عبد عطشان هاشم
1
عقلية القطيع Herd mentality هي العقلية التي تتنظر دائماً من يقودها،
يفكر بدلاً منها أو يتصرف بدلاً منها وخصوصاً في الازمات ومن خلال هذا النمط يُغَيَّب
عقل الفرد ويتم وضعه على الرف ويتم تحييد آرائه الخاصة عبر آليات الولاء الأعمى أو
الخضوع أو التقليد أو محاكاة رأي الجمع فتكون حركته شبيهة بحركة قطعان الماشية وراء
الخروف المرشد الذي يعلق الجرس في رقبته كالعادة، ويجدر هنا التنويه بأن مصطلح عقلية
القطيع ليس شتيمة بل هو توصيف سوسيولوجي لنمط اجتماعي وموقف عقلي قائم.
يستحضر الشاعر دريد بن الصمة هذا المفهوم بصورة
دقيقة من خلال البيت المشهور:
وهل أنا إلا من غزية إن غـوت غويت … وإن ترشد
غزيـة أرشد
ليشير بوضوح إلى أحد الأنماط الأولية لعقلية القطيع
التي تشيع على الصعيد العربي والإسلامي وهي الولاء المتعصب للقبيلة. لكننا في هذا المقال
نود التركيز على الجانب الملغوم في عقلية القطيع وهو نمط الإذعان الأعمى لرجل الدين
وهو من أشد الأنماط قابلية للإشتعال في حاضر ومستقبل الأجيال في منطقتنا.
2
قد لا آتي بشىء جديد، إذا قلت أن جوهر الأديان
يقوم على فكرة الإيمان بالنصوص المقدسة كسبيل أوحد للحقيقة وأن أي علم ينبغي أن يبدأ
وينتهي بهذه النصوص دون أن يتعارض معها وخلاف ذلك فهو هرطقة وتجديف وكفر صريح. وهكذا
تؤسس الأديان لفكرة تغييب العقل مرتين، أولاً من خلال قيد النص، وثانياً من خلال احتكار
تفسير وتأويل النص من قبل رجال الدين على اختلاف مسمياتهم، فهم حراس النص كما فوضهم
الرب بذلك، ولذلك عليهم عبء مراقبة المؤمنين وغير المؤمنين والتأكد من حسن أدائهم لطقوس
العبادات وتطابق آلياتها ليس مع النصوص فحسب بل مع تفسيرهم لتلك النصوص، وبضوء ذلك،
تحول المؤمنين من شركاء في العقيدة إلى أتباع مغمضي الأعين والعقل معاً، فرجل الدين
وحده يملك الحق الحصري في التفكير والتصرف بحقوق العقيدة ومنافعها فهو يُكفّر من يشاء
وبيده مفاتيح الجنة والنار يهبها لمن شاء أو يحجبها عنه أو ربما يبيعها على شكل صكوك
غفران كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
وبمرور الوقت وزيادة عدد الأتباع وتنوع خلفياتهم
الإثنية والثقافية ومصالحهم الدنيوية ظهرت الإختلافات على السطح وتعالت الأصوات التي
تريد الخروج من قالب التفسير الواحد وليس الخروج عن جذر النص المقدس وهكذا تمخضت الأديان
في ولادة متعسرة عن طوائف وجماعات وفرق كنتيجة متواترة لمحاولات الخروج عن قالب التفسيرالمتداول
مع البقاء في دائرة النص.
وقد رسخ أمراء تلك الجماعات عقلية القطيع في نفوس
مريديهم وتمت قولبة وتغليف ذلك الإسترقاق بشكل يضمن ديمومة الطاعة والإذعان الأعمى
لولي الأمر وادعاء الصواب المطلق مرة أخرى كما فعل أسلافهم، وهذا هو الخطر الكامن في
التطييف والتمذهب الديني، فلا صوت يعلو على صوت الأمير أو الكاهن أو الشيخ أو الفقيه
أياً كانت التسمية فالقاعدة هي (متحدث واحد والكل مستمعون)، و تبقى مصلحة الأمة، المذهب،
الجماعة، تعابير فضفافة يُراد منها شحن العواطف وتعبئتها من أجل ديمومة نفوذ أمراء
الطائفة ومصالحهم الشخصية كالحصول على الغنائم والأراضي والإقطاعيات والجواري الخ
.. وبضوء هذا الدوغما قيدت الجموع المؤمنة إلى صراعات دموية طاحنة لم يجروء أحد على
الإعتراض عليها والقول أنها ليست حربه فلا ناقة له أو جمل فيها.
3
تمكنت عقلية القطيع من جعل الفرد مجرد نسخة كربونية
عن غيره فلا مكان للتميز والتفرد والإبداع والخروج عن المألوف فكل (محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )(1)، ويتماهى وجود الفرد ضمن الجماعة حد التلاشي،
والخطر الأكبر يكمن في اعتبار هذا التماهي فرضاً مقدساً يجعل الفرد يحس بالنشوة والرضا
والسكينة وكأنه يتعاطى نوعاً من المخدرات العقلية المقبولة اجتماعياً والتي تروض الإنسان
على تقبل الأمر الواقع والتسليم به كمعطى غير قابل للتغيير. وليس ذلك فحسب بل إنها
تنتج وعياً فردياً زائفاً مترشحاً عن عقلية القطيع يجعل الفرد يدافع حد التضحية بنفسه
عن قيم الجماعة وهو مقتنع بذلك بصورة مطلقة.
إن عقلية القطيع هي أحد الأسباب الجوهرية لتخلف
العالم الإسلامي حيث أن هذه العقلية تلغي التعددية الفكرية والإجتهاد الخلاق والخروج
على رأي الجماعة (من شذ شذ في النار)(2) وتقتل روح الريادة والإبتكار وتعطل حاسة التفكير
لدى الفرد وتلغى استقلاليته وخصوصيته وتجعله مستكيناً عاجزاً ينتظر غيره لينجز دوره،
ينتظر من يفتي له في صغائر الأمور بل حتى في طريقة ممارسة الجنس مع زوجته، و رغم أن
هناك حديث نبوي صريح يحض على عدم الخضوع لعقلية القطيع واحترام رأي الفرد وتميزه العقلي
(لا يكن أحدكم إمعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت و إن أساؤوا أسأت) لكن الجماعات الإسلامية
تنتقي من النصوص مايناسب مشروعها السياسي كما عودتنا على ذلك.
4
بعد اغتصاب السلطة من قبل الجماعات الإسلامية
في دول الربيع العربي وسواها من الأمصار، والموت السريري لحلم دولة المؤسسات والمواطنة
والعدالة الإجتماعية في تلك البلدان .. بتنا على اعتاب غيبوبة تاريخية جديدة للشعوب
العربية تنفصل فيها تماماً عما يجري في العصر فتعيش بعقلية القطيع، لاتسمع ولاترى ولاتتكلم
بل تجتر أوهام مجد غابر ولاتتطلع أكثر من أن تعيش يومها وترضى بما هو مقسوم، وقد تجرها
عقلية القطيع تلك إلى حروب الطوائف العربية التي بدأت تقرع طبولها في المنطقة.
ولكن هل يمكن الخروج من الأسوار العالية لعقلية
القطيع، إلى فضاء العقلية الإبتكارية، عقلية الفرد المبدع المستقل الشخصية والمسؤول
عن تصرفاته دون أن ينسبها لقدر محتوم، عقلية شكاكة، متفحصة، ناقدة تأبى الإستكانة للكسل
المعرفي المتوارث و اجترار ثقافة السلف الصالح الذي فكّر ورسم لنا الطريق الذهبي قبل
عشرة قرون خلت؟
ليس سهلاً الخروج من ربقة هذا الأسرمثلما أنه
ليس مستحيلاً، بعض الأفراد قد ينجح (3)، والبعض يحتاج إلى قدر من المساعدة والأكثرية
سعيدة بهذا الأسر والبقاء خلف أقفاص القطيع، فالخروج إلى الغابة وتحمل مسؤولية مصائرهم
بأنفسهم تصيبهم بالرهبة الشديدة. ولكن المهمة التاريخية هنا، تكمن في انتشال مجتمعات
وشعوب بأسرها من كهف القطيع المظلم إلى ضوء الشمس الساطع لمواجهة أسئلة العصر وتحدياته،
وهذا العمل لن يتم بين ليلة وضحاها بل يحتاج إلى جهود مؤسسية ضخمة تبدأ بالإصلاح الديني
وتنتهي بإصلاح التعليم وتوفير العدالة الإجتماعية وتنمية المجتمعات والقضاء على الفقر
والأمية وبدون هذا المنجز نبقى ندور في حلقة التخلف وتزداد الصراعات الطائفية استعاراً
ووحشية كل يوم.
—————————————-
1.
حديث نبوي يستخدم كشعار من قبل الجماعات الأصولية لرفض التغيير والتحديث.
2.
حديث نبوي ، وهناك العديد من الأحاديث النبوية ذات الصلة .
3.
نضال درويش وخلود سكرية أول ثنائي لبناني من طائفتين مختلفتين يتزوجان مدنيا في
10/1/2012
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire