Tunisiens Libres: الإسلام بين النقل والعقل:أو لماذا إنتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي وتجاهلوا ابن رشد؟

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

samedi 15 mars 2014

الإسلام بين النقل والعقل:أو لماذا إنتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي وتجاهلوا ابن رشد؟


الإسلام بين النقل والعقل:أو لماذا إنتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي وتجاهلوا ابن رشد؟






طارق حجي
الحوار المتمدن-العدد: 2498 - 2008 / 12 / 17 - 09:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
 خلال السنواتِ ما بين 1967 و 1973 (وهي سني دراستي لدرجتي الليسانس في الحقوقِ والماجستير في القانون العام والمقارن) تعرفتُ معرفةً مبدئيةً على "علمِ أُصولِ الفقه". وفي سنواتٍ لاحقةٍ (كنت أقوم خلالها بالتدريس بجامعاتٍ بالخارجِ) عكفتُ على دراسةٍ واسعةٍ لعلمِ أُصولِ الفقه – وخرجتُ عن دائرةِ المذاهبِ السنيِة الأربعِة لشتى مذاهبِ الفقه الشيعي (وأهمها فقه الأمامية) ولسائرِ مذاهبِ فقه الخوارج بفرقهم الأربع الرئيسية (وأهمها فقه الإباضية الذائع في منطقةٍ صغيرةٍ بالجزائر وفي معظمِ سلطنِة عُمان) ومدارسٍ أُخرى في الفقه إندثرت (مثل فقه الطبري صاحب التفسير المشهور باسمه وفقه الليث). وقد أخذني التوغلُ في دراسِة أُصولِ الفقه لعوالمٍ أُخرى لصيقة الصلة بهذا المجال لعل أهمها "علم الكلام" (أو الفلسفة الإسلامية) – إذْ أَوغلتُ في مطالعةٍ متأنيةٍ لما أبقاه الزمنُ من آثارِ المعتزلِة والأشاعرِة …كما كان لصديقٍ مقربٍ (هو الدكتور محمود إسماعيل) أثر كبير في تعريفي على عوالمِ ما يُسمى بالفرقِ الباطنيةِ في التاريخ الإسلامي (وهذا الصديق من أكثر من قرأت له تعمقاً في فكرِ الخوارجِ والقرامطِة وعددٍ كبيرٍ من الفرقِ السريِة "حسب تسميته" في تاريخ المسلمين). وخلال رحلةٍ إستغرقت نحو عشرين سنة تكوّن لدي نفورٌ قويٌ من الذين أُسميهم "عبدة الحرف" و "أسرى النقل" ؛ كما تكون لدي ولعٌ شديدٌ بأصحابِ العقلِ وفي مقدمتهم "إبن رشد" الذي إستفادت منه أوروبا وخسرناه نحن (وخسرنا معه فرصةً تاريخيةً للتقدمِ). ورغم مطالعتي المدققة لكلِ آثارِ ابن تيمية وأعلام مدرسته (من ابن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي) – فلم تزدن تلك المطالعةُ إِلاَّ نفوراً من هذا التيارِ الكاسحِ وفي نفسِ الوقتِ زاد ولعي من جهةٍ بالمعتزلةِ ومن جهةٍ أُخرى بمن قطعوا رحلةً طويلةً على "دربِ العقلِ" مثل ابن سينا والفاربي …ثم بإمامِ أهلِ العقلِ قاطبةً "ابن رشد".
وعندما كنتُ أعكف على مطالعة أَعمالٍ للغزالي مثل (إحياء علوم الدين) و(معيار العلم) و(معيار العمل) و(المنقذ من الضلال) و (المستصفى من علم الأصول) و (تهافت الفلاسفة) وأُقارن قدر ما بها من "بُعد عن العقل" وما بكتابات ابن رشد من "ثقل عقلاني هائل" كنت أُذهلُ: كيف نالت كتاباتُ "الغزالي" كل هذا التقدير(المبالغ فيه إلى أبعد الحدود) وكيف نالت كتابات "ابن رشد" كل هذا التجاهل (المبالغ فيه إلي أبعد الحدود): ويكفي أَن يعكف قارئٌ جادٌ على مطالعةِ كتابِ (تهافت الفلاسفة) للغزالي ثم يعقب ذلك بمطالعته لكتاب ابن رشد (تهافت التهافت) ليرى البونَ الشاسع في العمقِ وإِعمالِ العقلِ. كذلك ما أكثر ما تساءلت: كيف أخفى مؤرخو الفكر الإسلامي مواقفَ الغزالي المؤيدة للحكام المستبدين بشكلٍ مفرطٍ؟ …وفي المقابل: فقد كان "ابنُ رشد" مصدرَ ألمٍ دائمٍ للحكامِ المستبدين الراغبين في (تنويم العقول) لأن في ذلك الضمانة الكبرى لأمرين: بقاء الأَحوال على ما هي عليه ثم بعدهم عن المسائلةِ، فالعقلُ هو مصدر الأسئلة، والأسئلة تؤدي للمساءلة، وكما يردد صديقٌ من المفكرين المستنيرين: فإن الأسئلة مبصرةٌ –والأجوبة عمياءٌ !
وأكررُ أنه كثيراً ما شغلني هذا السؤَالُ :لماذا إنتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي (وهو يمثل النقل وتقديس السلف ولا معنى للعلم عنده إلاَّ العلم بالدين ويفتح المجالَ أمام إلغاء العقل كليةً بإنكاره إمكان تحصيل المعرفة (أو إدراكها) بالحواس في مواجهةِ ابن رشد (وهو العامر بنورِ العقلِ والزارع لكلِ بذورِ نهضةٍ خسرناها)؟ …ما الذي سهَّل للغزالي هذا الإنتشار، وصعّب على ابن رشد مثله؟ …وقد إستغرقَ الأمرُ سنواتٍ عديدةٍ لأعرف أن العلامةَ الفارقَة كانت هي (الإستبداد). فكيف يمكن لحكامِ المسلمين في زمنِ الغزالي وابن رشد أن يروق لهم فكرٌ إلاَّ فكر الغزالي؟ وكيف لأوروبا التي كانت تحارب معركتها العقلية مع الكهنوت أن تنتصر لأحدٍ كما إنتصرت كليةُ الآداب بجامعةِ باريس في القرن الثالث عشر لأفكارِ ابن رشد؟ …لقد كان الإستبدادُ في عالِمنا سائراً نحو ذروته – فكان الإعجابُ بكتاباتِ من وصل لحدِ إلغاءِ دورِ العقلِ هو الإختيار الواقعي الأمثل. وكان الإستبدادُ في أوروبا قد بدأ يترنح، لذلك فإن قوى التنوير قد نصرت ابن رشد العربي المسلم على توماس الأكويني الأوروبي المسيحي (صاحب نظرية السيفين).
وهكذا يتضح أن " الإستبدادَ" و "الآراءَ المتشددة" و" طغيانَ رجالِ الدين" و "الدعوةَ للحدِ من إستعمالِ العقلِ والإسراف في النقلِ" هي كُلها مجموعة من الأشقاء المتماثلين في ملامِحهم ومادِتهم الخامِ التي صُنعوا منها كما أَنهم متماثلون في الغاياتِ. ومع ذلك، فإن الأمورَ ليست كلها أما "سوداء" أو "بيضاء" : فرغم أن المسلمين لم يتح لهم أن يستثمروا فكر إبن رشد بالكيفيةِ المُثلى والتي كانت قمينةً في إعتقادي بجعلِ المسلمين على طريقٍ تشبه الطريق التي سارت عليها أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى بلغت ما بلغت من رقى في الفكرِ والحرياتِ العامةِ والإبداعِ والآدابِ والفنونِ والعلومِ، إِلاَّ أن المسلمين عرفوا (بنوعٍ نسبيٍّ من التعميم) "إسلامين" : إسلام يمكن وصفه بالإسلام التركي/المصري وإسلام يمكن وصفه بإسلام البداوة. أما الأول، فلا أملك أن أصفه بأنه كان مشبعاً بدرجةِ النورِ والتقدمِ والحريةِ التي كانت في فكرِ ابن رشد، ولكنه كان إسلاماً وديعاً قابلاً للتعايشِ مع الآخرين، بل ووفر للآخرين في ظلِ الدولةِ العثمانيِة حمايةً لم تحظ بها أقلياتٌ مماثلةٌ في نفسِ الزمن في أي مكانٍ آخرٍ: فقد عاش مسيحيو الشام ويهود البلاد العربية في ظلِ الدولةِ العثمانيِة في ظروفٍ تشبه ظروف المسلمين في معظمِ الأحوال. وحتى عندما كانوا يتعرضون لفتراتٍ من البطشِ، فإن ذلك كان يحدث في فتراتٍ كان يُبطش فيها بالجميع (الحاكم بأمر الله مثلاً). ورغم معرفتي أن هذا الإسلام التركي / المصري لا يمكن وصفه بأنه كان علمانياً، إِلاَّ أنه كان كذلك في جوانبٍ عديدةٍ منه وليس بمعنى إنكار الدين وإنما بمعنى النظر للدينِ كدينٍ وليس كنظريةٍ متكاملةٍ للحياةِ وتنظيمِ أمورِ المجتمع. وفي أماكنٍ أخرى، أخذت مجموعاتٌ بشريةٌ فرضت عليها العزلةُ الجغرافية لكونها في مواقعٍ داخلية غير ذات صلاتٍ بالعالمِ الخارجي ولا تعيش على (السواحل) في تنميِة أفكارِ مدرسة إبن تيمية ثم ابن قيم الجوزية حتى وصلنا إلى أفكار محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.ومن الطبيعي أن يحدث صدامٌ بين "الصنفين" : وهذا ما وقع في سني العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر وفي شكلِ مواجهةٍ بين التيارين، قاد التيار الأكثر استنارة فيه جيشٌ مصريٌ بقيادةِ طوسون بن محمد علي ثم من بعده بقيادة إبراهيم (أعظم أبناء محمد علي)؛ وانتهت هذه الجولة بإنتصارِ النموذج التركي/ المصري.ثم دارت عجلةُ الزمن، وآلت الأمورُ في تركيا لما آلت إليه، وأخذت مصرُ في التراجع. ومع تراجع مصرَ (خاصة إقتصادياً وتعليمياً) وهبوط ثروة أُسطورية لم يسمع بمثلها التاريخ على المدرسة الأخرى (المغرقة في النقل وتجميد العقل) كان من الطبيعي أن يزداد التيارُ النقلي (المتشدد) قوةً ويملك أدوات الذيوع بل ويغزو أرض التيار الثاني ويتغلغل في رجالِ مؤسساتِ هذا التيار. حتى وصلنا لرؤية تجسد التيار النقلي المتشدد في طالبان وأخواتها. ولو كانت الغلبةُ قد قُيضت لإبن رشد أو لو كانت الظروف لم تسمح بتراجع النموذج التركي / المصري، لما كانت الأمورُ قد وصلت إلى ما وصلت إليه خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرة.
إن كاتبَ هذه السطور لا يتوقف في محاضراته في أوروبا وأمريكا الشمالية عن تعريفِ العالمِ بما يُسميه (الإسلام المصري) الذي كان حتى أربعينيات هذا القرن مثالاً لا نظير له في السماحة والمرونة وقبول واحترام الآخرين وعدم الإنشغال (بشكل سيكوباتي) بتفاصيلٍ لأحكامٍ لا يمكن إلاَّ أن تكون "إبنة زمانها ومكانها وظروفها" وكل ما يُطرح عليها من القداسة هو "عمل بشري" لأن القداسةَ للدينِ ولكنها ليست أبداً لفهمِ الناسِ للدين : فلا فهمي أنا للدين ولا فهم أي أحد آخر بالمقدسِ، وإنما هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لتكوينِ وظروفِ وبنيةِ المحصولِ المعرفي لكلٍ منا.
ولكن كل ما سبق لا ينفي أَن الذين يتحدثون الآن في الغربِ بوجهٍ عام وفي الولاياتِ المتحدة بوجهٍ خاص عن الخطرِ الداهمِ الذي يمثله "الإسلام المقاتل" عليهم أن يسألوا أنفسهم مجموعةً من الأسئلةِ بالغةِ الأهميةِ:
من الذي أَغمضَ عينيه سنوات عديدة عن المُناخِ العام الذي في ظلِه إستشرى النموذج المقاتل للإسلام بينما ترك النموذج المتحضر والإنساني والراقي (الإسلام التركي/ المصري) ليتراجع في ظل تردي الأوضاع العامة (الإقتصادية والتعليمية بوجهٍ خاص) وأن يصبح أرضاً مفتوحة يغزوها النموذجُ المقاتل – من الذي أغمض عينيه قرابة ثلاثين سنة كاملة – ثم يجئ اليوم معلناً غضبَه العارم على هذا المُناخ الذي أَفرزَ هذا المارد؟
من الذي إبتدع في الخمسينيات (وربما قبل ذلك) لعبة إستعمال ما يسميه البعض (الإسلام السياسي) لخلق توازنات إستراتيجية ضد الإشتراكية (وكانت لمصرَ في السبعينيات جريرتها الكبرى في نفسِ المجال)؟…
هل الغرب لم يدرك أن في مطبخِ النموذج المقاتلِ لا توجد حريات ولا ديموقراطية ولا حقوق نساء ولا حقوق مواطنين إِلاَّ الآن فقط؟…وهل كان هذا "المطبخ" ذاخراً بتلك القيم الإنسانية الراقية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟
لماذا لا يفتح ملف فترة شهر العسل في علاقة المجاهدين الأفغان بالولايات المتحدة؟ وملف علاقة الإسلام السياسي في إيران بالغرب (فرنسا بالذات) قبل وصوله للحكم سنة 1979؟…وقبل ذلك ملف العلاقة بين الحركة السياسية الإسلامية في مصرَ وبريطانيا (التي كانت تحتل مصر وقتها) ولا سيما في ظل حكومتي محمد محمود (1928 و1938)؟
إن العقلَ النقدي الذي تفتخر به الإنسانيةُ المتقدمة يُملي علينا هذه الأسئلة وغيرها – ويملي علينا أن يَقبلَ كلُ طرفٍ أن يتحمل جزءاً من المسئوليةِ عما حدث ويحدث – والعقلُ النقدي يُملي علينا أيضاً أن ننظر بإمعان في النموذجين الذين أشرت لهما في هذا المقال ونتساءل: أيهما الذي يملك القدرة على مسايرةِ الحضارةِ والتواصلِ مع العالمِ والإشتراكِ في مسيرةِ التمدنِ (دون التخلي عن الكثيرِ من خصوصياتنا الثقافية الإيجابية)؟ أهو النموذج الذي أفرزه المطبخ الذي أَسسه أهل النقل (وهم ضحية العزلة الجغرافية وراء كثبان الرمال) أم النموذج التركي/المصري (ذو الوسطية والإعتدال والسماحة) أم النموذج الغائب دائماً (نموذج ابن رشد الذي إستفادت منه الحضارةُ الغربية وخسرنا نحن بهجره والوقوف مع المدرسة المناهضة له والتي تفتح البابَ على مصراعيه أمام الخرافةِ والأسطورةِ واللاعلمِ وإمتطاءِ جواد الاقتتال الذي لا يتوقف عوضاً عن العلم والعمل والبناء والتنمية والتآخي.
                        سجون العقل العربي

يهدفُ هذا الباب إلى أن يضع أمام القارئ المَعْنِيَّ بأمر الإسلام السياسي حقيقة أن الجناح الأكثر تشددًا بين المتأسلمين لا يكف عن محاولةِ الإطاحةِ بكل الأجنحة الأكثر وسطية واعتدالاً داخل عالم المتأسلمين، ناهيك عن عدائه غير القابل للانحسار لغير المسلمين كافة. 
عندما هُزم الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بعد قرابة عشر سنوات من الحرب بين المجاهدين والسوفيت الذين غزوا أفغانستان في أَواخر السبعينات، تمكن الجناحُ الأكثر تشددًا على الإطلاق من تصفية باقي الأجنحة وانتهت أفغانستان لقمةً سائغةً في فم طالبان والملا عمر. 
وفي إيران (منذ 1979) أسفر الصراع بين المتشددين والمعتدلين بعد ربع قرن عن تقدم كبير للمتشددين وتأخر كبير للمعتدلين. وكانت آخرُ حلقات تقدم المتشددين متمثلة في فوز أحمدي نجاد بمنصب رئيس الدولة – وهو رجل بالغ التشدد انتخبه ناخبون بالغو التشدد أيضًا. 
ولكنني أُريد هنا أن أعطي القارئ صورة أكثر وضوحًا عن حقيقة أن الجناح الأكثر تشددًا في عوالم المتأسلمين لا يكف عن محاولة طرد وتصفية الأجنحة الأخرى المعتدلة والوسطية (والاعتدال هنا نسبي أي بالنسبة لذروة التشدد وليس بالنسبة للآراء العصرية ومفاهيم وقيم المجتمعات المتقدمة). 

في سنة 1744 أسس رجلان هما الداعية محمد بن عبد الوهاب وقاضي الدرعية محمد بن سعود الحقبة السعودية الأولى، والتي استمرت حتى دمرها إبراهيم باشا ابن محمد علي مؤسس مصر الحديثة سنة 1819. وقد قامت الدولةُ السعودية الأولى على آراء ومفاهيم للإسلام بالغة التشدد تستبعد كل مدارس الفقه الإسلامي (مثل المذهب الحنفي والمالكي والشافعي وفقه الشيعة وأهمه فقه جعفر الصادق وسائر المذاهب الفقهية الأخرى) باستثناء الخط الواصل ما بين الفقيه ابن حنبل والداعية محمد بن عبد الوهاب مرورًا بابن تيمية وابن قيم الجوزية. وكان العداءُ للعالم الخارجي (عن نجد) من أبرز معالم هذه الحقبة. وكذلك العداء السافر المبالغ فيه لكل مظاهر التغيير عن الحياة النجدية. 
وقد ظل الحلفُ السعودي/الوهابي خارج السلطة منذ أن دمر إبراهيم باشا "الدرعية" عاصمة الوهابيين (1819) حتى ليلة 15 يناير 1902 عندما تمكن الأميرُ الشاب عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود (بعد هروبه سرًّا من منفاه في الكويت وتسلله في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر الربع الخالي) من السيطرة على الرياض – بادئًا رحلة تأسيس الدولة السعودية الثالثة. وخلال الفترة من 1819 إلى 1902 قامت دولة سعودية ثانية لفترة وجيزة انتهت بهزيمة السعوديين (وقائدهم فيصل بن سعود الجد المباشر لعبد العزيز بن سعود) في أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وتحول الحكم إلى آل الرشيد، واضطرار آل سعود للهجرة إلى منفاهم في الكويت. 
وباختصار، فإن الأميرَ الشاب عبد العزيز بن سعود (والذي كان في السادسة والعشرين عندما استولى على الرياض بادئًا تأسيس الدولة السعودية الثالثة) شرع في توسعة نطاق دولته. وخلال السنوات من 1902 وحتى تمام استيلائه على الحرمين الشريفين باستسلام المدينة المنورة في 5 ديسمبر 1925 كان حلم عبد العزيز بن سعود قد وصل (جغرافيًّا) إلى أقصى مداه. وقد شهدت السنوات من 1902 إلى 1925 العديد من الحروب والتحالفات والصراع الشرس. وخلال تلك السنوات كان عبد العزيز بن سعود يعتمد على ثلاثة أمور أساسية: على جنود متعطشين للقتال تعطشًا لا نظير له ومستعدين للموت استعدادًا يصعب مضاهاته؛ ثم على حكمته وحنكته وبعد نظره وقدراته نادرة التكرار؛ وثالثًا وأخيرًا على بريطانيا التي كانت اللاعب الدولي الأول والأكبر والاقدر في هذا المكان في هذا الزمان. 
أَما جنودُه المتعطشون للقتال بشراسة المستعدون للموت دون ذرة تردد فكانوا هم الجماعة التي عُرفت باسم "الإخوان" والذين لا يختلف المؤرخون لتلك الفترة على أن عبد العزيز بن سعود ما كان له أن يتحول من أمير لمدينة الرياض فقط يوم 15 يناير 1902 إلى سلطان نجد والحجاز (فعليًّا) منذ 5 ديسمبر 1925 بدونهم وبدون تعطشهم نادر المثال للقتال وللموت في آن واحد. 

كان "الإخوان" من أشد المسلمين كراهية للأجانب (ويسمون عندهم كلهم بالكفار) ومن أشد البشر كراهية لكل مظاهر المدنية مثل التليفون والسيارة والإذاعة بل كانوا يعتبرون ارتداء عباءة مذهبة الأطراف بدعة وكفرًا ومروقًا عن الإسلام. 
تركهم عبد العزيز بن سعود دون صدام معهم طيلة فترة احتياجه إليهم (حتى ديسمبر 1925). ولكن بعد أن أدرك أن حلمه لن يتجاوز ما تحقق قيد أَنمله: فبريطانيا لن تسمح له بالاستيلاء على الأركان المائية الأربعة للجزيرة العربية (الكويت، عمان، اليمن، وما هو الآن الأردن) .. كما لن تسمح له بإسقاط عرشي الأخوين فيصل (في العراق) وعبد الله (في شرق الأردن) (ابني آخر شريف لمكة التي تركها في سنة 1925 لتسقط في يد عبد العزيز بن سعود والوهابيين) أصبح عبد العزيز في مواجهة لا يمكن تجنبها مع "الإخوان". 

كان الإخوان يكرهون الأجانب، وكان عبد العزيز بن سعود قد أخذ في إحاطةِ نفسهِ بالعديد من البريطانيين إدراكًا منه أن خيوط اللعبة كلها في يد بريطانيا. وكان من أقرب مستشاريه رجل المخابرات البريطانية "جون فيلبي". كما قرب إليه كثيرين مثل محمد أَسد (يهودي بولندي اعتنق الإسلام وكان مقربًا للغاية من عبد العزيز بن سعود) والكاتب اللبناني الماروني أمين الريحاني، وعدد من المصريين مثل حافظ وهبه الذي أصبح سفيرًا للسعودية في لندن .. وغيرهم. 
وقد شعر "الإخوان" أن في وجود هؤلاء على أرض الجزيرة إهانة للإسلام (وهو ما كرره أسامة بن لادن بعد ذلك بعقود). كذلك شعر الإخوان بالحنق من قرار عبد العزيز بن سعود بإيقاف القتال. فهم (حسب مذهبهم) لا يعرفون لنهاية القتال وقتًا قبل إدخال كل أهل الأرض في الإسلام. 
وثالثًا، شعر الإخوان بالذهول عندما قال كبارُهم إن عبد العزيز قد تغيّر، فقد تحرك (في سنة 1925) من الرياض إلى مكة على ظهر جمل، وعاد من مكة إلى الرياض بعد استيلائه على المدينتين المقدستين في سيارة – وهي بدعة لا يمكن للإخوان قبولها. 
وبدأت المشاحناتُ بتمزيق "الإخوان" خطوط الهاتف وتكفيرهم لوجود الأجانب (الكفار!) على أرض الجزيرة وحربهم ضد التليفون والسيارة والكهرباء ثم الراديو (الذي كانوا على يقين أن الشيطان يسكنه). 
وهكذا، أصبح من المحتم على عبد العزيز منذ أوائل 1926 وبعد أن أصبح سلطانًا لنجد والحجاز أن يدخل في مواجهة مع الذين كان - منذ سنوات - يقول إنهم أبناؤه وجنده. وتصاعدت المواجهةُ إلى حرب وقتال انتهى بانتصار قوات عبد العزيز بن سعود وهزيمة الإخوان بقيادة فيصل الدويش (مع نهاية عشرينات القرن العشرين). 

ولكن نظرًا لأن الحلف القديم (حلف 1744 بين ابن عبد الوهاب وابن سعود) كان ساريًا في كل أنحاء جسد الدولة السعودية الثالثة، فإن "عقلية الإخوان" لم تنته بهزيمة قواتهم بقيادة فيصل الدويش أمام قوات عبد العزيز بن سعود، وإنما تحولت إلى تيارين: 
- تيار مهادن على السطح وموجود داخل النظام (يذكر
Robert Lacey في كتابه المهم – بإلإنجليزية – "المملكة – العربية وبيت سعود" أن أحفاد محمد بن عبد الوهاب الذين أصبح لقبهم "آل الشيخ" والذين يمثلون أحد أربع عائلات تحكم المملكة يحتكرون مناصب وزير التعليم العالي ووزير العدل ووزير الحج ووزير الزراعة إلى جانب وزارات أخرى ومناصب عليا محجوزة لهم في الشرطة والجيش). 
- تيار لم يتنازل عن "ذرة" من ذهنية الإخوان الذين حاربهم عبد العزيز بن سعود وهزمهم مع نهاية عشرينات القرن العشرين، وهؤلاء أصبحوا حركة سرية أو حركة من حركات تحت الأرض. وظلت هذه الحركة تبرز من حين لآخر. ومن أمثلة بروزها معارضتها افتتاح ثانويات للبنات معارضة انتهت بقتل الشرطة أحدهم في ستينات القرن العشرين وكان ابن أخ الملك الذي كان يحكم وقتها (فيصل). وقد قام شقيق القتيل بعد عشر سنوات بقتل عمه الملك فيصل (في 1975). 
وكانت أكبر أمثلة ظهور هذا التيار في مرتين: 
- الأولى: عندما استولى رجال من أفراد هذا التيار على الحرم المكي (الكعبة) مع بداية القرن الهجري الخامس عشر (منذ ربع قرن) واستمروا في قتال مع القوات السعودية المدعومة بالقوات الفرنسية لفترة غير وجيزة. 
- والثانية: عندما تكون من هؤلاء (ثم من آخرين من بلدان إسلامية أخرى) تيار المجاهدين في أفغانستان، والذي عاد بعد ذلك ليكفر الدولة السعودية لسماحها لقوات كافرة بالتواجد على ترابها عقب غزو صدام حسين للكويت (2 أغسطس 1990). 

وقد اندمجت ذهنية هؤلاء مع فكرة الحاكمية الوافدة من مصر (القطبية كما يسميها الدارسون الغربيون اليوم) وكونوا معًا ما يعرفه العالم اليوم بالقاعدة. 
والرسالة التي آمل إيصالها لذهن القارئ هي أننا أمام فصيل داخل عالم المسلمين المعاصر لا يعود فقط لاتفاق سنة 1744 بين ابن عبد الوهاب وابن سعود (وإن كان هذا الاتفاق هو بداية المرحلة الحالية لهذا الفصيل) وإنما وجد من البداية (الحركات السرية في الإسلام – مثل القرامطة الذين خطفوا الحجر الأسود، وغيرهم ممن كتب عنهم بإبداع صديقي المؤرخ الكبير الدكتور محمود إسماعيل عبد الرزاق)، ولكن هذا الفصيل كان دائمًا فصيلاً هامشيًا يوجد نظيره في كل الأديان. ولكن هذا الفصيل وجد خلال نصف القرن الأخير أسبابًا أغرته بأن يتقدم الصفوف ويقدم نفسه وكأنه (الإسلام). وكانت أهم هذه الأسباب هي: 
- تدهور كافة مستويات المجتمعات المسلمة صاحبة التاريخ الطويل في تقديم الإسلام الوَسَطيِّ المعتدل مثل مصر وسوريا والعراق والمغرب - وقد شمل التدهور كل جوانب الحياة من سياسية إلى اقتصادية إلى اجتماعية إلى ثقافية إلى تعليمية كما شمل التدهور المؤسسات الإسلامية بهذه المجتمعات. 
- جريمة استعمال الولايات المتحدة هذا الفصيل في ظل ظروف الحرب الباردة في أكثر من مكان (من اليمن في ستينات القرن العشرين إلى أفغانستان بعد ذلك بعشرين سنة). 
- ثم ثالثًا: سطوة البترودولار والتي مكنت هذا الفصيل من نشر ذهنيته وتسويقها في سائر أرجاء العالم من خلال إنشاء المراكز والمعاهد والمدارس الإسلامية، ومن خلال المطبوعات وشراء الاعلام والكثير من المؤسسات الاعلامية والثقافية والتعليمية. 
وأخيرًا .. فماذا سنفعل لوضع الأمور في نصابها .. والدفاع عن إسلام قدمناه (أي المجتمعات الإسلامية ذات الماضي الحضاري في مصر وسوريا والعراق والمغرب) لقرون كان خلالها يتسم بالاعتدال والوسطية والتعايش مع الآخرين؟ 

لقد شهد المسلمون في الماضي مجتمعات شاع فيها التسامح (خارج الجزيرة العربية) في مصر وسوريا والأندلس والمغرب العربي؛ و هوإسلام كان وديعًا (بشكل نسبي و بمعايير العصور التي كان فيها) و قابلاً للتعايشِ مع الآخرين، بل و وفر لمعظم الآخرين في ظلِ الدولةِ العثمانيِة حمايةً لم تحظ بها أقلياتٌ مماثلةٌ في الزمن نفسه في أي مكانٍ آخرٍ: فقد عاش مسيحيو الشام ويهود البلاد العربية في ظلِ الدولةِ العثمانيِة في ظروفٍ تشبه ظروف المسلمين في معظمِ الأحوال. وحتى عندما كانوا يتعرضون لفتراتٍ من البطشِ، فإن ذلك كان يحدث في فتراتٍ كان يُبطش فيها بالجميع (الحاكم بأمر الله مثلاً). وكما يقول برنارد لويس، فإن اليهود لعبوا أعظم أدوارهم في التاريخ مرتين: 

• مرة في ظل المسلمين (قديمًا). 
• ومرة في ظل المسيحيين (حاليًا).
مقارنةُ أحوالِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ اليوم بأحوالها منذ قرنٍ تؤكد أن "ذهنيةَ العنفِ" قد تفاقم وجودُها في هذه المجتمعاتِ. إلاَّ أن الدقةَ في التحليلِ تُملي علينا أن نقول إنه رغم شيوعِ "ذهنيةِ العنفِ" في بعضِ قطاعاتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ (وليس في كلها) فإن "ثقافةَ ذهنيةِ العنفِ" (وليست "ذهنية العنف" ذاتها) هي التي انتشرت هذا الانتشار الكبير في قطاعاتٍ كبيرةٍ بعددٍ من المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ. وهذا المناخُ الثقافي العام هو الذي يفرز جنودًا لذهنيةِ العنفِ وللثقافةِ العامةِ لذهنيةِ العنفِ. لقد وجد دائمًا أمثال المودودي وسيد قطب وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومصعب الزرقاوي في التاريخ الإسلامي ولكنهم كانوا أقليةً. 
والمشكلة اليوم، أن دائرة الاقلية اتسعت وأصبح لها من المؤيدين والمتعاطفين أعداد هائلة. 
لماذا ؟... ببساطة لأن "الإسلامُ" هو أحد أقوى المؤثرات على "ثقافة" و"عقل" و"طرائق حياة وتفكير وآراء وردود أفعال" عدد كبير من المسلمين.. ولكن يبقى السؤال المهم هو: ما المقصود بالإسلام؟ 
• النصوص؟ 
• أم فهم الناس للنصوص؟ 
• الفقه الإسلامي؟ 
• وأي مدرسة من مدارس الفقه الإسلامي؟ 
• التجربة التاريخية؟
• وأية تجربة من التجارب التاريخية؟
• ويضاف أيضًا: وأي إسلام؟ 
• الإسلام حسب فهم الأمويين؟ .. أم العباسيين؟ 
• الفقه الإسلامي حسب فهم أبي حنيفة أم حسب فهم مالك أم حسب فهم الشافعي أم حسب فهم ابن حنبل ورجاله (ومنهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن الدعاة محمد بن عبد الوهاب)؟ .. أم الفقه الإسلامي حسب فقه الإمامية (وأبرزه فقه جعفر الصادق) أم حسب فقه الخوارج (بفرقهم الأربع وأهمهم الخوارج الإباضية)؟ 
وهل التجربة التاريخية الإسلامية واحدة؟ .. أم أن ما كان في دمشق الأموية يختلف كثيرًا عما كان في بغداد العباسية؟ .. وكلاهما جِدُّ مختلف عن تجربة تاريخية أخرى في الأندلس شهدت تآخيًا فريدًا بين المسلمين واليهود وكان من أكبر عقول تلك الحقبة مسلم عظيم هو ابن رشد، ويهودي عظيم هو موسى بن ميمون؟ 
الحقيقة، أن النصوص في حد ذاتها لا تدل على كثير بدون "نوعية" و"عقل" و"آفاق" الإنسان الذي يتعامل معها، ويرجعُ كل ذلك (في تصوري) لخمسةِ أَسبابٍ أَساسيةٍ هي الاستبداد السياسي (ذيوع الأوتوقراطية أو انتفاء الديمقراطية) ثم الانتشار الكبير لثقافة الفهم الوهابي للإسلام (مقابل إنكماش وتراجع كبيرين لثقافة الإسلام غير الوهابي والتي كانت عبر قرون هي التيار الأساسي) ثم انتشار القيم القبليةِ التي شاعت مع ثقافة الفهمِ الوهابي للإسلام. وأما السببُ الرابع فهو نظم التعليم منبتة الصلة بالعصرِ وخامسًا الفساد العارم والذي هو نتيجةٌ منطقيةٌ وحتميةٌ للاستبدادِ السياسي. إذ إن مجتمعات الإسلام القابل للحياة مع البشرية (مصر وسوريا والمغرب العربي قديمًا) قد تدهورت مستوياتُها تدهورًا كبيرًا (سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وتعليميًّا) في ظل الاستبداد والفساد والطغيان، حتى انفتحت جبهاتها واسعة (مستسلمة) أمام التيار الوافد من نجد. 
الفصل الأول
انبعاث المارد
١
أما الاستبدادُ السياسي فإنه ينتجُ آثارًا سلبيةً عديدةً أكثرها خطرًا هو "قتل الحراك الاجتماعي" بمعنى توقف حركةِ صعودِ أفضلِ أبناءِ وبناتِ المجتمعِ للمقاعدِ القياديةِ في شتى المجالاتِ ووجودِ سلطاتٍ استاتيكية وصل إليها من وصل عن طريقِ قبولِ (بل ودعمِ) الاستبداد وإبداء الولاء. وإذا كان الاستبدادُ يؤدي لقتلِ الحراكِ الاجتماعي، فإن هذا الأخير (قتل الحراك الاجتماعي) يؤدي لشيوعِ عدمِ الكفاءةِ في كلِ المجالاتِ. فالاستبدادُ يأتي بالأتباعِ (
The Followers) ولا يأتي بالأكفاء (Competent The) – وهكذا، فكما أن الاستبدادَ يقتل الحراكَ الاجتماعي فإن انتفاءَ الحراكِ الاجتماعي يشيع عدمَ الكفاءةِ في كلِ القطاعاتِ والمجالاتِ. وشيوع عدم الكفاءة يثمرُ (لا محالة) مُناخًا عامًّا عامرًا باليأسِ – ومن مُناخِ اليأس تنبثق ذهنيةُ العنفِ ناهيك عن انخفاضِ معنى الحياةِ الإنسانيةِ كقيمةٍ – سواء أكانت حياة الشخص نفسه أم حياة الآخرين. وقد قادني الانشغال بشئونِ المجتمعاتِ العربيةِ والإسلاميةِ لأن أرى بوضوحٍ المعادلةَ التي أُسميها "معادلة التدمير": الحكم الأوتوقراطي يؤدي لوقف الحراك الاجتماعي .. وقف الحراك الاجتماعي يقضي على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ .. القضاء على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ يولد طاقةً شريرةً عملاقةً هي "اليأس" .. طاقةُ اليأسِ تفرز ذهنيةَ العنفِ واسترخاص الحياة الإنسانية وتولد رغبات هائلة في الانتقام. 
١.1 
خضعت مجتمعاتٌ إسلاميةٌ خلال العقودِ الأخيرةِ لأشكالٍ مختلفةٍ من "الطغاةِ" الذين حكموا بلدانهم بيدٍ من حديدٍ، وفي ظلِ أتوقراطيةٍ واسعةٍ أدت في كثيرٍ من الأحوال إلى "مسلسل التداعي" الذي وصفته من قبل وهو: استبداد يلغي الحراك الاجتماعي .. انعدام الحراك الاجتماعي يشيع عدم الكفاءة في كل المجالات .. ظاهرة عدم الكفاءة عامة تؤدي لانهيار في كلِ المستوياتِ يولد شعورًا باليأس والغضب ومنهما تنبت "ذهنيةُ العنفِ" لاسيما وأن غير الأكفاء (
The non-competent) يجعلون منظومةَ التعليم عاملَ تدهور إضافي لكافة المستويات. وفي تلك المجتمعات كلها ما إن تحدث متغيرات تجعل الطاغية يسقط (سوهارتو في إندونيسيا .. صدام حسين في العراق) حتى يبرز على سطحِ الحياةِ العامةِ فجأة رموزُ الفهمِ الوهابي للإسلام وهم يطرحون أنفسهم بمثابة "المُخَلِّصِ"! وينخدع البعض ويقولون: إن هؤلاء هم القوة السياسية الوحيدة التي تفرزها هذه المجتمعات. والخطأ هنا مركب: فالذي أفرز هؤلاء هم "الطغاة" و"طرائق حكمهم الأتوقراطية" التي قتلت الحراك الاجتماعي ومنعت نمو المجتمع المدني وعممت "عدم الكفاءة" وجعلت دنيا السياسة مكونةً من أفقين: أفق فوق الأرض (وعليه الطغاة وأركان نظمهم فقط) وأفق تحت الأرض (وفيه رموز الفهم الوهابي والذين أصبحوا متدربين أفضل تدريب على النمو تحت الأرض في ظل السرية والمطاردة) .. وما إن ينزاح الطغاة حتى تبرز القوى السياسية الوحيدة التي كانت قائمة (تحت الأرض) وفي ظل انعدام المجتمع المدني واختفاء الحراك الاجتماعي وشيوع عدم الكفاءة، فإن المسرح يكون معدًّا لفريق جديد من الطغاة سيكونون طغاةً وغيرَ أكفاءٍ في آنٍ واحدٍ .. وسيأخذون مجتمعاتهم لدرجاتٍ أشد انحدارًا من التأخرِ والتخلفِ والبعدِ عن معادلةِ التقدم والحداثة والاستغراق في مشكلاتٍ اجتماعيةٍ لا حصر لها. 
وباختصارٍ: فإن طغاةَ ما فوق الأرض وطغاة تنظيمات تحت الأرض على السواء من ثمار المعادلة التي أعود لها هنا المرة تلو المرة: نظام سياسي أتوقراطي (استبدادي) يشل الحراك الاجتماعي، فيسود غير الأكفاء في كل المجالات، فتنخفض كل المستويات، فيشيع اليأسُ وتنبثق وتستفحل ذهنيةُ العنفِ ولا يكون بوسع مؤسستي "التعليم" و"الاعلام" إصلاح تلك التراجيديا، لأن هاتين المؤسستين قد فسدتا أيضًا على يدِ غير الأكفاء .
وإذا قال قائلٌ: لماذا لا ينتشر إلاَّ هذا النموذج كلما سقط طاغية في مجتمع إسلامي أو عربي؟ ... كان الجدير بنا أن نقول له "إن الذي انتشر هو اليأس الذي هو الثمرة الطبيعية لنظمِ حكمٍ أتوقراطيةٍ لم تبق أحدًا فوق الأرض – ولم يعش في ظلها إلاَّ ذلك المارد "تحت الأرض" .. والعلاج الوحيد يبدأ من بداية السلسلة لا من نهايتها.


هزيمة العرب وانتصار الذهنية القروية والبدوية

كان البدو في جزيرة العرب يمرون بأغرب ظاهرة في التاريخ الإنساني، ألا وهي ظاهرة تراكم رأس المال النفطي لدى عقل بدوي. 

كان العقل البدوي عقلاً خالياً من الوعي المديني بالعالم ومن «الأوتوبيا» القروية معاً، وتمت لأول مرة في التاريخ عملية تحديث الحياة بلا حداثة. وهكذا تحكم في واقع العرب عقلان، عقلٌ قروي لا يرى العالم إلا في إطار حدود ملكيته الصغيرة للأرض، فانسحب وعيه بملكيته الأرض المقدسة على ملكية السلطة، وعقل بدوي لا يرى العالم إلا في إطار حدود المراعي، وانسحب وعيه بالمرعى على وعيه بالسلطة والثروة «حدود النفط» . 

وهكذا اكتملت دائرة الانحطاط المطلق في الوطن العربي وهو انحطاط لا مثيل له في التاريخ البشري حتى الآن. 

ولأن الخصم الأكبر للوعي القروي والوعي البدوي هو العقل الحديث بكل ما ينطوي عليه من مدنية وحرية، فإن حجم التحطيم للحياة حجم لا يصدقه عقل، ولأن الغرب وأميركا ضد أي انتصار للعقل في العالم المسيطرة عليه، لأن من شأن انتصار العقل تحقيق الحرية، فلقد قامت لأول مرة في التاريخ علاقة غريبة وعجيبة، هي علاقة ترابط بين عقلٍ أوروبي مديني رأسمالي عولمي (عقل آخر ما أنتجته الحضارة الإنسانية) وبين عقل قروي ـ بدوي . 

وآية ذلك أن من شروط سيطرة أوروبا وأميركا على العالم العربي أن يتأبد العقل القروي والبدوي، لأنه عقل محدود النظرة إلى الوجود، عقل لا يتعدى تفكيره الحفاظ على ملكية الأرض الضيقة والمرعى . 

وبسبب هذه العلاقة بين عقلٍ جبار يتحكم بالعالم وعقل ضعيف وضيق فإنه ـ لأول مرة في التاريخ أيضاً ـ لم يتحول تراكم رأس المال الذي جاء به النفط إلى نهضة سياسية وثقافية واقتصادية، لأن هناك تناقضاً بين العقل البدوي والعقل الرأسمالي بما ينطوي عليه من قيم البرجوازية. ولأول مرة في التاريخ تجري عملية نكوصٍ تاريخية عجيبة ألا وهي عودة العقل القروي إلى العقل البدوي، أو في أحسن الأحوال تحالف العقلين ضد العقل الحديث. فإذا الأثرياء أنفسهم واقعون أسرى عقل فلاحي وعقل بدوي، إن في سلوكهم اليومي أو في حدود نظرتهم إلى العالم. 

إن الانحطاط الكلي المعبر عنها اليوم بأنماط السلوك الشائعة في الوطن العربي من العلاقة بالسلطة إلى العلاقة بالمرأة إلى العلاقة بالدين إلى العلاقة بالعدو القومي إلى العلاقة بالكرامة الإنسانية إلى العلاقة بالحرية إلى العلاقة بالفن والأدب والشعر، إلى العلاقة بالمدينة، إلى العلاقة بالعادات والقيم لم يعد يترك أي مجال للإصلاح، فالانحطاط لا يُصلح. 

ولهذا فإن وعياً جديداً يجب أن يشق طريقه إلى الحياة، وعياً يقوم على استعادة العقل المهزوم، وإشاعة أنواره ولو بشكل بطيء. 

فتكون نخبة جديدة تطرح هموم البشر المكتوين بنار الانحطاط القروي والبدوي وانحطاط الأثرياء الجدد أمر في غاية الأهمية، ولأن التاريخ وحده لا يصاب بمرض عضال، فشفاء التاريخ ممكن ولو كان بطيئاً. 





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire