع" ويُجري تيار من تيارات الصحوة الإسلامية المعاصرة تمييزاً بين مصدر السيادة وبين مصدر السلطة، فالسيادة تكون لله وبالتالي لشرعه لا للأمة، في حين أن السلطة للأمة، إلا أنه يضيف في إحدى منشوراته قائلاً: أنه على الرغم من " أن الشرع قد جعل السلطان للأمة تُنيب عنها من يحكمها بطريق البيعة، إلا أنه لم يجعل لها حق عزل الحاكم، كما هو في النظام الديمقراطي"
كذلك تم توظيف حديث (الأئمة من قريش) توظيفاً سياسياً ليصبح شرط القرشية واحد من الشروط اللازم توفرها لشغل منصب الخليفة. من ناحية أخرى، شاع وانتشر في الثقافة السياسية الإسلامية مع بدايات الملك العضوض لبني أمية القول ب(القضاء والقدر) والقول ب(الجبر) وهو ما نلمسه في قولة معاوية بن أبى سفيان حينما عزم على تولية ابنه يزيد الحكم من بعده، ووجد معارضة شديدة من كبار الصحابة آنذاك، فرد عليهم: " إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم"، ومنذ ذلك التاريخ بدأ فقهاء بني أمية يشيعون أن سلطانهم (قدر إلهي) يجب التسليم به وقبوله بكل رضا، كما يتم التسليم بقضاء الله وقدره دون أي اعتراض. فهذه مشيئة الله وليس على المسلم الاعتراض على المشيئة الإلهية، بل يتوجب عليه الخضوع والطاعة والامتثال فذلك خير له. أستفتى بعض المسلمين الحسن البصري في الخروج على الحجاج بن يوسف، فرد عليهم بقوله: " أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافهم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" ومقولة البصري هذه ترينا إلى أي مدى أسهم الفقهاء في نشر وترسيخ فكر (الجبر السياسي) في أذهان عامة المسلمين، وهي الفترة نفسها التي شهدت تباين واختلاف تأويلات الفرق والمذاهب الإسلامية حول قضية: التسيير والتخيير وقد عرفت أيضا بمشكلة القضاء والقدر والتي تمحورت حول السؤال هل الإنسان مسير أم مخير؟ حيث تفرعت منها عدة اتجاهات. فالاتجاه الذي ذهب إلى أن الأفعال كلها لله عرف باسم الجبرية، في مقابل القدرية التي تبنت الرأي القائل بأن الإنسان خالق قدره خيره وشره. واللافت للنظر أن الخط الفقهي الرسمي للدولة تبنى (الجبرية) وروج لها حتى سادت وانتشرت، في حين تبنت التيارات المعارضة لحكم بني أمية أفكار القدرية " وقد أخذ عن معبد الجهني غيلان بن مروان الدمشقي فقال بالقدر خيره وشره: إنه من العبد، وقال في الإمامة: إنها تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. وكانت نهاية أمره أن أخذه هشام بن عبد الملك بن مروان فأمر بقطع يديه ورجليه" وهو السبب الذي يجعلنا نفهم لماذا بطشت السلطة الأموية بأنصار القدرية بكل عنف حتى وصل بها الأمر إلى قتلهم وذبحهم ـ كما تم ذبح القدري الجعد بن الدرهم ـ بعد أن تم تكفيرهم وإخراجهم من الملة الإسلامية من جانب المؤسسة الفقهية المتحالفة آنذاك مع حكام بني أمية. وفي نفس الفترة شاع وانتشر فكر (الإرجاء) والذي عمل على تحييد أغلبية جماهير المسلمين من ما كان دائراً من صراع حول السلطة، واستغله حكام بنو أمية وروجوا له وسط عامة المسلمين حتى شاع القول بعدم جواز تكفير الحاكم مهما صدر منه ومهما ارتكب من المعاصي والكبائر، وترك وإرجاء الفصل في أمره لله تعالى وحده يوم القيامة، مع وجوب طاعته والتسليم والانقياد والخضوع له في الدنيا.
كل ما سبق ذكره، أدى إلى ترسيخ مقولة أن الحاكم يستمد سلطته من الله ولا يستمدها من المحكومين، وطالما أن الأمر كذلك فإن طاعته من طاعة الله ومعصيته من معصية الله، فالسلطان ظل الله في الأرض. خطب الخليفة المنصور العباسي في الناس فقال: " أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني عليه قفلاً إن شاء فتحني وإن شاء أغلقني"
بادئ ذي بدء، لو بدأنا بطرح السؤال التالي: هل استطاع الفقه السياسي الإسلامي عبر تاريخه الطويل أن ينتج لنا أو يساعد في بلورة خطاب سياسي حديث في المسألة السياسية بعامة ونقد الاستبداد السياسي بخاصة؟ وفي سبيل الإجابة على هذا التساؤل، فمن المؤكد أن ما حدث من صراعات دموية في التاريخ الإسلامي الباكر، وفي ظل " اغتصاب الخلافة وتعاقب الخلفاء اللا شرعيين على عرش الدولة الإسلامية". وبسبب من الاستبداد الذي عاشته الأمة طويلاً( في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين وحتى اليوم)، كل ذلك " أوجد في الأمة حالةً من الرضا والتسليم بالحكم الديكتاتوري، وأصبحت الديكتاتورية من صميم نظم المجتمع واعتقاداته، واستغل الحكام هذا الوضع المتردي فأصبغوا على عروشهم صبغةً شرعية تمنعهم سخط الناس عليهم وتجعل المعارضين في موقف وكأنه معاد للأمة جمعاء كما حدث للإمام الحسين وللثورات المناهضة التي جاءت نتيجة لثورته في كربلاء... وانحصرت الممارسات الديمقراطية في نطاق ضيق ومحدود لا يسمح بانتشارها وصيرورتها جزءً من نظم المجتمع واعتقاداته وسلوكه العام، وأصبح القمع والإرهاب والاضطهاد من المظاهر المألوفة التي اعتاد عليها الإنسان العربي، ولم تشهد الأمة الإسلامية منذ اغتصاب الخلافة أي فترة عمت فيها معاني الحرية والتسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر، بل كان التمييز الطائفي والتكفير وجميع سياسات الاضطهاد هي الغالبة"
في ظل ما سبق، لم يكن لأي نسق فقهي أن يسود سوى ما يحض على طاعة الحكام والخضوع لهم، ولذلك كانت السمة الغالبة للفقه السياسي الإسلامي هي أنه فقه (طاعة وخضوع). و" أصبحت الدكتاتورية متغلغلةً في كل شئون الحياة، في الأمزجة والعادات والتقاليد وفي جميع نظم المجتمع، ولم يعد المجتمع الإسلامي مؤهلاً للديمقراطية على الإطلاق" وهو الشيء الذي يجعلنا نقول بأنه لم يكن لنقد الاستبداد السياسي تاريخاً في الثقافة السياسية الإسلامية، فقد غلب على هذه الثقافة التشريع للدولة السلطانية والملك القهري حتى عُدّ الخروج على السلطان والتمرد عليه " رديفاً للمروق عن الدين وتهديد وحدة الجماعة وبيضة الجماعة لدى المسلمين في سائر أعصر الاستبداد"
قديماً مثل مذهب أهل السنة والجماعة التيار المحافظ الموالي والمعبر عن أشواق السلطة ومصالحها، وهو بذلك يكون التيار الرسمي للدولة المسلمة آنذاك، وتتكون قاعدته العريضة من جماهير المسلمين الذين كانوا يوالون الحكام رهبة أو رغبة، خوفاً أو طمعاً. ومن المعلوم أن (السياسة الشرعية) لم تكن في نظر القدماء علماً مستقلاً بذاته وإنما كانت مبحث من مباحث علم الفقه الإسلامي. وقد مثل فقه السياسة الشرعية في العصر الوسيط لحظة التأسيس الأولى للفقه السياسي الإسلامي، وقد تناول فقه السياسية الشرعية جملة من القضايا والمشكلات، مثل: وجوب تنصيب الإمام، والاختلاف في وجوب الإمامة: هل تجب بالعقل أم بالشرع؟ شروط الإمامة: ما هي الشروط التي يجب توفرها في الإمام؟ شرط القرشية: الخلاف الفقهي حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الأكفأ بغض النظر عن نسبه. أسلوب اختيار الحاكم، وواجباته وحقوقه، الشورى: الخلاف حول كنه الشورى، وهل هي معلمة أم ملزمة للحاكم؟ هل يجوز للرعية (المسلمين) أن تنزع البيعة من الحاكم أو تعزله؟ متى وكيف يكون عزل الحاكم؟ وكيفية محاسبتهم للحاكم؟ مسألة البيعة: الاختلاف حول هل تكون البيعة من أهل الحل والعقد ـ نيابة عن جميع المسلمين ـ لمن يرونه صالحاً للإمامة؟ أم تكون من عامة المسلمين مباشرةً؟ وهل يشترط رضا أهل الحل والعقد عند استخلاف الإمام لغيره من بعده؟..الخ.
والقراءة الفاحصة للقضايا والمشكلات التي أهتم الفقه السياسي الإسلامي بمعالجتها طوال تاريخه الطويل، تبين أن النفس الغالب على الثقافية الفقهية الإسلامية عبر الحقب التاريخية المختلفة هو التشريع للدولة السلطانية وللملك القهري. وعلى ذلك فقد جعل الفقه السياسي الإسلامي بؤرة اهتمامه وتركيزه منصبة على التقنين والتشريع لسلطة الخليفة وفي المقابل عمل على إهمال الدور الحيوي المنوط بالأمة في عملية تدبير شؤونها بما فيه حقها في اختيار من يحكمها وحقها في عزله والخروج عليه إن أرادت ذلك.
وإذا نظرنا إلى فقه السياسة الشرعية من خلال ثنائية ( السلطان/ الأمة) نجده قد أعطى الأولوية والأهمية للطرف الأول(السلطان) بينما تم تهميش الطرف الثاني(الأمة) وتغييبه لصالح توطيد دعائم سلطة الأول. وفي ظل سلطة الملك القهري المستبد كان لا بد من سيادة الفقه السلطاني الذي يصبغ الشرعية الدينية لحكام لا شرعيين اغتصبوا حق السيادة من الأمة قهراً وقوة، ليصبح اللا شرعي شرعياً، وكان لا بد من فقه يوجب على الأمة طاعة حكامها ويضمن خضوعها لحكمهم الجبري والصبر على جورهم وظلمهم وفسقهم! باختصار كان لابد من فقه (الطاعة والخضوع) الذي يضمن لهم إحكام سيطرتهم على الأمة وبالتالي استمرارية ملكهم وحكمهم. ويقوم فقه الطاعة والخضوع على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل الأساس النظري الراسخ الذي على أساسه تشيّدت المضامين والأنسقة الفقهية السنية المتعددة، وهي وإن تباينت على مستوى التخريج النهائي لأفكارها إلا أنها انطلقت من ذات المبادئ والأسس والتي جملناها في ثمانية مبادئ رئيسية. وإذا قمنا بتفحص هذه الأسس النظرية والمبادئ الأولية ومنهجيات التناول التي قام العقل السياسي الإسلامي طوال تاريخه بتطبيقها وبتوظيفها في إنتاج ثقافة سياسية محددة، فسنعرف حينئذ إلى أي مدى تناهض هذه المبادئ والأصول ثقافة الديمقراطية وفي المقابل تجذر وترسخ لثقافة الاستبداد. لنلقي نظرة على بعض هذه المبادئ الأوليةـ المتعلقة بموضوع بحثنا تحديداً ـ التي هي بمثابة أصول بالنسبة للفقه السياسي الإسلامي.
1/ مبدأ طاعة ولي الأمر:
يعتبر مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين من الأصول المجمع علي وجوبها عند أهل السنة والجماعة، حتى وإن جاروا وفسقوا وظلموا وفجروا. ويستدلون على وجوب الطاعة لأولى الأمر بقوله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" سورة النساء: 59 وعند الإمام النووي " المراد بأولى الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم" وعند ابن تيمية: " أولوا الأمر صنفان الأمراء والعلماء" أي الفقهاء.
ويستدل أهل السنة والجماعة على وجوب هذا المبدأ بمجموعة من أحاديث الرسول (ص) منها: ما رواه البخاري: " حدثنا مسدد حدثنا يحيي بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وفي الحديث الذي رواه مسلم: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فأسمع وأطع"
وأورد البخاري في صحيحه حديث أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" ويورد أيضاً في باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): " اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"
وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: " السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصيةٍ فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة"
وفي الأحكام السلطانية للماوردي: " فرض الله علينا طاعة أولى الأمر فينا وهم الأئمة المتآمرون علينا. وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: (سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فأسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم)" ويصل هذا المبدأ إلى أقصى مدى يمكن أن يبلغه مع الإمام الغزالي (ت505هـ) الذي رأى " إن الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة الإمام لا تزيد على الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد في حق ساداتهم، ولا على الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله ... وما من شخص يقدر مخالفته في أمر من الأمور إلا وهو بعينه إذا انتهى إلى العتبة الشريفة• صفع على الأرض خاضعاً وعفّر خده في التراب متواضعاً، ووقف وقوف أذل العبيد على بابه، وانتهض ماثلاً على رجليه عند سماع خطابه، ...، فأية طاعة في عالم الله تزيد عن هذه الطاعة! وأية شوكة في الدنيا تقابل هذه الشوكة!"
2/ القرشية كشرط مسبق ومحدد للحاكم:
رأت المؤسسة الفقهية السنية أن خليفة المسلمين يجب أن يكون من قبيلة قريش، وقد تحدث الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية عن شروط الإمامة، وكان شرط القرشية هو الشرط السابع الذي أورده، بقوله: " النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه... لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي (ص): (الأئمة من قريش). فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا (منا أمير ومنكم أمير) تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء)... وليس مع هذا النص المسلم به شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له "
وأورد البخاري في صحيحه: كان محمد بن جبير بن مُطعم يُحدّثُ أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفدٍ من قريش أن عبد الله بن عمرو يُحدّثُ أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يُحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثرُ عن رسول الله (ص) وأولئك جُهّالكم فإياكم والأماني التي تُضلُّ أهلها فإني سمعتُ رسول الله (ص) يقولُ: " إنّ هذا الأمر في قريشٍ لا يُعاديهم أحد إلا كبّهُ اللهُ في النار على وجهه ما أقاموا الدين" وأيضاً، يأتي في ذات السياق حديث ابن عمر عن رسول الله (ص): " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان"
ويعلق فرج فودة على شرط القرشية، بقوله: " نصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادي البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذي يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذي لا يعطي فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحاً، يتمثل في أن هذا الشرط قد وضع لكي يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشي"
في مقابل المؤسسة الفقهية السنية الموالية، نجد أن العقيدة السياسية للخوارج تساوي بين جميع المسلمين عرباً كانوا أم عجماً، أحرار أم أرقاء، دون تمييز في الحقوق والواجبات. ويرون أن معيار التفاضل قوله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات. وعلى أساس هذا المبدأ قرروا قاعدتهم الثورية في أصول الحكم: لكل مسلم الحق في الخلافة بغض النظر عن جنسه أو لونه، سواء أكان عربياً أو غير عربي، حراً أو عبداً. وعلى ذلك فهم معارضون لفقهاء السنة الذين حصروا الخلافة في قبيلة قريش وحدها. " وقد أخذ عن معبد الجهني غيلان بن مروان الدمشقي فقال بالقدر خيره وشره: إنه من العبد، وقال في الإمامة: إنها تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. وكانت نهاية أمره أن أخذه هشام بن عبد الملك بن مروان فأمر بقطع يديه ورجليه"
على ذلك فإن شرط القرشية يتنافي مع أبسط المبادئ الديمقراطية الحديثة التي تكفل الحق لأي فرد من أفراد الشعب بأن يتمتع بحق ترشيح نفسه لرئاسة الدولة مهما كان عرقه أو لونه أو عقيدته أو جنسه أو آراؤه السياسية.
3/ الشورى معلمة وليست ملزمة للحاكم:
مبدأ الشورى في الإسلام كان ولا يزال موضع خلاف بين علماء وفقهاء المسلمين، ولا يزال الجدال دائرا حوله وخاصة في المسألة المتعلقة بإلزامية الشورى من عدمها، والتي يمكن التعبير عنها بالسؤال: هل الشورى ملزمة للحاكم؟ هذا السؤال يعبر عن واحدة من أهم القضايا المتعلقة بمبدأ الشورى في الإسلام وهي قضية إلى أي مدى يمكن أن تكون الشورى ملزمة للحاكم؟ هذا التساؤل بدوره يتفرع إلى سؤالين: فمن جهة أولى: هل يجب على الحاكم أن يستشير؟ ومن جهة ثانية: إذا استشار الحاكم، فهل هو ملزم بالأخذ بما تُفضي إليه الشورى من نتائج أم أن الأمر يرجع إلى تقديره وتدبيره وإلى رأيه وإن كان مخالفاً لما أفضت إليه الشورى؟
هناك من الفقهاء من قال بأن الحاكم ملزم بأن يستشير ولكنه في نفس الوقت غير ملزم بإتباع ما تؤول إليه الشورى من نتائج! " وهو رأي الأغلبية التي تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير، وبين كونه في نفس الوقت غير ملزم بإتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم" وفي ذات السياق، يقول الإمام النووي: " ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم صاحب الأمر يفعل ما ظهر له مصلحة" يقول القرطبي: " الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولاً إلى كتاب الله والسنة إن أمكنه. فإذا أرشده الله إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه"
في المقابل، ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن الحاكم ليس ملزماً بأن يستشير من الأساس! وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية: " وإذا استشارهم، فإن بيّن له بعضهم ما يجب إتباعُه من كتاب الله وسنة رسوله، أو إجماع المسلمين، فعليه إتباع ذلك" والمتفحص لقول ابن تيمية يلاحظ أن يُعطي الحاكم خيار أن لا يستشير أصلاً وهو ما نقرأه بكل وضوح في افتتاحية عبارته "وإذا استشارهم" فهذه الصيغة لا توجب الشورى كمبدأ إلزامي على الحاكم أن يأخذ به في تدبيره لكل صغيرة وكبيرة من شئون المسلمين. فعبارة ابن تيمية السابقة تسكت عن تساؤل آخر: وإذا لم يستشرهم؟! بطريقة أخرى يمكن أن نفهم عبارة ابن تيمية على النحو التالي: الحاكم ليس ملزماً بأن يستشير، ولكن إذا استشار، فعليه الإتباع. وهناك من يرى أن " القول بإلزامية الشورى يُذهب بمعنى الخلافة، ويسلب الإمام حقه الذي قرره الشارع له، وحديث رسول الله (ص) يؤكد حق الخليفة ويوضحه، وهو أن الخليفة له السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية"
ما سبق يبين لنا بما لا يدع مجال للشك بأن الشورى كمبدأ ليست ملزمة للحاكم في أدبيات الفقه الإسلامي القديم، ولا نلمس لها أي مضمون إيجابي ولا أثراً عميقاً على مستوى الممارسة السياسية في تاريخ المسلمين. وهي الحقيقة التي يلحظها المفكر الإسلامي المعاصر حسن الترابي، ويصيغها على النحو التالي: " أن ميراثنا السياسي لا يحتوي من الشورى في انتخابات الولاة وتقرير السياسات العامة إلا تلك السُّنن المحدودة لعهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلا ما يمثله مفهوم الإجماع في الأحكام الفقهية وما يمثل مفهوم أهل الحل والعقد الذي كان حظه في الواقع أدنى بكثير من حظ الإجماع" وعلى ذلك فإن الشورى كمصطلح لم تأخذ مضموناً عميقاً وبعداً فاعلاً في أدبيات الفقه السياسي القديم، ولم تكن لها قيمة ذات شأن ولم تُعطى أية أهمية، ويرجع سبب ذلك إلى أن: " الممارسة السياسية الشورية لم تكن واسعة ولا ذات خطر في التاريخ الإسلامي... فكلمة الشورى اليوم تثير معنى أكبر وأخطر مما تثيره في الفقه التقليدي حيث كانت تشير إلى إجراء عفوي، أن يشاور المرء من اتفق ممن عنده ثم يدبّر أمره كيف شاء إلا أن يستأنس بالرأي الآخر، ولم يكن معناها السياسي هو المتبادر، إذ هي أكثر استعمالاً في المعاملات الاجتماعية والشؤون الشخصية"
وكذلك الحال على مستوى أدبيات الإسلام السياسي الحديث وهو الأمر الذي يؤكده يوسف القرضاوي بقوله: " رأينا ممن ينتسبون إلى الفقه في عصرنا، ومن يُحسبون ضمن فصائل الصحوة الإسلامية، من يقول: إن الشورى معلمة لا ملزمة، وإن من حق ولي الأمر أن يستشير ليستنير، ثم يضرب برأي أهل الشورى عرض الحائط إن شاء وينفذ رأيه هو! وإنه الذي يعين مجلس الشورى، ثم يقره إن شاء، ويحله متى شاء!" وهاهو تيار من تيارات الإسلام السياسي المعاصر يقول في إحدى منشوراته: " المشرِّع إنما هو الله، وليس الأمة. وصاحب الصلاحية في تبني الأحكام التي تلزم لرعاية شؤون الناس وتسيير الحكم إنما هو الخليفة وحده، فيأخذ الأحكام من النصوص الشرعية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله بناءً على الدليل الأقوى باجتهاد صحيح. ولا يجب على الخليفة أن يرجع لمجلس الأمة لأخذ رأيه فيما يريد تشريعه من أحكام، وإن كان يجوز له ذلك،... فإذا رجع الخليفة إلى مجلس الأمة لأخذ رأيه في الأحكام التي يريد أن يتبناها، فإن رأي المجلس لا يكون ملزماً له، ولو كان بالإجماع أو بالأكثرية"
4/ الثورة على الحاكم الجائر أساس كل شر وفتنة:
أجمع فقهاء أهل السنة والجماعة على أن الخروج على الحاكم الجائر والظالم حرام شرعاً، وذلك لأن هذا الخروج يترتب عليه فساد كبير وشر عظيم لما فيه من الفتن وإراقة الدماء. وهو أصل من أصول أهل السنة والجماعة. وعلى ذلك يرون حرمة الخروج على الحاكم الجائر ولا يجوزونها إلا في حالة واحدة وهي إذا صدر أو ظهر منه كفر بواح عليه من الله برهان! ولا يدخل في دائرة الكفر البواح: ارتكاب الكبائر باستثناء كبيرة الشرك، ولا يدخل ظلم الحاكم للرعية، ومصادرة حقوقها، واضطهادها، كل ذلك لا يُدخل في دائرة الكفر البواح، وبالتالي لا يجوز الخروج على الحاكم! وإن أخذ مالك وضرب ظهرك بالسياط! قال ابن القيم: " الإنكار على الملوك والخروج عليهم أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" ويقول ابن تيمية: " نهى النبي (ص) عن القتال في الفتنة وكان ذلك أصل من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة المدينة من فقهائهم وغيرهم... ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغي من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم بل لا يبيحه بل من الأصول التي دلت عليها النصوص أن الإمام الجائر الظالم، يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه كما أمر النبي (ص) بذلك في غير حديث، فلم يأذن في دفع البغي مطلقاًً بالقتال بل إذا كانت فيه فتنة نهي عن دفع البغي به وأمر بالصبر... فلهذا نهى النبي (ص) عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظلم لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم" ويقول أيضاً في كتابه منهاج السنة: " ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج عن الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بدون قتال ولا فتنة. فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته"
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال (ص): " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فراه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة" وعلى ذلك فإن منطق مذهب أهل السنة والجماعة هنا يتمثل في أنه لا يجوز إزالة الضرر بضرر أكبر منه، ومن شروط تغيير المنكر ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه. يترتب على هذا القول نتيجة فحواها أن الخروج على الحاكم الجائر فتنة، بمعنى آخر: الخروج على الحاكم الجائر بقصد إزالة فساده وظلمه لا يؤدي في الواقع إلا إلى فساد أعظم وشر أكبر، ولذلك وحتى نتقي الفتنة فيتوجب علينا الصبر. وتحمل جور الحاكم وظلمه أفضل من فتنة الخروج عليه، لأن قتاله فيه فساد أعظم من فساد ظلمه وجوره.
5/ القهر والاستيلاء طريقاً للحكم:
استنبط الفقهاء من الطرائق التي بواسطتها تم اختيار الخلفاء الراشدين قواعد للكيفية التي يتم بها تنصيب الخليفة وهي: أن يتم اختيار الخليفة من أهل الحل والعقد (خلافة أبو بكر الصديق نموذجاً). أو أن يعهد الخليفة لمن يختاره للخلافة (خلافة عمر بن الخطاب نموذجاً). وبعد خلافة عثمان بن عفان " وقع خلل في التزام السُّنن الشورية وكاد التاريخ الإسلامي أن يخلو من الإجراءات الشورية المطلقة في تعيين الولاة، وما كان من الشورى لم يكن عن حرية ورضى وضبط.... أما السُّنة الأغلب في الممارسة السياسية الإسلامية فالذي يغلب عليها هو ولاية العهد وميراث الخلافة واستلاب الأمر بالانقلاب أو التمكّن" ولما تحولت الخلافة إلى ملك عضوض أجازت المؤسسة الفقهية السنية أن يعهد الخليفة لابنه من بعده أو أخيه، كما أجازوا أن يعهد لأكثر من واحد من أبنائه بعد ترتيب الخلافة بينهم. كذلك أجازوا الخلافة لمن ينالها بالقوة والغصب حتى ولو كان من ينالها فاجراً لكيلا يبيت المسلمون بغير إمام! وبذلك يكون فقهاء أهل السنة والجماعة قد جعلوا ثبوت البيعة بالقوة والغلبة والقهر طريقاً ثالثاً بجانب تقلد الإمامة بطريق العهد وبطريق الاختيار. وفي ذات السياق، يقول الإمام النووي( ت676هـ): " أما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً أو جاهلاً، فوجهان: أصحهما انعقادها لما ذكرناه وإن كان عاصياً بفعله" وقد جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني(ت852هـ): " أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء"
ويعلق باحث إسلامي معاصر بقوله: " إن الاستبداد والاستيلاء على حق الأمة بالقوة ـ وإن كان يحقق مصلحة آنية ـ إلا أنه يفضي إلى ضعف الأمة مستقبلاً وتدمير قوتها وتمزيق وحدتها، كما هو شأن الاستبداد في جميع الإعصار والأمصار، وأن ما يخشى من افتراق المسلمين بالشورى خير من وحدتهم بالاستبداد على المدى البعيد، وهذا ما تحقق اليوم" ومن الواضح أن المؤسسة الفقهية السنية الرسمية تُفهم وظيفتها تاريخياً في إضفاء الصبغة الشرعية لما يحدث على أرض الواقع بقوة السلطان وذلك من خلال العمل على تطويع النصوص وتأويلها حتى تتفق مع طبيعة السلطة الحاكمة. ومعلوم أن مبدأ القهر والاستيلاء كطريق موصل للحكم ( بلغة اليوم الوصول إلى السلطة بواسطة الانقلاب العسكري) يتنافى مع مبدأ الانتخاب ومبدأ التداول السلمي للسلطة وهما من أهم المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية كصيغة للحكم. فبواسطة آلية الانتخاب الحر النزيه يتسنى للشعب انتخاب رئيس الدولة أو رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان. ويستطيع من خلال هذا الأسلوب الديمقراطي السلمي نفسه تغيير حكومته.
6/ مبدأ الصبر على جور الأئمة وعدم الخروج عليهم:
لا يجوّز مذهب أهل السنة والجماعة الخروج على الحاكم، ويعتبرون أن الصبر على جوره أصل من أصولهم. وفي هذا الصدد، يقول الإمام الطحاوي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" ونقل الإمام النووي الإجماع على عدم الخروج على الإمام الجائر بقوله: " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته، وأجمع أهل السنة إنه لا ينعزل السلطان بالفسق"
وجاء في السنة النبوية: عن ابن عباس قال: قال النبي (ص): " من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارقُ الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية"
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: " ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".
وعن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: " ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" " الأحاديث توجه إلى الصبر على مفسدة أمراء الجور، وترك قتالهم لما يترتب عليه من الفتنة الكبيرة والشر المستطير، قال ابن تيمية: " فأمر ـ مع ذكره لظلمهم ـ بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة، ... فقتال ولاة الأمور إن فيه فتنة وشراً أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر"
ويقول ابن تيمية عن الفتنة ما يلي: " ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر. فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر ترك المأمور"
يقول باحث إسلامي معاصر: " في الخروج على الظالم مصلحةُ عزله وتوليةُ العدلِ، وإشاعة الصلاح، وإزالة الفساد، إلا أنه لما يؤول إليه ويفضي من استباحة دماء أهل الإسلام، وحصول الفتن في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك من أسباب ـ أمر النبي (ص) بالصبر على جور الأئمة، وعدم منابذتهم أو الخروج عليهم"
وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه والبزار من حديث ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم، كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر"
7/ مبدأ الدعاء للإمام الجائر بالصلاح ومناصحته:
يؤكد أبو الحسن الأشعري على هذا المبدأ بوصفه أصل من أصول أهل السنة والجماعة الذين " يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة"
ويورد ابن تيمية في معرض حديثه عن ضرورة الإمارة: " ولهذا روي ( إن السلطان ظل الله في الأرض)، ويقال: ( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان) والتجربة تبين ذلك، فإن الوقت والمكان الذي يعدم فيه السلطان بموت أو قتل، ولم يقم غيره، أو تجرى فيه فتنة بين طائفتين، أو يخرج أهله عن حكم سلطان، يجري فيه من الفساد في الدين والدنيا، ويفقد فيه من مصالح الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا الله. ولهذا كان السلف ـ كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم ـ يُعظِّمون قدر نعمة الله به، ويرون الدعاء له ومناصحته من أعظم ما يتقربون به إلى الله تعالى، مع عدم الطمع في ماله ورئاسته، ولا لخشية منه، ولا لمعاونته على الإثم والعدوان" وقد قال رسول الله (ص): ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه أمركم) وقال: ( ثلاث لا يغلُّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: ( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال الإمام أبو محمد البربهاري: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فأعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت رجلاً يدعو للسلطان بالصلاح فأعلم أنه صاحب سنة إنشاء الله" وبذلك يصبح الدعاء للسلطان سمة دالة ومؤكدة على الانتماء لأهل السنة والجماعة، والعكس صحيح فكل من يدعو على السلطان فهو صاحب هوى!
8/ مبدأ السيادة: الله مصدر السلطان لا الأمة
حاولت الأنظمة المستبدة عبر التاريخ الإسلامي، استغلال الدين بتطويع نصوصه من أجل أن يمنحها ذلك غطاءً شرعياً يستر عوراتها ويداري سوءاتها ويكسبها الشرعية التي تفتقدها، خاصة وأن هذه الأنظمة المتسلطة لم تأتي برضا وموافقة المسلمين عليها وإنما استولت على الحكم بالغصب والقوة والشوكة والقهر. وبالرغم من أن هذه الأنظمة المستبدة قد فرضت سلطانها على الأمة المسلمة إلا أن مسألة لا شرعية سلطتها كانت مصدر خوف وإزعاج وقلق لها، ولذلك كان همها الدءوب في البحث عن سُبل تستطيع بواسطتها تحصيل المشروعية المفقودة، ولم يكن هناك أفضل من سبيل الدين لأداء هذه المهمة. ولذلك نجد في ميراثنا الفقهي من يرى أن الاستيلاء على الحكم بالقوة والقهر لا يقدح في صحة انعقاد الخلافة.
وفي سبيل تحقيق المشروعية تم أيضاً توظيف نظرية الحق الإلهي ومقولة السلطان ظل الله في الأرض في السياق الإسلامي التي تذكرنا بمقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان في رده على الثوار المسلمين الذين طلبوا منه اعتزال الحكم: ( لا والله، لن أنزع رداءً سربلنيه الله)، الذين أخذوا بهذه المقولة ـ وهم الغالبيةـ رأوا " أن الله تعالى هو الذي يولّي الخليفة، ومن ثم فلا حق للرعية في نزع الإمام من مكان رفعه الله إليه" في حين رأت أقلية أن الأمة هي مصدر السلطة، وبالتالي هي التي تولى وهي التي تقيل. ف" في الإسلام السيادة للشرع وليست للأمة، فالله هو وحده المشرِّع" ويُجري تيار من تيارات الصحوة الإسلامية المعاصرة تمييزاً بين مصدر السيادة وبين مصدر السلطة، فالسيادة تكون لله وبالتالي لشرعه لا للأمة، في حين أن السلطة للأمة، إلا أنه يضيف في إحدى منشوراته قائلاً: أنه على الرغم من " أن الشرع قد جعل السلطان للأمة تُنيب عنها من يحكمها بطريق البيعة، إلا أنه لم يجعل لها حق عزل الحاكم، كما هو في النظام الديمقراطي"
كذلك تم توظيف حديث (الأئمة من قريش) توظيفاً سياسياً ليصبح شرط القرشية واحد من الشروط اللازم توفرها لشغل منصب الخليفة. من ناحية أخرى، شاع وانتشر في الثقافة السياسية الإسلامية مع بدايات الملك العضوض لبني أمية القول ب(القضاء والقدر) والقول ب(الجبر) وهو ما نلمسه في قولة معاوية بن أبى سفيان حينما عزم على تولية ابنه يزيد الحكم من بعده، ووجد معارضة شديدة من كبار الصحابة آنذاك، فرد عليهم: " إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم"، ومنذ ذلك التاريخ بدأ فقهاء بني أمية يشيعون أن سلطانهم (قدر إلهي) يجب التسليم به وقبوله بكل رضا، كما يتم التسليم بقضاء الله وقدره دون أي اعتراض. فهذه مشيئة الله وليس على المسلم الاعتراض على المشيئة الإلهية، بل يتوجب عليه الخضوع والطاعة والامتثال فذلك خير له. أستفتى بعض المسلمين الحسن البصري في الخروج على الحجاج بن يوسف، فرد عليهم بقوله: " أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافهم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" ومقولة البصري هذه ترينا إلى أي مدى أسهم الفقهاء في نشر وترسيخ فكر (الجبر السياسي) في أذهان عامة المسلمين، وهي الفترة نفسها التي شهدت تباين واختلاف تأويلات الفرق والمذاهب الإسلامية حول قضية: التسيير والتخيير وقد عرفت أيضا بمشكلة القضاء والقدر والتي تمحورت حول السؤال هل الإنسان مسير أم مخير؟ حيث تفرعت منها عدة اتجاهات. فالاتجاه الذي ذهب إلى أن الأفعال كلها لله عرف باسم الجبرية، في مقابل القدرية التي تبنت الرأي القائل بأن الإنسان خالق قدره خيره وشره. واللافت للنظر أن الخط الفقهي الرسمي للدولة تبنى (الجبرية) وروج لها حتى سادت وانتشرت، في حين تبنت التيارات المعارضة لحكم بني أمية أفكار القدرية " وقد أخذ عن معبد الجهني غيلان بن مروان الدمشقي فقال بالقدر خيره وشره: إنه من العبد، وقال في الإمامة: إنها تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها، وإنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. وكانت نهاية أمره أن أخذه هشام بن عبد الملك بن مروان فأمر بقطع يديه ورجليه" وهو السبب الذي يجعلنا نفهم لماذا بطشت السلطة الأموية بأنصار القدرية بكل عنف حتى وصل بها الأمر إلى قتلهم وذبحهم ـ كما تم ذبح القدري الجعد بن الدرهم ـ بعد أن تم تكفيرهم وإخراجهم من الملة الإسلامية من جانب المؤسسة الفقهية المتحالفة آنذاك مع حكام بني أمية. وفي نفس الفترة شاع وانتشر فكر (الإرجاء) والذي عمل على تحييد أغلبية جماهير المسلمين من ما كان دائراً من صراع حول السلطة، واستغله حكام بنو أمية وروجوا له وسط عامة المسلمين حتى شاع القول بعدم جواز تكفير الحاكم مهما صدر منه ومهما ارتكب من المعاصي والكبائر، وترك وإرجاء الفصل في أمره لله تعالى وحده يوم القيامة، مع وجوب طاعته والتسليم والانقياد والخضوع له في الدنيا.
كل ما سبق ذكره، أدى إلى ترسيخ مقولة أن الحاكم يستمد سلطته من الله ولا يستمدها من المحكومين، وطالما أن الأمر كذلك فإن طاعته من طاعة الله ومعصيته من معصية الله، فالسلطان ظل الله في الأرض. خطب الخليفة المنصور العباسي في الناس فقال: " أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني عليه قفلاً إن شاء فتحني وإن شاء أغلقني"
ثانياً: فقه الثورة والخروج: من فقه الاستضعاف إلى فقه الاستنهاض
هل ثمة فقه للثورة في مقابل فقه السلطة؟ وبالتالي فقهاء الثورة في مقابل فقهاء السلطان؟ فقه الخروج في مقابل فقه الطاعة؟ ما المصادر التقليدية التي تستمد الثورة منها مشروعيتها في الفقه السياسي الإسلامي؟ وهل فرض المد الثوري العربي الآن التغيير في تلك المصادر؟ ما الأسس الشرعية التي يُبنى عليها الخروج على الحاكم؟ وهل هناك حاكم لا يجوز الخروج عليه؟ متى تجب طاعة الحاكم؟ ومتى تخلع هذه الطاعة؟ ما الموقف من أولي الأمر إذا جاروا: الطاعة لهم أم الخروج عليهم؟ ألا يجب أن يدخل مفهوم طلب الحرية في مفهوم الجهاد؟ الثورة هل هي (فتنة) كما يروج إلى ذلك فقه السلطان؟
1/ نقد الفقه السلطاني: تغييب المضمون التحرري للدين لصالح فقه الطاعة والخضوع
استمد حكام المسلمين على مر التاريخ الإسلامي شرعيتهم من الفقه الذي صاغه فقهاء السلطان، حيث وظف الفقه السلطاني الدين الإسلامي توظيفاً سياسياً كانت غايته العليا إضفاء الشرعية على سلطة الحاكم الجائر والظالم. هنا الفقه في خدمة السلطان، الدين في خدمة السياسة: وخير دليل على ما ذهبنا إليه كتاب الإمام الغزالي(ت505هـ): (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية)، الذي يقول في مقدمته ما نصه: " أما بعد فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام متشوفاً إلى أن (أخدم) المواقف المقدسة النبوية الأمامية المستظهرية• ضاعف الله جلالها ومد على طبقات الخلق ظلالها بتصنيف كتاب في علم الدين (أقضي) به شكر النعمة و(أقيم) به رسم الخدمة و(اجتني) بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة. لكني جنحت إلى التواني للتحري في تعيين العلم الذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الذي يقع موقع الرضا من الرأي النبوي الشريف، فكانت هذه الحيرة تغبر في وجه المراد وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد حتى (خرجت) الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية (بالإشارة) إلى (الخادم) في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم وفنون مكرهم واحتيالهم ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم وإيضاح غوائلهم في تلبيسهم وخداعهم وانسلالهم عن ربقة الإسلام وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم بما يفضي إلى هتك أستارهم وكشف أغوارهم"
ولو تمعنت في مقدمة كتاب الغزالي هذه ـ وخاصة ما قمنا بوضعه بين قوسين وما أبرزناه بتسويد خطه ـ لظهر لك بشكل واضح وجلي لا لبس فيه ولا غموض تبعية ما هو فقهي لما هو سياسوي، وبالتالي تبيان الكيفية التي تم بها تسخير الفقه في خدمة أغراض السلطان، وعلى ذلك يصبح الفقه مجرد (تابع وخادم) يدور في فلك السياسة والسلطان، فالهم (الأيديولوجي) للغزالي من كتابه هذا إنما نستشفه ونفهمه في الجهود الجبارة التي بذلها الإمام الغزالي في سعيه لإضفاء الشرعية على الخليفة العباسي آنذاك، وهو الهدف الذي يكون أوضح ما يكون في الباب التاسع من كتابه والذي جعل عنوانه: " في إقامة البرهان الفقهي الشرعي على أن الإمام الحق في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله" وفي ظني أن هذا الباب هو الغرض الأساسي والهدف المنشود من تأليف هذا الكتاب، وهو ما يؤكده الغزالي نفسه ـ في الباب الأول الذي أعرب فيه عن منهجه الذي استنهجه في هذا الكتاب ـ بقوله: " ثم نختم الكتاب بما هو السر واللباب، وهو إقامة البراهين الشرعية على صحة الإمامة للمواقف القدسية النبوية المستظهرية، بموجب الأدلة العقلية والفقهية، على ما أفصح في مضمونه ترجمة الأبواب" ويؤكد نفس المعنى في فاتحة الباب التاسع بقوله: " والمقصود من هذا الباب: بيان إمامته على وفق الشرع، وأنه يجب على كافة علماء الدهر الفتوى، على البت والقطع، بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق، وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاء، وبراءة ذمة المكلفين عند صرف حقوق الله تعالى إليه، وأنه خليفة الله على الخلق، وأن طاعته على كافة الخلق فرض" وفي سبيل تحقيق هذا الهدف (الأيديولوجي) كان لا بد من تسخير الفقه كأداة وتوظيفه في ضرب خصوم السلطان ومعارضيه ومن يدعون إلى الخروج عليه ( الباطنية)، وهي المهمة التي أداءها الإمام الغزالي على أكمل وجه وأتم صورة في هذا الكتاب، حيث خصص الباب السابع في إبطال استدلالهم بالنص على نصب الإمام المعصوم. بل إن الإمام الغزالي يذهب أبعد من ذلك بتكفيرهم والفتوى بسفك دمهم، وهو ما نقرأه بشكل لا لبس فيه من عنوان الباب الثامن " في مقتضى فتوى الشرع في حقهم من التكفير والتخطئة وسفك الدم"
وما هو جدير بالملاحظة إنما يتمثل في التناقض الذي وقع فيه الغزالي: ففي الوقت الذي يسعى فيه الغزالي إلى تبيان فساد معتقد الروافض والباطنية( المعارضة السياسية للخلافة العباسية آنذاك) عن الإمامة المتمثل في قولهم " أن الإمام يساوي النبي في العصمة والإطلاع على حقائق الحق في كل الأمور، إلا أنه لا ينزل عليه الوحي، وإنما يتلقى ذلك من النبي فإنه خليفته وبإزاء منزلته" نقول أنه في نفس الوقت الذي يبين فيه الغزالي فساد معتقد معارضي السلطان وقولهم بعصمة أئمتهم، نجده يصدر من نفس المنظور الذي ينتقده، صابغاً على الخليفة العباسي نفس العصمة التي ينتقدها في مذهب الخصوم، حيث يصفه ب " المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية"، و" الرأي النبوي الشريف"، و" الأوامر الشريفة المقدسة النبوية"..الخ.
هكذا نفهم الدور الخطير الذي لعبه الفقه الإسلامي السني الغزالي في توطيد دعائم أركان السلطة من خلال توظيف وتسخير الفقه كأداة فعالة في إضفاء الشرعية على السلطة الحاكمة والتنكيل بمعارضيها وتكفيرهم والفتوى بإحلال سفك دمهم، ففي ظل الفقه السلطاني يتحول المعارض السياسي والثائر المسلم إلى كافر يتوجب جهاده، وفي ذلك يقول الغزالي: " ولو نبغت نابغة في طرف من أطراف الأرض على معادة هذه الدولة الزاهرة ـ يقصد الدولة المستظهريةـ لم يكن فيهم أحد إلا ويرى النضال دون حوزتها جهاداً في سبيل الله نازلاً منزلة جهاد الكفار"
وفي أدبيات الفقه السلطاني نرى السلطان نداً لله: خطب الخليفة المنصور العباسي في الناس فقال: " أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني عليه قفلاً إن شاء فتحني وإن شاء أغلقني" ويورد ابن تيمية في معرض حديثه عن ضرورة الإمارة: " ولهذا روي ( إن السلطان ظل الله في الأرض)، ويقال: ( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان) وكما يجب طاعة الله كذلك يجب طاعة السلاطين، وألا ننزع يداً من طاعتهم. ولا يجب أن ندعو عليهم وإن جاروا علينا بل على العكس يجب أن ندعو لهم بالصلاح والمعافاة. وكما يجب الصبر على القدر الإلهي كذلك يجب الصبر على جور الأئمة، وكما يُحرم عصيان الله كذلك يُحرم الخروج على الحاكم. تجدر الإشارة هنا إلى أن مبدأ وجوب الطاعة للإمام إنما ينصرف إلى الإمام العادل الذي تم عقد البيعة له من عامة المسلمين عن رضا وطواعية. أما في حالة جوره على الرعية وظلمه لهم ولم يرعوي عن ظلمه ولم يرجع عنه وجب عزله ولو بشهر السلاح وإقامة الحروب. ويتساءل باحث إسلامي معاصر: " كيف بدأ الإسلام ديناً يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله عز وجل إلى دين يوجب على أتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة أولي الأمر؟.....كيف ندعو شعوب العالم الحر ـ الذي تساوى فيه الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤساءه، وينتقدهم علانية ويعزلهم بطرح الثقة بهم، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه، إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله ـ إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه، إذ طاعته من طاعة الله ورسوله؟! كما يحرم على هذه الشعوب الحرة أن تقيم الأحزاب السياسية أو تتداول السلطة فيما بينها لو دخلت في الدين الجديد؟!"
2/ موقف المسلمين الأوائل من الثورة:
يثبت أبو الحسن الأشعري الحقيقة التالية بقوله: " أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين ـ بعد نبيهم (ص)ـ اختلافهم في الإمامة" وهو الأمر الذي يثبت أن النبي (ص) لم يُوصي بالخلافة لأحد من المسلمين من بعده، ولم يرشح أحداً أو يعهد لأحد، وإنما ترك الأمر كله للمسلمين لكي يختارواـ بكل رضا وطواعيةـ من بينهم من يرونه يصلح لولاية أمرهم. وهو الشيء الذي يجعلنا نستنبط المبدأ التالي: الأمة هي صاحبة الحق الأصيل في عقد البيعة للإمام. وبالتالي فإن واحدة من النتائج المترتبة على هذا المبدأ تتمثل في بطلان خلافة كل من ينالها بالقوة والغصب، وبالتالي عدم ثبوت البيعة بالقوة والغلبة والقهر. وهو المبدأ الذي أستند عليه الإمام مالك بن أنس في فتواه لأهل المدينة حينما استفتوه في الخروج مع ذي النفس الزكية فأفتاهم مالك بالجواز، لأن بيعتهم لأبي جعفر المنصور كانت تحت الإكراه، ولا بيعة لمكره. فلما أفتاهم مال الناس مع محمد ذي النفس الزكية وبايعوه، وقاتلوا معه. وقد عُذب مالك لهذا السبب. وهو الأمر الذي يوضح بطلان خلافة من تصدى للإمامة واغتصبها بطريق القهر والقوة وقهر الناس بشوكته وجنوده، وإن كان جامعاً لشرائطها، ففي ذلك استيلاء على حق الأمة بالقوة. " لقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن الإمامة إنما تكون بعقد البيعة بعد الشورى والرضا من الأمة، كما أجازوا الاستخلاف بشرط الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام، وعقد الأمة البيعة له بعد وفاة من اختاره دون إكراه. كما أجمعوا على أنه لا يسوغ فيها التوارث ولا الأخذ لها بالقوة والقهر، وأن ذلك من الظلم المحرم شرعاً"
وإذا نظرنا إلى الكيفية والطريقة التي بواسطتها وبناءً عليها ذهب فقهاء أهل السنة والجماعة إلى القول بتجويز انعقاد الخلافة بعهد التولية ـ حيث جوزوا أن يعهد الخليفة لابنه من بعده أو أخيه، أو يعهد لأكثر من واحد من أبنائه بعد ترتيب الخلافة بينهم ـ لوجدنا أن آليتهم في ذلك إنما تتمثل في قيامهم باستنباط ذلك من الطرائق التي بواسطتها تم اختيار الخلفاء الراشدين، وجعلوها حسب زعمهم قواعد للكيفية التي يتم بها تنصيب الخليفة وهي: الاختيار، والعهد، ومتأخراً أضافوا القهر والقوة كطريق ثالث لانعقاد الخلافة. إلا أن نتائج ما توصلوا إليه بواسطة آلية قياسهم واستنباطهم إنما كانت نتائج خاطئة ومشوهة لأنها بنيت على مقدمات فاسدة وخاطئة من الأساس. فلو رجعنا مثلاً إلى خلافة الخليفة الراشد الثاني التي استنبطوا على أساسها قولهم: تنعقد الخلافة بالعهد، لاحظنا أنهم سكتوا عن رأي الأمة وموافقتها على هذا العهد. فالعهد كما نفهمه إنما هو مجرد ترشيح ليس إلا، ولا تنعقد به الخلافة إلا إذا بايع المسلمين، فإن حدث واعترض المسلمين فلا يصح انعقاد الخلافة. ونذكر في هذا الخصوص، أنه " لما أراد معاوية أن يبايع الناس ابنه يزيد سنة 56هـ، ويعهد إليه من بعده، اعترض عليه كبار الصحابة وفقهاؤهم في تلك الفترة، وهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر، والحسين بن علي. وقد كان أشدهم عليه عبد الرحمن بن أبي بكر، فقد قطع على معاوية خطبته وقال له: إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين، أو لنعيدنها عليك جذعةـ أي الحرب ـ ثم خرج" وهو ما حدث، فبعد موت معاوية وتولية ابنه يزيد، خرج عليه الحسين بن علي ومن ورائه أهل العراق، فأرسل إليهم يزيد جيشاً فقاتلهم وقتل الحسين بن علي سنة 61هـ. ونقض أهل المدينة بيعته وخرجوا عليه. وخرج عليه أهل مكة وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير، فقاتلهم جيش يزيد. وما نريد التنبيه عليه هنا أن صحابة رسول الله كانوا على رأس الخارجين على يزيد، وقد كان مطلبهم الأساسي هو أن يعود هذا الأمر شورى بين المسلمين. أن الذين خرجوا دفاعاً عن مبدأ الشورى كانوا فقهاء الصحابة وأفضلهم في ذاك الزمان ورعاً وعلماً وتقوى، وحاربوا من أجل ذلك وقتلوا. وهم بذلك جوزوا الخروج على الحاكم المغتصب للسلطة، ودعوته إلى خلع نفسه وإلا وجب قتاله حتى يعود مبدأ الشورى في أمر حكم المسلمين، وأنه لا بيعة ولا طاعة لإمام اغتصب حق الأمة في اختيار من يدبر شؤونها.
من جهة أخرى، كان المطلب الرئيسي للثوار الذين ثاروا على الخليفة الراشد الثالث يتمثل في أن يتنازل الأخير عن الخلافة، ويُرجع الأمر إلى الأمة لكي تختار من تراه مناسباً. " دعا عثمان رضي الله عنه الأشتر النخعي ـ وهو أحد قادة الثوارـ فقال له عثمان: يا أشتر، ما يريد الناس مني؟ فقال: ثلاث ليس لك من إحداهن بُدّ؟ قال عثمان: ما هن؟ قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم، فتقول هذا أمركم فاختاروا له من شئتم. وبين أن تقص من نفسك، فإن أبيت فإن القوم قاتلوك. قال عثمان: أما من إحداهن بُد؟ قال: لا، ما من إحداهن بُد. قال عثمان: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله" وبعد مقتل الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان، بايع المسلمون علي بن أبى طالب إلا بعض الصحابة المنادين بتطبيق القصاص في قتلة عثمان. وكانت واقعة الجمل التي انتصر فيها سيدنا علي على طلحة والزبير، وبعدها جاءت واقعة صفين والتي حارب فيها علي معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص، وكاد أن ينتصر عليهما لولا خدعة التحكيم حيث رفع جيش معاوية المصاحف فوق أسنة الرماح طلباً للتحكيم، حيث اختار أصحاب علي أبى موسى الأشعري واختار معاوية عمرو بن العاص، واتفق عمرو مع أبى موسى على خلع علياً ومعاوية، فتقدم أبى موسى فخلع علياً وتقدم ابن العاص وأقر معاوية. وبعد واقعة التحكيم خرج على سيدنا علي طائفة سموا ب(الخوارج) لقبوله بتحكيم الرجال ورأوا أن الحكم لله، وأن الخلافة يجب أن تكون بانتخاب حر بين عامة المسلمين. ورأوا أن الخليفة إذا جار وظلم يجب عزله وخلعه بل والخروج عليه وقتله إذا أبى أن يتنازل عن عرش الخلافة.
وها هو سيدنا عمر بن الخطاب حينما ألت الخلافة له، وبعد أن بايعه عامة المسلمين، يقول في أول خطبه: " ... وأن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني..." فوقف أحد عامة المسلمين ورد عليه بالقول: " والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا" وكان رد عمر بليغاً، إذ قال: " الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه" وفي ذات السياق يرد حديث رسول الله (ص): " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وقوله صلى الله عليه وسلم: " سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"
3/ الثورة هل هي فتنة كما يروج إلى ذلك فقه السلطان؟!
بالنسبة للعبارة القائلة ـ والتي روج لها الفقه السلطاني ـ أن العيش في ظلم ولي الأمر خير من الخروج عليه خاصة إذا كان يؤدي إلى إحداث فتنة. هذا القول يُقال عندما يتقاتل الناس ولا يعرف فيهم المحق من المبطل. والمشهور من مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كانوا ظلمة وفجرة، وحجتهم في ذلك: أن الفساد في القتال والفتنة أعظم من فساد الحاكم الجائر الحاصل بدون قتال ولا فتنة. وعلى ذلك فإن منطق مذهب أهل السنة والجماعة هنا يتمثل في أنه لا يجوز إزالة الضرر بضرر أكبر منه، ومن شروط تغيير المنكر ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه. يترتب على هذا القول نتيجة فحواها أن الخروج على الحاكم الجائر فتنة. وهي نفس الحجة التي تذرع بها فرعون في تصديه لموسى عليه السلام الذي خرج (ثائراً) عليه، زاعماً أنه يخاف أن يفتنهم موسى عن دينهم وينسف استقرارهم ووحدتهم: ( وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) غافر:26 وفي قوله تعالى: ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) الأعراف:127 وفي ظل هذا السياق يُطرح التساؤل التالي: هل صحيح أن الثورة فتنة؟!
ويمكن تلمس الإجابة على التساؤل السابق بمجموعة أخرى من التساؤلات التي تتضمن إجاباتها: هل يمثل الخروج على الحاكم الجائر بقصد إزالة فساده وظلمه فتنة؟! ألا يؤدي الصبر على جور الحكام والسكوت على سياساتهم الظالمة في الواقع إلى فساد أعظم وشر أكبر؟! أليس الجور والظلم شر وفتنة أعظم من فتنة الخروج عليه؟! وماذا عن الثورات الشعبية السلمية، هل تمثل هي الأخرى فتنة؟
ونتساءل: ألا يدخل مقاومة الطغيان ومحاربة الاستبداد السياسي تحت مظلة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهل هناك فتنة ومنكر أعظم من فتنة الجور السياسي والفساد المالي والإداري؟
إذن، تحت مظلة (الخوف من الفتنة) قدم الفقه السياسي الإسلامي (شرعية الثورة، وسيادة الأمة) كبش فداء لحساب وحدة مزعومة للمسلمين تتأسس على القهر والطغيان، مأسساً بذلك شرعية اللا شرعي أصلاً، ومانحاً حقوق الطاعة والنصح والنصرة لسلطة غير شرعية، ومشرعاً للسلطة الغاصبة والمستبدة ومبرراً لظلمها وجورها. والحق أنه لا فتنة أكبر من الاستبداد والجور والطغيان، وهو الأمر الذي تلخصه كلمات الثائر الحسين بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية بن أبى سفيان، التي يقول فيها الحسين: " وما أظن لي عند الله عذراً في ترك جهادك، ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة"
ثالثاً: عن الديمقراطية وثقافة الديمقراطية:
الديمقراطية في الأصل كلمة يونانية ترجمتها الحرفية حكم الشعب أو سلطة الشعب. وليس هناك اتفاق حول تعريف جامع مانع لها، وإن كان ثمة تعريف شائع يُعرف الديمقراطية بأنها حكم الشعب بالشعب للشعب، وعلى ذلك فالشعب هو مصدر السلطة وصاحب السيادة في نظام الحكم الديمقراطي. وقد عرفت الديمقراطية صوراً وأشكالاً عديدة، فمثلاً تنقسم الديمقراطية حسب كيفية ممارسة الشعب للسلطة إلى ديمقراطية مباشرة وديمقراطية غير مباشرة (نيابية) وديمقراطية شبه مباشرة: الأولى يمارس فيها الشعب السلطة بنفسه وبشكل مباشر دون وساطة ودون تمثيل، في مقابل الثانية التي ينتخب فيها الشعب من ينوب عنه ويمثله في ممارسة السلطة، وأخيراً الديمقراطية الغير مباشرة التي تجمع بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية، ومن أهم وسائلها الاستفتاء الشعبي والاقتراح الشعبي والاعتراض الشعبي وحق الناخبين في عزل النائب قبل انتهاء مدته.
من ناحية أخرى، يرتبط مفهوم ثقافة الديمقراطية برابطة قوية بجملة مفاهيم/أدوات: الحزب، مؤسسات المجتمع المدني، مؤسسات التنشئة الاجتماعية، الأسرة، المدرسة، النادي، المسجد، الدين، التربية، التعليم، التثقيف المدني، أجهزة الإعلام، الترشيح، الانتخاب، الاقتراع، الشارع، الرأي العام، المجتمع المدني، المعارضة، المسيرة، التظاهرة، الانتفاضة، الاحتجاج، العصيان المدني، الإضراب، الصراع السلمي والتنافس حول السلطة، التداول السلمي للسلطة، قوى الضغط، حقوق الإنسان، حقوق الأقليات الدينية والأثنية، المواطنة، الحريات، حرية التفكير والتعبير والمعتقد، الحوار والتواصل، قبول الآخر، الاعتراف، التسامح، النضال اللاعنفي، السلم الاجتماعي والسياسي، التحديث والعصرنة..الخ.
وثمة تمييز ما بين الديمقراطية من جهة أولى ـ كشكل تنظيمي وكصيغة للحكم وكمجموعة من القواعد والعمليات الإجرائية ـ وثقافة الديمقراطية من جهة ثانية. وثمة علاقة طردية تربط ما بين الاثنين إلى الدرجة التي يُمكن أن نقول معها أن أية تجربة ديمقراطية يتوقف مدى ما تحرزه من نجاح وتقدم أو إخفاق وفشل على مدى وعي الفاعلين الاجتماعيين بالديمقراطية فكراً وسلوكاً، فمثلاً قرار التصويت: أيكون للحزب أم للشخص أم للبرنامج الانتخابي، يتوقف ذلك على درجة الوعي الديمقراطي عند الناخب، فالذي يصوت على أساس البرنامج الانتخابي ثقافته الديمقراطية أعمق من الذي يدلي بصوته للحزب أو للشخص. وديمومة الديمقراطية نفسها كصيغة للحكم واستمرارها يتوقف على الوعي الجمعي ـ بضرورتها وأهميتهاـ الذي يشكل خط الدفاع الأول المقاوم لأي تحرك مضاد يستهدف تقويض التجربة الديمقراطية والعودة بالمجتمع إلى مربع الاستبداد.•
هناك علاقة عكسية تربط ما بين ثقافة الديمقراطية من جهة والاستبداد بكافة أشكاله من جهة ثانية، فكلما تغلغلت الديمقراطية وعياً وسلوكاً وتجذرت في الوعي الجمعي وترسخت في النسيج النفسي الفردي والاجتماعي كلما تقلصت مساحة الاستبداد. وكلما زاد الوعي الديمقراطي في بنية مجتمعية ما كلما قلّت فيها مساحة التشدد والتطرف بأنواعه المختلفة.
وعلى ذلك فبالإمكان معرفة إلى أي مدى يمكن وصف الثقافة السياسية في مجتمع ما أو في بلد ما بأنها ثقافة ديمقراطية، وذلك بالنظر إلى ما هو سائد فعلاً من قيم سياسية ومن اعتقادات ومواقف وتصورات فيما يتعلق بالحياة السياسية، وبظاهرة السلطة وبالنظام السياسي وبالصيغة التنظيمية للعلاقة التي تجمع بين الحاكم والمحكومين وبالكيفية التي (يفسر) بها المحكومين الدور المنوط بالحاكم القيام به..الخ. فهذه كلها معايير يمكن على ضوئها وصف نمط الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما ومعرفة ما إذا كانت هذه الثقافة مشبعة بالروح الديمقراطي أم أنها تحتضن جرثومة الاستبداد والتسلط؟ وترتبط ثقافة الديمقراطية في تشكلها بذاكرة المجتمع وبتاريخه وتقاليده ومعتقداته وقيمه ومفاهيمه والكيفية التي يُفكر بها. كما تُسهم مؤسسات التنشئة الاجتماعيةـ الأسرة، القبيلة، المدرسة، المسجد، النادي، وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة..الخ ـ إن سلباً أو إيجاباً في الثقافة السياسية، لتنتج لنا في النهاية ثقافة سياسية ذات مضمون ديمقراطي أو ثقافة تسلطية استبدادية، وبالتالي تُسهم إما في دفع التطور الديمقراطي إلى الأمام أو إلى الخلف.
1/ الديمقراطية وفقه التكفير:
في ثقافتنا السياسية تتردد كثيراً من المقولات التي ترى في الديمقراطية خطراً على الدين الإسلامي. وهناك تيارات معاصرة لها وزنها ترى أن الديمقراطية بمعناها الحديث: وهو حكم الشعب للشعب بالشعب، تتناقض مع جوهر الإسلام، ويرون من وجهة نظرهم بأن " الديمقراطية والمجالس النيابية هي من دين الكفار وأهوائهم، والرضا بها دخول في دينهم وإتباع لملتهم وخروج من ملة الإسلام" بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك بإصدارهم لحكم قاطع جازم تلخصه لنا أحد بيانات تنظيم قاعدة الجهاد•بالكلمات التالية: " إننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة. وأن من اعتقدها أو دعى إليها أو أقرها ورضيها أو حسنّها فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين" ويعنّون حزب التحرير الإسلامي إحدى منشوراته بالعنوان التالي (الديمقراطية نظام كفر يُحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها) ويعبر عن وجهة نظره في افتتاحية المنشور السابق بالقول: " الديمقراطية التي سوّقها الغرب الكافر إلى بلاد المسلمين هي نظام كفر، لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. وهي تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضاً كلياً في الكليات وفي الجزئيات، وفي المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، وفي الأفكار والأنظمة التي أتت بها. لذلك فإنه يُحرم على المسلمين أخذها، أو تطبيقها، أو الدعوة لها تحريماً جازماً"
وبشكل عام يمكن إجمال وجهة نظر التيارات الإسلامية المناهضة للديمقراطية وما يأخذونه عليها عبر النقاط التالية:
أ/ الديمقراطية تعني رد أي نزاع أو خلاف بين الحاكم والمحكوم إلى الشعب وليس إلى الله والرسول. وهذا مغاير مناقض لقوله تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) بينما الديمقراطية تقول: فحكمه إلى الشعب. وقال تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء (59)، فجعل الله عز وجل من لوازم الإيمان رد النزاع ـ أي نزاع ـ إلى الله والرسول، أي الكتاب والسنة. وبذلك فهم يرفضون مبدأ (حكم الشعب) بدعوى أن الحكم لله.
ب/ الديمقراطية نظام مخالف للإسلام، حيث يجعل سلطة التشريع للشعب، أو من ينوب عنهم (كأعضاء البرلمان)، وعليه: فيكون الحكم فيه لغير الله تعالى، بل للشعب، ونوابه، والعبرة ليست بإجماعهم، بل بالأكثرية، ويصبح اتفاق الأغلبية قوانين ملزمة للأمة، ولو كانت مخالفة للفطرة والدين. وهذا مغاير ومناقض لأصول الدين والتوحيد وهذا عندهم مغاير لمبدأ: أن التشريع أو الحاكمية لله تعالى.
ج/ الديمقراطية ـ وفقاً لمنظورهم ـ قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي، فالأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله. ويرد مفكر إسلامي معاصر على هذه المخاوف بالقول: " وما تخوفه البعض هنا أن الديمقراطية تجعل الشعب مصدراً للسلطات، حتى التشريعية منها، لا ينبغي أن يُخاف هنا لأن المفترض أننا نتحدث عن شعب مسلم في أغلبيته، فقد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فلا يتصور منه أن يصدر تشريعاً يخالف قطعيات الإسلام، وأصوله المحكمات" ويواصل القرضاوي تفنيده لمخاوف بعض الإسلاميين من الديمقراطية بالقول: " الأدوات والضمانات التي وصلت إليها الديمقراطية هي أقرب ما تكون إلى تحقيق المبادئ والأصول السياسية التي جاء بها الإسلام لكبح جماح الحكام، وهي: الشورى، والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورفض الطاعة عند الأمر بمعصية، ومقاومة الكفر البواح، وتغيير المنكر بالقوة عند الاستطاعة، فهنا تبرز قوة السلطة السياسية القادرة على سحب الثقة من أية حكومة تخالف الدستور، وكذلك قوة الصحافة، والمنبر الحر، وقوى المعارضة، وصوت الجماهير"
2/ ثقافة الديمقراطية وطرائق التفكير الفقهي:
التساؤل الأساسي الذي نصدر منه في مقاربتنا لهذا العنوان، إنما يتمثل في التالي: هل تستبطن وتحتضن طرائق النظر والتفكير الفقهي بذرة ثقافة الديمقراطية داخل بنيتها الفكرية أم لا؟ وبالتالي هو تساؤل عن جملة المبادئ الأولية والمسلمات الابتدائية التي يشيّد على أساسها العقل الفقهي كل أنسقته ومضامينه، وعما إذا كانت هذه المبادئ تؤسس وتجذر لثقافة الديمقراطية.
إذا نظرنا إلى الكيفية التي من خلالها يتعاطى العقل الفقهي مع موضوعه، لوجدناه يتعامل مع المنتوج المعرفي انطلاقاً من معايير التمييز ما بين الحلال والحرام أو ما بين الإيمان والكفر. ونجد أن أنصار كل مذهب من المذاهب الإسلامية المتعددة كانوا يرون أن مذهبهم هو الحق وما عداه الباطل بل وصل بهم الحال لأبعد من ذلك، فالمطالع لكتب التاريخ الإسلامي يجد " كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعماً أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش، والأشعري يكفره زاعماً أنه مشبه وكذّب الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعري يكفر المعتزلي زاعماً أنه كذّب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعماً أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ....فينكشف لك غلوّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا"
وهو الشيء الذي يعني أن منهجية التناول التي تحكم طرائق التفكير والنظر الفقهي تقوم على نقض وتجريم الأطروحات أو المذاهب أو النظريات المغايرة والمختلفة مع ما تدعيه وما تتبناه من آراء وأفكار. وهي بدون شك ممارسة تتبنى موقفاً معرفياً يقدم لنا نصه على أنه في غاية الإحكام والوثوق والوضوح. وبالتالي فهو نص يمارس نبوته ورسوليته على بقية النصوص، ويختزل ما يقوم بتحليله من خطابات مغايرة له، اختزلاًً يصل إلى حد الإلغاء. على ذلك فهي طريقة في التفكير تدعىّ أنها تنتج قولاً محكماً متطابقاً مع مقصدية النص الديني الإسلامي في شقيه القرآني والنبوي، فيما هو قول يمارس فيما ينطق به من حقائق شيئاً من الإسقاط والاستبعاد والتزييف والطمس والنسخ.
وبالرغم من اختلاف المذاهب الفقهية وتباينها وتعددها، إلا أن طرائق تفكيرهاـ التي على أساسها تتشيد أنظمتها الفقهيةـ قائمة على نهج واحد في طلب الحقيقة، حيث تتعامل مع الأقوال المعرفية من خلال ثنائية الأيمان والكفر. وهذا المنطق الثنائي في التفكير يخبرنا أن ليس ثمة في الأفق سوى طريق واحد بمقدورنا إن سلكناه أن نصل إلى الحقيقة المتمثلة فيما أراد الله قوله من خلال النص القرآني. وهي مناهج تتبع طريقة في التعبير عن الحقيقة أحادية الاتجاه وأحادية المعنى، وهذه الأحادية أوضح ما تكون في مفاهيمها وتصوراتها وتفسيراتها وتأويلاتها، التي تدعي أن خطابها هو وحده الخطاب الصحيح، وأن طريقها هو وحده الصراط المستقيم، فالطريق إلى الحق واحدُ وليس متعدداً ما دام إنتاج الحقيقة يتم بطريقة واحدة. وهو بذلك منهج يتبنى موقفاً معرفياً يرى في خطابه كل الإيمان، ويرمي بالكفر كل من هو خارج دائرته، وهو بممارسته لهذا الإقصاء إنما يصدر عن نزعة اصطفائية وعن نزعة مركزية، تنزه نفسها عن السلب والنقص والخطأ وترد ذلك كله إلى نصوص الغير. وهاهو ابن رشد يقول في ذات السياق: " فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى، كل الاضطراب، في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة. كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال. وهذا كله عدول عن مقصد الشارع. وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة... وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزّلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قُصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر أو مبتدع"
وعلى ذلك فإن المنطق الذي يحكم طرائق النظر ومنهجيات التناول عند العقلية الإسلامية قائم على منطق الهوية الدائري المنغلق على ذاته الذي لا ينفتح على الاختلاف والمغايرة والضدية، وبذا تتمركز الحقيقة والإيمان في نظره داخل دائرته المغلقة، أما الآخرون الواقعون خارج الدائرة فإنهم يدمغون بالباطل والكفر. إنه يستبعد من المحيط المعرفي كل ما لا يتفق مع ما يعتقد به أو يعرفه عن المعرفة فهو يتحدث بلغة جازمة قاطعة، قائلا لك: هذا ما أجازه النص وهذا ما لم يجزه. وهو إذ يفعل ذلك فانه لا يرى في مقولاته مجرد وجهة نظر قد تكون صائبة أو خاطئة من بين وجهات نظر أخرى في المعرفة، إنه يقول لك باختصار: هذا هو رأي النص في هذه المسألة وما عداه مرفوض يستحق الإدانة والتجريم. وبالتالي هو منطق في التفكير يرى قوله مطابقاً للقول الإلهي الذي يشرحه ويفسره من خلال مقولاته وأفكاره، ولذلك فهو عندما ينتقد الآخر فإنه يقصيه من دائرة الإيمان، لا لسبب سوى أنه لم يكن متطابقاً مع مقولاته وأفكاره، وينفيه لأنه اجتهد وفكر، ولم يكن تابعاً مقلدا لمذهبه.
وخير نموذج تطبيقي لما سبق ذكره يتمثل في رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين: " على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج (أي منهج الإخوان المسلمين) كله من الإسلام، وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة." على هذا كله، يقوم، بشكل ضمني أو صريح، ادعاء الباحث الإسلامي بأن حديثه في المعرفة الإسلامية يمثل وجهة نظر الإسلام الحقيقي الأصولي، أي يعبر عن النهج الإسلامي الصحيح الذي ينبغي على المسلم الحق إتباعه في طلب العلم والمعرفة. وبناء عليه، فإنه يجيز لنفسه أن يقرر ويفصل على نحو حاسم بين ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي، بين ما يوافق عليه الإسلام وما لا يوافق عليه، معتبراً أن كل من يخالف ذلك، أي وجهة نظره وقراءته في النصوص والأحداث، لا يصدر عن وجهة نظر إسلامية، أو لا ينتمي إلى الإسلام بالمرة، ومن ثم يستحق الإدانة والرفض بل التجريم. وفي ذات السياق، يقول باحث إسلامي: " إن الجماعة بهذه المبادئ التي وضعتها تصادر الدين لمصلحتها، فيكون من لا يواليها خارجاً على الإسلام ذاته، كما أن القول بالولاء الوحيد للجماعة يعني فيما يعني الحرص على الاستقلال والذاتية وألا يحترم الإخوان إلا أهداف جماعتهم كتنظيم، وبالتالي تسعى الجماعة للسيطرة على الإسلام لا للاتصاف به فقط، كما أنها تشير إلى أن هناك تنظيماً سياسياً يسعى لاحتواء الإسلام كدين".
وهاهو سيد قطب في كتابه:(معالم في الطريق) يقول: " نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم " ، ويقول في موضع آخر، واصفاً وضعية المجتمع الإنساني المعاصر: " ليست هناك حاكمية مطلقة لله، وبالتالي فليست هناك إلوهية مطلقة ومن هنا فالمجتمع كله جاهلي، وفي إطار الجاهلية تدخل المجتمعات الشيوعية، والمجتمعات الوثنية، والمجتمعات اليهودية والنصرانية والمجتمعات الإسلامية في خاتمة المطاف!" . وفي موضع ثالث يتحدث عن وظيفة الإسلام فيقول: " ليست وظيفة الإسلام – إذن – أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، والأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان، لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون وظيفته اليوم ولا في المستقبل، فالجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده، وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم، والقوانين والشرائع، والعادات، والتقاليد، والقيم، والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي. الإسلام هو الإسلام ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام. الجاهلية: هي عبودية الناس للناس بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع. والإسلام هو عبودية الله وحده، بتلقيهم منه وحده تصوراتهم، وعقائدهم، وشرائعهم، وقوانينهم، وقيمهم، وموازينهم والتحرر من عبادة العبيد". وأخيرا يصدر حكمه القاسي على المجتمعات الإسلامية المعاصرة فيقول: " إن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره". الداعية الإسلامي "سيد قطب" في قراءته: نرى أنه بمنهجه هذا، يستبعد من المحيط الإسلامي كل ما لا يتفق مع ما يعتقد فيه أو يعرفه عن (المعرفة الإسلامية). وهو إذ يفعل ذلك، فإنه يسكت أولاً عن جزئية نظرته التي لا يمكن أن تتساوى بالإسلام، فكيف أن تستغرقه، لأنها لا تعدو كونها مجرد وجهة نظر من بين وجهات نظر أخرى في المعرفة الإسلامية وفي المعرفة عامة. وهو أيضاً يسكت عن اختلاف قراءته وعن خلافيتها (أي كونها موضع خلاف)، أي كونها مجرد قراءة للإسلام وفيه، يمارس عبرها (سيد قطب) فهمه للإسلام. إنه " المنطق الذي يحكم العقل العقائدي والأيديولوجي عامة، أكان كلامياً أم لاهوتياً، دينياً أم علمانياً إنه منطق الاستبعاد: استبعاد كل رأي مخالف وكل موقف معارض، ينبني على استبعاد آخر هو الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة متعالية كلية، يشف عنها الخطاب ويمكن أن تعرف على نحو كلى يقيني ونهائي، أي استبعاد أن تكون الحقيقة، وبخاصة الحقيقة الدينية العقائدية، مشروطة، متغيرة، مصنوعة، أي مختلفة باختلاف اللغات والنصوص، وباختلاف التجارب والممارسات".
وواضح جداً مما سبق ذكره، أن تبني مثل هذه المناهج والطرائق في التفكير، محصلته الأخيرة هي التجذير لثقافة الاستبداد والحرب والترسيخ لمفاهيم التكفير وسيادة لغة العنف واتخاذها وسيلة لفرض تصوراتنا عن الحقيقة، بديلاً لثقافة الديمقراطية والسلام وقبول الآخر وقيم التسامح. وواضح جداً أن النتائج النظرية والعملية المترتبة علي المقدمات والمسلمات النظرية التي شيدها العقل الفقهي الإسلامي وأقام على أساسها كل مضامينه المعرفية لا تؤسس نظرياً لكل ما من شأنه أن يعلي من ثقافة الديمقراطية. وعلى المستوى الأخلاقي، فإن نموذج التفكير السابق في استبعاده للآخر " ليس مجرد موقف نظري، وإنما هو موقف له وظيفته السلطوية، وهي الحفاظ على وحدانية المرجعية باحتكار المشروعية. فالنموذج العقائدي لا يقر للغير بأي مصداقية أو مشروعية، لأن من شأن هذا الإقرار زعزعة سلطته العقائدية، أي التشكيك بيقينية معتقده الأمر الذي يفقده مبرر دعواه ودفاعه. ولهذا فهو لا يقبل بطبيعته التعدد والاختلاف. والحال فإنه إذا كان لكل أن يمتلك حق الاختلاف، في المعتقد، وممارسة اختلافه بوصفه مبرراً ومشروعاً، فإن مآل ذلك تعدد المشروعيات والمرجعيات، ومن ثم القضاء على وحدانية الحقيقة اليقينية التي يدعى امتلاكها وحراستها أرباب العقائد وأمناؤها المدافعون عنها".
ليس في مقدور مثل هذه المناهج إضافة الجديد المعرفي والفكري، وليس في وسع مثل هذه الطرائق في التفكير أن تسهم في تجديد أفكارنا ولا تطويرها، وليس بإمكانها أن تعمل على ترسيخ ثقافة الديمقراطية داخل البلدان العربية الإسلامية، بل على العكس وعلى النقيض من ذلك فهي وحسب تركيب بنيتها ترى الاختلاف والمغايرة بوصفهما ابتداعاً وانحرافاً ينبغي فضحهما وإدانتهما، وبالتالي فهي تنظر إلي الاختلاف بوصفه ضلالاً أو انحرافاً، لا بوصفه مذهباً آخر أو اجتهاداً آخر أو وجهة نظر أخرى. وهي بذلك تقدم نموذج قراءة ترفض المعرفي الآخر بحجة مخالفته لمعتقدها وبالتالي لجوهر النص, بينما في الحقيقة لا يتعارض إلا مع مفهومها الخاص للنص ومع قراءتها له. وبالتالي تنكر على الغير حقه في الاختلاف معه. وعلى ذلك فإن طرائق النظر هذه تقدم لنا قراءة تضفي صفة الصحة المطلقة على خطابها وفي الوقت ذاته تنفيها عن سائر القراءات المغايرة، قراءة ترى في ذاتها الإيمان الكامل وترى فيمن خالفها الكفر البواح. وهي في طبيعتها ترى أنها تقدم براهين قاطعة على المسائل التي تعالجها وأنها لا تقدم مجرد حلولٍ وإنما حلولاً ناجزة ونهائية وأخيرة للمشكلات التي تنظر فيها. وفي المقابل فإنها تنظر إلى نتائج مقدماتها على أنها تمتلك اليقين والثبوتية وبالتالي فهي وحدها القراءة الجديرة بأن تبحث وتقرر وتبرهن وتقطع. وهذا يؤدي بدوره إلى إلغاء الآخر المختلف معرفياً معها وإقصائه ونبذه ونفيه وتجريمه، وهو الأمر الذي يتنافى ويتناقض مع ثقافة الديمقراطية ولا يشجع على حرية الفكر، ولا يدعم قيم الحوار المتمدن ولا يعمل على تعزيز السلوك الديمقراطي. هذا يعني أن النموذج التفكيري السابق لا يمكن أن يرسخ وليس في مقدوره أن يجذّر لثقافة الديمقراطية– نظرياً وعملياً– لأنه على الضد من ذلك، فهو يؤول إلى وحدانية السلطة وإلى ممارسة الاستبداد والطغيان، بمعنى أنه ليس في مقدوره أن يمارس سلطة مفتوحة قابلة للنقاش، وهو بذلك لا يحترم ولا يفسح المجال لمعتقدات الآخرين ولا لأفكارهم ولا يعترف بحق الآخر في الاختلاف معه، فهو عقل قائم ومبنىُ على مسلمات دوغمائية وعلى بداهات أحادية مغلقة لا تتيح حرية التفكير والاعتقاد ولا تعترف بحق الآخر في أن يكون ما يراه، وهو بالتالي نموذج لا يفرخ إلا مواطناً مسلوب الإرادة لا يملك ذاته، وهو بذلك يفرض وصايته على الآخر الذي ينظر إليه باعتباره قاصراً.
و
يمكن تلخيص مجمل ذلك في: " هناك من يعتبر الشورى
معلِمة لا ملزِمة، ومن يمنح رئيس الدولة حق إعلان الحرب وعقد المعاهدات دون الرجوع
إلى ممثلي الأمة... ومن يرى الديمقراطية كفراً أو سبيلاً إلى الكفر! ومن يرى أن
المرأة لا مكان لها في سياسة الأمة، وأن مكانها البيت لا تخرج منه إلا إلى بيت
الزوج أو القبر، وأن ليس لها حق التصويت والشهادة في أية انتخابات ولا أن تُرشح
نفسها لمجلس بلدي أو نيابي. ومن يرى أن التعدد أو التعددية أمر يرفضه الإسلام، ولا
يجوز إنشاء أحزاب أو جماعات أو هيئات لها رؤية أو رأي سياسي داخل الدولة
المسلمة" بل أن هناك حركات إسلامية ترى أن " تعليم المرأة حرام، وأن
اللجوء إلى الانتخابات لاختيار ممثلي الشعب أو رئيس الدولة حرام، وأن تحديد مدة
رئيس الدولة حرام، وأن القول بأن الشورى ملزمة حرام"
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire