1: لم يَعُدْ من الممكن، بعد تجارب سابقة منذ الخمسينات، أن يقتنع
أحدٌ بالحل الأمنى كحلٍّ وحيد لمشكلة جماعة الإخوان المسلمين الأصولية السلفية
الإرهابية وجماعات الإسلام السياسى الأخرى. ولهذا السبب، وربما لأسباب أخرى، يتجه
كثيرون إلى أفكار وتصورات ومبادرات عن الحل السلمى والمصالحة والتصالح والتوافق
والتنازلات المتبادلة رَفْضًا للعزل والإقصاء، وطلبًا للاستقرار، على أساس أن
الإخوان يمثلون قوة سياسية واجتماعية كبيرة فلا استقرار فى مصر مع تجاهلها. وكانت
المبادرة الأخيرة هى مبادرة الدكتور حسن نافعة، كما سمَّاها صاحبها، وهى مبادرة
عجيبة تخدم فى مجملها الإخوان المسلمين من خلال تنازلات محدودة منهم مقابل تنازل
الجسم الأساسى من الطبقة الرأسمالية عن مصالحها، وتنازل الشعب عن مستقبله.
2: ويعتقد كثيرون أن السادات، بمبادرة مباشرة منه، و مبارك، باضطراره إلى مهادنتهم، هما المسئولان الوحيدان عن تغلغل الإخوان فى الحياة السياسية والاقتصادية المصرية طوال أربعين عاما من حكمهما. والواقع أن تغلغل الإسلام السياسى جاء من طريقين مختلفين. ويمكن القول إن مواجهة عبد الناصر للإخوان بالحل الأمنى لا تقلّ مسئوليتها عن مسئولية مبادرة السادات ومهادنة مبارك.
3: وكانت مواجهة عبد الناصر للإخوان مواجهة أمنية خالصة غير أن الإخوان عادوا بقوة أكبر وبتطرف أكبر منذ السادات و مبارك بل وصلوا إلى الحكم، فى خضم تطورات صراع الثورة والثورة المضادة، بعد ستين عاما من تلك المواجهة الأمنية رغم شدتها وجذريتها. ولم يكن حل عبد الناصر مجرد حل أمنى مع الاحتفاظ بوضع حريات نسبية كانت قائمة بفضل ثورة 1919 وبفضل طريقة الاحتلال الإنجليزى فى الحكم، كما حدث فى مستعمرات أخرى (الهند كمثال بارز). ذلك أن عبد الناصر قام بتدمير الديمقراطية تحت شعار إقامة الديمقراطية السليمة، وتصفية الحياة السياسية تحت شعار تحالف قوى الشعب العاملة، كما أدى وضْع تأميماته "الاشتراكية" فى أيدى إدارة العسكريِّين إلى خلق طبقة جديدة فى إطار التبعية الاقتصادية الاستعمارية على أساس رأسمالية دولة بيروقراطية تابعة، وإصلاح زراعى هزيل، وإصلاحات اقتصادية أخرى، هزيلة بدورها، من خلال الخطة الخمسية الوحيدة فى عهده، بهدف توسيع السوق الداخلية ولم تكن قضيتها مطلقا إنصاف الفلاحين والعمال أو الرفق بهم أو الحنوّ عليهم، إذا طبقنا فلسفة أو لغة الحكم الجديد بأثر رجعىّ. وتواصلَ تطوُّر الطبقة الجديدة لتصير نواة الطبقة الرأسمالية الساداتية والمباركية وتواصلَ كذلك إفقار الجماهير بصورة تراكمية، وكانت النتيجة المنطقية تواصُل التدهور الاقتصادى والاجتماعى للشعب أىْ البيئة الملائمة لتفريخ الرجعية الدينية وعنفها وإرهابها.
4: ويمكن أن تكون المواجهة الأمنية ناجحة إلى حد بعيد فى حالة مجتمعات مختلفة عن مجتمعات العالم الثالث. وقد نجحت بالفعل ضد هتلر وحلفائه الفاشيِّين. وفى المقابل فشلت الحروب الأمريكية على الإرهاب فى القضاء على القاعدة وطالبان. وفشل عبد الناصر فى القضاء على الإخوان. ويرتبط كلٌّ من النجاح ضد الفاشية والفشل إزاء الإسلام السياسى بنوع المجتمع. ففى أوضاع تاريخية بعينها، يمكن تلخيصها فى بؤس الشعوب فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة (هزيمة الحرب العالمية الأولى وإفقار الجماهير العاملة فى ظل جمهورية ڤ-;-ايمار فى ألمانيا)، أمكن أن تنشأ وتتطور ظواهر وأيديولوچيات سياسية "پاثولوچية" (مَرَضِيَّة)، كما يصفها البعض، غير أن تحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الغرب يمكن أن ينجح فى "تجفيف بيئة ومنابع" نشأة وتطوُّر مثل هذه الأيديولوچيات على نطاق واسع، وإنْ بقيت منها بقايا غير حاكمة. أما مجتمعات العالم الثالث الغارقة فى بؤس متلازمة الفقر والجهل والمرض والحرمان، تحت استغلال واستبداد الطبقة الرأسمالية التابعة والإمپريالية، فإنها تمثل البيئة المثالية الملائمة لتفريخ ورعاية وتطوير ومُضاعفة خطر الأيديولوچيات القومية والأصولية الإسلامية وغير الإسلامية من كل نوع. وعلى هذا فإن المواجهة الأمنية مع استمرار بؤس الجماهير فى بلدان العالم الثالث، ومنها مصر، لا تكون مجدية بصورة قابلة للاستمرار فى الأجل الطويل بل حتى فى الأجل المتوسط.
5: وليس معنى هذا أن الحل الأمنى ليس مطلوبا فهو على العكس ضرورة قصوى لا غنًى عنها فى الأجل القصير. وكانت المواجهة الأمنية الحربية العالمية ضرورية للقضاء على الفاشية فى أبرز بلدانها فى أوروپا وآسيا. وكانت مواجهة أمنية لا يمكن تفادى خطرها المُحْدِق فى الأجل القصير والمباشر. وقد وضعت تلك المواجهة الحربية حدا حاسما للفاشية الحاكمة بعد أن تسببت فى إزهاق أرواح ما يتراوح بين خمسين مليونا وخمسة وثمانين مليونا من البشر (وفقا لتقديرات مختلفة)، بدلا من أن يتضاعف هذا الرقم الذى تقشعر منه الأبدان وتحترق منه الأرواح. وهنا أيضا تغدو المواجهة الأمنية ضرورية فى مواجهة الأصولية السياسية الإخوانية وغير الإخوانية، السنية والشيعية. وهذا واجب الشعوب المعنية كما أنه واجب الدول المعنية. ويعنى هذا أن الذين يخوضون معارك القضاء على هذه الأصولية السياسية الإرهابية ليسوا ملائكة. بل تخوضها قوى متناقضة: الشعب من أجل مستقبله والدولة الطبقية من أجل مصالحها المتمثلة فى السيطرة على الشعب واستغلاله.
6: ولا شك فى أن الحل الأمنى القصير الأجل يمكن أن يُوقِف الخطر المباشر ولكنه لا يمكن أن ينجح فى تأمين المستقبل. والمهم من حيث تأمين الحاضر من الخطر الإرهابى هو هذا الحل. أما المهم من حيث تأمين المستقبل القريب والبعيد فيشترط شروطا لا غنًى عنها. ويكفى إلقاء نظرة سريعة إلى الحل الأمنى الشامل كما طبقه عبد الناصر والحل الأمنى الجزئى كما طبقه السادات و مبارك وهو ما أدى إلى إخفاقهم جميعا؛ لكى نعرف ما ينقصنا الآن. وبالطبع لا ينقصنا الحل الأمنى وإنما تنقصنا ثلاثة شروط أساسية حاسمة: الأول: إطلاق الحرية من محبسها فى سبيل حياة سياسية حقيقية وصراع فكرى عميق مع الإمپريالية والرجعية الدينية، والثانى: تحقيق مستويات معيشة تكفى لتأمين حياة كريمة للشعب، والثالث: تحويل مصر إلى بلد صناعى يتمتع بالاستقلال عن الإمپريالية. ولا سبيل إلى مقاومة الاستغلال والاستبداد والفساد بدون تحقيق هذه الشروط.
7: وإذا كان للدولة دور كبير فى معركة الحل الأمنى فإنه لا دور لها (بل لها على العكس دور سلبى) فى مجال تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة؛ اللهم إلا فى حدود دور الاستجابة الاضطرارية تحت الضغط لمطالب الديمقراطية الشعبية من أسفل. ذلك أن هذه الديمقراطية التى تأتى من الحركة الجماهيرية ومن الثورة الشعبية هى التى من شأنها تحقيق الحرية والعدالة والكرامة. ولأن الثورة شغلت نفسها بأوهام بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية فإن أحلامها المتمثلة فى أهدافها المعلنة والضمنية لم تتحقق. فكيف تقوم الحرية لتطوير الصراع السياسى والفكرى وللقيام بدور أكبر ضد الرجعية الإسلامية، وفى سبيل رفاهية الشعب، ما دام اليسار الأكثر إخلاصا للشعب يعانى كل هذا الضعف السياسى والفكرى؟ وما دامت الثورة، المحرومة من قيادة ثورية وكذلك من نضال تراكمى، قد وظَّفت نضالها الجماهيرى فى الوقوف مرة وراء الجيش، ومرة أخرى وراء الإسلام السياسى الإرهابى، وفى اللهاث وراء الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، مبتعدةً للغاية عن الفعل الثورى الذى يحقق الديمقراطية الشعبية من أسفل؟
8: وبطبيعة الحال فإن هذه الديمقراطية من أسفل التى تحققت فى بلدان الرأسمالية المتقدمة فى الغرب أو الشمال لا يمكن أن تتحقق، فى غياب شروط ثورة اجتماعية، بدون تحويل مصر إلى بلد صناعى يكون قادرا على التحرُّر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية وعلى تحقيق الاستقلال الحقيقى الذى لا يمكن أن يأتى إلا نتيجة تطور رأسمالى جذرى لا تبشِّر به عقلية الطبقة الحاكمة ودولتها، ولا يمكن فرضه عليهما فى غياب حركة شعبية عمالية عميقة وواعية لا يمكن وصف حركة الثورة الراهنة بتجسيدها. ذلك أن الرأسمالية التابعة عاجزة عن أن تكون منتجة لثروة حقيقية يمكن الحديث عن عدالة توزيعها كما حدث فى الغرب. وبالطبع فإن الخيار ليس بين بديلين: التحقيق الكامل للديمقراطية الشعبية من أسفل بفضل الثورة؛ أو العجز الكامل عن تحقيقها بحكم فقر البلد التابع وبحكم ابتعاد الثورة عن التركيز الواجب عليها. بل توجد بين هذين البديلين مسافة يمكن أن تسمح بتحقيق مستويات من هذه الديمقراطية. والحقيقة أن فُرَص الفعل الثورى لم تَفُتْ تماما، مع أنها توشك على الإفلات، ما لم تعرف قوى الثورة بوضوح فى سبيل أىِّ أهداف تُوَظِّف نضالاتها: مظاهراتها وإضراباتها ومليونياتها.
9: وأمام تحدِّى المشكلة الإخوانية أو تعاطُفا مع الإخوان المسلمين ضد العنف "المفرط" ضدهم من جانب الطبقة الرأسمالية والدولة وجيشها وشرطتها وإعلامها وقضائها، تكثُر دعاوى ومبادرات التوافق والمصالحة والوحدة الوطنية على خطوط "أسطورة الثمانية عشر يوما المجيدة" التى تزعم أن الإخوان وقفوا خلال أيام الثورة المجيدة حقا إلى جانب الثورة الشعبية. وكانت المبادرة الأخيرة، كما سبقت الإشارة، هى مبادرة الدكتور حسن نافعة، مروِّج التوافق والتوافقية منذ ثورة يناير.
2: ويعتقد كثيرون أن السادات، بمبادرة مباشرة منه، و مبارك، باضطراره إلى مهادنتهم، هما المسئولان الوحيدان عن تغلغل الإخوان فى الحياة السياسية والاقتصادية المصرية طوال أربعين عاما من حكمهما. والواقع أن تغلغل الإسلام السياسى جاء من طريقين مختلفين. ويمكن القول إن مواجهة عبد الناصر للإخوان بالحل الأمنى لا تقلّ مسئوليتها عن مسئولية مبادرة السادات ومهادنة مبارك.
3: وكانت مواجهة عبد الناصر للإخوان مواجهة أمنية خالصة غير أن الإخوان عادوا بقوة أكبر وبتطرف أكبر منذ السادات و مبارك بل وصلوا إلى الحكم، فى خضم تطورات صراع الثورة والثورة المضادة، بعد ستين عاما من تلك المواجهة الأمنية رغم شدتها وجذريتها. ولم يكن حل عبد الناصر مجرد حل أمنى مع الاحتفاظ بوضع حريات نسبية كانت قائمة بفضل ثورة 1919 وبفضل طريقة الاحتلال الإنجليزى فى الحكم، كما حدث فى مستعمرات أخرى (الهند كمثال بارز). ذلك أن عبد الناصر قام بتدمير الديمقراطية تحت شعار إقامة الديمقراطية السليمة، وتصفية الحياة السياسية تحت شعار تحالف قوى الشعب العاملة، كما أدى وضْع تأميماته "الاشتراكية" فى أيدى إدارة العسكريِّين إلى خلق طبقة جديدة فى إطار التبعية الاقتصادية الاستعمارية على أساس رأسمالية دولة بيروقراطية تابعة، وإصلاح زراعى هزيل، وإصلاحات اقتصادية أخرى، هزيلة بدورها، من خلال الخطة الخمسية الوحيدة فى عهده، بهدف توسيع السوق الداخلية ولم تكن قضيتها مطلقا إنصاف الفلاحين والعمال أو الرفق بهم أو الحنوّ عليهم، إذا طبقنا فلسفة أو لغة الحكم الجديد بأثر رجعىّ. وتواصلَ تطوُّر الطبقة الجديدة لتصير نواة الطبقة الرأسمالية الساداتية والمباركية وتواصلَ كذلك إفقار الجماهير بصورة تراكمية، وكانت النتيجة المنطقية تواصُل التدهور الاقتصادى والاجتماعى للشعب أىْ البيئة الملائمة لتفريخ الرجعية الدينية وعنفها وإرهابها.
4: ويمكن أن تكون المواجهة الأمنية ناجحة إلى حد بعيد فى حالة مجتمعات مختلفة عن مجتمعات العالم الثالث. وقد نجحت بالفعل ضد هتلر وحلفائه الفاشيِّين. وفى المقابل فشلت الحروب الأمريكية على الإرهاب فى القضاء على القاعدة وطالبان. وفشل عبد الناصر فى القضاء على الإخوان. ويرتبط كلٌّ من النجاح ضد الفاشية والفشل إزاء الإسلام السياسى بنوع المجتمع. ففى أوضاع تاريخية بعينها، يمكن تلخيصها فى بؤس الشعوب فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة (هزيمة الحرب العالمية الأولى وإفقار الجماهير العاملة فى ظل جمهورية ڤ-;-ايمار فى ألمانيا)، أمكن أن تنشأ وتتطور ظواهر وأيديولوچيات سياسية "پاثولوچية" (مَرَضِيَّة)، كما يصفها البعض، غير أن تحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الغرب يمكن أن ينجح فى "تجفيف بيئة ومنابع" نشأة وتطوُّر مثل هذه الأيديولوچيات على نطاق واسع، وإنْ بقيت منها بقايا غير حاكمة. أما مجتمعات العالم الثالث الغارقة فى بؤس متلازمة الفقر والجهل والمرض والحرمان، تحت استغلال واستبداد الطبقة الرأسمالية التابعة والإمپريالية، فإنها تمثل البيئة المثالية الملائمة لتفريخ ورعاية وتطوير ومُضاعفة خطر الأيديولوچيات القومية والأصولية الإسلامية وغير الإسلامية من كل نوع. وعلى هذا فإن المواجهة الأمنية مع استمرار بؤس الجماهير فى بلدان العالم الثالث، ومنها مصر، لا تكون مجدية بصورة قابلة للاستمرار فى الأجل الطويل بل حتى فى الأجل المتوسط.
5: وليس معنى هذا أن الحل الأمنى ليس مطلوبا فهو على العكس ضرورة قصوى لا غنًى عنها فى الأجل القصير. وكانت المواجهة الأمنية الحربية العالمية ضرورية للقضاء على الفاشية فى أبرز بلدانها فى أوروپا وآسيا. وكانت مواجهة أمنية لا يمكن تفادى خطرها المُحْدِق فى الأجل القصير والمباشر. وقد وضعت تلك المواجهة الحربية حدا حاسما للفاشية الحاكمة بعد أن تسببت فى إزهاق أرواح ما يتراوح بين خمسين مليونا وخمسة وثمانين مليونا من البشر (وفقا لتقديرات مختلفة)، بدلا من أن يتضاعف هذا الرقم الذى تقشعر منه الأبدان وتحترق منه الأرواح. وهنا أيضا تغدو المواجهة الأمنية ضرورية فى مواجهة الأصولية السياسية الإخوانية وغير الإخوانية، السنية والشيعية. وهذا واجب الشعوب المعنية كما أنه واجب الدول المعنية. ويعنى هذا أن الذين يخوضون معارك القضاء على هذه الأصولية السياسية الإرهابية ليسوا ملائكة. بل تخوضها قوى متناقضة: الشعب من أجل مستقبله والدولة الطبقية من أجل مصالحها المتمثلة فى السيطرة على الشعب واستغلاله.
6: ولا شك فى أن الحل الأمنى القصير الأجل يمكن أن يُوقِف الخطر المباشر ولكنه لا يمكن أن ينجح فى تأمين المستقبل. والمهم من حيث تأمين الحاضر من الخطر الإرهابى هو هذا الحل. أما المهم من حيث تأمين المستقبل القريب والبعيد فيشترط شروطا لا غنًى عنها. ويكفى إلقاء نظرة سريعة إلى الحل الأمنى الشامل كما طبقه عبد الناصر والحل الأمنى الجزئى كما طبقه السادات و مبارك وهو ما أدى إلى إخفاقهم جميعا؛ لكى نعرف ما ينقصنا الآن. وبالطبع لا ينقصنا الحل الأمنى وإنما تنقصنا ثلاثة شروط أساسية حاسمة: الأول: إطلاق الحرية من محبسها فى سبيل حياة سياسية حقيقية وصراع فكرى عميق مع الإمپريالية والرجعية الدينية، والثانى: تحقيق مستويات معيشة تكفى لتأمين حياة كريمة للشعب، والثالث: تحويل مصر إلى بلد صناعى يتمتع بالاستقلال عن الإمپريالية. ولا سبيل إلى مقاومة الاستغلال والاستبداد والفساد بدون تحقيق هذه الشروط.
7: وإذا كان للدولة دور كبير فى معركة الحل الأمنى فإنه لا دور لها (بل لها على العكس دور سلبى) فى مجال تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة؛ اللهم إلا فى حدود دور الاستجابة الاضطرارية تحت الضغط لمطالب الديمقراطية الشعبية من أسفل. ذلك أن هذه الديمقراطية التى تأتى من الحركة الجماهيرية ومن الثورة الشعبية هى التى من شأنها تحقيق الحرية والعدالة والكرامة. ولأن الثورة شغلت نفسها بأوهام بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية فإن أحلامها المتمثلة فى أهدافها المعلنة والضمنية لم تتحقق. فكيف تقوم الحرية لتطوير الصراع السياسى والفكرى وللقيام بدور أكبر ضد الرجعية الإسلامية، وفى سبيل رفاهية الشعب، ما دام اليسار الأكثر إخلاصا للشعب يعانى كل هذا الضعف السياسى والفكرى؟ وما دامت الثورة، المحرومة من قيادة ثورية وكذلك من نضال تراكمى، قد وظَّفت نضالها الجماهيرى فى الوقوف مرة وراء الجيش، ومرة أخرى وراء الإسلام السياسى الإرهابى، وفى اللهاث وراء الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، مبتعدةً للغاية عن الفعل الثورى الذى يحقق الديمقراطية الشعبية من أسفل؟
8: وبطبيعة الحال فإن هذه الديمقراطية من أسفل التى تحققت فى بلدان الرأسمالية المتقدمة فى الغرب أو الشمال لا يمكن أن تتحقق، فى غياب شروط ثورة اجتماعية، بدون تحويل مصر إلى بلد صناعى يكون قادرا على التحرُّر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية وعلى تحقيق الاستقلال الحقيقى الذى لا يمكن أن يأتى إلا نتيجة تطور رأسمالى جذرى لا تبشِّر به عقلية الطبقة الحاكمة ودولتها، ولا يمكن فرضه عليهما فى غياب حركة شعبية عمالية عميقة وواعية لا يمكن وصف حركة الثورة الراهنة بتجسيدها. ذلك أن الرأسمالية التابعة عاجزة عن أن تكون منتجة لثروة حقيقية يمكن الحديث عن عدالة توزيعها كما حدث فى الغرب. وبالطبع فإن الخيار ليس بين بديلين: التحقيق الكامل للديمقراطية الشعبية من أسفل بفضل الثورة؛ أو العجز الكامل عن تحقيقها بحكم فقر البلد التابع وبحكم ابتعاد الثورة عن التركيز الواجب عليها. بل توجد بين هذين البديلين مسافة يمكن أن تسمح بتحقيق مستويات من هذه الديمقراطية. والحقيقة أن فُرَص الفعل الثورى لم تَفُتْ تماما، مع أنها توشك على الإفلات، ما لم تعرف قوى الثورة بوضوح فى سبيل أىِّ أهداف تُوَظِّف نضالاتها: مظاهراتها وإضراباتها ومليونياتها.
9: وأمام تحدِّى المشكلة الإخوانية أو تعاطُفا مع الإخوان المسلمين ضد العنف "المفرط" ضدهم من جانب الطبقة الرأسمالية والدولة وجيشها وشرطتها وإعلامها وقضائها، تكثُر دعاوى ومبادرات التوافق والمصالحة والوحدة الوطنية على خطوط "أسطورة الثمانية عشر يوما المجيدة" التى تزعم أن الإخوان وقفوا خلال أيام الثورة المجيدة حقا إلى جانب الثورة الشعبية. وكانت المبادرة الأخيرة، كما سبقت الإشارة، هى مبادرة الدكتور حسن نافعة، مروِّج التوافق والتوافقية منذ ثورة يناير.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire