Tunisiens Libres: جوزيف ستالين :أسس اللينينية

Home

Home

http://tunisienslibres.blogspot.com/2016/03/blog-post_25.html

vendredi 14 mars 2014

جوزيف ستالين :أسس اللينينية




أسس اللينينية


جوزيف ستالين قاهر الفاشية و مرعب الإمبريالية و باني الدولة السوفياتية و ملهم نضالات البروليتاريا العالمية


     


إلى فوج لينين، أهدي هذه الصفحات
"جوزيف ستالين"

أسس اللينينية: الموضوع واسع، وينبغي، لاستيفاء بحثه، كتاب كامل، بل مجموعة كاملة من الكتب. فلا يمكن إذن، بطبيعة الحال، أن تكون محاضراتي هذه عرضاً كاملاً للينينية. فهي لا يمكن أن تكون، في أحسن الحالات، سوى خلاصة مقتضبة لأسس اللينينية. على أنني أرى، مع ذلك، أن من المفيد عرض هذه الخلاصة، وذلك لإعطاء بعض نقاط الابتداء الأساسية التي هي ضرورية لدراسة اللينينية دراسة موفقة.
أن عرض أسس اللينينية لا يعني، بعدُ، عرض أسس مفهوم لينين عن العالم. فمفهوم لينين عن العالم وأسس اللينينية ليسا نفس الشيء الواحد من حيث المدى. أن لينين ماركسي، ومن الواضح أن أساس مفهومه عن العالم هو الماركسية. ولكن لا ينتج عن ذلك أبداً أن عرض اللينينية يجب أن يبدأ بعرض مبادىء الماركسية. أن عرض اللينينية يعني عرض ما هو خاص وجديد في مؤلفات لينين، وما اضافه لينين إلى كنز الماركسية العام، وما هو، بطبيعة الحال، مقرون باسمه بهذا المعنى فقط، سأتكلم في محاضراتي عن أسس اللينينية.
وعلى هذا، ما هي اللينينية؟
يقول بعضهم أن اللينينية هي تطبيق الماركسية على الظروف الخاصة بالوضع الروسي. إن في هذا التعريف جزءاً من الحقيقة، ولكنه بعيد عن أداء الحقيقة بكاملها. فقد طبق لينين الماركسية فعلاً على الواقع الروسي، وفعل ذلك ببراعة المعلم. ولكن لو أن اللينينية لم تكن غير مجرد تطبيق الماركسية على وضع روسيا الخاص، إذاً لكانت حادثاً قومياً محضاً وقومياً فقط، روسياً محضاً وروسياً فقط. بينما نحن نعلم أن اللينينية حادث أممي، له جذور في مجموع التطور الأممي، وليس حادثاً روسياً فقط. ولذا أرى أن عيب هذا التعريف هو أنه تعريف وحيد الجانب.
ويقول آخرون أن اللينينية هي بعث العناصر الثورية التي كانت في ماركسية العقد الخامس من القرن التاسع عشر (1840 – 1850)، خلافاً لماركسية السنين التالية التي غدت، كما يقولون، معتدلة وغير ثورية. فإذا ضربنا صفحاً عن هذا التقسيم الأبله السخيف الذي يجعل مذهب ماركس قسمين: ثورياً ومعتدلاً، فيجب الاعتراف بوجود جزء من الحقيقة حتى في هذا التعريف غير الكافي وغير الوافي إطلاقاً. وهذا الجزء من الحقيقة هو أن لينين قد بعث بالفعل محتوى الماركسية الثوري الذي وأده انتهازيو الأممية الثانية. ولكن هذا ليس سوى جزء من الحقيقة. أما الحقيقة كلها عن اللينينية، فهي أنها لم تقتصر على بعث الماركسية، بل خطت فوق ذلك خطوة أخرى إلى الأمام، بتطويرها الماركسية في الظروف الجديدة للرأسمالية ولنضال البروليتاريا الطبقي.
وبعد، فما هي اللينينية، إذن؟.
إن اللينينية هي ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية. وبتعبير أدق اللينينية هي نظرية وتاكتيك الثورة البروليتارية بوجه عام، ونظرية وتاكتيك ديكتاتورية البروليتاريا بوجه خاص. فقد ناضل ماركس وأنجلس في المرحلة السابقة للثورة (نعني الثورة البروليتارية) حين لم يكن الاستعمار قد تطور بعد، في مرحلة تهيئة البروليتاريين إلى الثورة، تلك المرحلة التي لم تكن الثورة البروليتارية فيها قد غدت بعدُ، ضرورة مباشرة عملية لا مناص منها. أما لينين، تلميذ ماركس وأنجلس، فقد ناضل في مرحلة الاستعمار المتطور، في مرحلة الثورة البروليتارية الآخذة في النمو، وفي وقت انتصرت فيه الثورة البروليتارية في قطر واحد فحطمت الديمقراطية البرجوازية، ودشنت عهد الديمقراطية البروليتارية، عهد السوفيات.
هذا هو السبب في أن اللينينية هي تطور الماركسية إلى أمام.
ويلاحظ، عادة، في اللينينية، ذلك الطابع الكفاحي إلى حد فائق العادة، والثوري إلى حد فائق العادة. وهذا صحيح تماماً. بيد أن هذه الخاصة في اللينينية يعود تفسيرها إلى عاملين أثنين: أولهما، أن اللينينية قد انبثقت من صميم الثورة البروليتارية، فلا يمكن إلا أن تحمل طابع هذه الثورة. وثانيهما، أنها نمت وتقوت في المعارك ضد انتهازية الأممية الثانية، وهو كفاح كان ومازال الشرط الأولي الضروري لنجاح النضال ضد الرأسمالية. ويجب أن لا ننسى أن ثمة مرحلة كاملة تمتد بين ماركس وأنجلس من جهة، وبين لينين من جهة أخرى، سادت فيها انتهازية الأممية الثانية دون منازع. فالنضال بلا هوادة ضد هذه الانتهازية كان، بلا مراء، من أهم مهمات اللينينية.
- 1 -
الجذور التاريخية اللينينية

ترعرعت اللينينية وتكونت في ظروف الاستعمار، حين بلغت تناقضات الرأسمالية نقطتها القصوى، حين أصبحت الثورة البروليتارية قضية نشاط عملي مباشر، حين انتهت المرحلة القديمة، مرحلة تهيئة الطبقة العاملة للثورة، إلى غايتها، أي تحولت إلى مرحلة جديدة، هي مرحلة الهجوم المباشر على الرأسمالية.
كان لينين يسمي الاستعمار الرأسمالية المحتضرة . فلماذا؟ لأن الاستعمار يدفع بتناقضات الرأسمالية إلى الحد الأخير، إلى الحدود القصوى التي من بعدها تبدأ الثورة. ومن بين هذه التناقضات ثلاثة ينبغي النظر إليها على أنها أهم التناقضات.
التناقض الأول، هو التناقض القائم بين العمل والرأسمال. فالاستعمار هو تسلط التروستات والكتل الاحتكارية الضخمة والمصارف والطغمة المالية، تسلطاً مطلقاً، في الأقطار الصناعية. وقد تبين، أثناء النضال ضد هذا التسلط المطلق، أن الأساليب المعتادة لدى الطبقة العاملة - كالنقابات والتعاونيات والأحزاب البرلمانية والنضال البرلماني – ليست كافية على الإطلاق. فأما أن تضع نفسك تحت رحمة الرأسمال، وتعيش في ضنك كما في السابق، وتنحدر باستمرار أدنى فأدنى، وإلا فعليك بسلاح جديد: هكذا يضع الاستعمار المسألة أمام جماهير البروليتاريا الغفيرة. إن الاستعمار يسوق الطبقة العاملة إلى الثورة.
التناقض الثاني، هو التناقض القائم بين مختلف الكتل المالية والدول الاستعمارية، في صراعها من أجل مصادر المواد الأولية، ومن أجل أراضي الغير. فالاستعمار هو تصدير رؤوس الأموال إلى مصادر المواد الأولية، هو الصراع الجنوني لامتلاك هذه المصادر امتلاكاً احتكارياً، هو الصراع لإعادة تقسيم عالم تم تقسيمه من قبل. وهو الصراع تشنه، بعنف شديد، الكتل المالية الجديدة والدول الجديدة، التي تفتش عن مكان تحت الشمس ، ضد الكتل والدول القديمة التي تتشبث بما اغتصبته بكل ما لديها من قوة. ولهذا الصراع الجنوني بين مختلف الكتل الرأسمالية، خاصة جديرة بالملاحظة، هي أنه يحتم قيام الحروب الاستعمارية، كعنصر لا مناص منه، في سبيل الاستيلاء على أراضي الغير. وهذه الظاهرة لها، هي أيضاً، خاصة جديرة بالملاحظة تتجلى في أنها تؤدي إلى إضعاف الرأسماليين بعضهم لبعض، وإلى إضعاف موقف الرأسمالية بوجه عام، وإلى تقريب ساعة الثورة البروليتارية، وإلى جعل هذه الثورة ضرورة عملية.
التناقض الثالث، هو التناقض الموجود بين قبضة من الأمم المتمدنة السائدة وبين مئات الملايين من أبناء الشعوب المستعمرة والتابعة في العالم. فالاستعمار هو أوقح أنواع الاستثمار، وأشد أشكال الاضطهاد غير الإنساني، الوحشي، ضد مئات الملايين من سكان الأقطار الشاسعة الواسعة في المستعمرات والبلدان التابعة. وهدف هذا الاستثمار وهذا الاضطهاد، أنما هو نهب الأرباح الفاحشة. ولكن الاستعمار، حين يستثمر هذه البلدان، يضطر إلى أن ينشىء فيها خطوطاً حديدية ومصانع ومعامل ومراكز صناعية وتجارية. ولذلك فظهور طبقة بروليتارية، وتكوين مثقفين من أبناء البلاد، ويقظة الوعي الوطني، واشتداد حركة التحرر، هي النتائج المحتومة لهذه السياسة . وأن تعاظم قوة الحركة الثورية في جميع المستعمرات وفي جميع البلدان التابعة دون استثناء لدليل واضح على ذلك. وهي حالة تهم البروليتاريا، من حيث أنها تزعزع مواقع الرأسمالية وتدكها من جذورها، وذلك بتحويلها المستعمرات والبلدان التابعة من احتياطي للاستعمار إلى احتياطي للثورة البروليتارية.
تلك هي، بالإجمال، تناقضات الاستعمار الرئيسية التي حولت الرأسمالية القديمة المزدهرة إلى رأسمالية محتضرة.
وقد كان من جملة معاني الحرب الاستعمارية التي نشبت منذ عشر سنين، أنها جمعت كل هذه التناقضات في عقدة واحدة، وألقت بها في كفة الميزان، وبذلك عجلت المعارك الثورية للبروليتاريا وسهلتها.
وبعبارة أخرى: إن الاستعمار لم يؤد فقط إلى أن الثورة أصبحت شيئاً لا بد منه من الناحية العملية، بل أدى أيضاً إلى تكوّن ظروف ملائمة للهجوم المباشر على قلاع الرأسمالية.
هذا هو الوضع الدولي الذي ولَّد اللينينية.
وقد يقال لنا: كل هذا حسن جداً. ولكن ما شأن روسيا هنا، وهي ما كانت، ولا كان من الممكن أن تكون، البلد الكلاسيكي(1) للاستعمار؟ وما شأن لينين هنا، وهو الذي عمل قبل كل شيء في روسيا ومن أجل روسيا؟ ولماذا كانت روسيا بالذات، منبت اللينينية، وموطن نظرية الثورة البروليتارية وتكتيكها؟
ذلك لأن روسيا كانت أكثر من سواها، نقطة التقاء لجميع تناقضات الاستعمار هذه.
ذلك لأن روسيا كانت أكثر من أي بلد آخر حبلى بالثورة، ولهذا السبب كانت وحدها قادرة على حل هذه التناقضات بالطريق الثوري.
فأولاً، كانت روسيا القيصرية موطن الاضطهاد بكل أنواعه – الرأسمالي والاستعماري والعسكري على السواء – وفي أشد أشكاله وحشية وبربرية. فمن ذا الذي يجهل أن سلطان الرأسمال في روسيا كان يمتزج بالاستبداد القيصري، وأن عدوانية القومية الروسية كانت تمتزج بقيام القيصرية بدور الجلاد ضد الشعوب غير الروسية، وأن استثمار مناطق كاملة – في تركيا وإيران والصين – كان يرافقه إلحاق هذه المناطق بالقيصرية، كما تلازمه حرب الفتوحات؟ لقد كان لينين على حق في قوله بأن القيصرية هي استعمار عسكري إقطاعي . فقد كانت القيصرية خلاصة مكثفة لأشد نواحي الاستعمار سلبية، مرفوعة إلى التربيع.
ثم أن روسيا القيصرية كانت احتياطياً قوياً للاستعمار الغربي، ليس فقط من حيث أنها كانت تفتح الأبواب على مصراعيها للرأسمال الأجنبي الذي كان يهيمن في روسيا على فروع من الاقتصاد الوطني ذات شأن حاسم، كالمحروقات وصناعة التعدين، بل لأنها كانت أيضاً تستطيع أن تضع ملايين الجنود على الأقدام لمصلحة الاستعماريين الغربيين. تذكروا الجيش الروسي بملاينه الأربعة عشر، الذي سفك دمه على الجبهات الاستعمارية في سبيل تأمين الأرباح الفاحشة للرأسماليين الانكليز والفرنسيين.
ثم أن القيصرية لم تكن فقط كلب الحراسة للاستعمار في شرقي أوروبا، بل كانت فوق ذلك أيضاً عملية للاستعمار الغربي لكي تستنزف من السكان مئات الملايين، لتسديد فوائد القروض الممنوحة لها في باريس ولندن وبرلين وبروكسل.
وأخيراً، كانت القيصرية حليفاً أميناً كل الأمانة للاستعمار الغربي في اقتسام تركيا وإيران والصين، الخ. ومن ذا الذي يجهل أن القيصرية خاضت الحرب الاستعمارية إلى جانب الاستعماريين الحلفاء، وأن روسيا كانت عنصراً أساسياً في هذه الحرب؟
لهذا كانت مصالح القيصرية والاستعمار الغربي تندمج وتندغم بعضها ببعض، لتشكل في النهاية شلة واحدة من مصالح الاستعمار. فهل كان باستطاعة الاستعمار الغربي أن يرتضي فقدان سند قوي في الشرق، ومستودع زاخر بالقوى والموارد، كروسيا القديمة، روسيا القيصرية والبرجوازية، دون أن يجرب قواه كلها في نضال مستميت ضد الثورة في روسيا، للدفاع عن القيصرية وتثبيت أقدامها؟ كلا، طبعاً.
غير أنه ينتج عن هذا أن كل من كان يريد ضرب القيصرية، كان يرفع يده بالضرورة على الاستعمار، وأن كل من كان ينتصب في وجه القيصرية كان مضطراً للوقوف أيضاً في وجه الاستعمار، ذلك لأن كل من كان يعمل للقضاء على القيصرية، كان لا بد له من القضاء على الاستعمار أيضاً، إذا كان ينوي فعلاً أن لا يكتفي بضرب هذه القيصرية، بل كذلك أن يجهز عليها وأن لا يبقي لها أثراً. وهكذا كانت الثورة ضد القيصرية تقارب الثورة ضد الاستعمار، وكان لا بد لها من أن تتحول إلى ثورة ضد الاستعمار، إلى ثورة بروليتارية.
وخلال ذلك، كانت تصعد في روسيا أعظم ثورة شعبية وقفت على رأسها أعظم بروليتاريا ثورية في العالم، تحت تصرفها حليف له من الشأن ما لجماهير الفلاحين الثوريين في روسيا. فهل من حاجة إلى البرهان على أن ثورة كهذه ما كان من الممكن أن تقف في منتصف الطريق، وأنها، في حال نجاحها، كان لا بد لها من السير قدماً، رافعةً علم الانتفاض المسلح على الاستعمار؟
لهذا السبب كان لا بد لروسيا من أن تصبح نقطة الالتقاء لتناقضات الاستعمار، ليس فقط من حيث أن هذه التناقضات كانت تتجلى بأوضح ما يمكن في روسيا نظراً لما تميزت به هذه التناقضات فيها من خساسة وفظاعة ووطأة لا تطاق، وليس فقط من حيث أن روسيا كانت دعامة رئيسية للاستعمار الغربي، تربط الرأسمال المالي في الغرب بمستعمرات الشرق، بل كذلك من حيث أن القوة الحقيقية القادرة على حل تناقضات الاستعمار بالطريق الثوري، كانت موجودة فقط في روسيا.
فينتج من هذا إذن، أن الثورة في روسيا لم يكن من الممكن إلا أن تصبح بروليتارية، لم يكن من الممكن إلا أن ترتدي، منذ الأيام الأولى من تطورها، طابعاً أممياً، وبالتالي، لم يكن من الممكن إلا أن تزعزع نفس أركان الاستعمار العالمي.
فهل كان بمستطاع الشيوعيين الروس، في مثل هذه الحالة، أن ينحصروا في عملهم ضمن نطاق الثورة الروسية الوطني الضيق؟ طبعاً لا. بل على العكس، كان الوضع بكامله سواء في الداخل (أزمة ثورية عميقة) أو في الخارج (الحرب) يدفعهم إلى أن يتجاوزوا، في عملهم، هذا النطاق، وأن ينقلوا النضال إلى الحلبة الدولية، وأن يكشفوا جروح الاستعمار، وأن يبرهنوا حتمية إفلاس الرأسمالية(2)، وأن يحطموا الاشتراكية الشوفينية والاشتراكية المسالمة ، وأخيراً أن يقضوا على الرأسمالية في بلادهم، وأن يبدعوا للبروليتاريا سلاحاً جديداً للنضال، هو نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية، وذلك لكي يسهلوا على البروليتاريين في جميع الأقطار مهمة القضاء على الرأسمالية. ولم يكن في وسع الشيوعيين الروس أن ينهجوا غير هذا النهج، إذ عن هذا الطريق فقط كان من الممكن الاعتماد على حدوث بعض تغيرات في الوضع الدولي من شأنها أن تقي روسيا من عودة النظام البرجوازي إليها.
هذا هو السبب في أن روسيا صارت موطن اللينينية، وأن لينين قائد الشيوعيين الروس صار خالق اللينينية.
وهنا اتفق لروسيا وللينين، ما اتفق تقريباً لألمانيا ولماركس وأنجلس بين 1840 و 1850. فقد كانت ألمانيا إذ ذاك حبلى بثورة برجوازية، كما كانت روسيا في بداية القرن العشرين. وقد كتب ماركس في البيان الشيوعي : 
إن انتباه الشيوعيين يتجه على الأخص نحو ألمانيا، لأنها على أعتاب ثورة برجوازية، ولأنها ستقوم بهذه الثورة في ظروف أكثر تقدماً من حيث المدنية الأوروبية، وبوجود بروليتاريا متطورة أكثر بكثير مما كانت عليه في انكلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، وبالتالي، فالثورة البرجوازية الألمانية، لا يمكن أن تكون سوى مقدمة مباشرة لثورة بروليتارية .
وبعبارة أخرى، كان مركز الحركة الثورية ينتقل نحو ألمانيا.
وقد لا يكون ثمة مجال للشك في أن هذه الظروف التي أشار إليها ماركس في المقطع المذكور هي التي كانت السبب الراجح في أن ألمانيا صارت موطن الاشتراكية العلمية، وفي أن زعيمي البروليتاريا الألمانية، ماركس وأنجلس، هما اللذان كانا مبدعيها.
ويجب أن يقال مثل هذا، ولكن على درجة أرفع أيضاً، عن روسيا في بداية القرن العشرين. فقد كانت روسيا، عهد ذاك، على أعتاب ثورة برجوازية، وكان عليها أن تقوم بهذه الثورة ضمن ظروف أكثر تقدماً في أوروبا، وبوجود بروليتاريا متطورة أكثر مما كانت عليه في ألمانيا في أعوام 1840 – 1850، (فضلاً عن انكلترا وفرنسا). وكانت كل العلائم تحمل على الاعتقاد بأن هذه الثورة ينبغي أن تكون خميرة ومقدمة للثورة البروليتارية. وليس من باب الصدفة أن لينين، منذ عام 1902، حين كانت الثورة الروسية بعد، في طور التهيئة، كتب في كتابه ما العمل؟ ، هذه الكلمات التي فيها من النبوءة ما فيها:
يضع التاريخ الآن أمامنا (يعني أمام الماركسيين الروس - ستالين) مهمة قريبة، هي مهمة ثورية أكثر من جميع المهام القريبة الموضوعة أمام البروليتاريا في أي بلد آخر...
فانجاز هذه المهمة، أي تهديم أقوى حصن لا للرجعية الأوروبية فحسب، بل (ويمكننا قول ذلك الآن) وللرجعية الأسيوية أيضاً، سيجعل من البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا الثورية العالمية . (لينين) – المؤلفات الكاملة. صفحة 382، الطبعة الروسية).
وبتعبير آخر: كان من الواجب أن ينتقل مركز الحركة الثورية نحو روسيا.
ومعلوم أن مجرى الثورة في روسيا قد حقق نبوءة لينين هذه تماماً.
فهل بعد هذا مجال للدهشة من أن يصبح بلد قام بمثل هذه الثورة، ولديه مثل هذه البروليتاريا، موطن نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية؟
وهل بعد هذا مجال للدهشة من أن يكون لينين، زعيم البروليتاريا الروسية، قد أصبح، في الوقت نفسه، مبدع هذه النظرية التكتيك وزعيم البروليتاريا العالمية؟

(1)كلاسيكي ـ Classique : نعت للدلالة على القدمية، والأصالة وإتباع السنن المقررة، ومعناه هنا: البلد النموذجي للاستعمار، أو العريق فيه – هيئة التعريب.
(2)الاشتراكية المسالمة pacifisme – Social: الاشتراكية المزيفة الداعية إلى الخنوع وتكتيف الذراعين خلال الحرب، بحجة أن الاشتراكية هي "مسالمة" وتكره الحرب. وذلك عوضاً عن الدعوة إلى النضال لتحويل الحرب الاستعمارية إلى نضال لقلب الاستعمار- هيئة التعريب.
- 2 -
الطريقة

قلت آنفاً أن بين ماركس وأنجلس من جهة، وبين لينين من جهة أخرى، تمتد مرحلة كاملة سيطرت فيها انتهازية الأممية الثانية. وعلي، في سبيل التدقيق، أن أضيف إلى ذلك، أن سيطرة الانتهازية هذه لم تكن شيئاً شكلياً بحتاً، بل كانت سيطرة فعلية. فمن الناحية الشكلية، كان على رأس الأممية الثانية ماركسيون "أمناء"، "قويمو المبدأ" مثل كاوتسكي وغيره. أما في الواقع، فكان عمل الأممية الثانية الأساسي يسير على خطة الانتهازية. فكان الانتهازيون، نظراً لطبيعتهم البرجوازية الصغيرة الميالة للمسالمة، يسالمون البرجوازية، وكان "قويمو المبدأ" بدورهم يسالمون الانتهازيين في سبيل "المحافظة على الوحدة" مع هؤلاء الانتهازيين، وحرصا على "السلم في داخل الحزب". وبالنتيجة كانت الانتهازية هي المسيطرة، لأن السلسلة بين سياسة البرجوازية وسياسة "قويمي المبدأ" كانت متصلة الحلقات، لا انقطاع فيها.
كانت تلك المرحلة، مرحلة تطور سلمي للرأسمالية نسبياً، مرحلة كالتي تسبق الحرب، أن صح التعبير، يوم لم تكن تناقضات الاستعمار المفجعة قد أتيح لها بعد، الوقت الكافي لتظهر بوضوح تام، ويوم كانت إضرابات العمال الاقتصادية، والنقابات، تتطور بشكل "عادي" إلى حد ما، ويوم كان النضال الانتخابي والكتل البرلمانية تسجل نجاحات "يدوخ لها الرأس"، ويوم كانت الأشكال المشروعة للنضال ترفع عالياً حتى السحاب، ويوم كان في النية "قتل" الرأسمالية بالطرق المشروعة. وبكلمة: في تلك المرحلة كانت أحزاب الأممية الثانية مصابة بالسمنة(3) ، ولم تكن تريد أبداً أن تفكر جدياً في الثورة وفي ديكتاتورية البروليتاريا وفي تثقيف الجماهير تثقيفاً ثورياً.
وبدلاً من نظرية ثورية متماسكة، كانت هناك فرضيات نظرية متناقضة، ونتف نظرية انفصلت عن نضال الجماهير الثوري الحي وانقلبت إلى عقائد جامدة رثة. وطبعاً، في سبيل إنقاذ الظواهر، كانوا يستشهدون بنظرية ماركس، ولكن لكي يستلوا منها روحها الثورية الحية.
وبدلاً من سياسة ثورية، كان هناك تفكير مبتذل سقيم وثرثرة سياسية مسكينة، ودبلوماسية برلمانية، وتطبيقات برلمانية. وطبعاً، في سبيل إنقاذ الظواهر، كانوا يتخذون قرارات وشعارات "ثورية"، ولكن لكي توضع في الدروج.
وبدلاً من العمل على تثقيف الحزب وتعليمه التكتيك الثوري الصحيح على أساس أخطائه نفسها، كانت القضايا المزعجة توضع جانباً بكل عناية، كانت تطمس وتموّه ببراعة. وطبعاً، في سبيل إنقاذ الظواهر، كانوا لا يأنفون من الكلام عن القضايا المزعجة، ولكن لكي ينتهوا آخر الأمر إلى بعض قرارات "مطاطة".
هكذا كان وجه الأممية الثانية، وتلك كانت طريقتها في العمل وأسلحتها.
غير أن عهداً جديداً كان يقترب، هو عهد الحروب الاستعمارية ومعارك البروليتاريا الثورية. وكان يتبين، بكل جلاء أن أساليب النضال القديمة غير كافية ولا قوة لها أمام سلطان الرأسمالي المالي.
فكان من الأهمية بمكان أن يعاد النظر في كل نشاط الأممية الثانية، في كل طريقة عملها، وأن يطرد منها روح التفكير المبتذل، وضيق الأفق المسكين، والثرثرة السياسية، والتنكر للمبادئ، والاشتراكية الشوفينية، والاشتراكية المسالمة. وكان من الأهمية بمكان، فحص كل أسلحة الأممية الثانية فينبذ منها ما هو صدئ هرم، وتصنع أسلحة جديدة. وبدون هذا العمل التمهيدي، كان شن الحرب على الرأسمالية أمراً لا طائل تحته. بدون هذا، كانت البروليتاريا معرضة لخطر البقاء بسلاح غير كاف، أو حتى مجردة تماماً من السلاح، في المعارك الثورية الجديدة التي تواجهها.
إن هذا الشرف، شرف القيام بفحص عام لمستودعات الأممية الثانية، وتطهيرها تطهيراً عاماً، كان من نصيب اللينينية.
تلك هي الظروف التي ولدت فيها طريقة اللينينية وتصلب عودها.
فما هي متطلبات هذه الطريقة؟
هي، أولاً، اختيار العقائد النظرية للأممية الثانية في نار نضال الجماهير الثوري، في نار التجربة الحية، أي إعادة الوحدة المفقودة بين النظرية والنشاط العملي، وإزالة القطيعة القائمة بينهما. إذ بهذه الطريقة فقط يمكن خلق حزب بروليتاري حقاً، مسلح بنظرية ثورية.
ثانياً، اختبار سياسة أحزاب الأممية الثانية، لا حسب شعارات هذه الأحزاب وقراراتها (التي لا يمكن الوثوق بها)، ولكن حسب أعمالها وأفعالها، إذ بهذه الطريقة فقط يمكن إحراز ثقة الجماهير البروليتارية واستحقاق هذه الثقة.
ثالثاً، إعادة تنظيم كل عمل الحزب حسب أسلوب جديد ثوري، بروح تثقيف الجماهير وإعدادها للنضال الثوري، إذ بهذه الطريقة فقط، يمكن تهيئة الجماهير للثورة البروليتارية.
رابعاً، الانتقاد الذاتي للأحزاب البروليتارية، وتعليم هذه الأحزاب وتثقيفها على أساس أخطائها نفسها، إذ بهذه الطريقة فقط، يمكن تكوين كادر حقيقي وزعماء حقيقيين للحزب.
ذلك هو الأساس، وذلك هو الجوهر في طريقة اللينينية.
فكيف طبقت هذه الطريقة في النشاط العملي؟
إن لدى انتهازيي الأممية الثانية سلسلة من العقائد النظرية يرددونها دائماً كلازمة.
فلنأخذ بعض هذه العقائد:
العقيد الأولى: حول ظروف استيلاء البروليتاريا على السلطة. يؤكد الانتهازيون أن البروليتاريا لا تستطيع ولا ينبغي لها أن تستولي على السلطة إذا لم تكن تشكل هي نفسها الأكثرية في البلاد. أما البراهين على ذلك، فلا وجود لها، إذ ليس في الاستطاعة، لا نظرياً ولا عملياً، تبرير هذه الفرضية البلهاء. ويقول لينين لهؤلاء السادة من رجال الأممية الثانية: لنسلم بذلك. ولكن إذا حصل وضع تاريخي (كحرب أو أزمة زراعية أو غير ذلك) تيسرت فيه للبروليتاريا التي تؤلف أقلية السكان، الإمكانية بأن تلف حولها الأكثرية العظمى من الجماهير الكادحة، فلماذا لا تستولي على السلطة؟ لماذا لا تفيد البروليتاريا من الوضع الملائم، الدولي والداخلي، لأجل اختراق جبهة الرأسمال والتعجيل في بلوغ الحل العام الشامل؟ 
ألم يقل ماركس من قبل، في عام 1850، أن الثورة البروليتارية في ألمانيا ستكون في وضع "ممتاز" إذا أمكن مساندة الثورة البروليتارية "بتجديد حرب الفلاحين"، إن صح التعبير؟ أو ليس من الواضح لكل واحد وللجميع، إن البروليتاريين في ألمانيا كانوا نسبياً أقل عدد آنذاك منهم في روسيا عام 1917؟ أو لم تظهر التجربة العملية للثورة البروليتارية الروسية أن هذه العقيدة العزيزة على قلوب أبطال الأممية الثانية خالية من كل دلالة حيوية بالنسبة إلى البروليتاريا؟ أليس واضحاً أن التجربة العملية لنضال الجماهير الثوري تحطم هذه العقيدة البالية وتقضي عليها؟
العقيدة الثانية: إن البروليتاريا لا تستطيع الاحتفاظ بالسلطة إذا لم يكن لديها مقدار كاف من الملاكات(4) الجاهزة، المثقفة والإدارية، القادرة على تنظيم إدارة البلاد. فينبغي أولاً تشكيل هذه الملاكات في ظل الرأسمالية، ثم الاستيلاء على السلطة بعد ذلك. ويجيب لينين بقوله: لنسلم معكم. ولكن لماذا لا يمكن قلب المسألة: فنستولي على السلطة أولاً، ونخلق الظروف الملائمة لتطوير البروليتاريا، ثم نسير بخطى الجبابرة إلى أمام لنرفع مستوى جماهير الشغيلة الثقافي، ونكوّن ملاكات عديدة من القادة ورجال الإدارة المنبثقين من أوساط العمال؟ ألم تظهر التجربة العملية الروسية أن ملاكات القادة المنبثقين من أوساط العمال تنمو في ظل السلطة البروليتارية أحسن وأسرع بمائة مرة مما تنمو في ظل سلطة الرأسمال؟ أليس واضحاً أن التجربة العملية لنضال الجماهير الثوري، تدفن أيضاً، دونما رحمة، هذه العقيدة النظرية الجامدة التي يقول بها الانتهازيون؟ 
العقيدة الثالثة: إن طريقة الإضراب السياسي العام غير مقبولة لدى البروليتاريا، لأنها غير ثابتة الأساس نظرياً (أنظر نقد أنجلس لها)، ولأنها خطرة عملياً (إذ يمكن أن تدخل الاضطراب إلى المجرى الاعتيادي لحياد البلاد الاقتصادية، ويمكن أن تفرغ صناديق النقابات)، كما أنها لا يمكن أن تحل محل أشكال النضال البرلمانية التي هي الشكل الرئيسي لنضال البروليتاريا الطبقي. ويجيب اللينينيون: حسناً! ولكن، أولاً، لم ينتقد أنجلس كل إضراب عام، بل انتقد فقط نوعاً معيناً من الإضراب العام، هو الإضراب الاقتصادي العام للفوضويين، الذي كان الفوضويون يحبذونه، عوضاً عن نضال البروليتاريا السياسي – فما شأن طريقة الإضراب السياسي العام هنا؟ وثانياً، من هو الذي برهن، وأين برهن، أن الشكل البرلماني للنضال هو الشكل الرئيسي لنضال البروليتاريا؟ إلا يدل تاريخ الحركة الثورية على أن النضال البرلماني ليس سوى مدرسة وعوناً لتنظيم نضال البروليتاريا خارج البرلمان، وأن القضايا الأساسية لحركة العمال إنما تحل، في ظل الرأسمالية بالقوة وبنضال الجماهير البروليتارية المباشر، وبإضرابها العام وبثورتها؟
وثالثاً، من أين جاءوا بمسألة الاستعاضة عن النضال البرلماني بطريقة الإضراب السياسي العام؟ أين ومتى حاول أنصار الإضراب السياسي العام الاستعاضة عن أشكال النضال البرلماني بأشكال النضال خارج البرلمان؟ ورابعاً، ألم تبين الثورة في روسيا إن الإضراب السياسي العام هو أكبر مدرسة للثورة البروليتارية، ووسيلة لا مثيل ولا بديل لها لتعبئة الجماهير البروليتارية، العظيمة وتنظيمها، عشية الهجوم على قلاع الرأسمالية؟ فأي شأن هنا للحرات الثخينة على تشويش المجرى الاعتيادي للحياة الاقتصادية وعلى صناديق النقابات؟ أليس واضحاً أن تجربة النضال الثوري العملية تحطم أيضاً عقيدة الانتهازيين هذه؟ الخ... الخ...
لذلك كله، كان لينين يقول أن "النظرية الثورية ليست عقيدة جامدة" وأنها "لا تتكون نهائياً إلا في صلة وثيقة بالنشاط العملي، بحركة جماهيرية حقاً وثورية حقاً" (مرض الطفولة(5) )، ذلك لأن النظرية يجب عليها أن تخدم النشاط العملي، ولأن "النظرية ينبغي لها أن تجيب على الأسئلة التي يطرحها النشاط العملي" (أصدقاء الشعب(6) )، ولأن من الواجب اختبارها بواسطة معطيات النشاط العملي.
أما فيما يتعلق بالشعارات السياسية والقرارات السياسية لأحزاب الأممية الثانية، فيكفي أن يتذكر المرء تاريخ شعار: "الحرب على الحرب" لكي يدرك كل ما هنالك من الرياء والعفونة في سياسة هذه الأحزاب التي تخفي أعمالها المعادية للثورة وراء شعارات وقرارات ثورية طنانة. ولا تزال ماثلة في أذهان الجميع تلك المظاهرة الطنانة التي قامت بها الأممية الثانية في مؤتمر "بال"(7) حيث هدد الاستعماريون بجميع فظائع الثورة المسلحة إذا هم أجترأوا على شن الحرب، وحيث وضع ذلك الشعار الرهيب: "الحرب على الحرب". ولكن من ذا الذي لا يتذكر أن قرار "بال" هذا، قد أخفي في الدروج، بعد قليل من الزمن وعلى عتبة الحرب نفسها وأعطي العمال شعاراً جديداً، وهو أن يفني بعضهم بعضاً في سبيل مجد الوطن الرأسمالي؟ أليس واضحاً أن الشعارات والقرارات الثورية لا تساوي فلساً إذا هي لم تدعم بالأعمال؟ ويكفي أن نقارن بين السياسة اللينينية القائلة بتحويل الحرب الاستعمارية إلى حرب أهلية، وبين سياسة الخيانة التي سارت عليها الأممية الثانية في أثناء الحرب، لكي ندرك كل ما يتصف به ساسة الانتهازية من صغار، وكل ما تتصف به طريقة اللينينية من عظمة.
ولا بد لي هنا من إيراد مقطع من كتاب لينين: "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي"، الذي يكيل فيه سياط النقد اللاذع لزعيم الأممية الثانية كاوتسكي، لمحاولته الانتهازية الرامية إلى الحكم على الأحزاب حسب شعاراتها وقراراتها المكتوبة على الورق، لاتبعاً لاعمالها. يقول لينين:
"أن كاوتسكي يسير على سياسة برجوازية صغيرة نموذجية، على سياسة ضيقة الأفق مبتذلة، حين يتخيل... إن إعلان شعار ما يغير شيئاً في القضية فكل تاريخ الديمقراطية البرجوازية يفضح هذا الوهم: فالديمقراطيون البرجوازيون قد وضعوا دائماً ويضعون دائماً كل أنواع "الشعارات" المطلوبة، لكي يخدعوا الشعب. فالمهم هو التثبت من صدقهم، والمقابلة بين الأعمال والأقوال، وعدم الاكتفاء منهم بالعبارات المثالية والتدجيلية، بل التفتيش عن محتواها الطبقي الحقيقي". (المؤلفات الكاملة، المجلد 23، ص 377).
ولا حاجة لأن أتكلم عن خوف أحزاب الأممية الثانية من الانتقاد الذاتي، ولا عن طريقتهم في إخفاء أخطائهم، وطمس المسائل المزعجة، وستر نقائصهم وراء عرض خادع لحالة يزعمونها باعثة على الرضى، وهي طريقة تجعل الفكر الحي كليلاً، وتمنع تثقيف الحزب تثقيفاً ثورياً بتجارب أخطائه نفسها – وقد سخر لينين من هذه الطريقة وشهّر بها. وإليكم ما كتبه لينين عن الانتقاد الذاتي في الأحزاب البروليتارية في كتابه "مرض الطفولة":
"إن موقف أي حزب سياسي من أخطائه هو من أهم المقاييس وأصدقها للحكم فيما إذا كان هذا الحزب حزباً جدياً، وفيما إذا كان يقوم فعلاً بواجبه نحو طبقته ونحو الجماهير الكادحة. إن اعتراف الحزب صراحة بخطئه، والكشف عن أسباب هذا الخطأ، وتحليل الظروف التي ولدته، ودراسة وسائل إصلاحه بانتباه ودقة، هذه هي صفة الحزب الجدي، هذا هو معنى قيام الحزب بواجباته، هذا هو معنى قيام الحزب بتعليم وتثقيف طبقته، ومن ثم الجماهير. (المؤلفات الكاملة، المجلد 25، ص 200).
يقول بعضهم أن كشف الحزب لأخطائه وممارسته الانتقاد الذاتي أمران خطران عليه، إذ قد يستخدمهما الخصوم ضد حزب البروليتاريا. لقد كان لينين يعتبر هذه الاعتراضات غير جدية وغير صحيحة مطلقاً. وإليكم ما قاله بهذا الصدد، منذ عام 1904، في كراسة "خطوة إلى أمام، وخطوتان إلى وراء"، يوم كان حزبنا لا يزال ضعيفاً وقليل العدد:
إنهم (يعني خصوم الماركسية – تعليق من ستالين) يطيرون فرحاً ويهللون ابتهاجاً حين يرون مناقشاتنا. ومن الواضح أنهم، سيهزون في وجهنا تلك المقاطع من كراسي المخصص لعيوب حزبنا ونواقصه، بقصد استخدام هذه المقاطع لغاياتهم. إن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس قد تمرسوا بالمعارك تمرساً كافياً، بحيث لا يضطرون لمثل وخزات الدبابيس هذه، وبحيث يتابعون انتقاداهم الذاتي بالرغم منها، ويواصلون، بغير مداراة أو محاباة كشف نواقصهم التي سيتم تلافيها حتماً ولا محالة، بفضل نمو حركة العمال". (المؤلفات الكاملة، المجلد 6، الصفحة 161).
هذه هي، بالإجمال، الخطوط المميزة لطريقة اللينينية. إن ما تعطيه طريقة لينين قد كان موجوداً، من حيث الجوهر، في تعاليم ماركس، هذه التعاليم التي هي "انتقادية وثورية من حيث الجوهر"، على حد قول ماركس. فهذه الروح الانتقادية والثورية، متغلغلة في طريقة لينين كلها من أولها إلى آخرها. ولكن من الخطأ الظن أن طريقة لينين هي مجرد تجديد بنيان ما أعطاه ماركس، وأعادته إلى حاله. ففي الواقع، ليست طريقة لينين عبارة عن أعادة طريقة ماركس الانتقادية والثورية إلى حالها فقط، بل هي أيضاً تطبيق ملموس وتطوير إلى أمام لطريقة ماركس، ولديالكتيكه المادي.
(3) أو متبرجزة (نسبة إلى البرجوازية) – هيئة التعريب.
(4)الكادر – هيئة التعريب.
(5)أسم كتاب للينين – هيئة التعريب.
(6)أسم كتاب للينين أيضاً – هيئة التعريب.
(7) مؤتمر "بال": هو المؤتمر الذي عقدته الأممية الثانية في 24 و 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 1912 في مدينة بال بسويسرا ـ هيئة التعريب.
- 3 -
النظرية
سآخذ من هذا الموضوع ثلاث مسائل:
ا) أهمية النظرية للحركة البروليتارية،
ب) انتقاد "نظرية" العفوية،
ج) نظرية الثورة البروليتارية.
أ – أهمية النظرية
يعتقد البعض أن اللينينية هي تقديم النشاط العملي على النظرية، بمعنى أن الأساسي في اللينينية هو تطبيق المبادئ الماركسية، هو "تحقيق" هذه المبادئ أما النظرية فاللينينية لا تهتم بها إلا بما لا يذكر. ومن المعروف أن بليخانوف تهكم أكثر من مرة على "لا مبالاة" لينين بالنظرية، وخصوصاً بالفلسفة. كذلك من المعروف أن النظرية ليست أبداً ذات حظوة لدى عدد عديد من المناضلين اللينينيين اليوم، خصوصاً بسبب النشاط العملي الهائل الذي تفرضه عليهم الظروف فينبغي أن أعلن أن هذا الرأي، هو أكثر من غريب، حول لينين واللينينية، خاطئ بصورة مطلقة ولا يطابق الواقع أبداً، وأن ميل المناضلين العمليين إلى عدم الاهتمام بالنظرية يخالف بصورة مطلقة روح اللينينية ويحمل أخطاراً عظيمة على القضية.
إن النظرية هي تجربة حركة العمال في كل البلدان، هي هذه التجربة مأخوذة بشكلها العام. ومن الواضح أن النظرية تصبح دون غاية، إذا لم تكن مرتبطة بالنشاط العملي الثوري؛ كذلك تماماً شأن النشاط العملي الذي يصبح أعمى إذا لم تنر النظرية الثورية طريقه. إلا أن النظرية يمكن أن تصبح قوة عظيمة لحركة العمال إذا هي تكونت في صلة لا تنفصم بالنشاط العملي الثوري، فهي، وهي وحدها، تستطيع أن تعطي الحركة الثقة وقوة التوجه وأدراك الصلة الداخلية للحوادث الجارية، وهي، وهي وحدها، تستطيع أن تساعد النشاط العملي على أن يفهم ليس فقط في أي اتجاه وكيف تتحرك الطبقات في اللحظة الحاضرة، بل كذلك في أي اتجاه وكيف ينبغي أن تتحرك في المستقبل القريب. أن لينين نفسه قال وكرر مرات عديدة هذه الفكرة المعروفة القائلة:
"بدون نظرية ثورية، لا حركة ثورية(8) " (ما العمل؟، المجلد الرابع، صفحة 380، الطبعة الروسية).
لقد فهم لينين أحسن من أي إنسان آخر، أن النظرية أهمية عظمى، خصوصاً بالنسبة لحزب كحزبنا، نظراً للدور الكفاحي الذي وقع على عاتقه من حيث هو طليعة البروليتاريا الأممية، ونظراً لما تتصف به الحالة الداخلية والدولية، التي يعمل ضمنها، من تشابك وتعقيد. وقد تنبأ منذ عام 1902 بهذا الدور الخاص الذي يضطلع به حزبنا، فرأى من الضروري أن يذكّر إذ ذاك بما يلي:
"فقط حزب ترشده نظرية الطليعة، يستطيع أن يقوم بدور مناضل الطليعة" (المرجع نفسه).
واليوم وقد تحققت نبوءة لينين هذه عن دور حزبنا، فهل من حاجة إلى البرهان بأن فكرة لينين هذه تكتسب قوة خاصة وأهمية خاصة.
وربما كان من الواجب أن نعتبر كأسطع مظهر لما كان يعلقه لينين من أهمية عظمى على النظرية، أن لينين بالذات قام بمهمة من أكبر المهام خطورة وشأناً، وهي تعميميه في ميدان الفلسفة المادية، لأهم ما أعطاه العلم منذ أنجلس حتى لينين، وكذلك انتقاده العميق الشامل للتيارات المخالفة للمادية بين الماركسيين. كان أنجلس يقول أن "المادية مجبرة على أن تأخذ وجهاً جديداً لدى كل اكتشاف جديد كبير". ومن المعلوم أن لينين بالذات قام، في عهده، بهذه المهمة في مؤلفه الرائع: المادية والمذهب النقدي التجريبي(9) . ومن المعلوم أن بليخانوف الذي كان مغرماً بالتهكم على "لا مبالاة" لينين بالنظرية، لم يغامر حتى بالتصدي، بصورة جدية، لمثل هذه المهمة.
ب – انتقاد "نظرية" العفوية أو حول دور الطليعة في الحركة 
إن "نظرية" العفوية هي نظرية الانتهازية، هي نظرية السجود أمام عفوية حركة العمال، هي النظرية القائمة على إنكار الدور القيادي لطليعة الطبقة العاملة، إنكار الدور القيادي لحزب الطبقة العاملة، إنكاراً فعلياً.
إن نظرية السجود أمام العفوية تتعارض بشكل حازم مع الصفة الثورية لحركة العمال، أنها تعارض في أن تتجه الحركة نحو النضال ضد أسس الرأسمالية – فهي تحبذ أن تتبع الحركة فقط خطة المطالب "الممكنة التحقيق"، "المقبولة" بالنسبة للرأسمالية، أنها تحبذ كلياً "خطة أقل ما يمكن من الجهد". إن نظرية العفوية، هي عقلية الترادونيونية(10). 
إن نظرية السجود أمام العفوية تعارض معارضة تامة في أعطاء الحركة العفوية صفة واعية ومنظمة، أنها تعارض في أن يسير الحزب على رأس الطبقة العاملة، وفي أن يرفع الحزب الجماهير إلى مستوى الوعي، وفي أن يقود الحزب الحركة وراءه. انها تريد من العناصر الواعية في الحركة، أن لا تمنع هذه الحركة من متابعة السير في مجراها، أنها تدعو إلى أن يقتصر الحزب على ملاحظة الحركة العفوية وعلى الزحف في مؤخرتها. إن نظرية العفوية هي نظرية الانتقاص من دور العنصر الواعي في الحركة، هي عقلية "السير في المؤخرة" هي الأساس المنطقي لكل انتهازية.
إن هذه النظرية، التي ظهرت على المسرح منذ ما قبل الثورة الأولى في روسيا أدت عملياً إلى أن أنصارها المدعوين بـ"الاقتصاديين"، أخذوا ينكرون ضرورة وجود حزب عمال مستقل في روسيا، ويقاومون نضال الطبقة العاملة الثوري في سبيل القضاء على القيصرية، ويحبذون السياسة الترادونيونية في الحركة ويضعون، بوجه عام، حركة العمال تحت زعامة البرجوازية الحرة. 
إن نضال الأيسكرا القديمة، وانتقاد لينين الرائع لنظرية "السير في المؤخرة"، في كراسة "ما العمل"؟، لم يسحقا "الاقتصادية" فقط، بل خلقا أيضاً الأسس النظرية لقيام حركة ثورية حقاً للطبقة العاملة الروسية.
ولولا هذا النضال، لكان من العبث حتى مجرد التفكير في إنشاء حزب عمال مستقل في روسيا، وفي دوره القيادي في الثورة.
غير أن نظرية السجود أمام العفوية ليست حادثاً روسياً فقط. فهي منتشرة انتشاراً واسعاً، ولكن بشكل مختلف قليلاً، في جميع أحزاب الأممية الثانية بدون استثناء. وأعني هنا النظرية المسماة بنظرية "قوى الإنتاج". وهي النظرية التي تسعى، بعد أن بتذلها زعماء الأممية الثانية، إلى تبرير كل شيء، والتوفيق بين كل الناس، هي النظرية التي تتحقق من وجود الوقائع التي تفسرها حين يكون جميع الناس قد شبعوا من هذه الوقائع وملوَّها، ثم بعد أن تتحقق منها، تهدأ وتستريح. كان ماركس يقول أن النظرية المادية لا تستطيع أن تقتصر على تفسير العالم، بل ينبغي عليها أيضاً أن تغيِّره. ولكن كاوتسكي وشركاه، لا يأبهون بذلك كله، أنهم يفضلون الوقوف عند القسم الأول من صيغة ماركس.
وها كم مثالاً من الأمثلة العديدة على تطبيق هذه "النظرية". يقال أن أحزاب الأممية الثانية هددت، قبل الحرب الاستعمارية، بإعلان "الحرب على الحرب" إذا ما شرع المستعمرون في الحرب. ويقال أن هذه الأحزاب، عشية ابتداء الحرب تماماً، دفنت شعار "الحرب على الحرب" في الدروج، وطبقت شعاراً مضاداً له هو شعار "الحرب في سبيل الوطن الاستعماري". ويقال أن ملايين الضحايا وقعت من العمال بنتيجة هذا التغيير في الشعارات. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن هناك من يقع عليه الذنب في ذلك، وأن هناك من خان الطبقة العاملة أو باعها، فليس هنالك شيء من هذا أبداً! فقد جرى كل شيء كما كان ينبغي أن يجري. وذلك، أولاً، لأن الأممية هي، كما يبدو، "أداة سلم" لا أداة حرب. وثانياً، لأنه مع "مستوى قوى الإنتاج" الذي كان موجوداً آنذاك لم يكن من الممكن القيام بأي شيء آخر، فـ"الذنب" هو ذنب "قوى الإنتاج". هذا هو على الضبط ما توضحه "لنا" نظرية قوى الإنتاج" لصاحبها السيد كاوتسكي. وكل من لا يؤمن بهذه "النظرية" ليس بماركسي. وأين دور الأحزاب؟.. وأهميتها في الحركة؟.. ولكن ماذا يمكن أن يقوم به الحزب مع وجود عامل حاسم مثل "مستوى قوى الإنتاج"؟..
ومن الممكن ذكر عديد من هذه الأمثلة عن تزييف الماركسية.
وهل نحن بحاجة إلى البرهان بأن هذه "الماركسية" المزيفة، الرامية إلى تغطية عري الانتهازية، ليست سوى لون، مؤتلف مع الأسلوب الأوروبي، من ألوان نظرية "السير في المؤخرة" نفسها التي كافحها لينين منذ ما قبل الثورة الروسية الأولى؟
وهل نحن بحاجة إلى البرهان بأن تحطيم هذا التزييف النظري، هو شرط أولي لإنشاء أحزاب ثورية حقاً في الغرب؟
ج – نظرية الثورة البروليتارية 
إن النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية تأخذ، كنقطة انطلاق لها، ثلاث موضوعات أساسية:
الموضوعة الأولى – أن سيطرة الرأسمال المالي في الأقطار الرأسمالية المتقدمة، وإصدار الأوراق المالية، من حيث هو أحدى عمليات الرأسمال المالي الرئيسية، وتصدير الرساميل نحو منابع المواد الأولية، من حيث هو أحد أسس الاستعمار والسلطان المطلق للطغمة المالية، من حيث هو نتيجة لسيطرة الرأسمال المالي، كل ذلك يكشف الصفة الطفيلية الفظة للرأسمالية الاحتكارية، ويزيد الإحساس بنير التروستات والسنديكات الرأسمالية مائة مرة، وينمي سخط الطبقة العاملة ضد أسس الرأسمالية، ويسوق الجماهير إلى الثورة البروليتارية من حيث هي وسيلة الخلاص الوحيدة (راجع "الاستعمار" بقلم لينين).
ومن هنا استنتاج أول: احتدام الأزمنة الثورية في البلدان الرأسمالية، وتعاظم عناصر الانفجار أكثر فأكثر على الجبهة الداخلية، البروليتارية، في بلدان "المتروبول" .
الموضوعة الثانية - أن تصدير الرساميل المتعاظم إلى البلدان المستعمرة والتابعة، وتوسيع "مناطق النفوذ" والممتلكات المستعمرة حتى شملت مجموع الكرة الأرضية، وتحوّل الرأسمالية إلى نظام عالمي قوامه الاستعباد المالي والاضطهاد الاستعماري لأكثرية السكان العظمى في الكرة الأرضية من قبل قبضة من البلدان "المتقدمة" – كل ذلك أدّى، من جهة، إلى جعل مختلف الاقتصاديات الوطنية ومختلف الأراضي الوطنية، حلقات من سلسلة واحدة اسمها الاقتصاد العالمي، وأدى من جهة أخرى إلى تقسيم سكان الكرة الأرضية إلى معسكرين: إلى قبضة البلدان الرأسمالية "المتقدمة" التي تستثمر وتضطهد المستعمرات الشاسعة والبلدان التابعة، إلى أكثرية عظمى من البلدان المستعمرة والتابعة المضطرة إلى القيام بنضال في سبيل التحرر من النير الاستعماري (راجع "الاستعمار").
من هنا استنتاج ثانٍ: احتدام الأزمة الثورية في البلدان المستعمرة، وتعاظم عناصر التمرد أكثر فأكثر ضد الاستعمار على الجبهة الخارجية، جبهة المستعمرات.
الموضوعة الثالثة – إن الامتلاك الاحتكاري لـ"مناطق النفوذ" وللمستعمرات، وتطور البلدان الرأسمالية تطوراً غير متساوي مما يؤدي إلى نضال وحشي من أجل تقسيم العالم تقسيماً جديداً بين البلدان التي تمَّ لها الاستيلاء على أرض والبلدان التي ترغب في نيل "حصتها"، والحروب الاستعمارية من حيث هي الوسيلة الوحيدة لإعادة "التوازن" المفقود - كل ذلك يؤدي إلى احتدام النضال على الجبهة الثالثة، بين الدول الرأسمالية، مما يضعف الاستعمار ويسهل اتحاد الجبهتين الأوليتين ضد الاستعمار: الجبهة البروليتارية الثورية وجبهة تحرير المستعمرات (راجع "الاستعمار").
ومن هنا استنتاج ثالث: حتمه الحروب في عهد الاستعمار، وحتمية تكتل الثورة البروليتارية في أوروبا مع ثورة المستعمرات في الشرق، فتؤلف الاثنتان جبهة الثورة الموحدة العالمية ضد جبهة الاستعمار العالمية(11).
إن جميع هذه الاستنتاجات تجتمع، لدى لينين، في هذا الاستنتاج العام بأن "الاستعمار هو عشية الثورة الاشتراكية"(12) (مقدمة كتاب "الاستعمار، أعلى مراحل الرأسمالية"، المجلد 19، صفحة 71، الطبعة الروسية).
وتبعاً لذلك، يتغير ذات الشكل الذي توضع به مسألة الثورة البروليتارية، مسألة طبيعية هذه الثورة، ومداها، وعمقها؛ تتغير اللوحة الإجمالية للثورة بوجه عام.
فقبلاً، كان تحليل الظروف التي تسبق الثورة البروليتارية يجري عادة من وجهة نظر الوضع الاقتصادي لهذا البلد أو ذاك مأخوذاً بمفرده. أما الآن، فإن هذا الشكل في معالجة القضية لم يعد كافياً. فينبغي الآن مجابهة الأمر من وجهة نظر الحالة الاقتصادية في مجموع البلدان، أو في أكثريتها، من وجهة نظر الحالة الاقتصادية في مجموع البلدان، أو في أكثرها، من وجهة نظر حالة الاقتصاد العالمي، لأن مختلف البلدان ومختلف الاقتصاديات الوطنية لم تعد وحدات تكفي نفسها بنفسها، بل أصبحت حلقات في سلسلة واحدة أسمها الاقتصاد العالمي، لأن الرأسمالية القديمة "المتمدنة" تطورت إلى استعمار، والاستعمار هو نظام عالمي قائم على الاستعباد المالي والاضطهاد الاستعماري لأكثرية السكان العظمى في الكرة الأرضية من قبل قبضة من البلدان "المتقدمة".
قبلا، جرت العادة أن يتناول الكلام وجود أو غياب ظروف موضوعية لأجل الثورة البروليتارية في مختلف البلدان، أو، على الأصح، في هذا البلد المتطور أو ذاك. أما الآن. فإن وجهة النظر هذه لم تعد كافية. فينبغي الكلام الآن عن وجود أو غياب ظروف موضوعية لأجل الثورة في مجموع نظام الاقتصاد الاستعماري العالمي، من حيث هو كل، وعلى هذا، فأن وجود بعض بلدان غير متطورة بصورة كافية من الناحية الصناعية، في جسم هذا النظام، لا يمكن أن يكون عائقاً لا يُذلل في وجه الثورة، ما دام النظام بمجموعه، أو على الأصح لأن النظام بمجموعه، قد نضج لأجل الثورة.
قبلا، كانت العادة أن يجري الكلام عن الثورة البروليتارية في هذا البلد المتطور أو ذاك، من حيث هي مقدار بذاته، مقدار مطلق يكفي نفسه بنفسه، ويعارض جبهة وطنية معنية للرأسمال، كما هي الحال في قطبين متعارضين متقاطرين. أما الآن، فأن وجهة النظر هذه لم تعد كافية فينبغي الكلام الآن عن الثورة البروليتارية العالمية، ذلك لأن جبهات الرأسمالية الوطنية المختلفة أصبحت حلقات في سلسلة واحدة أسمها جبهة الاستعمار العالمية التي ينبغي أن تعارضها الجبهة المشتركة للحركة الثورية في جميع البلدان.
قبلا، كانت الثورة البروليتارية تعتبر نتيجة للتطور الداخلي وحده في بلد معين. أما الآن، فإن وجهة النظر هذه لم تعد كافية فالآن ينبغي اعتبار الثورة البروليتارية قبل كل شيء كنتيجة لتطور التناقضات في النظام العالمي للاستعمار، كنتيجة لانقطاع سلسلة الجبهة الاستعمارية العالمية في هذا البلد أو ذاك. 
أين ستبدأ الثورة؟ أين، في أي بلد قبل غيره، يمكن خرق جبهة الرأسمال؟ 
هناك حيث الصناعة أكثر تطوراً، حيث البروليتاريا تؤلف الأكثرية، حيث الثقافة أكثر، والديمقراطية أكثر،... هكذا كان الجواب قبلاً، بوجه عام.
غير أن النظرية اللينينية عن الثورة تعارض ذلك وتجيب: كلا! ليس بالضرورة هناك حيث الصناعة أكثر تطوراً، الخ. فأن جبهة الرأسمال ستُخرق هناك من حيث سلسلة الاستعمار أضعف، لأن الثورة البروليتارية هي نتيجة لانقطاع سلسلة الجبهة الاستعمارية العالمية في أضعف مكان فيها، وعلى هذا، فمن الممكن أن يحدث أن البلد الذي بدأ الثورة، البلد الذي خرق جبهة الرأسمال، هو، من الناحية الرأسمالية، أقل تطوراً من البلدان الأخرى التي هي أكثر تطوراً والتي بقيت مع ذلك في نطاق الرأسمالية.
في عام 1917، كانت سلسلة الجبهة العالمية الاستعمارية في روسيا أضعف منها في البلدان الأخرى، وهناك انقطعت وفتحت الطريق للثورة البروليتارية. فلماذا؟ لأن روسيا كانت تجري فيها اكبر ثورة من الثورات الشعبية، ثورة تسير في رأسها بروليتاريا ثورية لديها مثل هذا الحليف الجدي الذي هو ملايين الفلاحين المضطهدين المستثمرين من قبل كبار ملاكي الأراضي. لأن خصم الثورة هناك كان ذلك الممثل البشع للاستعمار، وهو القيصرية المحرومة من كل وزن معنوي والتي استحقت حقد جميع السكان. لقد حدث أن كانت السلسلة في روسيا اضعف، رغم أن روسيا كانت، من الناحية الرأسمالية، أقل تطوراً، مثلاً، من فرنسا أو ألمانيا، من انكلترا أو أميركا.
وأين ستنقطع السلسلة في المستقبل القريب؟ كذلك هناك حيث ستكون أضعف. ليس من المستبعد أن تنقطع السلسلة مثلاً في الهند. ولماذا؟ لأن هناك بروليتاريا ثورية فتية ملتهبة، ولها حليف هو حركة التحرر الوطني، وهو حليف خطير الشأن دون جدال، وجدي دون جدال. ولأن الثورة، في هذا البلد، لها هذا الخصم المعروف عند الجميع وهو الاستعمار الأجنبي المحروم من كل نفوذ معنوي والذي استحق حقد جميع الجماهير المضطهدة والمستثمرين في الهند.
كذلك من الممكن تماماً أن تنقطع السلسلة في ألمانيا، لماذا؟ لن العوامل التي تعمل في الهند مثلاً، بدأت تعمل في ألمانيا أيضاً. ومن الواضح أن الفرق العظيم بين مستوى تطور الهند ومستوى تطور ألمانيا لا يمكن إلا أن يترك طابعه على سير الثورة وعلى مخرجها في ألمانيا.
ولهذا يقول لينين:
"... إن البلدان الرأسمالية في أوروبا الغربية ستكمل تطورها نحو الاشتراكية... لا عن طريق "نضج" متساوي للاشتراكية لديها، بل عن طريق استثمار دول لدول أخرى، عن طريق استثمار أول دولة مغلوبة في الحرب الاستعمارية، ويضاف إليه استثمار كل الشرق. غير أن الشرق، من جهة أخرى، قد دخل نهائياً، بسبب هذه الحرب الاستعمارية الأولى نفسها، في الحركة الثورية، وأنجز نهائياً في فلك الحركة الثورية العالمية" ("من الخير أقل ولكن أحسن"، المؤلفات الكاملة، المجلد 27، صفحة 415 – 416).
وبكلمة، ينبغي، كقاعدة عامة، أن تنقطع سلسلة الجبهة الاستعمارية، هناك حيث حلقات السلسلة هي أضعف، وعلى كل حال، ليس من ضروري أن تنقطع هناك حيث الرأسمالية أكثر تطوراً، وحيث النسبة المئوية للبروليتاريا هي كذا، ونسبة الفلاحين كذا، وما إلى ذلك.
ولهذا، فإن الحسابات الإحصائية عن النسبة المئوية البروليتارية في تركيب السكان، في هذا البلد بمفرده أو ذاك، تفقد فيما يتعلق بحل مسألة الثورة البروليتارية، تلك الأهمية الاستثنائية التي كان يعزوها إليها، بطيبة خاطر، فقهاء الأممية الثانية الذين لم يفهموا ما هو الاستعمار والذين يخافون الثورة كما يخافون الطاعون.
وبعد، فإن أبطال الأممية الثانية كانوا يؤكدون (وما زالوا يؤكدون) أن بين الثورة الديمقراطية البرجوازية من جهة، والثورة البروليتارية من جهة أخرى، هوة، أو على كل حال، سوراً مثل سور الصين يفصل أحداهما عن الآخر بفترة من الزمن طويلة كثيراً أو قليلاً، نعمل فيها البرجوازية التي تصل إلى الحكم عن تطوير الرأسمالية، بينما تكدس البروليتارية قواها وتستعد "للنضال الحاسم" ضد الرأسمالية. ويقدرون هذه الفترة، عادة بعشرات السنين، إن لم يكن بأكثر من ذلك. فهل بنا من حاجة إلى البرهان على أن "نظرية" سور الصين هذه هي، في ظروف الاستعمار، خالية من كل معنى علمي وأنها ليست، ولا يمكن أن تكون، سوى وسيلة لتغطية ولتزيين الشهوات المعادية للثورة لدى البرجوازية؟ وهل بنا من حاجة إلى البرهان بأنه، في ظروف الاستعمار الذي يحمل في صلبة بذرة الاصطدامات والحروب، في ظروف "عشية الثورة الاشتراكية"، حين تتحول الرأسمالية "المزدهرة" إلى رأسمالية "محتضرة" (لينين)، بينما الحركة الثورية تتعاظم في جميع بلدان العالم، وحين يتحالف الاستعمار مع جميع القوى الرجعية دون استثناء، حتى مع القيصرية ومع نظام القنانة، وبذلك يجعل من الضرورة تكتل جميع القوى الثورية، ابتداء من الحركة البروليتارية في الغرب إلى حركة التحرر الوطني في الشرق، وحين يصبح تحطيم بقايا الأنظمة الإقطاعية غير ممكن بدون نضال ثوري ضد الاستعمار، - هل بنا من حاجة على البرهان بأن الثورة الديمقراطية البرجوازية، في بلد متطور إلى حد ما، لا يمكن، في مثل هذه الظروف، إلا أن تقترب من الثورة البروليتارية، لا يمكن إلا أن تتحول الأولى إلى الثانية؟ لقد برهن تاريخ الثورة في روسيا، بوضوح، أن هذه النظرية صحيحة ولا جدال فيها. وليس من العبث أن يكون لينين، منذ عام 1905، على أعتاب الثورة الروسية الأولى، قد صور في كراسة "خطتان" الثورة الديمقراطية البرجوازية والثورة الاشتراكية كحلقتين من سلسلة واحدة، كلوحة واحدة جامعة لمدى الثورة الروسية:
"ينبغي على البروليتاريا أن تقوم بالثورة الديمقراطية إلى النهاية بل تضم إليها جماهير الفلاحين لسحق مقاومة الأوتوقراطية بالقوة، وشل تذبذب البرجوازية. وينبغي على البروليتاريا أن تقوم بالثورة الاشتراكية بأن تضم إليها جماهير العناصر شبه البروليتارية من السكان لسحق مقاومة البرجوازية بالقوة وشل تذبذب الفلاحين البرجوازية الصغيرة. تلك هي مهمات البروليتاريا، هذه المهمات التي يصورها جماعة "الايسكرا" الجديدة بشكل بالغ الضيق في جميع مقاييسهم وجميع قراراتهم عن مدى الثورة."(لينين، المجلد الثامن، صفحة 96).
ولا أتكلم هنا عن مؤلفات لينين الأخرى الحديثة التي تظهر فيها فكرة تحويل الثورة البرجوازية إلى ثورة بروليتارية بصورة أبرز مما في "خطتان"، من حيث هي، أعني هذه الفكرة، أحد أحجار الزاوية في النظرية اللينينية عن الثورة.
يعتقد بعض الرفاق، كما يظهر، أن لينين لم يصل إلى هذه الفكرة إلا في عام 1916، وأنه، قبل ذلك، كان يعتبر أن الثورة في روسيا ستنحصر في النطاق البرجوازي، وأن الحكم، بالتالي، سينتقل من أيدي جهاز ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين إلى أيدي البرجوازية، لا إلى أيدي البروليتاريا. ويقال بأن هذا التأكيد قد تسرب حتى إلى صحافتنا الشيوعية. فعليّ أن أقول أن هذا التأكيد خاطىء تماماً، وأنه لا يطابق الواقع أبداً.
في وسعي أن ارجع إلى خطاب لينين المعروف الذي ألقاه في المؤتمر الثالث للحزب في عام 1905، وصف فيه ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين، التي هي انتصار الثورة الديمقراطية، بأنها ليست "تنظيم النظام"، بل هي "تنظيم الحرب" (تقرير عن اشتراك الاشتراكية الديمقراطية بالحكومة المؤقتة الثورية، في المؤتمر الثالث لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا، المجلد السابع، صفحة 264).
وفي وسعي أن أرجع بعد ذلك إلى مقالات لينين المعروفة "عن الحكومة المؤقتة" (عام 1905)، وفيها يشرح الإمكانيات المقبلة لتطور الثورة الروسية ويضع أمام الحزب مهمة "العمل بشكل لا تكون معه الثورة الروسية حركة بضعة أشهر، بل حركة سنين عديدة، وأن لا تؤدي فقط إلى تنازل القابضين على زمام الحكم عن بعض الإصلاحات الطفيفة، بل أن تؤدي إلى القضاء تماماً على هذا الحكم" – وفي هذه المقالات، يشرح لينين هذه الإمكانية المقبلة ويربطها بالثورة في أوروبا ويقول متابعاً:
"وإذا استطعنا بلوغ ذلك، فعندئذ... عندئذ سيلهب الحريق الثوري أوروبا، وسينهض العامل الأوروبي بدوره، وقد ضاق ذرعاً بما يلقاه من عذاب من الرجعية البرجوازية، فيرينا "كيف يكون الشغل"، عندئذ يعود النهوض الثوري في أوروبا فيحدث رد فعل مقابل في روسيا ويجعل من عهد مدته سنوات ثورية عديدة، عهداً مدته عشرات عديدة من السنين الثورية..." ("الاشتراكية الديمقراطية والحكومة المؤقتة الثورية"، المجلد السابع، صفحة 191).
ويمكنني أن أرجع، بعد ذلك، إلى مقال لينين المعروف، المنشور عام 1915، والذي يقول فيه:
"أن البروليتاريا تناضل بتفان في سبيل الاستيلاء على الحكم، في سبيل الجمهورية، في سبيل مصادرة الأراضي ... في سبيل إشراك "الجماهير الشعبية غير البروليتارية" في تحرير روسيا البرجوازية من نير "الاستعمار" العسكري الإقطاعي (- القيصرية). وستستفيد البروليتاريا حالاً(13) من تحرير روسيا البرجوازية من نير القيصرية ومن سلطة كبار الملاكين العقاريين على الأرض، ستستفيد البروليتاريا من ذلك لا لأجل مساعدة الفلاحين الأغنياء في نضالهم ضد العمال الزراعيين، بل لأجل القيام بالثورة الاشتراكية بالتحالف مع بروليتاريي أوروبا". ("خطتا الثورة"، المجلد الثامن عشر، الصفحة 318).
وفي استطاعتي أخيراً أن أرجع إلى مقطع معروف من كراس الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي وفيه يستشهد لينين بالمقطع المذكور أعلاه عن مدى الثورة الروسية في كتاب خطتان ويصل إلى الاستنتاج التالي:
"أن كل شيء قد جرى على الضبط كما قلنا، أن مجرى الثورة قد صدق صحة تفكيرنا.. ففي البداية مع "كل" جماهير الفلاحين ضد النظام الملكي، ضد كبار ملاكي الأراضي، ضد الإقطاعية (وبذلك تبقى الثورة برجوازية، ديمقراطية برجوازية). وبعدئذ مع الفلاحين الفقراء، مع أشباه البروليتاريين، مع جميع المستثمرين، ضد الرأسمالية بما فيها أغنياء الريف والكولاك والمحتكرون، وبذلك تصبح الثورة اشتراكية. أما أن يراد إقامة سور صيني بصورة مصطنعة بين الواحدة والأخرى والفصل بينهما بأي شيء سوى درجة استعداد البروليتاريا ودرجة اتحادها مع الفلاحين الفقراء، فتلك هي غاية ما يمكن أن يصل إليه تشويه الماركسية وابتذالها وإحلال الليبرالية محلها". (المجلد 23، صفحة 391).
إن ذلك يكفي فيما اعتقد.
وقد يقال لنا: حسناً، ولكن مادام الأمر كذلك، فلماذا حارب لينين فكرة "الثورة الدائمة (المستمرة)"؟
ذلك لأن لينين كان يقترح "الاستفادة إلى النهاية" من الكفاءات الثورية لدى جماهير الفلاحين واستخدام طاقتها الثورية عن آخرها لتصفية القيصرية تصفية تامة وللانتقال إلى الثورة البروليتارية. هذا، في حين يكن أنصار الثورة الدائمة يفهمون دور جماهير الفلاحين العظيم الأهمية في الثورة الروسية، كانوا يستصغرون قوة الطاقة الثورية لدى جماهير الفلاحين، كانوا يستصغرون قوة البروليتاريا الروسية وكفاءتها على جر جماهير الفلاحين وراءها. وهكذا جعلوا من الأصعب قضية تحرير جماهير الفلاحين من نفوذ البرجوازية، قضية جمع جماهير الفلاحين حول البروليتاريا.
ذلك لأن لينين كان يقترح تتويج عمل الثورة بانتقال الحكم إلى البروليتاريا. بينما أنصار الثورة "الدائمة" يبغون البدء رأساً بحكم البروليتاريا، فما كانوا يدركون أنهم بذلك يغمضون أعينهم عن هذا "الواقع البسيط" وهو بقايا الإقطاعية ولا يحسبون حساب هذه القوة العظيمة الأهمية التي هي جماهير الفلاحين الروس، ما كانوا يدركون أن سياسة كهذه ما كان من الممكن إلا أن تعرقل قضية كسب جماهير الفلاحين إلى جانب البروليتاريا.
وإذن فلينين لم يكن يحارب أنصار الثورة "الدائمة"، حول قضية استمرار الثورة، إذ أن لينين نفسه كان يتمسك بوجهة نظر الثورة المستمرة، بل كان يحاربهم لأنهم كانوا يستصغرون دور جماهير الفلاحين، الذين هم أعظم احتياطي للبروليتاريا،ولأنهم ما كانوا يفهمون فكرة زعامة البروليتاريا.
وليس في المستطاع اعتبار فكرة الثورة "الدائمة فكرة جديدة. فقد صاغها ماركس، للمرة الأولى، حوالي عام 1850، في رسالته الشهيرة إلى عصبة الشيوعيين. ومن هذه الوثيقة أخذ "الدائميون" عندنا فكرة الثورة المستمرة. وجدير بالذكر أن "الدائميين" عندنا، حين اخذوا هذه الفكرة عن ماركس، عدلوها بعض الشيء، وبتعديلهم إياها "أفسدوها" وجعلوها غير صالحة للاستخدام العملي. فكان لا بد من يد لينين المجربة البارعة لإصلاح هذا الخطأ، ولأخذ فكرة ماركس عن الثورة المستمرة بشكلها الصافي، وجعلها أحد أحجار الزاوية في النظرية اللينينية عن الثورة.
وهاكم ما يقوله ماركس بصدد الثورة المستمرة (الدائمة)، بعدما عدَّد في رسالته سلسلة من المطالب الديمقراطية الثورية التي يدعو الشيوعيين إلى انتزاعها، قال ماركس:
"في حين أن البرجوازيين الديمقراطيين يريدون، بتحقيق أكثر ما يمكن من المطالب المتقدم ذكرها، إنهاء الثورة على أسرع وجه، تقوم مصالحنا ومهمتنا نحن على جعل الثورة دائمة، مادامت جميع الطبقات المالكة، المالكة كثيراً أو قليلاً، لم تقص عن الحكم، وما دامت البروليتاريا لم تستول على سلطة الدولة، ومادامت جمعيات البروليتاريين في جميع أقطار العالم الرئيسية، وليس في بلد واحد فقط، لم تتطور بصورة كافية لوقف المزاحمة بين بروليتاريي هذه الأقطار، ومادامت قوى الإنتاج، القوى الحاسمة على الأقل، لم تتمركز في أيدي البروليتاريين".
وبكلمة أخرى:
أ‌) إن ماركس لم يقترح قط أن تبدأ الثورة في ألمانيا، خلال أعوام 1850 – 1860، بالسلطة البروليتارية رأساً، وذلك على الضد من خطط "دائميينا" الروس؛ 
ب‌) إن ماركس كان يقترح فقط تتويج عمل الثورة بالسلطة البروليتارية للدولة، وذلك بإسقاط جميع أقسام البرجوازية عن سدة الحكم، واحداً بعد آخر، خطوة خطوة، ومن ثم، بعد أن تصبح البروليتاريا في الحكم، اشعال حريق الثورة في جميع الأقطار. وكل ذلك ينطبق تماماً على ما علَّمه لينين وما حققه في مجرى ثورتنا سيراً على نظريته عن الثورة البروليتارية في ظروف الاستعمار.
وينتج من ذلك أن "دائميينا" الروس لم يستصغروا فقط دور جماهير الفلاحين في الثورة الروسية، وكذلك أهمية فكرة زعامة البروليتاريا، بل هم عدّلوا فكرة الثورة "الدائمة" عند ماركس (بإفسادها) وجعلوها غير صالحة للاستخدام العملي.
لهذا كان لينين يتهكم على نظرية "دائميينا" فينعتها بأنها "فريدة" و "رائعة"، ويتهمهم بأنهم لا يريدون "التفكير في الأسباب التي جعلت هذه النظرية الرائعة على هامش الحياة طوال عشرة أعوام". (من مقال كتبه لينين عام 1915، بعد عشرة أعوام من ظهور نظرية "الدائميين" في روسيا. راجع "خطتا الثورة"، المجلد 18، صفحة 317).
لهذا كان لينين يعتبر هذه النظرية نصف منشفيكية، قائلاً بأنها "تستعير من البلاشفة الدعوة إلى نضال البروليتاريا الثوري الفاصل، وإلى استيلاء هذه الأخيرة على السلطة السياسية، وتستعير من المنشفيك "إنكار" دور الفلاحين" (المرجع نفسه).
تلك هي الوضعية فيما يتعلق بفكرة لينين عن تحويل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى ثورة بروليتارية، وعن استخدام الثورة البرجوازية للانتقال "حالا" إلى الثورة البروليتارية.
ولنتابع. في السابق، كانوا يعتبرون من غير الممكن انتصار الثورة في بلد واحد، إذ كانوا يعتقدون أن الانتصار على البرجوازية يقتضي عملاً مشتركاً من البروليتاريين في مجموع الأقطار المتقدمة، أو في معظم مثل هذه الأقطار، على الأقل. أما الآن، فوجهة النظر هذه لم تعد تطابق الواقع. الآن، ينبغي الانطلاق من إمكانية مثل هذا الانتصار، لأن تطور مختلف الأقطار الرأسمالية في ظروف الاستعمار، بصورة غير متساوية وعلى قفزات، وتطور التناقضات الحادة في داخل الاستعمار، مما يؤدي إلى حروب محتمة، ونمو الحركة الثورية بل كذلك إلى ضرورة انتصار البروليتاريا في بلدان منفردة. وأن تاريخ الثورة في روسيا لبرهان مباشر على ذلك. ولكن من المهم أن لا ننسى هنا أن خلع البرجوازية لا يمكن تحقيقه بنجاح إلا عندما تجتمع بعض الشروط التي هي ضرورية بصورة مطلقة، والتي بدونها يكون بلا جدوى حتى مجرد التفكير في استيلاء البروليتاريا على السلطة.
وها كم ما يقوله لينين بصدد هذه الشروط في كراسه مرض الطفولة:
"إن قانون الثورة الأساسي، الذي أثبتته جميع الثورات، ولاسيما الثورات الروسية الثلاث في القرن العشرين، هو: لا يكفي، لأجل الثورة، أن تشعر جماهير المستثمرين والمضطهدين باستحالة العيش كالسابق، وأن تطالب بتغييرات. فينبغي، لأجل الثورة، أن يكون المستثمرون لم يعد في استطاعتهم أن يعيشوا ويحكموا كالسابق. فعندما يصبح "الذين تحت" لا يريدون العيش كالسابق، و"الذين فوق" لا يستطيعون الحكم كالسابق. عندئذ فقط تستطيع الثورة أن تنتصر. ويمكن التعبير عن هذه الحقيقة بصورة أخرى في الكلمات التالية: أن الثورة غير ممكنة بدون أزمة وطنية عامة (تتناول المستثمَرين والمستثمِرين معاً)(14) . فإذن لأجل الثورة، ينبغي، أولاً، أن تكون أكثرية العمال (أو، في كل حال، أكثرية العمال الواعيين، المفكرين، النشيطين سياسياً) قد فهمت فهماً تاماً ضرورة الثورة، وأن تكون مستعدة للموت في سبيلها، وينبغي، ثانيا،ً أن تعاني الطبقات الحاكمة أزمة حكومية من شأنها أن تجر إلى الحياة السياسية حتى أكثر الجماهير تأخراً..، وأن تضعف الحكومة وتجعل من الممكن للثوريين خلعها بسرعة" (المجلد 25، صفحة 222).
غير أن خلع سلطة البرجوازية وإقامة سلطة البروليتاريا في بلد واحد، لا يعنيان بعدُ، ضمان انتصار الاشتراكية التام. أن البروليتاريا في البلد المنتصر، بعد توطيد سلطتها، وجرّ جماهير الفلاحين وراءها، في وسعها ومن واجبها أن تبني المجتمع الاشتراكي. ولكن هل يعني هذا أنها بذلك تحقق انتصار الاشتراكية التام، النهائي؟ وبعبارة أخرى، هل يعني هذا أنها تستطيع، بقوى بلدها وحدها، أن توطد الاشتراكية نهائياً وتضمن البلاد تماماً ضد التدخل، وبالتالي، ضد إعادة النظام الرأسمالي؟ كلا، طبعاً. فلأجل هذا، من الضروري أن تنتصر الثورة في بعض البلدان، على الأقل. ولذلك فأن تطوير ومساندة الثورة في الأقطار الأخرى هما مهمة أساسية على الثورة المنتصرة. لذلك ينبغي للثورة في البلد المنتصر أن لا تعتبر نفسها كمقدار نفسه بنفسه، بل كعون، كوسيلة لتعجيل انتصار البروليتاريا في الأقطار الأخرى.
لقد أفصح لينين عن هذه الفكرة بكلمتين، إذ قال أن مهمة الثورة المنتصرة هي القيام "بأقصى ما هو ممكن التحقيق في بلد واحد لأجل تطوير ومساندة وأيقاظ الثورة في جميع الأقطار" (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي، المجلد 23، صفحة 385).
تلك هي، أجمالاً، الخطوط المميزة للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية. 
(8)إشارة التأكيد مني ـ ج. ستالين.
(9) Empiriocriticisme et Materialisme.
(10) Trade Unionisme : تيار انتهازي في حركة العمال يرمي إلى صرف الطبقة العاملة عن النضال السياسي بدعوى حصر اهتمامها بالقضايا الاقتصادية – هيئة التعريب.
(11) المتروبول (Metropole)، كلمة تطلق على البلد الاستعماري المسيطر بالنسبة للمستعمرات والأقطار التابعة له. فانكلترا هي المتروبول بالنسبة لكينيا والملايو، مثلا، وفرنسا هي المتروبول بالنسبة لبلاد السنغال ومدغسكر، الخ.- هيئة التعريب.
(12) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
(13) إشارات التأكيد مني ـ ج. ستالين.
(14) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
- 4 -
دكتاتورية البروليتاريا
سآخذ من هذا الموضوع ثلاث مسائل أساسية:
أ) دكتاتورية البروليتاريا، من حيث هي أداة الثورة البروليتارية.
ب) دكتاتورية البروليتاريا، من حيث هي سيادة البروليتاريا على البرجوازية.
ج) سلطة السوفيات، من حيث هي شكل لدولة ديكتاتورية البروليتاريا. 

أ – دكتاتورية البروليتاريا، من حيث هي أداة الثورة البروليتارية
إن مسألة الديكتاتورية البروليتارية هي، قبل كل شيء، مسألة محتوى الثورة البروليتارية الأساسي. فالثورة البروليتارية، وحركتها، ومدى اتساعها، وانتصاراتها لا يصبح لها لحم ودم ألا بدكتاتورية البروليتاريا. أن دكتاتورية البروليتاريا هي أداة الثورة البروليتارية وجهازها وأهم نقطة ارتكاز لها، أداة مدعوة للحياة، أولاً، لكي تسحق مقاومة المستثمرين المخلوعين وتوطد انتصارات الثورة البروليتارية، وثانياً، لكي تسير بالثورة البروليتارية إلى النهاية، لكي تقود الثورة إلى انتصار الاشتراكية التام. فأن التغلب على البرجوازية وإسقاط حكمها أمر لا تستطيع أن تفعله الثورة بدون دكتاتورية البروليتاريا. أما سحق مقاومة البرجوازية والمحافظة على الانتصارات والسير قدماً نحو انتصار الاشتراكية النهائي، فأمور لن يكون في وسع الثورة أن تفعلها إذا لم تخلق، عند بلوغها درجة ما من تطورها، جهازاً خاصاً بشكل دكتاتورية البروليتاريا، بوصفها نقطة الارتكاز الأساسية للثورة.
"إن مسألة الحكم هي المسألة الأساسية لكل ثورة" (لينين). فهل يعني ذلك أنه ينبغي الاقتصار هنا على أخذ الحكم، والاستيلاء عليه؟ كلا، طبعاً. إن الاستيلاء على الحكم ليس سوى ابتداء المهمة. فالبرجوازية التي أسقطت عن الحكم في بلد واحد تظل زمناً طويلاً، لأسباب كثيرة، أقوى من البروليتاربا التي أسقطتها. ولهذا، فالأمر كله هو الاحتفاظ بالحكم وتوطيده وجعله منيعاً لا يُغلب. فماذا يلزم لبلوغ هذا الهدف؟ من الضروري، على الأقل، انجاز ثلاث مهمات رئيسية تواجه دكتاتورية البروليتاريا "غداة" الانتصار: 
أ‌) تحطيم مقاومة الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين الذين أسقطتهم الثورة ونزعت منهم ملكيتهم، والقضاء التام على جميع محاولاتهم الرامية إلى إعادة حكم الرأسمال؛
ب‌) تنظيم عمل البناء بصورة تجمع جميع الشغيلة البروليتاريا، وتوجيه هذا العمل بشكل يهئ تصفية الطبقات وإزالتها؛
ج) تسليح الثورة، وتنظيم جيش الثورة لأجل النضال ضد الأعداء الخارجين، لأجل النضال ضد الاستعمار.
إن دكتاتورية البروليتاريا ضرورية لتحقيق هذه المهمات وإنجازها. يقول لينين:
"إن الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية هو مرحلة تاريخية كاملة. وما دامت هذه المرحلة لم تنته، فسيظل المستثمرون، حتماً يعللون أنفسهم بأمل إعادة الرأسمالية، وسيتحول هذا الأمل إلى محاولات لإعادة الرأسمالية.
فالمستثمرون الذين ما كانوا يتوقعون أبداً القضاء على حكمهم، وما كانوا يصدقون شيئاً من ذلك، ولا يقبلون أن يخطر لهم ببال، سيندفعون إلى المعركة، بعد أول هزيمة جدية، ويخوضونها بعزيمة مضاعفة عشرات المرات، وباندفاع جنوني، وبحقد متعاظم مئات المرات لكي يسترجعوا "الفردوس" المفقود لعائلاتهم التي كانت تعيش تلك الحياة الناعمة الهانئة، والتي يحكم عليها "الرعاع السفلة" الآن بالخراب والبؤس (أو بالكدح "الحقير..."). ووراء الرأسماليين المستثمرين، يقف السواد الأعظم من البرجوازية الصغيرة التي تثبت التجربة التاريخية، طوال عشرات السنين، في جميع الأقطار، أنها تتردد وتتأرجح، وتسير اليوم وراء البروليتاريا، ثم تخاف غداً من صعوبات الثورة، فيستولي عليها الذعر عند أول هزيمة أو شبه هزيمة يمنى بها العمال، ويجن جنونها وتضطرب، وتتباكى، وتركض من معسكر إلى آخر". (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي – المؤلفات، المجلد 23، الصفحة 355).
ولدى البرجوازية من الأسباب ما يدفعها إلى القيام بمحاولات لاستعادة الحكم لأنها، بعد أسقاطها، تبقى زمناً طويلاً، أقوى من البروليتاريا التي أسقطتها.
يقول لينين:
"إذا غلب المستثمرون في بلد واحد فقط – وهذه الحالة الأنموذجية طبعاً، لأن قيام الثورة في وقت واحد في عدة أقطار، شذوذ نادر الوقوع – فأنهم يبقون مع ذلك أقوى من المستثمَرين". "المصدر نفسه، الصفحة 354".
فأين تكمن قوة البرجوازية المخلوعة؟ 
أولاً، "في قوة الرأسمال الدولي، وفي قوة ومتانة الصلات الدولية للبرجوازية" (لينين: مرض الشيوعية الطفولي ("اليسارية" – المؤلفات، المجلد 25، الصفحة 173).
ثانياً، في كون "المستثمِرين يحتفظون حتماً، بعد الثورة بزمن طويل، بعدد من الميزات الفعلية الكبيرة الشأن: فيبقى لديهم المال (إذ لا يمكن إلغاء المال دفعة واحدة) وبعض ممتلكات منقولة عظيمة الشأن في الغالب. وتبقى لهم علاقات، وتبقى لهم عادات تنظيمية وإدارية ومعرفة بجميع "أسرار" الإدارة (عاداتها، طرقها، وسائلها، إمكانيتها). وتبقى لديهم ثقافة أبعد شأناً، وصلات وثيقة العرى بكبار رجال السلك التكنيكي (البرجوازيين بمعيشتهم وعقليتهم) وتبقى عندهم تجربة في الفن العسكري أعلى مستوى بما لا يقاس (وهو أمر هام جداً)، الخ، الخ." (لينين: الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي، المجلد 23، الصفحة 345).
وثالثاً، "في قوة العادة، في قوة الإنتاج الصغير، إذ لا يزال في العالم، لسوء الحظ، مقدار كبير جداً جداً من الإنتاج الصغير؛ والإنتاج الصغير يولّد الرأسمالية والبرجوازية باستمرار، كل يوم، وكل ساعة) بصورة عفوية وعلى مقاييس واسعة... لأن القضاء على الطبقات ليس معناه فقط طرد الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين – الأمر الذي كان سهلاً علينا نسبياً – بل معناه القضاء على منتجي البضائع الصغار، وهؤلاء لا يمكن طردهم ولا يمكن سحقهم، فيجب أن نكون على وفاق معهم. يمكن (ويجب) أن يتغيروا، وأن يعاد تثقيفهم – ولكن فقط بعمل تنظيمي طويل جداً، في غاية التمهل وغاية التبصر". (المرض الطفولي، المجلد الخامس والعشرون الصفحة 173، 189). 
لذلك يقول لينين:
"إن دكتاتورية البروليتاريا هي أشد الحروب بسالة وضراوة تقوم بها الطبقة الجديدة ضد عدو أعظم قوة، ضد البرجوازية التي ازدادت مقاومتها عشرة أضعاف من جرّاء إسقاطها عن الحكم"، وأن "دكتاتورية البروليتاريا هي نضال عنيد دام وغير دام، عنيف وسلمي، عسكري واقتصادي، تربوي وأداري، ضد قوى المجتمع القديم وتقاليده". (المصدر نفسه، الصفحة 173، و190). 
ونكاد لا نكون بحاجة إلى تقديم الدليل على أنه من المستحيل، على الإطلاق، أنجاز هذه المهمات في فترة وجيزة، وتحقيق كل ذلك في بضع سنوات. لهذا ينبغي أن لا يُنظر إلى دكتاتورية البروليتاريا، أي إلى الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، على أنها حقبة وجيزة عابرة من الأعمال والمراسيم "الثورية العليا"، بل على أنها مرحلة تاريخية كاملة مليئة بحروب أهلية ونزهات خارجية وبعمل عنيد من التنظيم والبناء الاقتصادي، وبكثير من الهجوم والتراجع، ومن الانتصارات والهزائم. وليست هذه المرحلة التاريخية ضرورية وحسب لأجل خلق البوادر الاقتصادية والثقافية لانتصار الاشتراكية الكلي، بل هي ضرورة أيضاً لأجل تمكين البروليتاريا، أولاً، من تثقيف نفسها وتقوية ساعدها حتى تصبح قوة قادرة على قيادة البلاد، ولأجل تمكينها، ثانياً، من أعادة تثقيف وتحويل الفئات البرجوازية الصغيرة في اتجاه يضمن تنظيم الإنتاج الاشتراكي. 
لقد قال ماركس للعمال:
"سيكون عليكم أن تجتازوا خمسة عشر عاماً، أو عشرين، أو خمسين عاماً من الحروب الأهلية والحروب بين الشعوب، لا لكي تغيروا فقط العلاقات القائمة، بل لكي تغيروا أنفسكم أنتم، ولكي تصبحوا أهلاً للسلطة السياسية". (كارل ماركس: كشف الستار عن محاكمة الشيوعيين في كولوني).
وقد تابع لينين فكرة ماركس وطوّرها إلى الأمام، فقال:
"سيكون من الضروري، في ظل دكتاتورية البروليتاريا، اعادة تثقيف الملايين من الفلاحين، وصغار أرباب العمل، ومئات الألوف من المستخدمين والموظفين والمثقفين البرجوازيين، وجعلهم جميعاً تابعين للدولة البروليتارية والقيادة البروليتارية، والتغلب على عاداتهم وتقاليدهم البرجوازية"، كما سيكون من الضروري، "... عن طريق نضال طويل المدى، على أساس دكتاتورية البروليتارية، اعادة تثقيف. . . البروليتاريين أنفسهم، الذين هم أيضاً، لا يتخلصون من أوهامهم البرجوازية الصغيرة فوراً، بمعجزة من المعجزات تحدث إشارة من مريم العذراء، أو بفعل شعار أو قرار أو مرسوم، بل يتخلصون منها فقط بنضال جماهيري طويل، شاق، ضد التأثيرات البرجوازية الصغيرة على الجماهير". (المرض الطفولي، المجلد 25 الصفحة 247 و 248).
ب ـ دكتاتورية البروليتارية، من حيث هي سيادة البروليتاريا على البرجوازية
يتبين مما قلناه آنفاً أن دكتاتورية البروليتاريا ليست مجرد تغيير أشخاص في داخل الحكومة، أي ليست مجرد تبديل "وزارة" الخ، يترك الحالة القديمة، الاقتصادية والسياسية، كما هي دون مساس. أن المنشفيك وانتهازيي جميع البلدان، الذين يخافون من الديكتاتورية كما يخافون من النار، والذين، بسبب تسلط الخوف عليهم، يبدلون مفهوم الديكتاتورية بمفهوم "الاستيلاء على الحكم"، يجعلون "الاستيلاء على الحكم" عادة مقصوراً على تغيير "الوزارة"، على وصول وزارة جديدة إلى الحكم، مؤلفة من أناس مثل شيدمان، ونوسكه، ومكدونالد، وهندرسون. ونكاد نكون في غير حاجة إلى أن نبين أن هذه التغيرات الوزارية وما يماثلها من التغيرات الأخرى لا تمت بأية صلة إلى دكتاتورية البروليتاريا، وإلى الاستيلاء على السلطة الحقيقية من قبل البروليتاريا الحقيقية. ففي حالة وجود مكدونالد وشيدمان وإضرابهما في الحكم، مع المحافظة على النظام البرجوازي القديم، لا يمكن أن تكون حكومتهم المزعومة سوى جهاز يخدم البرجوازية، وغطاء يخفي جراح الاستعمار، وأداة في يد البرجوازية ضد الحركة الثورية للجماهير المضطهدة المستثمرة. أن هذه الحكومات ضرورية للرأسمال، بوصفها ستاراً له، حين يكون من غير السهل عليه، وغير المفيد له، ومن العسير عليه أن يضطهد الجماهير ويستثمرها بدون هذا الستار. ولا ريب أن ظهور مثل هذه الحكومات علامة على أن كل شيء "هناك" (أي في معسكر الرأسماليين)، "في ممر شيبكا(15) "، ليس هادئاً. ولكن الحكومات التي هي من هذا النوع، رغم ذلك، حكومات للرأسمال متنكرة وراء قناع. فبين حكومة من نوع حكومة مكدونالد أو شيدمان، وبين استيلاء البروليتاريا على الحكم، مثل ما بين الأرض والسماء من البعد. أن دكتاتورية البروليتاريا ليست مجرد تغيير حكومة، بل هي دولة جديدة ذات هيئات جديدة مجرد تغيير حكومة، بل هي دولة جديدة ذات هيئات جديدة للسلطة في المركز وفي الأقاليم، هي دولة البروليتاريا التي قامت على أنقاض الدولة القديمة، أنقاض دولة البرجوازية.
ولا تقوم دكتاتورية البروليتارية على أساس النظام البرجوازي، بل خلال هدم هذا النظام بعد إسقاط البرجوازية، خلال نزع ملكية كبار الملاكين العقاريين وملكية الرأسماليين، خلال جعل أدوات ووسائل الإنتاج الرئيسية ملكية اجتماعية، خلال الثورة البروليتارية العنيفة. أن دكتاتورية البروليتاريا هي سلطة ثورية مستندة إلى استخدام العنف ضد البرجوازية.
إن الدولة هي آلة في يد الطبقة السائدة، لسحق مقاومة خصومها الطبقيين. ومن هذه الناحية، لا تختلف دكتاتورية البروليتاريا في شيء، من حيث الجوهر، عن دكتاتورية أية طبقة أخرى، لأن الدولة البروليتارية هي آلة لسحق البرجوازية. ولكن يوجد هنا فرق أساسي أن جميع الدول الطبقية التي وجدت حتى الآن كانت دكتاتورية الأقلية المستثمرة على الأكثرية المستثمَرة، في حين أن دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية الأكثرية المستثمَرة على الأقلية المستثمِرة.
وبالاختصار: "إن دكتاتورية البروليتاريا هي سيادة البروليتاريا على البرجوازية، سيادة لا يحدها قانون، وهي تستند إلى العنف، وتتمتع بعطف وتأييد الجماهير الكادحة والمستثمَرة". (لينين: الدولة والثورة). 
ومن هنا نستخلص استنتاجين أساسيين:
الاستنتاج الأول: أن دكتاتورية البروليتاريا لا يمكن أن تكون الديمقراطية "الكاملة"، الديمقراطية للجميع، للأغنياء والفقراء، على حد سواء. أن دكتاتورية البروليتاريا "يجب أن تكون دولة ديمقراطية بطريقة جديدة (لأجل(16) البروليتاريين وغير المالكين بصورة عامة)، ودكتاتورية بطريقة جديدة ضد(17) البرجوازية...") (الدولة والثورة). أن كلام كاوتسكي ومن لف لفه، عن المساواة الشاملة، وعن الديمقراطية "الخالصة" والديمقراطية "التامة"، الخ، ليس سوى تمويه برجوازي لهذا الواقع الذي لا يمكن نكرانه، وهو أن المساواة بين المستثمَرين والمستثمِرين مستحيلة. فنظرية الديمقراطية "الخالصة" هي نظرية ارستقراطية العمال، الذين دجّنهم القراصنة الاستعماريون وسمنَّوهم. وقد جيء بهذه الأرستقراطية إلى الوجود لكي تغطي جراح الرأسمالية، وتجعل الاستعمار اقل قبحاً، وتعطيه قوة معنوية في نضاله ضد الجماهير المستثمَرة. ففي النظام الرأسمالي لا توجد ولا يمكن أن توجد "حريّات" حقيقية للمستثمَرين، لسبب واحد على الأقل، هو أن القاعات، والمطابع، ومستودعات الورق الخ، الضرورية لاستخدام هذه "الحريات" هي امتياز للمستثمرين. وفي النظام الرأسمالي، لا يوجد ولا يمكن أن يوجد اشتراك حقيقي للجماهير المستثمَرة في أدارة البلاد، لسبب واحد على الأقل، هو أن الحكومات في ظروف الرأسمالية، حتى في ظل أكثر الأنظمة ديمقراطية، لا يقيمها الشعب، بل يقيمها روتشلد، وستينيس، وروكفلر، ومورغان، وإضرابهم. إن الديمقراطية في النظام الرأسمالي هي ديمقراطية رأسمالية، هي ديمقراطية الأقلية المستثمرة، ديمقراطية قائمة على الحد من حقوق الأكثرية المستثمرة وموجهة ضد هذه الأكثرية فالحريات الحقيقية للمستثمَرين، واشتراك البروليتاريين والفلاحين اشتراكاً حقيقياً في إدارة البلاد، ليست ممكنة إلا في ظل ديكتاتورية البروليتاريا. إن الديمقراطية، في ظل دكتاتورية البروليتاريا، هي ديمقراطية بروليتارية، هي ديمقراطية الأكثرية المستثمَرة، ديمقراطية قائمة على الحد من حقوق الأقلية المستثمِرة، وموجهة ضد هذه الأقلية.
الاستنتاج الثاني: إن دكتاتورية البروليتاريا لا يمكن أن تكون نتيجة تطور المجتمع البرجوازي والديمقراطية البرجوازية تطوراً سلمياً، - فهي لا يمكن أن تكون إلا نتيجة هدم جهاز الدولة البرجوازي، والجيش البرجوازي، وجهاز الإدارة البرجوازي، والشرطة البرجوازية.
في مقدمة بيان الحزب الشيوعي يقول ماركس وانجلس: "لا يسع الطبقة العاملة أن تكتفي فقط بالاستيلاء على الآلة الحكومية القائمة وأن تسيرها وفق غايتها". وفي رسالة وجهها ماركس في سنة 1871، إلى كوغلمان، يقول انه لا ينبغي للثورة البروليتارية "... أن تنقل الجهاز البيروقراطي والعسكري من يد إلى أخرى، كما جرى حتى الآن، بل أن تحطمه ... هذا هو الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقاً في القارة".
وقد أعطت عبارة ماركس هذه، باقتصارها على القارة، حجة للانتهازيين والمنشفيك في جميع الأقطار لكي يصيحوا بأعلى صوتهم قائلين أن ماركس كان يسلم بإمكان تطور الديمقراطية البرجوازية تطوراً سلمياً إلى ديمقراطية بروليتارية، وذلك، على الأقل، في ما يتعلق ببعض أقطار من غير القارة الأوروبية (انكلترا، أميركا). وقد كان ماركس يسلم فعلا بمثل هذه الإمكانية، وكان لديه ما يبرر التسليم بها فيما يتعلق بانكلترا وأميركا في أعوام 1870 – 1880، حين لم يكن هناك، بعد رأسمالية احتكارية، حين لم يكن هناك استعمار، حين لم تكن قد تطورت، بعد، العسكرية والبيروقراطية في هذين البلدين، بسبب ظروف تطورهما الخاصة. تلك كانت الحال قبل ظهور الاستعمار المتطور. ولكن بعد ذلك – بعد انقضاء ثلاثين أو أربعين سنة – حين تبدل الوضع في هذين البلدين تبدلاً جذرياً، وحين تطور الاستعمار وشمل جميع الأقطار الرأسمالية بلا استثناء، وحين ظهرت أيضاً العسكرية والبيروقراطية في انكلترا وأميركا، وزالت الظروف الخاصة لتطور هذين البلدين تطوراً سليماً، كان لا مندوحة من أن يزول الاستثناء المتعلق بهذين البلدين من تلقاء ذاته. يقول لينين:
"اليوم، في سنة 1917، في زمن الحرب الاستعمارية الكبرى الأولى، لم يبق وارداً هذا الاستثناء الذي وضعه ماركس. فإن كلاً من انكلترا وأميركا، وهما أكبر وآخر من يمثل – في العالم أجمع – "الحرية" الانكلوسكسونية (من حيث عدم وجود العسكرية والبيروقراطية)، قد انزلقتا اليوم انزلاقاً كلياً إلى المستنقع الأوروبي القذر الدامي، مستنقع النظم العسكرية والبيروقراطية التي تُخضع لنفسها كل شيء، وتسحق بكلكلها جميع الأشياء. "فالشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقاً" في كل من انكلترا وأميركا اليوم، هو هدم وتحطيم "جهاز الدولة" "الجاهز" (الذي بلغ في هذين البلدين، بين 1914 و 1917، درجة من الإتقان "أوروبية" استعمارية). (الدولة والثورة، المؤلفات، المجلد 21، الصفحة 395).
وبكلمة أخرى، أن قانون الثورة البروليتارية العنيفة، قانون تحطيم جهاز الدولة البرجوازي، كشرط أولي لهذه الثورة، هو القانون الحتمي للحركة الثورية في بلدان العالم الاستعمارية. ومن البديهي أنه، في المستقبل البعيد، إذا انتصرت البروليتاريا في البلدان الرأسمالية الرئيسية، وإذا تبدل التطويق الرأسمالي الحالي بالتطويق الاشتراكي، يصبح طريق التطور "السلمي" ممكناً تماماً في بعض البلدان الرأسمالية، إذ سيرى الرأسماليون، عند ذاك، أمام الوضع الدولي "غير الملائم" أنه من الأصوب أن يسلموا بملء اختيارهم". بتنازلات جدية للبروليتاريا. ولكن هذه الفرضية لا تتعلق إلا بمستقبل بعيد وممكن، أما فيما يتعلق بالمستقبل القريب المباشر، فليس لهذه الفرضية أساس على الإطلاق. 
ولذلك فلينين على حق حين يقول:
"إن الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البرجوازي بالعنف وأبداله بجهاز جديد". (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي. المجلد 23، الصفحة 342). 
ج – سلطة السوفيات، من حيث هي شكل دولة دكتاتورية البروليتاريا 
إن انتصار دكتاتورية البروليتاريا معناه سحق البرجوازية، وهدم جهاز الدولة البرجوازي، وإبدال الديمقراطية البرجوازية بالديمقراطية البروليتارية. هذا شيء واضح. ولكن ما هي المنظمات التي يمكن بواسطتها انجاز هذا العمل الضخم؟ إن الأشكال القديمة لتنظيم البروليتاريا، تلك الأشكال التي تطورت على أساس البرلمانية البرجوازية، لا يمكن أن تكون كافية لهذا العمل. هذا أمر لا ريب فيه، فما هي إذن الأشكال الجديدة لتنظيم البروليتاريا، الأشكال التي لا تصلح لأن تقوم بدور حفّار قبر جهاز الدولة البرجوازي. الأشكال التي لا تصلح فقط لتحطيم هذا الجهاز وإبدال الديمقراطية البرجوازية بالديمقراطية البروليتارية، بل التي تصلح أيضاً لأن تصبح أساس سلطة الدولة البروليتارية؟ 
إن مجالس السوفيات هي هذا الشكل الجديد لتنظيم البروليتاريا.
فما هو مصدر قوة مجالس السوفيات بالمقارنة مع أشكال التنظيم القديمة؟
ذلك أن مجالس السوفيات هي أوسع المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا، لأنها هي، وهي وحدها، تشمل جميع العمال بلا استثناء.
ذلك أن مجالس السوفيات هي المنظمات الجماهيرية الوحيدة التي تجمع جميع المضطهَدين والمستثمَرين، العمال والفلاحين، الجنود والبحارة، وفيها، لهذا السبب، تستطيع طليعة هذه الجماهير، أي البروليتاريا، أن تقوم بالقيادة السياسية لنضال الجماهير، على وجه أسهل، ومدى أوسع.
ذلك أن مجالس السوفيات هي أقوى أجهزة نضال الجماهير الثوري، وعمل الجماهير السياسي، وانتفاض الجماهير المسلح، هي أجهزة قادرة على تحطيم جبروت الرأسمال المالي وذيوله السياسية.
ذلك أن مجالس السوفيات هي المنظمات المباشرة للجماهير نفسها، أي أنها أكثر المنظمات ديمقراطية، وهي، بالتالي، أكثر المنظمات نفوذاً بين الجماهير، تسهل لهذه الجماهير الاشتراك، إلى الحد الأقصى، في تنظيم الدولة الجديدة وإدارتها، وتطلق، إلى الحد الأقصى، الطاقة الثورية والمبادرة والكفاءات الخلاّقة عند الجماهير المناضلة لتحطيم النظام القديم، المناضلة لإقامة النظام الجديد، البروليتاري.
إن سلطة السوفيات هي اتحاد مجالس السوفيات المحلية وتكوّنها في منظمة دولة، منظمة عامة واحدة، منظمة دولة للبروليتاريا التي هي طليعة الجماهير المضطهدة والمستثمَرة، والتي هي الطبقة السائدة – إنها اتحاد هذه المجالس في جمهورية السوفيات.
إن جوهر سلطة السوفيات كائن في أن أوسع المنظمات الجماهيرية وأكثرها ثورية - منظمات تلك الطبقات التي كانت، على الخصوص، مضطهدة من قبل الرأسماليين وكبار الملاكين العقاريين - تشكل الآن "الأساس الدائم الوحيد(18) لكل سلطة الدولة، لكل جهاز الدولة". وأن "هذه الجماهير نفسها التي كانت محرومة، بألف طريقة وألف حيلة، من الاشتراك في الحياة السياسية ومن التمتع بالحقوق والحريات الديمقراطية، حتى في أكثر الجمهوريات البرجوازية ديمقراطية"، رغم كونها متساوية حسب القانون، "مدعوة اليوم إلى الاشتراك في الإدارة الديمقراطية للدولة اشتراكاً(19) دائماً محققاً وحاسماً(20) أيضاً". (لينين: مباحث وتقرير عن الديمقراطية البرجوازية ودكتاتورية البروليتاريا – المؤتمر الأول للأممية الشيوعية، المؤلفات، المجلد 24).
هذا هو السبب في أن سلطة السوفيات هي شكل جديد لتنظيم الدولة، مختلف من حيث المبدأ، عن الشكل القديم الديمقراطي البرجوازي والبرلماني، هي نوع جديد من الدولة غير منطبق على أهداف استثمار الجماهير الشغيلة واضطهادها، بل على أهداف تحريرها التام من كل اضطهاد واستثمار، أهداف دكتاتورية البروليتاريا.
إن لينين على حق في قوله إن قيام سلطة السوفيات "قد سجل نهاية عصر البرلمانية الديمقراطية البرجوازية، وبداية فصل جديد في التاريخ العالمي: عصر الديكتاتورية البروليتارية".
فما هي الميزات الخاصة التي تتصف بها سلطة السوفيات؟
إن سلطة السوفيات، مادامت الطبقات موجودة، هي، بين جميع المنظمات الممكنة للدولة، أبرزها صفة جماهيرية، وأكثرها ديمقراطية؛ ذلك لأنه، نظراً إلى كون هذه السلطة ميداناً لتعاون وتحالف العمال والفلاحين المستثمَرين في نضالهم ضد المستثمِرين، وإلى كونها تستند في نشاطها إلى هذا التحالف والتعاون، فهي، بسبب ذلك، سلطة أكثرية الأهلين على الأقلية، ودولة هذه الأكثرية، والتعبير عن دكتاتوريتها.
إن سلطة السوفيات هي، بين جميع منظمات الدولة في المجتمع الطبقي، أكثرها أممية، لأنها، إذ تقضي على كل اضطهاد قومي، وإذ تستند على تعاون الجماهير الشغيلة من القوميات المختلفة، تسهل بذلك، جمع هذه الجماهير في كيان دولة واحدة.
إن سلطات السوفيات، بتركيبها نفسه، تجعل قيادة الجماهير المضطهدة والمستثمرة سهلة على طليعة هذه الجماهير، على البروليتاريا التي تمثل اصلب وأوعى نواة في مجالس السوفيات. يقول لينين:
"إن تجربة جميع الثورات وجميع حركات الطبقات المضطهدة، إن تجربة الحركة الاشتراكية العالمية تعلمنا أن البروليتاريا فقط في وسعها أن تجمع وتقود وراءها الفئات المبعثرة والمتأخرة من السكان الكادحين والمستثمرين". (المصدر نفسه). فتركيب سلطة السوفيات يسهل تطبيق دروس هذه التجربة.
إن سلطة السوفيات، يجمعها السلطتين التشريعية والتنفيذية في منظمة واحدة للدولة، وبإبدالها الدوائر الانتخابية القائمة على أساس الإقليم بوحدات على أساس الإنتاج – المعامل والمصانع – تصل العمال والجماهير الشغيلة، بصورة عامة ـ صلة مباشرة بجهاز الدولة الإداري وتعلمهم أن يحكموا البلاد.
إن سلطة السوفيات هي السلطة الوحيدة التي تستطيع أن تحرر الجيش من الخضوع للقيادة البرجوازية، وأن تحوّله من أداة لاضطهاد الشعب، كما هي حاله في ظل النظام البرجوازي، إلى أداة لتحرير الشعب من نير برجوازيته نفسها؛ ونير البرجوازية الأجنبية.
"فقط، التنظيم السوفياتي للدولة بوسعه فعلاً أن يحطّم فوراً ويهدم نهائياً الجهاز القديم، أي الجهاز البيروقراطي والحقوقي البرجوازي". (المصدر نفسه). 
إن شكل الدولة السوفياتي وحده، بإشراكه منظمات الشغيلة المستثمَرين الجماهيرية في حكم الدولة أشراكاً دائماً ومطلقاً، يستطيع أن يمهد السبيل لتلاشي الدولة، الذي هو عنصر من العناصر الأساسية لمجتمع المستقبل الذي لا دولة فيه، المجتمع الشيوعي.
فجمهورية السوفيات هي إذن الشكل السياسي المنشود الذي وجد أخيراً والذي، في نطاقه، ينبغي أن يتحقق تحرير البروليتاريا الاقتصادي وانتصار الاشتراكية التام.
وقد كانت كومونة باريس جنين هذا الشكل، وسلطة السوفيات هي تطوير له وتكميل.
لذلك يقول لينين:
"إن جمهوريات مجالس سوفيات نواب العمال والجنود والفلاحين ليست شكلاً من أشكال النظم الديمقراطية أعلى طراز وحسب، بل هي الشكل الوحيد (21) القادر على تأمين الانتقال إلى الاشتراكية بأقل ما يكون من الألم". ("مباحث حول الجمعية التأسيسية"، المؤلفات، المجلد 22. الصفحة 131). 
(15) عبارة روسية يعود عهدها إلى الحرب الروسية التركية عام 1877 – 1878. فقد مني الروس بخسائر كبيرة في المعارك التي جرت في ممر شيبكا، ولكن هيئة أركان حرب الجيوش القيصرية ما كانت تذيع عن ذلك في بلاغاتها سوى عبارة: "في ممر شيبكا، كل شيء هادئ". (ملاحظة من هيئة التعريب).
(16) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
(17) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
(18) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
(19) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
(20) إشارة التأكيد مني – ج. ستالين.
(21) إشارة التأكيد مني. ج. ستالين.
- 5 -
مسألة الفلاحين
سوف آخذ من هذا الموضوع، أربع مسائل:
أ) وضع المسألة
أ) الفلاحون في أثناء الثورة البرجوازية الديمقراطية
ج) الفلاحون في أثناء الثورة البروليتارية 
د) الفلاحون بعد توطيد حكم السوفيات

أ – وضع المسألة 
يعتقد البعض أن الشيء الأساسي في اللينينية هو مسألة الفلاحين، وأن نقطة الابتداء في اللينينية هي مسألة الفلاحين ودورهم وأهميتهم. وهذا خطأ محض. فالمسألة الأساسية في اللينينية، ونقطة الابتداء ليست مسألة الفلاحين، بل مسألة دكتاتورية البروليتاريا، وشروط الظفر بها، وشروط توطيدها. أما مسألة الفلاحين، من حيث هي مسألة حليف البروليتاريا في نضالها في سبيل الحكم، فأنها مسألة مشتقة.
بيد أن ذلك لا يزيل شيئاً مما لها من أهمية جدية، حيوية، لا يمكن نكرانها، بالنسبة للثورة البروليتارية. ومن المعلوم أن الدراسة الجدية لمسألة الفلاحين بدأت، بين الماركسيين الروس، على أعتاب الثورة الأولى (1905) تماماً، حين كانت مسألة خلع القيصرية وتحقيق سيادة البروليتاريا أمام الحزب، بكل اتساعها، وحين أصبحت قضية حليف البروليتاريا في الثورة البرجوازية الوشيكة، قضية الساعة. ومن المعلوم كذلك، أن مسألة الفلاحين في روسيا أصبحت قضية الساعة بصورة أقوى أيضاً، في وقت الثورة البروليتارية، حينما أدت مسألة دكتاتورية البروليتاريا، مسألة الظفر بها والمحافظة عليها، إلى وضع مسألة حلفاء البروليتاريا في الثورة البروليتارية الوشيكة. وهذا مفهوم: فكل من يسير إلى الحكم ويستعد له، عليه أن يهتم حتماً بمعرفة من هم حلفاؤه الحقيقيون.
بهذا المعنى، تكون مسألة الفلاحين جزءاً من المسألة العامة لدكتاتورية البروليتاريا، هي، بهذه الصفة، تمثل مسألة من المسائل الحيوية الكبرى في اللينينية.
إن موقف اللامبالاة، بل الموقف السلبي الصريح الذي تقفه أحزاب الأممية الثانية من مسألة الفلاحين، لا يمكن تفسيره بأنه ناشئ فقط عن ظروف التطور الخاصة في الغرب. بل هو يفسر، قبل كل شيء، بإن تلك الأحزاب لا تؤمن بدكتاتورية البروليتاريا، وأنها تخشى الثورة، ولا يخطر في بالها أن تقود البروليتاريا إلى الحكم. ومن يخشى الثورة، ولا يريد أن يقود البروليتاريين إلى الحكم، لا يمكن أن يهتم بمسألة حلفاء البروليتاريا في الثورة - فمسألة الحلفاء هي، في نظره، مسألة ليست بذات بال، ولا هي موضوعة على بساط البحث بشكل ملّح. وموقف التهكم الذي يقفه أبطال الأممية الثانية من مسألة الفلاحين يعتبر لديهم، دليلاً على تهذيب رفيع ، وعلامة من علائم الماركسية الحقة . أما في الحقيقة، فليس في هذا الموقف ذرة من الماركسية، لأن عدم المبالاة بمسألة هامة كمسألة الفلاحين، وذلك على أعتاب الثورة البروليتارية، هو الوجه الآخر لإنكار دكتاتورية البروليتاريا، وعلامة أكيدة لخيانة الماركسية خيانة مباشرة.
إن المسألة موضوعة كما يلي: هل الإمكانيات الثورية الكامنة لدى جماهير الفلاحين، بفعل ظروف وجودهم الخاصة، قد استنزفت أم لا، وإذا كانت لم تستنزف، فهل من أمل، هل من أساس للاستفادة من هذه الإمكانيات في سبيل الثورة البروليتارية، ولتحويل جماهير الفلاحين، أي تحويل أكثريتهم المستثمَرة، من احتياطي للبرجوازية كما كانوا في الثورات البرجوازية في الغرب، وكما لا يزالون في الوقت الحاضر، - إلى احتياطي، إلى حليف للبروليتاريا؟
إن اللينينية تجيب على هذا السؤال بالإيجاب، أي أنها تعترف بوجود كفاءات ثورية في صفوف أكثرية الفلاحين، وبإمكان الاستفادة من هذه الكفاءات لمصلحة دكتاتورية البروليتاريا. ويؤكد تاريخ الثورات الروسية الثلاث، تأكيداً تاماً، استنتاجات اللينينية في هذا الموضوع.
ومن هنا ذاك الاستنتاج العملي عن ضرورة تأييد جماهير الفلاحين الكادحين، في نضالهم ضد الاستعباد والاستثمار، في نضالهم من أجل تحررهم من الاضطهاد والبؤس. ولا يعني ذلك، طبعاً، أنه ينبغي على البروليتاريا أن تؤيد كل حركة فلاحين. فالمقصود هنا هو تأييد حركة الفلاحين ونضال الفلاحين اللذين يسهلان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حركة تحرير البروليتاريا، ويحملان الماء إلى طاحونة الثورة البروليتارية، بهذا الشكل أو بذاك، ويساهمان في جعل الفلاحين احتياطياً وحليفاً للطبقة العاملة.

ب – الفلاحون أثناء الثورة الديمقراطية البرجوازية 
تشمل هذه المرحلة فترة الزمن الممتدة منذ الثورة الروسية الأولى (1905) إلى الثورة الثانية (شباط 1917)، بما في ذلك هذه الثورة الثانية نفسها. والميزة التي تتصف بها هذه المرحلة، هي أن الفلاحين يتحررون من نفوذ البرجوازية الليبرالية، وينفصلون عن الكاديت (22) ويتجهون نحو البروليتاريا، نحو الحزب البلشفي. فتاريخ هذه المرحلة هو تاريخ النضال بين الكاديت (البرجوازية الليبرالية) وبين البلاشفة (البروليتاريين) لأجل كسب الفلاحين. وقد قررت مرحلة الدوما مصير هذا النضال، لأن مرحلة مجالس الدوما الأربعة كانت، للفلاحين، درساً عملياً بيَّن لهم بجلاء كلي أنهم لن يستلموا، من أيدي الكاديت، لا الأرض ولا الحرية، وأن القيصر هو بكليته إلى جانب كبار ملاكي الأراضي، وأن الكاديت يؤيدون القيصر، وأن القوة الوحيدة التي يمكنهم الاعتماد عليها هي عمال المدن، هي البروليتاريا. ولم تكن الحرب الاستعمارية إلا مصداقاً لدروس مرحلة الدوما، فأنجزت فصل الفلاحين عن البرجوازية وأتمت عزل البرجوازية الليبرالية، لأن سنوات الحرب بينت كم كان أمل الحصول على السلم من القيصر وحلفائه البرجوازيين، أملاً فارغاً ووهمياً. ولولا الدروس العملية لمرحلة الدوما، لكانت سيادة البروليتاريا ضرباً من المستحيل.
هكذا جرى تحالف العمال والفلاحين في الثورة الديمقراطية البرجوازية، وهكذا تحققت سيادة (قيادة) البروليتاريا في النضال المشترك لخلع القيصرية، هذه السيادة التي أدت إلى ثورة شباط 1917.
إن الثورات البرجوازية في الغرب (انكلترا، فرنسا، ألمانيا، النمسا) سلكت/ كما هو معلوم، طريقاً آخر. فهناك، لم تكن السيادة، في الثورة، للبروليتاريا التي لم تكن تمثل ولم يكن من الممكن أن تمثل، نظراً لضعفها، قوة سياسية مستقلة – بل كانت السيادة لبرجوازية الليبرالية. هناك، لم يتم إنقاذ الفلاحين من النظام الإقطاعي على يد البروليتاريا التي كانت قليلة العدد وغير منظمة، بل تمّ على يد البرجوازية. هناك مشى الفلاحون ضد النظام القديم مع البرجوازية الليبرالية. هناك كان الفلاحون احتياطياً للبرجوازية. هناك، بالتالي، أدت الثورة إلى تقوية وزن البرجوازية السياسي تقوية عظيمة.
أما في روسيا، فعلى العكس من ذلك، أعطت الثورة البرجوازية نتائج معاكسة على خط مستقيم. فالثورة في روسيا لم تقو البرجوازية، بل أضعفتها من حيث هي قوة سياسية، ولم تزد قواها الاحتياطية السياسية، بل أفقدتها احتياطها الأساسي، أفقدتها الفلاحين. أن الثورة البرجوازية في روسيا لم تضع البرجوازية الليبرالية في الصف الأول، بل وضعت في الصف الأول البروليتاريا الثورية، وجمعت حولها جماهير الفلاحين الغفيرة.
وهذا من جملة ما يفسر كون الثورة البرجوازية في روسيا تحولت، خلال فترة من الزمن قصيرة نسبياً، إلى ثورة بروليتارية، وكانت سيادة البروليتاريا هي بذرة دكتاتورية البروليتاريا، كانت هي السلّم الذي سمح بالانتقال دكتاتورية البروليتاريا.
فكيف نفسر هذه الظاهرة الفريدة في الثورة الروسية، هذه الظاهرة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الثورات البرجوازية في الغرب؟ وإلى ماذا تعود هذه الظاهرة الفريدة؟
إن هذه الظاهرة الفريدة تُفسر بكون الثورة البرجوازية قد جرت، في روسيا، في وقت كانت ظروف النضال الطبقي فيها أكثر تطوراً مما كانت في الغرب، وكانت البروليتاريا الروسية قد وجدت، ذلك العهد، متسعاً من الوقت لكي تتكون في قوة سياسية مستقلة، بينما البرجوازية الليبرالية التي أرعبتها الروح الثورية لدى البروليتاريا كانت قد فقدت كل مظهر للروح الثورية (ولاسيما بعد دروس 1905) واتجهت إلى التحالف مع القيصر وكبار ملاكي الأراضي، ضد الثورة، ضد العمال والفلاحين.
ويجدر بنا أن نأخذ، بعين الاعتبار، الظروف التالية التي أدت إلى هذه الظاهرة الفريدة في الثورة البرجوازية الروسية، وهي:
أ) تمركز الصناعة الروسية، على أعتاب الثورة، تمركزاً لم يسبق له مثيل. فمن المعلوم، مثلاً، أن 54 بالمئة من جميع العمال في روسيا كانوا يشتغلون في مشروعات تشمل أكثر من 500 عامل، في حين أن بلداً متطوراً كالولايات المتحدة لم يكن فيه سوى 33 بالمئة من العمال الذين يشتغلون في مثل تلك المشروعات. وقد لا تكون ثمة حاجة إلى التدليل على أن هذا الأمر وحده، إلى جانب وجود حزب ثوري كالحزب البلشفي، كان يجعل من الطبقة العاملة في روسيا أعظم قوة في حياة البلاد السياسية.
ب) أشكال الاستثمار البغيضة في المعامل، التي كان يضاف إليها النظام البوليسي الفظيع الذي كان يطبقه زبانية القيصر، - فهذه الحالة كانت تجعل من كل إضراب جدي للعمال عملاً سياسياً عظيم الأهمية، وتقوي مراس الطبقة العاملة، وهي القوة الثورية إلى النهاية.
ج) الانحلال السياسي لدى البرجوازية الروسية، هذا الانحلال الذي أصبح، بعد ثورة 1905، خنوعاً للقيصرية، وموقفاً معادياً للثورة بكل صراحة. ولا يمكن تفسير هذا الموقف المعادي للثورة فقط بكون الروح الثورية لدى البروليتاريا الروسية قد رمت البرجوازية الروسية في أحضان القيصرية، بل يفسر ذلك أيضاً بما كانت عليه هذه البرجوازية من حالة التبعية المباشرة حيال الدولة التي كانت تعهد إليها بتقديم ما يلزم لتجهيز وتموين قواتها.
د) أبشع بقايا النظام الإقطاعي في الريف، وأشدها ظلماً، يضاف إليها تسلط ملاك الأرض الكبير، تسلطاً مطلقاً، وهي حالة نجم عنها إلقاء الفلاحين في أحضان الثورة.
ه) القيصرية التي كانت تضغط وتضيق على كل ما هو حي، والتي كانت، بحكمها الكيفي الاستبدادي، تزيد نير الرأسمالي وملاك الأرض الكبير، ثقلاً على ثقله، وهي حالة نجم عنها اندماج نضال العمال بنضال الفلاحين وجمعها في تيار ثوري واحد جارف.
و) الحرب الاستعمارية التي صهرت جميع تناقضات الحياة السياسية الروسية هذه، في أزمة ثورية عميقة، وأعطت الثورة قدرة هجومية لا تصدق.
فماذا بقي على الفلاحين أن يفعلوا في مثل هذه الأحوال؟ وأين يبحثون عن سند لهم ضد تسلط ملاك الأراضي الكبير، وضد استبداد القيصر، وضد الحرب المشؤومة التي جرّت عليهم الخراب؟ أعند البرجوازية الليبرالية؟ ولكن البرجوازية الليبرالية كانت عدوتهم، وقد أثبتت ذلك تجربة طويلة، هي تجربة مجالس الدوما الأربعة. أعند الاشتراكيين الثوريين؟ صحيح أن الاشتراكيين الثوريين هم أفضل من الكاديت، وبرنامج الاشتراكيين الثوريين يمكن أن يمشي فهو تقريباً برنامج فلاحي، ولكن ماذا يستطيع أن يعطيه الاشتراكيون الثوريون إذا كانوا ينوون الاستناد إلى الفلاحين وحدهم، وإذا كانوا ضعفاء في المدينة حيث يستمد الخصم قوته بصورة رئيسية؟ أين هي تلك القوة الجديدة التي لن تتراجع أمام أي شيء، لا في الريف ولا في المدينة، والتي ستسير بشجاعة في الصف الأمامي للنضال ضد القيصر وضد ملاك الأراضي الكبير، والتي ستساعد الفلاحين على التحرر من الاستعباد، وعلى أخذ الأرض، والخلاص من الظلم ومن الحرب؟ وهل كان لمثل هذه القوة وجود في روسيا؟ نعم، كان في روسيا مثل هذه القوة، وهي البروليتاريا الروسية التي كانت قد أظهرت، في عام 1905، قوتها وكفاءتها على النضال إلى النهاية، وشجاعتها، وروحها الثورية.
وعلى كل حال، لم تكن هناك قوة أخرى، ولم يكن ثمة مكان للبحث فيه عن قوة أخرى.
هذا هو السبب في أن الفلاحين، بعدما غادروا شاطئ الكاديت واقتربوا من شاطئ الاشتراكيين الثوريين، توصلوا من ذلك، في الوقت نفسه، إلى ضرورة الانصياع لقيادة زعيم للثورة شجاع مقدام مثل البروليتاريا الروسية.
تلك هي العوامل التي كونت الظاهرة الفريدة التي اتصفت بها الثورة البرجوازية الروسية.

ج – الفلاحون أثناء الثورة البروليتارية
إن هذه المرحلة تشمل الفترة الممتدة من ثورة شباط (1917) إلى ثورة أكتوبر (1917). وهي مرحلة قصيرة نسبياً، لا تتجاوز ثمانية أشهر. ولكن هذه الأشهر الثمانية يمكن، بكل تأكيد، أن تعادل، من حيث تكوين الجماهير السياسي وتثقيفها الثوري، عشرات السنين من التطور في نظام دستوري عادي، ذلك لأن هذه الأشهر الثمانية كانت أشهر ثورة. أن الميزة التي تتصف بها هذه المرحلة هي تعاظم تشرّب الفلاحين بروح الثورية، وخيبة أملهم بالاشتراكيين الثوريين، وتخلّي الفلاحين عن هؤلاء وحدوث انعطاف جديد عند الفلاحين نحو الالتفاف المباشر حول البروليتاريا، من حيث هي القوة الوحيدة الثورية إلى النهاية، والقادرة على إيصال البلاد إلى السلم. إن تاريخ هذه المرحلة هو تاريخ النضال بين الاشتراكيين الثوريين (الديمقراطية البرجوازية الصغيرة) وبين البلاشفة (الديمقراطية البروليتارية) في سبيل كسب الفلاحين، في سبيل الظفر بأكثرية الفلاحين. إن مرحلة الائتلاف، ومرحلة كيرنسكي، ورفض الاشتراكيين الثوريين والمنشفيك مصادرة أراضي كبار الملاكين العقاريين، ونضال الاشتراكيين الثوريين والمنشفيك في سبيل متابعة الحرب، وهجوم حزيران على الجبهة، وعقوبة الموت للجنود، عصيان كورنيلوف، كل ذلك قرر مصير هذا النضال.
وإذا كانت مسألة القضاء على القيصر وعلى الحكم كبار ملاكي الأراضي، هي المسألة الأساسية للثورة في المرحلة السابقة، فالآن، في مرحلة ما بعد ثورة شباط، حين زال القيصر، وحين كانت الحرب التي استطالت، تمعن في ضعضعة اقتصاد البلاد، بعدما أنزلت الخراب التام بالفلاحين، - الآن أصبحت تصفية الحرب هي المسألة الأساسية للثورة. وأنتقل مركز الثقل، بصورة ظاهرة، من المسائل ذات الطابع الداخلي البحت، نحو المسألة الأساسية، وهي مسألة الحرب. إنهاء الحرب ، الخلاص من الحرب ، تلك كانت الصيحة العامة المنطلقة من البلاد المرهقة، وصيحة الفلاحين قبل غيرهم.
ولكن، لأجل التخلص من الحرب، كان من الضروري خلع الحكومة المؤقتة، كان من الضروري القضاء على حكم البرجوازية، القضاء، على حكم الاشتراكيين الثوريين والمنشفيك، لأنهم هم وحدهم كانوا ينوون أن يطيلوا أمد الحرب، حتى النصر النهائي . فللخروج من الحرب، لم يكن هناك، عملياً، سوى وسيلة واحدة هي: القضاء على البرجوازية.
فكانت ثورة جديدة، ثورة بروليتارية، لأنها أطاحت عن كراسي الحكم، بآخر كتلة من البرجوازية الاستعمارية، هي كتلة اليسار الأقصى، أي حزب الاشتراكيين الثوريين وحزب المنشفيك، لكي تخلق حكماً جديداً، حكماً بروليتارياً، هو حكم السوفيات، ولكي تحمل إلى الحكم حزب البروليتاريا الثورية، الحزب البلشفي، حزب النضال الثوري ضد الحرب الاستعمارية، وفي سبيل سلم ديمقراطي. وقد أيدت أكثرية الفلاحين نضال العمال في سبيل السلم، وفي سبيل حكم السوفيات.
لم يكن أمام الفلاحين مخرج آخر. ولم يكن من الممكن أن يكون هناك مخرج آخر.
وهكذا كانت مرحلة كيرنسكي درساً عظيماً للجماهير الكادحة من الفلاحين، لأنها بينت، بوضوح، أن الاشتراكيين الثوريين والمنشفيك ما داموا في الحكم فلن تتخلص البلاد من الحرب، ولن ينال الفلاحون لا أرضاً ولا حرية، وأن المنشفيك والاشتراكيين الثوريين لا يختلفون عن الكاديت إلا بخطبهم المعسولة ووعودهم الخداعة، وأنهم كانوا، في الواقع، يتابعون ذات السياسة الاستعمارية، أي نفس سياسة الكاديت، وأن الحكم الوحيد القادر على انتشال البلاد من المأزق الذي كانت تتخبط فيه، لا يمكن أن يكون سوى حكم السوفيات. ولم تكن الحرب التي استطالت لتؤدي إلا إلى توكيد صحة هذا الدرس، ولهذا كانت كالمهماز يستحث الثورة، وكانت تدفع الجماهير الغفيرة من الفلاحين والجنود، إلى الاحتشاد مباشرة حول الثورة البروليتارية. وهكذا أصبح انعزال الاشتراكيين الثوريين والمنشفيك أمراً لا جدال فيه. ولولا الدروس العملية لمرحلة الائتلاف، لكانت دكتاتورية البروليتاريا ضرباً من المستحيل.
تلك هي العوامل التي سهلت عملية تحول الثورة البرجوازية إلى ثورة بروليتارية.
هكذا تمت دكتاتورية البروليتاريا في روسيا.

د – الفلاحون بعد توطيد حكم السوفيات
إذا كان الأمر الرئيسي، من قبل، أي في المرحلة الأولى من الثورة، هو القضاء على القيصرية، وبعد ذلك، أي بعد ثورة شباط، الخروج، قبل كل شيء، من الحرب الاستعمارية، بخلع البرجوازية، - فالآن، بعد تصفية الحرب الأهلية، وبعد توطيد حكم السوفيات، انتقلت مشاكل البناء الاقتصادي إلى المكان الأول تقوية الصناعة المؤممة وتطويرها، ومن أجل ذلك، ربط الصناعة بالاقتصاد الفلاحي بواسطة التجارة المنظمة من قبل الدولة؛ الاستعاضة عن اخذ الفائض من الغلال الغذائية بالضريبة العينية، للوصول، فيما بعد، عن طريق التخفيض التدريجي لهذه الضريبة، إلى مبادلة السلع المصنوعة بمنتجات الاقتصاد الفلاحي؛ تنشيط التجارة وتطوير التعاون(23) بحمل ملايين الفلاحين على الاشتراك فيه: تلك هي مهمات البناء الاقتصادي المباشر، التي رسمها لينين لبناء أسس الاقتصاد الاشتراكي.
يقال أن هذه المهمة يمكن أن تبدو فوق طاقة بلد فلاحي كروسيا. ويذهب بعض المشككين إلى حد القول بأنها مهمة خيالية تماماً، وغير قابلة التحقيق، فالفلاحون هم الفلاحون، - وهم مؤلفون من منتجين صغار، ولهذا السبب، لا يستطاع استخدامهم لتنظيم أسس الإنتاج الاشتراكي.
ولكن المشككين مخطئون، لأنهم لا يأخذون بعين الاعتبار بعض العوامل ذات الأهمية الفاصلة، في هذا الصدد. ولنلق نظرة لنرى ما هي الرئيسية من هذه العوامل:
أولاً، ينبغي أن لا يكون هناك التباس بين فلاحي الاتحاد السوفياتي وفلاحي الغرب. فالفلاحون الذين تعلموا في مدرسة ثورات ثلاث، وناضلوا إلى جانب البروليتاريا وتحت قيادة البروليتاريا ضد القيصرية وضد حكم البرجوازية والفلاحون الذين تسلموا الأرض والسلم من يدي الثورة البروليتارية وأصبحوا بذلك، احتياطياً للبروليتاريا، هؤلاء الفلاحون يختلفون حتماً عن أؤلئك الذين ناضلوا أبان الثورة البرجوازية، تحت قيادة البرجوازية الليبرالية، وتسلموا الأرض من يدي هذه البرجوازية وأصبحوا، من جراء ذلك، احتياطياً للبرجوازية. فلا حاجة إذن إلى البرهان على أن الفلاحين السوفياتيين الذين تعودوا أن يقدروا الصداقة السياسية والتعاون السياسي مع البروليتاريا، وهم مدينون بحريتهم إلى هذه الصداقة وهذا التعاون، لا يمكن إلا أن يقدموا تربة ملائمة، لا مثيل لها للتعاون الاقتصادي مع البروليتاريا.
كان أنجلس يقول أن استيلاء الحزب الاشتراكي على السلطة السياسية، بات مسألة مستقبل قريب . وأنه من أجل الاستيلاء عليها، يجب أن يبدأ الحزب بالذهاب من المدينة إلى القرية، 
وأن يصبح قوة في الأرياف (انجلس: من كتابه قضية الفلاحين ). لقد كتب أنجلس هذه الأسطر، في أواخر القرن الماضي، عند كلامه عن فلاحي الغرب. فهل من الضروري أن نبرهن على أن الشيوعيين الروس الذين قاموا، خلال ثلاث ثورات، بعمل عظيم في هذا الباب، قد نجحوا في إحراز نفوذ وتأييد في الأرياف، لا يجرؤ رفاقنا في الغرب حتى على التفكير بهما؟ وكيف يمكن أن ينكر احد أن هذا العامل لا يمكن إلا أن يسهل تسهيلاً أساسياً تنظيم التعاون الاقتصادي بين الطبقة العاملة والفلاحين في روسيا؟
إن المشككين، في كلامهم عن الفلاحين الصغار، لا يفتأون يعيدون ويرددون أن هؤلاء يمثلون عاملاً لا يأتلف مع عملية البناء الاشتراكي. ولكن إليكم ما يقوله أنجلس عن الفلاحين الصغار في الغرب:
نحن، بلا تردد، إلى جانب الفلاح الصغير. وسنعمل كل ما بوسعنا لنجعل الحياة أخف عبئاً عليه، ولنسهل له الانتقال إلى الجمعية التعاونية، إذا هو قرر ذلك. ولكن إذا لم يكن بعد في حالة تمكنه من اتخاذ مثل هذا القرار، فسوف نبذل جهدنا لكي نترك له أقصى ما يمكن من الوقت، لكي يفكر ملياً بالأمر وهو على قطعة أرضه. وسنتصرف هذا التصرف ليس فقط لأننا نعتبر أن من الممكن انتقال الفلاح الصغير، العامل لحساب نفسه، إلى جانبنا، بل لأن في ذلك أيضاً مصلحة الحزب المباشرة. فكلما كان كبيراً عدد الفلاحين الذين لا ندعهم ينزلون إلى مستوى البروليتاريين، والذين نكسبهم إلى جانبنا وهم لا يزالون فلاحين، كان التحول الاجتماعي أسرع وأسهل. وللقيام بهذا التحول، ليس من حاجة بنا إلى انتظار الوقت الذي يكون فيه الإنتاج الرأسمالي قد تطور في كل مكان إلى أقصى نتائجه، وحين يكون آخر حرفي صغير وآخر فلاح صغير قد سقطا ضحيتين للإنتاج الرأسمالي الكبير. أن التضحيات المادية التي ستقضي الأحوال ببذلها من الأموال العامة في سبيل مصلحة الفلاحين قد تبدو، من وجهة نظر الاقتصاد الرأسمالي، كتبذير للمال، مع أن ذلك من أفضل وجوه استخدام الرأسمال. لأن ذلك سيوفر مبالغ قد تكون أعلى بعسرة أضعاف، لأجل النفقات الضرورية لتحويل المجتمع بمجموعة. فيمكننا إذن، من هذه الناحية، أن نكون أسخياء جداً مع الفلاحين (نفس المصدر السابق).
هذا ما كان يقوله أنجلس في كلامه عن الفلاحين في الغرب. ولكن أليس من الواضح أن ما قاله أنجلس لا يمكن تحقيقه في أي مكان، بصورة أسهل وأكمل في بلاد دكتاتورية البروليتاريا؟ أليس من الواضح أنه، في روسيا السوفياتية فقط، يمكن أن يتحقق، منذ الآن، وبصورة تامة كاملة، انتقال الفلاح الصغير العامل لحساب نقسه، إلى جانبنا ، وأن تتحقق كذلك التضحيات المادية التي لا بد منها، وأن يتحقق السخاء مع الفلاحين الضروري لهذه الغاية؛ أليس من الواضح أن هذه التدابير وغيرها من التدابير الأخرى المماثلة لصالح الفلاحين، هي الآن مطبقة في روسيا؟ فكيف يمكن أن ينكر أحد أن هذه الحالة يجب أن تسهل، بدورها، بناء اقتصاد بلاد السوفيات، وأن تدفع هذا البناء إلى أمام؟
ثانيا: لا ينبغي وقوع الالتباس بين اقتصاد روسيا الزراعي وبين الاقتصاد الزراعي في الغرب. فهو هناك يتطور متبعاً طريق الرأسمالية العادي، حيث يحدث التباين العميق بين الفلاحين، فنشاهد الأملاك الكبيرة والمزارع الرأسمالية الخاصة في قطب، والفاقة والبؤس والعبودية بالأجرة في القطب الآخر. أن التفكك والانحلال هما، في النتيجة، من الظاهرات الطبيعية جداً هناك. وليس الأمر كذلك في روسيا. فتطور الاقتصاد الزراعي، عندنا، لا يمكن أن يتبع هذا الطريق، لا لسبب إلا لأن وجود حكم السوفيات وتأميم أدوات الإنتاج ووسائله الرئيسية، لا يسمحان بهذا التطور. ففي روسيا، ينبغي أن يتبع تطور الاقتصاد الزراعي طريقاً آخر، هو طريق التعاون الذي يشمل ملايين الفلاحين الصغار والمتوسطين، طريق تطور التعاون الجماهيري في الأرياف، الذي تدعمه الدولة بمنحه تسهيلات في الاعتمادات والقروض. أن لينين أشار، بحق، في المقالات التي كتبها عن التعاون، إلى أن تطور الاقتصاد الزراعي عندنا يجب أن يتبع طريقاً جديداً، هو طريق الذي يسمح باجتذاب أكثرية الفلاحين، بواسطة التعاون، إلى أعمال البناء الاشتراكي، طريق تغلغل المبادئ الجماعية تدريجياً في الاقتصاد الزراعي، وذلك في ميدان التصريف في بداية الأمر، ثم في ميدان إنتاج المنتجات الزراعية.
ومن هذه الناحية، يسمح لنا تأثير التعاون الزراعي بأن نسجل، في الأرياف، أموراً جديدة ذات أهمية عظيمة جداً. فمن المعلوم أنه قد تشكلت، في داخل اتحاد التعاونيات الزراعية، منظمات جديدة كبرى في كل فرع من فروع الزراعة: الكتان، البطاطا، الزيت، الخ... وهي منظمات ذات مستقبل عظيم. فأن تعاونية الكتان المركزية تشمل، مثلاً، شبكة كاملة من جمعيات الفلاحين منتجي الكتان. وهي تجهز الفلاحين بالبذار وبأدوات الإنتاج، ثم تشتري منهم كل إنتاجهم من الكتان، وتصرفه بالجملة في السوق، وتؤمن للفلاحين الاشتراك بالأرباح، وهكذا تربط بين الاقتصاد الفلاحي وبين صناعة الدولة، بواسطة اتحاد التعاونيات الزراعية. فكيف ندعو هذا الشكل من تنظيم الإنتاج؟ في رأيي أن هذا هو نظام العمل المنزلي للإنتاج الاشتراكي الكبير التابع للدولة، في ميدان الزراعة. وأنني أتكلم هنا عن نظام العمل المنزلي في الإنتاج الاشتراكي الكبير، التابع للدولة، من قبيل التشبيه بنظام العمل المنزلي، تحت ظل الرأسمالية، في النسيج مثلاً، حيث نرى أن الحرفيين الذين يتلقون المواد الأولية والأدوات من الرأسمالي ويسلمونه كل إنتاجهم كانوا، في الواقع، عمالاً نصف اجراء، يشتغلون في منازلهم. إن هذه هي أحدى العلائم الكثيرة التي تدل على الطريق الذي يجب أن يتبعه، عندنا، تطور الاقتصاد الزراعي. هذا، دون الكلام عن العلائم الأخرى، من النوع ذاته، في الفروع الأخرى من الزراعة.
ونكاد لا نحتاج إلى التدليل على أن أكثرية الفلاحين العظمى ستسير، بملء اختيارها، في هذا الطريق الجديد للتطور، نابذة طريق المزارع الرأسمالية الخاصة، وطريق العبودية بالأجرة، طريق البؤس والخراب واليكم ما يقوله لينين عن طريق تطور اقتصادنا الزراعي:
سلطة الدولة على جميع وسائل الإنتاج، الرئيسية، وسلطة الدولة في أيدي البروليتاريا، وتحالف هذه البروليتاريا مع الملايين والملايين من صغار الفلاحين ومع الفلاحين الصغار جداً، وتأمين قيادة الفلاحين من قبل البروليتاريا، الخ أليس ذلك كل ما ينبغي لكي نستطيع، بواسطة التعاون، وبواسطة التعاون وحده، الذي كنا ندعوه سابقاً شيئاً تجاريا،ً والذي لا يزال يحق لنا، من بعض الوجوه، أن ندعوه كذلك اليوم أيضاً، في عهد الـ نيب(24) ، - أليس ذلك كل ما هو ضروري لبناء المجتمع الاشتراكي الكامل؟ أن ذلك ليس بعد هو بناء المجتمع الاشتراكي، ولكنه كل ما هو ضروري وكاف لبنائه . ( حول التعاون ، المؤلفات الكاملة، المجلد السادس والعشرون، الصفحة 392. الطبعة الروسية).
ويتابع لينين، بعد ذلك، كلامه عن ضرورة تقديم مساعدة، مالية وغير مالية، إلى التعاون الذي هو مبدأ جديد لتنظيم السكان و نظام اجتماعي جديد في ظل دكتاتورية البروليتاريا، فيقول:
لا يظهر أي نظام اجتماعي للوجود إلا بتأييد مالي من طبقة معينة. ولا حاجة على التذكير بما كلفته ولادة الرأسمالية الحرة من مئات ومئات الملايين من الروبلات. فينبغي لنا اليوم أن نفهم ونضع موضع التطبيق هذه الحقيقة، وهي أن النظام الاجتماعي الذي يجب علينا أن ندعمه في الوقت الحاضر، أكثر من المعتاد، هو النظام التعاوني، ولكن يجب أن ندعمه بمعنى الكلمة الحقيقي، وذلك يعني أنه لا يكفي أن نفهم هذا التأييد، كتأييد لكل منهج تعاوني، بل يجب أن نفهم هذا التأييد على انه تأييد لمنهج تعاوني تشترك فيه اشتراكاً حقيقياً جماهير السكان الحقيقية . (المصدر نفسه، الصفحة 393).
فعلى ماذا تدل كل هذه الوقائع؟
انها تدل على أن المشككين مخطئون.
وأن اللينينية على حق في اعتبارها جماهير الفلاحين الشغيلة كاحتياطي للبروليتاريا.
وأن البروليتاريا في الحكم يمكنها ويجب عليها الاستفادة من هذا الاحتياطي لكي تلحم الصناعة بالزراعة، ولكي تدفع عمل البناء الاشتراكي دفعة قوية إلى الأمام، وتضمن لدكتاتورية البروليتاريا الأساس الذي لا غنى عنه، والذي بدونه يستحيل الانتقال إلى الاقتصاد الاشتراكي.
(22) الكاديت : اختصار لكلمة دستوري ديمقراطي بالروسية، وهو حزب البرجوازية الليبرالية (أي الحرة ) الملكية. الذي كان يسمى نفسه أيضاً، حزب حرية الشعب . وقد أسس حزب الكاديت في تشرين الأول 1905 - هيئة التعريب.
(23) تعاون Coopération.
(24) نيب NEP، كلمة مؤلفة من الحروف الأولى، باللغة الروسية، للكلمات التي تؤلف العبارة التالية: السياسة الاقتصادية الجديدة - هيئة التعريب.
المسألة الوطنية
سآخذ من هذا الموضوع مسألتين رئيسيتين.
أ) وضع المسألة
ب) الحركة التحررية للشعوب المضطهدة والثورة البروليتارية.
أ – وضع المسألة
منيت المسألة الوطنية، في غضون السنوات العشرين الأخيرة، بسلسلة من التغيرات البالغة الأهمية. فالمسألة الوطنية في عهد الأممية الثانية، والمسألة الوطنية في عهد اللينينية ليستا أبداً الشيء نفسه، ليستا أبداً شيئاً واحداً، بل هما تختلفان أحداهما عن الأخرى اختلافاً عميقاً، لا من حيث مداهما وحسب، بل من حيث طبيعتها الداخلية أيضاً.
كانت المسألة الوطنية قديماً محصورة، عادة، في دائرة ضيقة من القضايا المتعلقة، في الدرجة الأولى، بالقوميات "المتمدنة".
الأرلنديون والمجريون والبولونيون والفلنديون والصرب وبعض قوميات أوروبا الأخرى: تلك هي الفئة من الشعوب غير المتمتعة بكامل حقوقها، التي كان أبطال الأممية الثانية يهتمون بمصيرها. أما عشرات ومئات الملايين من أبناء الشعوب الأسيوية والأفريقية الذين كانوا يعانون الاضطهاد الوطني بأفظع أشكاله وأشدها شراسة، فكانوا يظلون عادة خارج دائرة النظر. فلم يكن بالمستطاع الأقدام على وضع البيض والسود "المتمدنين" و "غير المتمدنين" على صعيد واحد. قراران أو ثلاثة قرارات فارغة، حامضة حلوة، مسألة تحرير المستعمرات فيها مطموسة بمنتهى العناية، ذلك كل ما كان في استطاعة رجال الأممية الثانية أن يتبجحوا به، أما اليوم، فيجب أن نعتبر هذا الازدواج وهذا الغموض في المسألة الوطنية، قد قضي عليهما ولم يبق لهما أثر. فقد كشفت اللينينية القناع عن هذا التفاوت الصارخ وهدمت الجدار الذي كان قائماً بين البيض والسود، بين الأوروبيين والأسيويين، بيم أرقاء الاستعمار "المتمدنين" وبين أرقائه "غير المتمدنين"، وبهذه الصورة، ربطت المسألة الوطنية بمسألة المستعمرات. وهكذا، تحولت المسألة الوطنية من مسألة خاصة، مسألة داخلية في الدولة، إلى مسألة عامة ودولية، إلى مسألة عالمية هي مسألة تحرير الشعوب المضطهدة في البلدان التابعة وفي المستعمرات، من نير الاستعمار.
قديماً كان مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها يُفسر، عادة تفسيراً خاطئاً، وكثيراً ما كان يقتصر على حق الأمم في الحكم الذاتي(25) . بل لقد بلغ الأمر ببعض زعماء الأممية الثانية أن يجعلوا حق تقرير المصير مقتصراً على الحق في الحكم الذاتي الثقافي، أي على حق الأمم المضطهدة بأن تكون لها مؤسساتها الثقافية، مع أبقاء السلطة المطلقة بأيدي الأمة المسيطرة. ونتيجة لذلك أصبحت فكرة حرية تقرير المصير معرضة لخطر التحول من سلاح للنضال ضد الإلتحاق(26) إلى أداة لتبرير الإلحاق. أما الآن فيجب أن نعتبر أن هذا الالتباس قد تبدد. فإن اللينينية قد وسعت مفهوم حرية تقرير المصير بأن فسرتها على أنها حق الشعوب المضطهدة في الأقطار التابعة والمستعمرات في الانفصال التام، وفي أن تعيش كدول مستقلة. وبهذا، لم يبق مجال لتبرير الإلحاق، بتفسير حق تقرير المصير على انه حق الشعوب في الحكم الذاتي. أما مبدأ حرية تقرير المصير نفسه، فقد تحول، على هذه الصورة، من أداة لخداع الجماهير، كما كان، بلا مراء، في أيدي الاشتراكيين الشوفينيين(27) خلال الحرب الاستعمارية، إلى أداة لكشف القناع عن المطامع الاستعمارية والمناورات الشوفينية من كل لون ونوع، وأداة لتثقيف الجماهير السياسي بروح الأممية.
قديماً، كان ينظر عادة إلى مسألة الأمم المضطهدة، على أنها مسألة حقوقية محضة. فاعلان "المساوات القومية" بصورة طنانة، ونثر التصريحات، بلا حساب، عن "تساوي الأمم"، ذلك ما كانت تتلى به أحزاب الأممية الثانية التي كانت تطمس الواقع التالي، وهو أن الكلام عن تساوي الأمم" في ظل الاستعمار، حيث يعيش فريق من الأمم (هو الأقلية) على حساب الفريق الآخر من الأمم التي يستثمرها، معناه الهزء بالشعوب المضطهدة. أما الآن، فيجب أن نعتبر أن هذه النظرة الحقوقية البرجوازية إلى المسألة الوطنية، قد فضحت. فإن اللينينية أنزلت المسألة الوطنية من علياء التصريحات الطنانة التي كانت تموج في أجوائها وأعادتها إلى الأرض، إذ بينت أن التصريحات عن "تساوي الأمم"، إذا لم يدعمها تأييد الأحزاب البروليتارية تأييداً مباشراً لنضال الشعوب المضطهدة التحرري، ليست سوى تصريحات فارغة ومزيفة. وهكذا أصبحت مسألة الأمم المضطهدة، هي مسألة التأييد، مسألة العون الفعلي المستمر الواجب تقديمه للأمم المضطهدة في نضالها ضد الاستعمار، من أجل تساوي الأمم الفعلي، ومن أجل وجودها كدول مستقلة.
قديماً كان ينظر إلى المسألة الوطنية نظرة إصلاحية، كان ينظر إليها كمسألة مستقلة عما سواها، وقائمة بذاتها، دون أن تربط بالمسألة العامة، مسألة سلطة الرأسمال، والقضاء على الاستعمار، مسألة الثورة البروليتارية. فكان من المفروض ضمناً أن انتصار البروليتاريا في أوروبا ممكن بلا تحالف مباشر مع الحركة التحررية في المستعمرات، وأن حل المسألة الوطنية ومسألة المستعمرات يمكن أن يتم على مهل وبصورة "عفوية" وفي معزل عن الطريق الكبرى، طريق الثورة البروليتارية، وبدون نضال ثوري ضد الاستعمار. أما الآن فيجب أن نعتبر أن هذه النظرة غير الثورية أصبحت مفضوحة. فقد برهنت اللينينية وأثبتت الحرب الاستعمارية والثورة في روسيا أن المسألة الوطنية لا يمكن أن تحل إلا في نطاق الثورة البروليتارية وفي ميدانها، وأن الطريق إلى انتصار الثورة في الغرب يمر عبر التحالف الثوري مع الحركة التحررية في المستعمرات والبلدان التابعة، ضد الاستعمار. أن المسألة الوطنية هي جزء من المسألة العامة للثورة البروليتارية، إنها جزء من مسألة دكتاتورية البروليتاريا.
فالمسألة موضوعة كما يلي: هل الإمكانيات الثورية الموجودة في قلب الحركة التحررية الثورية في البلدان المضطهدة، قد استنزفت أم لا؟ وإذا كانت لم تستنزف، فهل من أمل، هل من أساس للاستفادة من هذه الإمكانيات في سبيل الثورة البروليتارية، ولتحويل البلدان التابعة والمستعمرة، من احتياطي للبرجوازية الاستعمارية، إلى احتياطي للبروليتاريا الثورية، وجعل هذه البلدان حليفة للبروليتاريا الثورية؟
إن اللينينية تجيب على هذا السؤال بالإيجاب، أي أنها تعترف بوجود كفاءات ثورية في حركة التحرر الوطني للبلدان المضطهدة، وترى أن في الإمكان الاستفادة من هذه الكفاءات في سبيل القضاء على العدو المشترك، في سبيل القضاء على الاستعمار. ويؤكد سير تطور الاستعمار، وتؤكد الحرب الاستعمارية والثورة في روسيا، تأكيداً تاماً، استنتاجات اللينينية في هذا الموضوع.
من هنا تترتب على البروليتاريا في الأمم "المسيطرة" ضرورة بذل تأييدها الفعلي الحازم، لحركة التحرر الوطني للشعوب المضطهدة والتابعة.
غير أن ذلك لا يعني، بالطبع، أن على البروليتاريا تأييد كل حركة وطنية، دائماً، في كل مكان، وفي جميع الحالات المعينة الملموسة. إنما المقصود هو تأييد تلك الحركات الوطنية المتجهة إلى أضعاف الاستعمار، إلى القضاء عليه، لا إلى تقوية دعائمه وإلى المحافظة عليه. فقد تحدث حالات تدخل فيها الحركات الوطنية في بعض البلدان المضطهدة في نزاع مع مصالح تطور الحركة البروليتارية. ومن المسلم به، في مثل هذه الحالات، أن لا مجال للكلام عن أي تأييد من جانب البروليتاريا. فإن مسألة حقوق الأمم ليست مسألة منعزلة وتكفي نفسها بنفسها وقائمة بذاتها، بل هي جزء من المسألة العامة للثورة البروليتارية، جزء خاضع للمجموع، ويقتضي بحثه من وجهة نظر المجموع. لقد كان ماركس في أعوام 1840 – 1850، مع حركة البولونيين والمجريين الوطنية للتشيكيين والسلاف الجنوبيين، ولماذا؟ لأن التشيكيين والسلاف الجنوبيين كانوا، في تلك الأيام، "شعوباً رجعية"، لأنهم كانوا "مراكز أمامية روسية" في أوروبا، مراكز أمامية للحكم المطلق، في حين كان البولونيون والمجريون "شعوباً ثورية" تناضل ضد الحكم المطلق، ولأن تأييد حركة التشيكيين والسلاف الجنوبيين الوطنية كان يعني، يومئذ، تأييداً غير مباشر للقيصرية التي كانت أخطر عدو للحركة الثورية في أوروبا.
يقول لينين:
"أن مطالب الديمقراطية المختلفة، بما فيها حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها، ليست شيئاً مطلقاً، بل هي جزء من مجموع الحركة الديمقراطية (اليوم: الحركة الاشتراكية) العالمية. ومن الممكن، في بعض الحالات المعينة الملموسة، أن يناقض الجزء الكل، وفي هذه الحال يجب نبذ الجزء". (لينين، المؤلفات الكاملة: "خلاصة المناقشة حول حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها" المجلد التاسع عشر، صفحة 257 – 258، الطبعة الروسية).
تلك هي الوضعية فيما يتعلق بالحركات الوطنية المختلفة، فيما يتعلق بالصفة الرجعية الممكن أن تتصف بها هذه الحركات، هذا، طبعاً، إذا نظرنا إليها ليس من الناحية الشكلية، من ناحية الحقوق المجردة، بل إذا نظرنا إليها بصورة ملموسة، من وجهة نظر مصالح الحركة الثورية.
والشيء نفسه ينبغي أن يقال عن الصفة الثورية للحركات الوطنية بوجه عام. فالصفة الثورية، التي لا جدال فيها، للأكثرية العظمى من الحركات الوطنية، هي نسبية وخاصة الشكل، مثلها مثل الصفة الرجعية المحتملة في بعض الحركات الوطنية الأخرى.
إن الصفة الثورية للحركات الوطنية، في ظروف الاضطهاد الاستعماري، لا تستلزم بالضرورة وجود عناصر بروليتارية في الحركة، لا تستلزم أن يكون للحركة برنامج ثوري أو جمهوري، لا تستلزم أن يكون لها أساس ديمقراطي. فنضال الأمير الأفغاني في سبيل استقلال أفغانستان هو، من الناحية الموضوعية نضال ثوري، رغم الطابع الملكي لمفاهيم الأمير وأنصاره، لأن هذا النضال يضعف الاستعمار ويفكك أركانه ويقوضها. في حين أن نضال الديمقراطيين "الأشاوس" و "الاشتراكيين" و "الثوريين" والجمهوريين أمثال كيرنسكي وتسيريتللي، رينوديل وشيدمان، تشيرونوف ودان، هندرسون وكلاينس(28) أثناء الحرب الاستعمارية، كان نضالاً رجعياً لأن نتيجته كانت تزين وجه الاستعمار، وتثبيت أقدامه وتحقيق انتصاره. إن نضال التجار والمثقفين البرجوازيين المصريين، في سبيل استقلال مصر، هو لهذه الأسباب نفسها، نضال ثوري، من الناحية الموضوعية، رغم الأصل البرجوازي لزعماء الحركة الوطنية المصرية، رغم صفتهم البرجوازية، ورغم كونهم ضد الاشتراكية. في حين أن نضال حكومة "العمال" الانكليزية لأجل أبقاء مصر في حالة التبعية، هو للأسباب نفسها رجعي رغم الأصل البروليتاري والصفة البروليتارية لأعضاء هذه الحكومة، ورغم كونهم "مؤيدين" للاشتراكية. ولا أتكلم هنا حتى عن الحركة الوطنية في بلدان أخرى مستعمرة وتابعة أعظم اتساعاً، كالهند والصين اللتين تعد كل خطوة من خطاهما في طريق تحررهما، ولو خالفت متطلبات الديمقراطية الشكلية، كضربة من مطرقة جبارة مسددة إلى الاستعمار، أي أنها خطوة ثورية بلا جدال.
إن لينين على حق في قوله أن الحركة الوطنية في البلدان المضطهدة، لا يجب تقديرها من ناحية الديمقراطية الشكلية، بل من ناحية نتائجها الفعلية في الميزان العام للنضال ضد الاستعمار، أي لا يجب تقديرها "بصورة منعزلة بل في المقياس العالمي". (لينين، المرجع السابق نفسه، صفحة 257).

ب – الحركة التحررية للشعوب المضطهدة والثورة البروليتارية
تأخذ اللينينية، في حل المسألة الوطنية، بالقضايا الآتية:
أ) العالم منقسم إلى معسكرين: معسكر حفنة صغيرة من الأمم المتمدنة التي تقبض بيدها على الرأسمال المالي وتستثمر الأكثرية العظمى من سكان الكرة الأرضية، ومعسكرات الشعوب المضطهَدة والمستثمرة في المستعمرات والبلدان التابعة، وهي تؤلف هذه الأكثرية.
ب) إن المستعمرات والبلدان التابعة التي يضطهدها الرأسمال المالي ويستثمرها، تشكل احتياطياً هائلاً للاستعمار ومورد قوي له، بالغ الأهمية.
ج) إن النضال الثوري للشعوب المضطهدة في البلدان المستعمرة والتابعة، ضد الاستعمار، هو الطريق الوحيد لتحررها من الاضطهاد والاستثمار.
د) إن أهم البلدان المستعمرة والتابعة، قد بدأت السير في طريق الحركة الوطنية التحررية التي لا يمكن إلا أن تؤدي إلى أزمة الرأسمالية العالمية.
هـ) إن مصالح الحركة البروليتارية في البلدان المتطورة والحركة الوطنية التحررية في المستعمرات، تتطلب أن يتحد هذان المظهران للحركة الثورية في جبهة مشتركة ضد العدو المشترك، ضد الاستعمار.
و) إن انتصار الطبقة العاملة في البلدان المتطورة، وتحرير الشعوب المضطهدة من نير الاستعمار، أمران مستحيلان، بدون تأليف وتوطيد جبهة ثورية مشتركة.
ز) إن تكوين جبهة ثورية مشتركة غير ممكن بدون أن تؤيد البروليتاريا في الأمم المضطهدة الظالمة، تأييداً مباشراً وحازماً، الحركة التحررية للشعوب المضطهدة المظلومة ضد الاستعمار المتروبولي(29) ، لأن "شعباً يضطهد شعوباً أخرى لا يمكن أن يكون حراً" (أنجلس).
ح) إن هذا التأييد يعني المطالبة بشعار حق الأمم في الانفصال وفي العيش كدولة مستقلة، والدفاع عن الشعار، وتطبيقه.
ط) بدون تطبيق هذا الشعار، يستحيل تحقيق الاتحاد والتعاون بين الأمم في نظام اقتصادي عالمي موحد، هو الأساس المادي لانتصار الاشتراكية العالمية.
ي) لا يمكن أن يكون هذا الاتحاد إلا اختيارياً، وقائماً على الثقة المتبادلة والعلاقات الأخوية بين الشعوب.
من هنا، كان ظهور وجهين، ظهور اتجاهين في المسألة الوطنية: اتجاه إلى الإنعتاق السياسي من روابط الاستعمار وإلى إنشاء دول وطنية مستقلة، وهو اتجاه نشأ على أساس الاضطهاد الاستعماري واستثمار المستعمرات، واتجاه آخر إلى التقارب الاقتصادي بين الأمم، وهو اتجاه نشأ مع تشكيل سوق عالمية واقتصاد عالمي.
يقول لينين:
"تعرف الرأسمالية في تطورها اتجاهين تاريخيين في المسألة الوطنية: الأول هو يقظة الحياة الوطنية والحركات الوطنية، والنضال ضد كل اضطهاد وطني، وإنشاء دول وطنية. والثاني هو تطور شتى العلاقات بين الأمم وتكاثرها المتزايد، وهدم الحواجز الوطنية وإنشاء وحدة الرأسمال الدولية، ووحدة الحياة الاقتصادية بصورة عامة، ووحدة السياسة والعلوم، الخ. إن كلا الاتجاهين هما قانون عام للرأسمالية. فالأول يغلب عليها في بدء تطورها، والثاني يميز الرأسمالية الناضجة السائرة نحو تحولها إلى مجتمع اشتراكي". ("ملاحظات إنتقادية حول المسألة الوطنية"، المجلد 17، الصفحة 139 – 140، الطبعة الروسية).
أن هذين الاتجاهين هما بالنسبة للاستعمار، متناقضان لا يمكن التوفيق بينهما وذلك لأن الاستعمار لا يستطيع العيش بدون استثمار المستعمرات وبدون الاحتفاظ بها بالقوة داخل نطاق "كل موحد"، ولأن الاستعمار لا يستطيع التقريب بين الأمم إلا عن طريق الإلحاق والفتوحات الاستعمارية التي لا يمكن، بصورة عامة، أن نتصور الاستعمار بدونها.
أما بالنسبة للشيوعية فالأمر على عكس ذلك. فليس الاتجاهان، بالنسبة إليها، سوى مظهرين لقضية واحدة، هي قضية تحرر الشعوب المضطهدة من نير الاستعمار، ذلك لأن الشيوعية تعلم أن اتحاد الشعوب في اقتصاد عالمي موحد لا يمكن أن يتم إلا على أسس الثقة المتبادلة والاتفاق الاختياري الحر وأن الطريق إلى إقامة اتحاد الشعوب الاختياري الحر، هو طريق يمر عبر انفصال المستعمرات عن "الكل" الاستعماري "الموحد"، عبر تحولها إلى دولة مستقلة.
من هنا ضرورة القيام بنضال عنيد، مستمر حازم، ضد الشوفينية المتروبولية عند "الاشتراكيين" في الأمم المسيطرة (انكلترا، فرنسا، أميركا، ايطاليا، اليابان، الخ..)، أولئك "الاشتراكيين" الذين لا يرغبون في محاربة حكوماتهم الاستعمارية، ولا يريدون تأييد شعوب "مستعمراتهم" المضطهدة في نضالها للتحرر من النير، لتشكيل دول منفصلة.
بدون نضال كهذا، من المستحيل حتى التفكير في تثقيف الطبقة العاملة في الأمم المسيطرة بروح الأممية الحقيقية، وبروح التقارب مع الجماهير الكادحة في البلدان التابعة والمستعمرات، وبروح التهيئة الفعلية للثورة البروليتارية. إن الثورة في روسيا ما كانت لتنتصر، وكولتشاك ودنيكين(30) ما كانا ليقهرا، لو لم تكن البروليتاريا الروسية متمتعة بالعطف والتأييد من جانب الشعوب المضطهدة في الإمبراطورية الروسية القديمة. ولكن لكي تكسب البروليتاريا الروسية عطف هذه الشعوب وتأييدها كان واجباً عليها، قبل كل شيء، أن تحطم سلاسل الاستعمار الروسي، وتحرر هذه الشعوب من الاضطهاد الوطني.
ولولا ذلك، لما أمكن توطيد الحكم السوفياتي، وغرس الأممية الحقة، وخلق هذه المنظمة الرائعة لتعاون الشعوب التي تدعى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، والتي تمثل النموذج الحي لما سيكون عليه اتحاد الشعوب في المستقبل، في نظام اقتصادي عالمي موحد.
من هنا ضرورة محاربة الميل على الانحصار في النطاق القومي الصرف، محاربة ضيق الأفق ودعوى التمسك بالأوضاع الخاصة لدى الاشتراكيين في البلدان المظلومة المضطهدة، الذين يأبون أن يمدوا بصرهم إلى أبعد من حدود أفقهم القومي، ولا يدركون الروابط بين الحركة التحررية في بلادهم والحركة البروليتارية في البلدان المسيطرة.
بدون نضال كهذا يستحيل التفكير في الدفاع عن السياسة المستقلة التي ينبغي أن تسلكها البروليتاريا في الأمم المظلومة المضطهدة، وعن تضامنها الطبقي مع البروليتاريا في البلدان المسيطرة، للنضال في سبيل القضاء على العدو المشترك، للنضال في سبيل القضاء على الاستعمار.
بدون نضال كهذا تغدو الأممية ضرباً من المستحيل.
تلك هي الطريق التي ينبغي سلوكها لتثقيف الجماهير الكادحة في الأمم المسيطرة والأمم المظلومة المضطهدة، على السواء، بروح الأممية الثورية.
وإليكم ما يقوله لينين عن هذه المهمة المزدوجة، الملقاة على عاتق الشيوعية، لأجل تثقيف العمال بروح الأممية:
"هل يمكن أن يكون هذا التثقيف، من الناحية الملموسة، متشابهاً في الأمم الكبيرة المضطهدة، وفي الأمم الصغيرة المضطهدة؟ في الأمم الغاصبة والأمم المغصوبة؟
كلا!... بكل تأكيد. فأن السير نحو هدف واحد – وهو التساوي التام بين جميع الأمم، وتحقيق أوثق التقارب بينها، ثم اندماجها، فيما بعد – يتبع هنا، بشكل واضح، سبلاً ملموسة متنوعة، ومثل ذلك أن تبدأ من الجانب الأيمن أو الأيسر من الصفحة، لكي تصل إلى نقطة واقعة في منتصف هذه الصفحة. فالاشتراكي الديمقراطي المنتمي إلى أمة كبيرة غاصبة، مضطهدة، إذا نسي، ولو لحظة، عند دعوته لاندماج الأمم، بصورة عامة، أن نيقولا "ه" الثاني وغليوم "ه"، وبوانكاريه(31) وغيرهم، هم أيضاً مؤيدون للاندماج مع الأمم الصغيرة (عن طريق الإلحاق)، فنيقولا الثاني يؤيد "الاندماج" مع غاليسا، وغليوم الثاني يؤيد "الاندماج" مع بلجيكا، الخ. – أن اشتراكياً ديمقراطياً مثل هذا، لن يكون سوى دعي سخيف من الوجهة النظرية، وعون للاستعمار من الوجهة العملية.
إن مركز الثقل في التثقيف الأممي للعمال في البلدان الظالمة المضطهدة، يجب أن يقوم حتماً على الدعاية لحرية البلدان المظلومة المضطهدة في الانفصال، وعلى الدفاع عن هذه الحرية. بدون هذا لا تكون هناك أممية. وكل اشتراكي ديمقراطي من أمة ظالمة، لا يقوم بهذه الدعاية، يحق لنا ويجب علينا أن ندعوه استعمارياً ومداجياً. إن حرية الانفصال هي مطلب مطلق، حتى ولو كان هذا الانفصال غير ممكن، وغير "قابل التحقيق" قبل انتصار الاشتراكية، إلا في حالة واحدة من ألف حالة...
أما الاشتراكي الديمقراطي في أمة صغيرة، فمن واجبه، على العكس من ذلك، أن ينقل مركز الثقل لدعايته التحريضية، إلى القسم الأول من كلامنا، وهو "الاتحاد الاختياري الحر" بين الأمم. وفي وسعه، دون أن يخل بواجبه من حيث هو أممي، أن يكون مؤيداً لاستقلال أمته السياسي، وفي الوقت نفسه، مؤيداً لدمجها مع دولة مجاورة هي أ أو ب أو ج، الخ... أنما يجب عليه، في كل الأحوال، أن يناضل ضد ضيق الأفق القومي. وضد الميل إلى الانحصار والانعزال. وإلى التمسك بالأوضاع الخاصة. وأن يكون من أنصار النظر إلى الحركة بمجموعها وشمولها. أن يكون من أنصار إخضاع المصلحة الخاصة للمصلحة العامة.
إن الذين لم يتعمقوا في المسألة، قد يجدون من الأمور "المتناقضة أن يصر الاشتراكيون في الأمم الظالمة على "حرية الانفصال"، وأن يصر الاشتراكيون الديمقراطيون في الأمم المضطهدة على "حرية الاتحاد" غير أن قليلاً من التفكير يكفي لكي يرى الإنسان أن الوضع الذي نحن بصدده، ليس فيه ولا يمكن أن يكون فيه طريق آخر نحو الأممية واندماج الأمم". (المؤلفات الكاملة: "خلاصة المناقشة حول حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها"، المجلد التاسع عشر، الصفحة 261 – 262، الطبعة الروسية).
(25) الحكم الذاتي: Autonomie - هيئة التعريب. 
(26) إلحاق: Annexion أي ضم شعب مستضعف إلى دولة استعمارية، بالعنف – هيئة التعريب.
(27) نسبة إلى الشوفينية: (Chauvinisme) وهي التعصب القومي الأعمى وكره الشعوب الأخرى واحتقارها، الشوفينيون الذين يتكلم عنهم ستالين هنا هم هؤلاء الاشتراكيون المزعومون الذين وقفوا أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى جانب البرجوازية الاستعمارية في بلادهم وأيدوا مصالحها ضد مصالح طبقة العمال الأممية – هيئة التعريب.
(28) كل هؤلاء من زعماء الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في مختلف البلدان الأوروبية – هيئة التعريب.
(29) راجع الشرح في الهامش رقم 11.
(30) كولتشاك ودنيكين: قائدان قيصريان حاربا السلطة السوفياتية أول نشوئها، إلى جانب الدول الاستعمارية (وعلى رأسها أميركا وانكلترا وفرنسا واليابان...) التي تدخلت عسكرياً للقضاء على الثورة الروسية بين 1918 و1921 – هيئة التعريب.
(31) نيقولا الثاني: آخر قياصرة روسيا، غليوم الثاني: إمبراطور ألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، جورج الخامس: ملك انكلترا من 1910 إلى 1936، بوانكاريه: رئيس جمهورية فرنسا من 1913 إلى 1920 – هيئة التعريب.
- 7 - 
الستراتيجية والتكتيك
سوف آخذ من هذا الموضوع ست مسائل:
أ) الستراتيجية والتكتيك من حيث هما علم قيادة النضال الطبقي للبروليتاريا.
ب) مراحل الثورة، والستراتيجية.
ج) المد والجزر في الحركة، والتكتيك.
د) القيادة الستراتيجية.
ه) القيادة التكتيكية.
و) الإصلاحية والثورية.
أ – الستراتيجية والتكتيك من حيث هما علم قيادة النضال الطبقي للبروليتاريا 
إن المرحلة التي سادت فيها الأممية الثانية، كانت بصورة رئيسية، مرحلة تكوين الجيوش البروليتارية السياسية وتثقيفها في ظروف تطور سلمي إلى حد ما. تلك مرحلة كانت الأساليب البرلمانية فيها هي الشكل السائد للنضال الطبقي. أما المسائل المتعلقة بالنزاعات الكبرى بين الطبقات، وبتهيئة البروليتاريا للمعارك الثورية، وبطرق الوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا، فلم تكن، كما كان يبدو إذ ذاك، موضوعة على بساط البحث. كانت المهمة مقتصرة على استخدام جميع طرق التطور المشروع لتكوين الجيوش البروليتارية وتثقيفها، كانت المهمة مقتصرة على استخدام الأساليب البرلمانية، على أن تؤخذ بعين الاعتبار الظروف التي تكون فيها البروليتاريا، ويجب أن تبقى، كما كان يبدو إذ ذاك، في موقف المعارضة. فهل من حاجة إلى البرهان بأنه لم يكن من الممكن في مثل هذه المرحلة، ومع مثل هذا الفهم لمهمات البروليتاريا، أن تكون هناك لا إستراتيجية كاملة منسجمة، ولا تاكتيك مدروس؟. كانت هناك أقسام مجزأة، أفكار متفرقة عن التكتيك والستراتيجية، أما التكتيك والستراتيجية فلم يكن لهما وجود.
إن خطيئة الأممية الثانية، خطيئتها المميتة، ليست في أنها انتهجت في عهدها، خطة استخدام أشكال النضال البرلمانية، بل في أنها قدرت أهمية هذه الأشكال بأكثر مما هي، وكادت تعتبرها الأشكال الوحيدة، فلما جاءت مرحلة المعارك الثورية المباشرة واحتلت مسألة أشكال النضال غير البرلمانية المكان الأول، أدارت أحزاب الأممية الثانية ظهرها للمهمات الجديدة، ورفضتها.
ولم يكن صوغ استراتيجية منسجمة وتاكتيك مدروسة لنضال البروليتاريا، إلا في المرحلة التالية، مرحلة النضالات المفتوحة للبروليتاريا، مرحلة الثورة البروليتارية، حين صارت قضية القضاء على البرجوازية قضية عملية مباشرة، حين أصبحت مسألة القوى الاحتياطية للبروليتاريا (أي مسألة الستراتيجية) مسألة من أخطر المسائل الحيوية، وحين برزت، بوضوح تام، جميع أشكال النضال والتنظيم – البرلمانية وغير البرلمانية (التكتيك). وفي هذه المرحلة بالذات، أخرج لينين إلى وضح النهار، أفكار ماركس وانجلس العبقرية عن التكتيك والستراتيجية، هذه الأفكار التي كان إنتهازيو الأممية الثانية قد طمسوها ووضعوها على الرف. غير أن لينين لم يقتصر على بعث هذه أو تلك من مبادىء ماركس وانجلس التكتيكية، بل طورها إلى أمام وأكملها بأفكار ومبادىء جديدة، ووحّد كل ذلك في مجموعة من القواعد والمبادئ التوجيهية لقيادة نضال البروليتاريا الطبقي. إن مؤلفات لينين، مثل: ما العمل؟ و خطتان و الاستعمار و الدولة والثورة ، و الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، و المرض الطفولي ، تدخل، دون ريب، في كنز الماركسية المشترك، في ترسانتها الثورية كمساهمة من أثمن المساهمات. إن الستراتيجية والتكتيك في اللينينية، هما علم قيادة نضال البروليتاريا الثوري.
ب – مراحل الثورة، والستراتيجية 
الستراتيجية هي تحديد اتجاه الضربة الرئيسية للبروليتاريا على أساس مرحلة معينة من الثورة، ووضع برنامج مناسب لترتيب القوى الثورية (الاحتياطات الرئيسية والثانوية)، والنضال في سبيل تحقيق هذا البرنامج طوال تلك المرحلة المعينة من الثورة.
لقد اجتازت ثورتنا مرحلتين ودخلت بعد ثورة أكتوبر في المرحلة الثالثة. وقد تغيرت الستراتيجية تبعاً لذلك.
المرحلة الأولى – من 1903 إلى شباط 1917 – الهدف: القضاء على القيصرية، وتصفية بقايا القرون الوسطى تصفية تامة. القوة الأساسية للثورة: البروليتاريا. الاحتياطي المباشر: جماهير الفلاحين. اتجاه الضربة الأساسية: عزل البرجوازية الملكية الليبرالية، التي تسعى لكسب الفلاحين ولتصفية الثورة عن طريق اتفاق مع القيصرية. برنامج ترتيب القوى: تحالف الطبقة العاملة مع جماهير الفلاحين. يجب على البروليتاريا أن تحقق الثورة الديمقراطية إلى النهاية، بضم جماهير الفلاحين إليها، من أجل سحق مقاومة الأوتوقراطية بالقوة، وشل تذبذب البرجوازية (لينين: خطتان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية ، المؤلفات الكاملة، المجلد 8، ص 96 الطبعة الروسية).
المرحلة الثانية – من آذار 1917 إلى أكتوبر 1917 ـ الهدف: القضاء على الاستعمار في روسيا والخروج من الحرب الاستعمارية. القوة الأساسية للثورة البروليتاريا. الاحتياطي المباشر: الفلاحون الفقراء. احتياطي محتمل: بروليتاريا الأقطار المجاورة. اللحظة المناسبة: الحرب التي استطالت وأزمة الاستعمار. اتجاه الضربة الأساسية عزل الديمقراطية البرجوازية الصغيرة (المنشفيك، الاشتراكيين الثوريين) التي تسعى لكسب جماهير الفلاحين الكادحين وإنهاء الثورة عن طريق اتفاق مع الاستعمار. برنامج ترتيب القوى: تحالف البروليتاريا مع الفلاحين الفقراء. يجب على البروليتاريا أن تحقق الثورة الاشتراكية بضم جماهير العناصر شبه البروليتارية من السكان إليها، من أجل تحطيم مقاومة البرجوازية بالقوة، وشل تذبذب الفلاحين والبرجوازية الصغيرة (المصدر السابق نفسه).
المرحلة الثالثة ـ وقد بدأت بعد ثورة أكتوبر. الهدف: توطيد دكتاتورية البروليتاريا في بلد واحد، واستخدامها كنقطة استناد للقضاء على الاستعمار في جميع البلدان. لقد خرجت الثورة من نطاق بلد واحد، وبدأ عهد الثورة العالمية. القوى الأساسية للثورة: دكتاتورية البروليتاريا في بلد واحد، والحركة الثورية للبروليتاريا في جميع البلدان.
الاحتياطات الرئيسية: جماهير أشباه البروليتاريين والفلاحين الصغار في البلدان المتطورة، والحركة التحررية في المستعمرات والبلدان التابعة. اتجاه الضربة الأساسية: عزل الديمقراطية البرجوازية الصغيرة، عزل أحزاب الأممية الثانية التي تؤلف السند الأساسي لسياسة الاتفاق مع الاستعمار، برنامج ترتيب القوى تحالف البروليتاريا مع الحركة التحررية في المستعمرات والبلدان التابعة.
إن الستراتيجية تهتم بالقوى الأساسية للثورة وباحتياطياتها. وهي تتغير كلما مرت الثورة من مرحلة إلى أخرى، مع بقائها هي دون تغيير، من حيث الأساس، طوال مرحلة معينة.

ج – المد والجزر في الحركة والتكتيك
التكتيك هو تعيين خطة سلوك البروليتاريا خلال مرحلة قصيرة نسبياً، مرحلة مد الحركة أو جزرها، نهوض الثورة أو هبوطها، والنضال من أجل تطبيق هذه الخطة بابدال أشكال النضال والتنظيم القديمة بأشكال جديدة، والشعارات القديمة بشعارات جديدة، وبالتوفيق بين هذه الأشكال، الخ... فإذا كان هدف الاستراتيجية كسب الحرب، مثلاً، ضد القيصرية أوالبرجوازية، والقيام إلى النهاية بالنضال ضد القيصرية أو البرجوازية، فإن التكتيك يأخذ على عاتقه أهدافاً أقل شأناً، إذ أنه يسعى لا لكسب الحرب بمجموعها، بل كسب هذه أوتلك من المناوشات، هذه أو تلك من المعارك، يسعى لتحقيق هذه أو تلك من الحملات، هذه أو تلك من الأعمال الملائمة للوضع الواقعي الملموس خلال فترة معينة من نهوض الثورة أو هبوطها. أن التكتيك هو جزء من الستراتيجية، جزء خاضع لها، ووظيفته أن يخدمها.
يتبدل التكتيك تبعاً للمد والجزر. فبينما ظل البرنامج الستراتيجي دون تغيير، طوال المرحلة الأولى للثورة (من 1903 إلى شباط 1917)، تبدل التكتيك خلال هذه المدة، مرات عديدة. ففي الفترة بين 1903 و 1905، كان تاكتيك الحزب هجومي، إذ كانت الثورة في مد، والحركة الثورية تتبع خطاً صاعداً، وكان من الواجب أن يقوم التكتيك على أساس ذلك. وبالتالي، كانت أشكال النضال أيضاً ثورية، مطابقة لما يتطلبه المد في الثورة: أضرابات سياسية محلية، مظاهرات سياسية، إضراب سياسي عام، مقاطعة الدوما، نهوض مسلح، شعارات ثورية كفاحية. تلك هي أشكال النضال التي تعاقبت خلال تلك المرحلة. وكذلك أشكال التنظيم، هي أيضاً كانت تتبدل تبعاً لأشكال النضال: لجان معمل، لجان فلاحية ثورية، لجان إضراب، مجالس السوفيات لنواب العمال، حزب عمال علني إلى حد ما. تلك هي أشكال التنظيم خلال تلك المرحلة.
في الفترة ما بين 1907 و 1912، اضطر الحزب للإنتقال على تاكتيك التراجع، إذ كنا في مرحلة هبوط الحركة الثورية، مرحلة جزر في الثورة، ولم يكن من الممكن أن لا يأخذ التكتيك ذلك بعين الاعتبار. وبالتالي، تبدلت أشكال النضال أيضاً، وكذلك أشكال التنظيم. فعوضاً عن مقاطعة الدوما، اشتراك في الدوما. وعوضاً عن أعمال ثورية صريحة خارج الدوما، مداخلات وعمل في الدوما. وعوضاً عن إضرابات سياسية عامة، إضرابات جزئية اقتصادية أو هدوء تام. ومن المفهوم أن الحزب اضطر في هذه المرحلة للانتقال إلى العمل السري، أما المنظمات الثورية الجماهيرية، فقد استعيض عنها بجمعيات ثقافة وتعليم، وجمعيات تعاونية، وصناديق التوفير، وما أشبه ذلك من منظمات علنية.
وينبغي أن نقول مثل ذلك عن المرحلة الثانية والثالثة للثورة، فقد تبدل التكتيك خلالهما عشرات المرات، بينما كانت البرامج الستراتيجية باقية دون تغيير.
إن التكتيك يهتم بأشكال النضال وأشكال التنظيم للبروليتاريا، وبتعاقب هذه الأشكال وبالتوفيق بينها، على أساس مرحلة معينة من الثورة، يمكن أن يتبدل التكتيك مرات عديدة، تبعاً للمد أو الجزر، تبعاً للنهوض أو الهبوط في الثورة.
د – القيادة الستراتيجية 
إن القوى الاحتياطية للثورة يمكن أن تكون:
مباشرة: أ) جماهير الفلاحين، وبصورة عامة، الجماعات المتوسطة من سكان البلاد، ب) بروليتاريا البلدان المجاورة، ج) الحركة الثورية في المستعمرات والبلدان التابعة، د) انتصارات ديكتاتورية البروليتاريا ومنجزاتها التي يمكن للبروليتاريا، مع احتفاظها بالتفوق في القوى، أن تتخلى عن قسم منها مؤقتاً لكي تحصل على هدنة من خصم قوي.
وغير مباشرة: أ) التناقضات والنزاعات بين الطبقات غير البروليتارية في البلاد، فمن الممكن أن تستخدمها البروليتاريا لأضعاف الخصم وتقوية احتياطياتها، ب) التناقضات والنزاعات والحروب (الحرب الاستعمارية مثلاً) بين الدول البرجوازية المعادية للدولة البروليتارية، فمن الممكن أن تستخدمها البروليتاريا في هجومها أو خلال مناوراتها في حالة التراجع الاضطراري.
ولا حاجة إلى التبسيط حول القوى الاحتياطية من الصنف الأول، فإن أهميتها مفهومة لدى الجميع ولدى كل إنسان. أما فيما يتعلق بالقوى الاحتياطية من الصنف الثاني، التي لا يكون من الواضح دائماً مالها من أهمية، فلا بد من القول بأنها تكون أحياناً، في الدرجة الأولى من الأهمية من أجل سير الثورة. فليس من الممكن مثلاً أن ينكر أحد ما كان للنزاع بين الديمقراطية البرجوازية الصغيرة (الاشتراكيين الثوريين) والبرجوازية الملكية الليبرالية (الكاديت) خلال الثورة الأولى وبعدها، من أهمية عظمى فقد لعب هذا النزاع، بلا ريب، دوره في تحرير جماهير الفلاحين من نفوذ البرجوازية. وكذلك لا يمكن لأحد أن ينكر الأهمية العظمى للحرب حتى الموت التي كانت ناشبة بين جماعات الاستعماريون الرئيسية، في مرحلة ثورة أكتوبر، حين لم يستطع الاستعماريون، لإنشغالهم بالحرب فيما بينهم، أن يركزوا قواهم ضد السلطة السوفياتية الفتية، ولهذا السبب بالذات تمكنت البروليتاريا من الانصراف جدياً إلى تنظيم قواها، وتوطيد حكمها وتهيئة سحق كولتشاك ودينيكين. والآن، إذ تتفاقم وتتعمق التناقضات بين الجماعات الاستعمارية، ويصبح نشوب حرب جديدة بينها أمراً لا مناص منه، فستكون للاحتياطيات التي هي من هذا النوع، أهمية جدية متعاظمة بالنسبة للبروليتاريا.
إن القيادة الستراتيجية مهمتها استخدام جميع هذه الاحتياطيات بشكل صحيح، لتحقيق الهدف الأساسي من الثورة في المرحلة المعينة من تطورها.
وكيف يكون استخدام الاحتياطيات بشكل صحيح؟ يكون في إتمام بعض الشروط الضرورية، التي يجب اعتبار التالية منها رئيسية:
أولاً – مركزة القوى الرئيسية للثورة، في اللحظة الحاسمة، على أضعف نقطة لدى الخصم، عندما تكون الثورة قد نضجت، والهجوم يسير على أشده، والنهضة المسلحة تدق على الباب، وعندما يكون إنضمام الاحتياطيات إلى الطليعة هو الشرط الحاسم للنجاح. إن استراتيجية الحزب في المرحلة ما بين نيسان وأكتوبر 1917، يمكن أن تعتبر مثالاً يصور مثل هذا الاستخدام للاحتياطيات. ففي هذه المرحلة، كانت أضعف نقطة لدى الخصم هي دون ريب الحرب. ومن المؤكد أنه حول هذه المسألة بالضبط، من حيث هي المسألة الأساسية، استطاع الحزب أن يجمع أوسع جماهير السكان حول الطليعة البروليتارية. كانت استراتيجية الحزب في هذه المرحلة، تتلخص فيمايلي: تدريب الطليعة على معارك الشوارع عن طريق المظاهرات، وفي الوقت نفسه جذب الاحتياطيات نحو الطليعة، بواسطة مجالس السوفيات في المؤخرة، بواسطة لجان الجنود على الجبهة. وقد برهن المخرج الذي انتهت إليه الثورة على أن الاحتياطيات استخدمت بشكل صائب.
وقد شرح لينين موضوعات ماركس وانجلس المعروفة عن النهضة المسلحة، فقال عن هذا الشرط لاستخدام قوى الثورة إستراتيجياً، ما يلي:
1 – ينبغي عدم اللعب أبداً بالثورة المسلحة، وعند البدء بها، ينبغي العلم بقوة ووضوح أن من الواجب السير بها إلى النهاية.
2 – من الضروري حشد قوى متفوقة كثيراً على قوى العدو، في المكان الحاسم وفي اللحظة الحاسمة، وإلا فإن العدو، وهو أحسن استعداداً وتنظيماً، يبيد الثائرين.
3 –حين تبدأ الثورة المسلحة ينبغي العمل بأعظم عزيمة وحزم، والإنتقال من كل بد، وبصورة مطلقة، إلى الهجوم. الدفاع هو موت الثورة المسلحة .
4 – ينبغي السعي لأخذ العدو على حين غرة، واختيار اللحظة التي تكون فيها جيوشه مبعثرة.
5 – ينبغي الحصول على نجاحات، حتى ولو كانت صغيرة، كل يوم (ويمكن القول كل ساعة، إذا كانت القضية تتعلق بمدينة واحدة)، والاحتفاظ، مهما كان الثمن، بـ التفوق المعنوي (لينين: نصائح غائب ، المجلد 21 من المؤلفات الكاملة، ص 319 – 320، الطبعة الروسية).
ثانياً – اختيار اللحظة المناسبة للضربة الحاسمة، اللحظة المناسبة للثورة المسلحة المفتوحة المباشرة، وهي اللحظة التي تكون فيها الأزمة قد بلغت ذروتها، وتكون الطليعة، مستعدة للقتال حتى النهاية، وتكون القوى الاحتياطية مستعدة لتأييد الطليعة، ويكون الارتباك على أشده وأقصاه في صفوف الخصم.
يقول لينين:
يمكن اعتبار اللحظة قد حانت للمعركة الحاسمة إذا: 1) كانت القوى الطبقية المعادية لنا قد غرقت بصورة كافية في الصعوبات، ومزق بعضها بعضاً إلى حد كاف، وأضعفت نفسها إلى درجة كافية، بنضال هو فوق طاقتها، وإذا: 2) كانت جميع العناصر المتوسطة، المترددة، المتخاذلة، المترجرجة ـ أي البرجوازية الصغيرة، الديمقراطية البرجوازية الصغيرة، بوصفها مختلفة عن البرجوازية ـ قد انفضحت بصورة كافية أمام الشعب، واكتسبت الخزي والعار بإفلاسها العملي وإذا: 3) بدأت في صفوف البروليتاريا، وأخذت ترتفع بقوة، حالة فكرية جماهيرية لتأييد أشد الأعمال حزماً وعزماً وجرأة ثورية، ضد البرجوازية. عندها تكون الثورة قد نضجت، وعندها، إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع الشروط المذكورة أعلاه... وإذا اخترنا للحظة اختياراً صحيحاً. يكون انتصارنا مضموناً (لينين: مرض الطفولة، المجلد 25، المؤلفات الكاملة، ص 229، الطبعة الروسية).
يمكن اعتبار تنظيم الثورة المسلحة في أكتوبر، نموذجاً لتطبيق مثل هذه الستراتيجية.
إن إغفال هذا الشرط، يؤدي على خطأ خطير يسمى فقدان التوازن ، وذلك عندما يتأخر الحزب عن سير الحركة، أو يركض بعيداً أمامها، مما يخلق خطر الفشل. وهناك مثال على مثل هذا الفقدان للتوازن مثال يصور كيف لا ينبغي اختيار اللحظة للثورة المسلحة، هو محاولة قسم من رفاقنا البدء بالثورة، باعتقال المؤتمر الديمقراطي في أيلول 1917، حين كان بعد في مجالس السوفيات تردد، وكان الجيش في الجبهة لا يزال على مفترق الطرق، ولم تكن الاحتياطيات قد انضمت إلى الطليعة.
ثالثاً – بعد اتخاذ الاتجاه، السير فيه، بلا وهن، خلال جميع أنواع الصعوبات والتعقيدات التي تبرز على الطريق المؤدية إلى الهدف، وذلك لكي لا تضيّع الطليعة الهدف الأساسي للنضال ولا يغيب هذا الهدف عن ناظريها، ولكي لا تتيه الجماهير عن الطريق في سيرها نحو هذا الهدف وفي سعيها للتجمع حول الطليعة. إن إغفال هذا الشرط يؤدي إلى خطأ خطير، يعرفه البحارة ويسمونه إضاعة الاتجاه . ويجب أن نعتبر، كمثال على إضاعة الاتجاه هذا، موقف حزبنا الخاطئ فور المؤتمر الديمقراطي، حين أتخذ قراراً بالاشتراك في البرلمان التمهيدي. فكأن الحزب نسي في تلك اللحظة أن البرلمان التمهيدي كان محاولة من البرجوازية لصرف البلاد عن طريق السوفيات ولجرها إلى طريق البرلمانية البرجوازية، وإن اشتراك الحزب في مؤسسة كهذه كان يمكن أن يشيع البلبلة والارتباك ويضلل العمال والفلاحين الذين كانوا يقومون بالنضال الثوري تحت شعار: كل السلطة للسوفيات . وقد تم إصلاح هذا الخطأ بخروج البلاشفة من البرلمان التمهيدي.
رابعاً – المناورة مع الاحتياطيات، بشكل يمكن معه التراجع بنظام عندما يكون العدو قوياً، عندما يكون التراجع أمراً لا مناص منه، عندما يكون من المفيد، بشكل جلي، قبول المعركة التي يريد الخصم أن يفرضها، ويصبح التراجع، نظراً للنسبة بين القوى المتجابهة، الوسيلة الوحيدة لأبعاد الطليعة عن الضربة التي تهددها، وللاحتفاظ بالاحتياطيات وإبقائها معها.
يقول لينين:
ينبغي للأحزاب الثورية أن تكمل ثقافتها. فقد تعلمت القيام بالهجوم، فيجب أن تفهم الآن أن من الضروري إكمال هذا العلم بعلم التراجع بانتظام، ضمن القواعد. ينبغي أن يكون مفهوماً – والطبقة الثورية تتعلم أن تفهم وتدرك بتجربتها الخاصة المريرة، بأنه يستحيل الظفر، دون تعلم الهجوم الصحيح، والتراجع الصحيح (المصدر السابق نفسه: ص 177).
إن الغاية من استراتيجية كهذه هي كسب الوقت، وإضعاف معنويات العدو، وتكديس القوى للانتقال بعد ذلك إلى الهجوم.
إن عقد معاهدة الصلح في برست ليتوفسك يمكن اعتباره نموذجاً لمثل هذه الستراتيجية. فقد سمح للحزب بكسب الوقت، واستغلال النزعات في معسكر الاستعمار، وإضعاف المعنويات لدى قوى الخصم، وإبقاء الفلاحين مع الحزب، وتكديس القوى لتهيئة الهجوم ضد كولتشاك ودينيكين.
وقد قال لينين إذ ذاك:
إننا بعقدنا معاهدة صلح منفردة، نتخلص، بمقدار ما هو ممكن في الساعة الحاضرة، من الفريقين الاستعماريين العدوين، مستفيدين من خصومتهما ومن الحرب بينهما اللتين تمنعانهما من التفاهم ضدنا. إننا نستفيد من ذلك، وهو شيء يسمح لنا، خلال مرحلة معينة، بأن نكون مطلقي اليدين لمتابعة الثورة الاشتراكية وتقويتها (لينين: نظرات في عقد الصلح المنفرد . المؤلفات الكاملة، المجلد 22، ص 198).
وبعد انقضاء ثلاث سنوات على صلح برست ليتوفسك قال لينين:
اليوم، حتى آخر أبله يرى أن صلح برست ليتوفسك كان تراجعاً أدى إلى تقويتنا، وإلى تقسيم قوى الاستعمار الدولي . (لينين: أزمنة جديدة وأخطاء قديمة في شكل جديد . المؤلفات الكاملة، المجلد 27، ص 7).
تلك هي الشروط الرئيسية التي تضمن القيادة الأستراتيجية الصحيحة.

هـ – القيادة التكتيكية 
القيادة التكتيكية هي جزء من القيادة الستراتيجية، خاضع لمهماتها ومقتضياتها. إن مهمة القيادة التكتيكية هي هضم جميع أشكال نضال البروليتاريا وأشكال تنظيمها وتأمين استخدامها الصحيح للحصول، ضمن نسبة معينة بين القوى، على الحد الأقصى من النتائج، الضروري لتهيئة النجاح الستراتيجي.
وكيف يكون الاستخدام الصحيح لأشكال نضال البروليتاريا وأشكال تنظيمها؟
يكون بإتمام بعض الشروط الضرورية، التي يجب اعتبار التالية منها رئيسية: 
أولاً: أن توضع، في المقام الأول، أشكال النضال والتنظيم التي من شأنها، لكونها ملائمة أحسن من غيرها لشروط المد أو الجزر في الحركة، أن تسهل وتؤمن تسيير الجماهير نحو المواقف الثورية، تسيير الجماهير الغفيرة نحو جبهة الثورة، وتوزيعها على جبهة الثورة.
فليست القضية أن تدرك الطليعة استحالة الاحتفاظ بالنظم القديمة وضرورة قبلها والقضاء عليها. القضية هي أن تدرك الجماهير، الجماهير الغفيرة، هذه الضرورة وأن تبدي استعدادها لتأييد الطليعة. ولكن ذلك شيء لا يمكن أن تدركه الجماهير إلا بتجربتها الخاصة. فإعطاء الجماهير الغفيرة إمكان الاقتناع بتجربتها الخاصة بأن القضاء على السلطة القديمة شيء لا مفر منه، وتقديم وسائل نضال وأشكال تنظيم تسمح للجماهير بأن تدرك، بصورة أسهل، وبالتجربة، صحة الشعارات الثورية: تلك هي المهمة.
إن الطليعة كانت انفصلت عن الطبقة العاملة، والطبقة العاملة كانت أضاعت صلتها بالجماهير، لو أن الحزب لم يقرر، في حينه، الاشتراك في الدوما، ولو أنه لم يقرر مركزة قواه على العمل في الدوما وتطوير النضال على أساس هذا العمل، لكي يسهل للجماهير أن تدرك، بتجربتها الخاصة، أن مجلس الدوما لا يساوي شيئاً، وأن وعود الكاديت كاذبة، وأن ليس من الممكن الاتفاق مع القيصرية، وأن من الضروري الذي لا مناص منه تحالف جماهير الفلاحين مع الطبقة العاملة. لولا تجربة الجماهير في عهد الدوما، لم يكن من الممكن فضح الكاديت وتأمين قيادة البروليتاريا.
لقد كان الخطر من تاكتيك الأوتزوفية (32) إنها كانت تهدد بفصل الطليعة عن الملايين من قواها الاحتياطية.
إن الحزب كان انفصل عن الطبقة العاملة، وكانت الطبقة العاملة فقدت نفوذها بين جماهير الفلاحين والجنود الغفيرة، لو أن البروليتاريا تبعت الشيوعيين اليساريين الذين كانوا يدعون إلى الثورة المسلحة في نيسان 1917، حين لم يكن المنشفيك والاشتراكيون الثوريون قد انفضحوا بعد من حيث هم أنصار الحرب والاستعمار، ولم تكن الجماهير قد أدركت بعد، بتجربتها الخاصة، كذب خطابات المنشفيك والاشتراكيين الثوريين عن السلم والأرض والحرية. فلولا تجربة الجماهير خلال مرحلة كرنسكي، لما انعزل المنشفيك والاشتراكيون الثوريون، ولما كان بالإمكان إقامة ديكتاتورية البروليتاريا. ولذلك كان تاكتيك الشرح الصبور لأخطاء الأحزاب البرجوازية الصغيرة والنضال المفتوح في قلب مجالس السوفيات، هي التكتيك الصحيح الوحيد.
لقد كان الخطر من تاكتيك الشيوعيين اليساريين، في أنه كان يهدد بتحويل الحزب من زعيم للثورة البروليتارية، إلى قبضة من المتآمرين الفارغين الواقفين على الرمال.
يقول لينين:
لا يمكن الظفر بواسطة الطليعة وحدها. فإلقاء الطليعة في المعركة الحاسمة، بينما الطبقة بأسرها، بينما الجماهير الغفيرة لم تتخذ موقف تأييد مباشر للطليعة، أو على الأقل موقف حياد مشوب بالعطف.. لا يكون حماقة فقط، بل جريمة. ولكي تصل الطبقة بأسرها، لكي تصل جماهير الشغيلة والمضطهدين الغفيرة، فعلاً إلى اتخاذ مثل هذا الموقف، لا تكفي الدعاية وحدها، ولا يكفي التحريض وحده. 
لا بد لذلك من التجربة السياسية الخاصة لهذه الجماهير. ذلك هو القانون الأساسي لجميع الثورات، قانون تؤكده اليوم بقوة وبروز رائعين، لا روسيا فقط، بل ألمانيا أيضاً.
فليست فقط جماهير روسيا غير المتعلمة، والأمية غالباً، بل كذلك جماهير ألمانيا، المثقفة إلى حد رفيع، والتي ليس بينها أمي واحد، كان لا بد لها من أن تعاني بنفسها وعلى حسابها، كل ما في حكومة أشقياء الأممية الثانية، من جبن، وعجز، وتبلبل، وسفالة، وخنوع أمام البرجوازية. كان لا بد لها من أن تعاني حتمية ديكتاتورية طغاة الرجعية (من كورنيلوف في روسيا، وكاب وزمرته في ألمانيا)، من حيث هي المخرج الوحيد الآخر تجاه ديكتاتورية البروليتاريا، لكي تندار هذه الجماهير بحزم نحو الشيوعية (مرض الطفولة، المؤلفات الكاملة، المجلد 25، ص 228).
ثانياً: في كل لحظة معينة، العثور في سلسلة التطورات، على الحلقة الخاصة التي يسمح الإمساك بها، بالتمكن من كل السلسلة وتهيئة الشروط للنجاح الستراتيجي.
فالمهم هو أن نجد بين المهمات الموضوعة أمام الحزب، المهمة العاجلة التي يشكل حلها النقطة المركزية، والتي يضمن إتمامها حل المهمات المباشرة الأخرى حلاً ناجحاً.
ويمكن تبيين أهمية هذه النظرية بمثالين مأخوذين أحدهما من الماضي البعيد (مرحلة تكوين الحزب) والثاني من الماضي القريب (مرحلة الـ نيب(33) ).
ففي مرحلة تكوين الحزب، حين كانت الحلقات والمنظمات العديدة غير مرتبطة فيما بينها، وحين كان العمل على الأسلوب الحرفي وعلى أساس الحلقات المنعزل بعضها عن بعض ينخر الحزب من فوق إلى تحت، وحين كان الارتباك الفكري هو الصفة المميزة لحياة الحزب الداخلية، في تلك المرحلة كانت الحلقة الأساسية في السلسلة، كانت المهمة الأساسية بين جميع المهمات المنتصبة إذ ذاك أمام الحزب، هي إنشاء جريدة سرية لكل روسيا (أيسكرا). لماذا؟.. لأنه في ظروف ذلك العهد، لم يكن من الممكن، إلا بواسطة جريدة سرية لكل روسيا، خلق نواة منسجمة في الحزب قادرة على ربط جميع الحلقات والمنظمات في كل واحد، وتهيئة الشروط للوحدة الفكرية والتكتيكية، وعلى هذا الشكل وضع الأسس لتكوين حزب حقيقي.
وفي مرحلة الانتقال من الحرب إلى عمل البناء الاقتصادي، حين كانت الصناعة تتردى في وهدة الدمار والخراب، والزراعة تقاسي نقص منتجات المدينة، وحين كان تحقيق الالتحام بين صناعة الدولة والاقتصاد الفلاحي، قد أصبح الشرط الأساسي للنجاح في بناء الاشتراكية – في تلك المرحلة كانت الحلقة الأساسية في سلسلة التطورات، كانت المهمة الأساسية بين جميع المهمات، هي تطوير التجارة. لماذا؟.. لأن التحام الصناعة مع الاقتصاد الفلاحي، في ظروف الـ نيب ، غير ممكن إلا عن طريق التجارة، ولأن الإنتاج في ظروف الـ نيب دون تصريف البضائع، معناه موت الصناعة، ولأن توسيع الصناعة غير ممكن إلا بتوسيع تصريف البضائع عن طريق تطوير التجارة، ولأنه فقط بعد توطيد المواقف في التجارة والقبض على زمامها، فقط بعد الإمساك بهذه الحلقة، يمكن الأمل في تحقيق التحام الصناعة بالسوق الريفية، وحل المهمات المباشرة الأخرى حلاً ناجحاً، من أجل الشروط الضرورية لبناء أسس الاقتصاد الاشتراكي. 
يقول لينين:
لا يكفي أن يكون المرء ثورياً ومناصراً للاشتراكية. أو شيوعياً بصورة عامة.. من الواجب أن نعرف، في كل لحظة معينة، العثور على تلك الحلقة الخاصة التي ينبغي الإمساك بها بكل قوة، للتمكن من كل السلسلة وتهيئة الانتقال إلى الحلقة التالية تهيئة متينة..
وهذه الحلقة، في الساعة الحالية، هي إنعاش التجارة الداخلية مع تنظيمها (قيادتها) بشكل صحيح من قبل الدولة. التجارة تلك هي الحلقة في سلسلة الحوادث التاريخية، في الأشكال الانتقالية لبنائنا الاشتراكي في عامي 1921 – 1922، التي يجب علينا الإمساك بها بكل قوانا (لينين: حول أهمية الذهب ، المؤلفات الكاملة، المجلد 27، ص 82).
تلك هي الشروط الرئيسية لقيادة تاكتيكية صحيحة.

و – الإصلاحية والثورية 
بأي شيء يتميز التكتيك الثوري عن التكتيك الإصلاحي؟
يفكر البعض أن اللينينية هي ضد الإصلاحات وضد المصالحات والاتفاقات بوجه عام. إن ذلك غير صحيح على الإطلاق. إن البلاشفة ليسوا اقل من غيرهم علماً بأن كل عطاء هو خير من بعض النواحي، وبأن الإصلاحات بوجه عام، والمصالحات والاتفاقات بوجه خاص، هي في بعض الظروف، ضرورية ومفيدة.
يقول لينين:
إن القيام بحرب من أجل القضاء على البرجوازية الدولية، وهي حرب أصعب وأطول وأكثر تعقيداً مئة مرة من أشد الحروب العادية بين الدول، مع التخلي سلفاً عن المناورة وعن استغلال التناقضات في المصالح (حتى ولو كانت تناقضات مؤقتة) التي تقسم أعداءنا، وعن عقد اتفاقات ومصالحات مع حلفاء ممكنين (حتى ولو كانوا حلفاء مؤقتين، وغير مضمونين، ومتقلقلين، ومشروطين) أليس ذلك شيئاً مضحكاً للغاية؟. أليس ذلك شبيهاً بالتخلي سلفاً – عند التسلق الشاق على جبل وعر لم يطرقه أحد من قبل – عن السير أحياناً بصورة متعرجة، والرجوع أحياناً إلى الوراء، والعدول عن الاتجاه الذي اختير أولاً لتجربة اتجاهات مختلفة؟ . (لينين: مرض الطفولة، المؤلفات الكاملة، المجلد 25 ص 210).
فالقضية، بكل تأكيد ليست قضية الإصلاحات والمصالحات والاتفاقات نفسها، بل القضية هي كيف يستخدم الناس الاتفاقات والإصلاحات.
ففي نظر الإصلاحي، الإصلاح هو كل شيء. أما العمل الثوري فليس هو إلا للمظهر، وليس هو إلا للكلام وذر الرماد في العيون. ولهذا، فمع التكتيك الإصلاحي، في ظروف الحكم البرجوازي، يصبح كل إصلاح، بصورة محتومة، أداة لتقوية هذا الحكم، أداة لتفسيخ الثورة.
والأمر على العكس من ذلك بالنسبة للثوري. فأن الشيء الرئيسي بالنسبة إليه هو العمل الثوري لا الإصلاح. فليس الإصلاح في نظره إلا النتاج الثانوي للثورة. ولهذا، فمع التكتيك الثوري، في ظروف الحكم البرجوازي، يصبح كل إصلاح، بصورة طبيعية، أداة لتفسيخ هذا الحكم، أداة لتقوية الثورة، ونقطة ابتداء لتطور الحركة الثورية تطوراً مستمراً.
إن الثوري يقبل الإصلاح لاستعماله كذريعة للتوفيق بين العمل العلني والعمل السري، لاستخدامه كستار لتقوية العمل السري من أجل تهيئة الجماهير تهيئة ثورية للقضاء على البرجوازية.
ذلك هو جوهر الاستخدام الثوري للإصلاحات والاتفاقات في ظروف الاستعمار.
أما الإصلاحي، فهو على العكس، يقبل الإصلاحات للتخلي عن العمل السري، لإحباط تهيئة الجماهير للثورة، والاستراحة في ظل الإصلاح الممنوح .
ذلك هو جوهر التكتيك الإصلاحي.
تلك هي الحالة فيما يتعلق بالإصلاحات والاتفاقات في ظروف الاستعمار.
غير أن الوضع يتغير قليلاً بعد القضاء على الاستعمار، أي في ظل ديكتاتورية البروليتاريا. ففي بعض الحالات، في بعض الظروف، يمكن أن يكون الحكم البروليتاري مضطراً إلى العدول، مؤقتاً، عن طريق إعادة بناء النظم الموجودة بشكل ثوري، وانتهاج طريق التحول التدريجي، الطريق الإصلاحي كما يقول لينين في مقاله المعروف: حول أهمية الذهب طريق الحركات الجانبية، طريق الإصلاحات والتساهلات مع الطبقات غير البروليتارية، وذلك لتفسيخ هذه الطبقات، وإعطاء وقت للثورة، وحشد قواها وتهيئة الظروف لهجوم جديد. إن هذا الطريق هو، إلى حد ما، طريق إصلاحي، ذلك شيء لا يمكن إنكاره. غير أنه من الواجب أن نتذكر أننا هنا أمام خاصة أساسية، هي أن الإصلاح صادر عن السلطة البروليتارية، وأنه يقوي السلطة البروليتارية، ويعطيها الهدنة الكافية، وليس من شأنه تفسيخ الثورة، بل تفسيخ الطبقات غير البروليتارية. وهكذا، فالإصلاح، في هذه الظروف، ينقلب إلى عكسه.
إن تطبيق سياسة كهذه من جانب السلطة البروليتارية، يصبح ممكناً لسبب واحد هو أن نهوض الثورة كان، في المرحلة السابقة، كبيراً إلى حد كاف، وقد أعطى الثورة مدى واسعاً كافياً تستطيع معه أن تتراجع، بالاستعاضة عن تاكتيك الهجوم بتاكتيك التراجع المؤقت، تاكتيك الحركات الجانبية.
هكذا إذن، إذا كانت الإصلاحات، في السابق، تحت الحكم البرجوازي، نتاجاً ثانوياً للثورة، فالآن، تحت ديكتاتورية البروليتاريا، تكون الانتصارات الثورية للبروليتاريا، تكون الاحتياطيات المتكدسة في أيدي البروليتارية والمؤلفة من هذه الانتصارات، منبعاً للإصلاحات.
يقول لينين:
إن الماركسية وحدها، تحدد، بشكل دقيق وصحيح، العلاقة بين الإصلاحات والثورة. ولم يستطع ماركس أن يرى هذه العلاقة إلا من جانب واحد أي في الظروف السابقة لانتصار البروليتاريا إنتصاراً وطيداً إلى حد ما، ودائماً إلى حد ما، في بلد واحد على الأقل، ففي تلك الظروف، كانت هذه العلاقة الصحيحة ترتكز على المبدأ التالي وهو: إن الإصلاحات هي النتاج الثانوي لنضال البروليتاريا الطبقي الثوري. أما بعد انتصار البروليتاريا في بلد واحد على الأقل، فيبرز شيء جديد في العلاقة بين الإصلاحات والثورة. ومن حيث المبدأ، يبقى كل شيء كما كان سابقاً. ولكن يحدث تغيير في الشكل ما كان ماركس ليستطيع التنبؤ به، ولكن لا يمكن إدراك هذا التغيير إلا على أساس فلسفة الماركسية وسياستها. ... فهي (أي الإصلاحات – ملاحظة من ي. ستالين). بعد الانتصار (مع بقائها ذلك النتاج الثانوي نفسه من وجهة النظر العالمية) تؤلف فوق ذلك، بالنسبة للبلد الذي تم فيه الانتصار، هدنة لا بد منها، هدنة مشروعة عندما تصبح القوى، عقيب توتر شديد إلى الحد الأقصى، غير كافية، بصورة جلية، لتحقيق هذا الانعطاف أو ذاك، بالطريق الثوري. إن الانتصار يعطي ذخراً في القوى يسمح بالثبات حتى خلال تراجع اضطراري – الثبات سواء بمعناه المادي أو بمعناه المعنوي (لينين: حول أهمية الذهب – المؤلفات الكاملة – المجلد 27، ص 84 – 85).
(32) الأوتزوفية: (من الكلمة الروسية: أوتزوفات، أي استدعى) هي ميل برجوازي صغير انتهازي ظهر في صفوف الحزب البولشفي، خلال سنوات الرجعية (1908 – 1912)، وكان الأوتزوفيون يطالبون باستدعاء النواب الاشتراكيين الديمقراطيين من دوما الدولة، والتخلي عن العمل في النقابات وفي المنظمات العمالية العلنية الأخرى ـ هيئة التعريب.
(33) راجع الهامش رقم 24
- 8 -
الحزب
في العهد الذي سبق المرحلة الثورية، عهد التطور السلمي نسبياً، أيام كانت أحزاب الأممية الثانية هي القوة السائدة في حركة العمال، وكانت الأشكال البرلمانية في النضال معتبرة كأنها الأشكال الرئيسية – في تلك الظروف، لم تكن للحزب، ولا كان من الممكن أن تكون له الأهمية الجدية والفاصلة التي اكتسبها فيما بعد، خلال المعارك الثورية المكشوفة. يقول كاوتسكي، في دفاعه عن الأممية الثانية ضد الهجمات التي تعرضت لها، أن أحزاب الأممية الثانية هي أداة سلم، لا أداة حرب، وأنها، لهذا السبب عينه، لم تستطع القيام بأي شيء جدي خلال الحرب، أبان مرحلة الأعمال الثورية التي قامت بها البروليتاريا. وهذا صحيح تماماً. ولكن ما معنى هذا؟ معناه أن أحزاب الأممية الثانية ليست صالحة لنضال البروليتاريا الثوري، ولا هي أحزاب كفاح للبروليتاريا، تقود العمال إلى الاستيلاء على الحكم، بل هي جهاز انتخابي، مكيف وفقاً للانتخابات البرلمانية والنضال البرلماني. وهذا ما يفسر، على الوجه الصحيح، الواقع التالي، وهو أن المنظمة السياسية الأساسية للبروليتاريا، في المرحلة التي ساد فيها انتهازيو الأممية الثانية، لم تكن الحزب بل الكتلة البرلمانية. فمن المعروف أن الحزب، في ذلك العهد، كان ذيلاً للكتلة البرلمانية وعنصراً معداً لخدمتها. وغني عن البيان، في أحوال كهذه، أن مجرد البحث في تهيئة البروليتاريا للثورة، لم يكن له مجال، مع وجود مثل هذا الحزب على رأسها.
غير أن الوضع تبدل من أساسه، مع قدوم المرحلة الجديدة. والمرحلة الجديدة هي مرحلة الاصطدامات المكشوفة بين الطبقات، مرحلة الأعمال الثورية للبروليتاريا، مرحلة الثورية البروليتارية واعداد القوى بصورة مباشرة للقضاء على الاستعمار، ولاستيلاء البروليتاريا على الحكم. وتضع هذه المرحلة مهمات جديدة أمام البروليتاريا، هي: اعادة تنظيم كل عمل الحزب وفق أسلوب جديد، ثوري، لتثقيف العمال بروح النضال الثوري في سبيل الحكم، اعداد القوى الاحتياطية وحشدها؛ التحالف مع عمال الأقطار المجاورة؛ اقامة روابط متينة مع حركة التحرر في المستعمرات والبلدان التابعة، الخ.. الخ.. فالاعتقاد بأن هذه المهمات الجديدة يمكن انجازها بقوى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القديمة التي تربت في الظروف السلمية للحياة البرلمانية، هو استسلام ليأس لا قرار له، وإخلاد لهزيمة محتومة. والبقاء، بمثل هذه المهمات على الأكتاف، تحت قيادة الأحزاب القديمة، معناه البقاء في حالة تجرد تام من كل سلاح. ولا حاجة إلى القول أن البروليتاريا لم تكن تستطيع القبول بمثل هذه الحالة.
ومن هنا كانت الضرورة لإيجاد حزب جديد، حزب مكافح، حزب ثوري، لديه الشجاعة الكافية لقيادة البروليتاريين إلى النضال في سبيل الحكم، والتجارب الكافية للاهتداء إلى طريقه وسط أوضاع ثورية كثيرة التعقيد، ولديه المرونة الكافية لاجتناب الاصطدام بالصخور القائمة، من كل نوع، في طريقه إلى هدفه. 
بدون حزب كهذا، لا يمكن التفكير بالقضاء على الاستعمار، والوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا.
إن هذا الحزب الجديد، هو حزب اللينينية. فما هي خصائص هذا الحزب الجديد؟

1 – الحزب من حيث هو فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة
يجب أن يكون الحزب، قبل كل شيء، فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة. يجب أن يستوعب الحزب من الطبقة العاملة، أحسن عناصرها جميعاً، وتجارب هذه العناصر، وروحها الثورية، وتفانيها المتناهي لقضية البروليتاريا. ولكن، لأجل أن يكون الحزب فصيلة طليعية حقاً، يجب أن يكون مسلحاً بالنظرية الثورية، بمعرفة قوانين الحركة، بمعرفة قوانين الثورة. وإلا فلا يكون في طاقته قيادة نضال البروليتاريا، ولا اجتذابها إلى السير وراءه. إن الحزب لا يستطيع أن يكون حزباً حقيقياً، إذا اقتصر همه على تسجيل ما يشعر به ويفكر به جمهور الطبقة العاملة، وإذا استسلم للسير في ذيل الحركة العفوية، ولم يستطع التغلب على ما في الحركة العفوية من اللامبالاة السياسية والجمود، وإذا لم يستطع الارتفاع فوق مصالح البروليتاريا الوقتية، ولم يستطع رفع الجماهير إلى المستوى الذي تدرك فيه المصالح الطبقية للبروليتاريا. ينبغي أن يكون الحزب على رأس الطبقة العاملة، وأن ينظر إلى ابعد مما تنظر الطبقة العاملة، وعليه أن يقود البروليتاريا، لا أن يخلد إلى السير في ذيل الحركة العفوية. إن أحزاب الأممية الثانية التي تعظ بالاتباعية (34)، إنما هي عميلة للسياسة البرجوازية التي تقضي بجعل البروليتاريا أداة في يد البرجوازية. ولا يستطيع أن يصرف الطبقة العاملة عن طريق الترادنيونية ، ويحولها إلى قوة سياسية مستقلة، سوى حزب ينظر إلى نفسه كفصيلة الطليعة للبروليتاريا، ويستطيع رفع الجماهير إلى المستوى الذي تدرك فيه المصالح الطبقية للبروليتاريا.
إن الحزب هو القائد السياسي للطبقة العاملة.
لقد تحدثت، فيما تقدم، عن صعوبات نضال الطبقة العاملة، وعن ظروف هذا النضال المعقدة، وتحدثت عن الستراتيجية والتكتيك، وعن القوى الاحتياطية والمناورات، وعن الهجوم والتراجع. إن هذه الظروف معقدة كظروف الحرب، إن لم تكن أشد تعقيداً. فمن ذا الذي يستطيع الاهتداء إلى سواء السبيل وسط هذه الظروف؟ ومن إذن يستطيع أن يعطي ملايين البروليتاريين توجيهاً صحيحاً؟ ما من جيش يخوض حرباً، في وسعه الاستغناء عن هيئة أركان مجربة، إذا كان لا يريد نذر نفسه للهزيمة. أفليس واضحاً، بالأحرى، أن البروليتاريا لا يمكنها الاستغناء عن أركان حرب من هذا النوع إذا كانت لا تريد أن تقدم نفسها لقمة سائغة لأعدائها الألداء؟ ولكن أين يمكن وجود هذه الأركان؟ إن حزب البروليتاريا الثوري هو الوحيد الذي يمكن أن يكون هذه الأركان. فالطبقة العاملة، بدون حزب ثوري، هي جيش بدون أركان حرب.
إن الحزب هو أركان الحرب لكفاح البروليتاريا.
ولكن لا ينبغي أن يكون الحزب فصيلة الطليعة وحسب. بل ينبغي أن يكون، في الوقت نفسه، فصيلة من الطبقة، جزءاً من الطبقة، مرتبطاً بها بجميع جذور كيانه، أوثق ارتباط. إن الفارق بين فصيلة الطليعة وبقية جمهور الطبقة العاملة، بين أعضاء الحزب وغير الحزبيين، لا يمكن أن يزول مادامت الطبقات لم تزل، ومادامت البروليتاريا تكمل صفوفها باستمرار بعناصر متحدرة من الطبقات الأخرى، وما دامت الطبقة العاملة لا تستطيع بمجموعها الارتفاع إلى مستوى الطليعة. غير أن الحزب لا يظل هو الحزب، إذا انقلب هذا الفارق إلى قطيعة، وإذا انطوى الحزب على نفسه وانقطع عن الجماهير غير الحزبية. ولا يستطيع الحزب قيادة الطبقة، إذا لم يكن متصلاً بالجماهير غير الحزبية، إذا لم يكن بينه وبين الجماهير اللاحزبية تماسّ، وإذا لم تقبل هذه الجماهير قيادته، وإذا لم تكن له عندها مكانة معنوية وسياسية.
إن مائتي ألف منتسب جديد من العمال، قلبوا مؤخراً في حزبنا. ومما تجدر الإشارة إليه أن انتساب هؤلاء الناس كلهم إلى الحزب بدافع من أنفسهم، بمقدار ما كان يدافع من سواد اللاحزبيين الذين أرسلوهم إلى الحزب. فإن سواد اللاحزبيين قد ساهموا بصورة فعلية في قبول الأعضاء الجدد، الذين ما كانوا ليقبلوا في الحزب، لولا موافقة سود اللاحزبيين. ويدل هذا الحادث على أن كل جمهور العمال غير الحزبيين يعتقدون أن حزبنا هو حزب لهم، حزب قريب منهم وعزيز عليهم، ولهم في تطوره وتوطيده مصلحة حيوية، وفي يدي قيادته يضعون مصيرهم بملء اختيارهم. ونكاد نكون في غير حاجة إلى البرهان على أن الحزب، ما كان في وسعه أن يصبح القوة الفاصلة لطبقته، لولا هذه الصلات المعنوية التي لا تقع تحت اللمس، والتي تربط الحزب بجماهير الفلاحين اللاحزبيين.
إن الحزب هو جزء لا ينفصل من الطبقة العاملة.
يقول لينين:
نحن حزب الطبقة، ولذلك فالطبقة كلها على وجه التقريب (أما في وقت الحرب، أي في عهد الحرب الأهلية، فالطبقة كلها على الإطلاق) يجب أن تعمل تحت قيادة حزبنا وأن تتراص حوله أكثر ما يمكن. أما أن تصبح الطبقة كلها تقريباً، أو الطبقة بأسرها يوماً ما، وفي عهد الرأسمالية، في حالة تستطيع معها أن ترتفع حتى تبلغ درجة من الوعي والنشاط، مثل فصيلتها الطليعية، أي مثل حزبها الاشتراكي الديمقراطي، فإن التفكير في مثل ذلك هو ضرب من المانيلوفيه(35) وشكل من السير في ذيل الحركة. وأن المنظمة النقابية نفسها (وهي منظمة ابتدائية أكثر من الحزب، وأقرب تناولاً إلى أدراك الجماعات غير المتقدمة) لا تستطيع في عهد الرأسمالية أن تشمل الطبقة العاملة كلها تقريباً، أو الطبقة العاملة بأسرها تماماً. وليس هناك اشتراكي ديمقراطي واحد سليم التفكير، داخله الشك يوماً في ذلك. فنحن إنما نخدع أنفسنا ونغمض عيوننا عن أعظم مهماتنا وواجباتنا، بل إننا نضيق نطاق هذه المهمات والواجبات، إذا نسينا الفرق بين فصيلة الطليعة وبين كل الجماهير التي تلتف حولها، وإذا نسينا أن على فصيلة الطليعة واجباً دائماً هو رفع جماعات أوسع فأوسع إلى هذا المستوى المتقدم الراقي . (لينين خطوة إلى أمام، خطوتان إلى وراء ، المجلد 6، الصفحة 205 – 206).

2 – الحزب من حيث هو فصيلة منظمة من الطبقة العاملة
ليس الحزب فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة وحسب. بل عليه، إذا أراد فعلاً قيادة الطبقة العاملة، أن يكون أيضاً الفصيلة المنظمة من طبقته. إن مهمات الحزب، في ظروف الرأسمالية، عظيمة الأتساع والتنوع. فعليه أن يقود نضال البروليتاريا في ظروف التطور الداخلي والخارجي البالغة أقصى درجات الصعوبة. وعليه أن يسير بالبروليتاريا إلى الهجوم حين تفرض الحالة الهجوم، وعليه أن يجنب البروليتاريا ضربات عدوها البطّاش، حين تفرض الحالة التراجع، وأن يدخل في أذهان سواد العمال غير الحزبيين وغير المنظمين الذين لا يحصى لهم عدد، روح الانضباط والنظام في النضال، وأن يلقنهم روح التنظيم والصلابة. ولكن لن يستطيع الحزب تأدية هذه المهمات، إلا إذا كان هو نفسه فصيلة منظمة من البروليتاريا. وبدون هذه الشروط لا يمكن حتى البحث في مسألة قيادة الحزب الحقيقية للجماهير الغفيرة من البروليتاريا.
إن الحزب هو الفصيلة المنظمة من الطبقة العاملة.
إن الفكرة القائلة بأن الحزب هو كل منظم، قد حددت في الصيغة المشهورة التي أعطاها لينين في النقطة الأولى من نظام حزبنا الداخلي، تلك الصيغة التي تعتبر أن الحزب هو مجموعة منظماته، وأن أعضاءه هم أعضاء إحدى منظمات الحزب. أما المنشفيك الذين أعلنوا، منذ عام 1903 معارضتهم لهذه الصيغة، فكانوا يقترحون استبدالها بنظام من القبول الذاتي في الحزب، نظام يوسع صفة عضو الحزب، حتى تشمل كل أستاذ مدرسة أو تلميذ وكل محبذ أو مضرب يؤيد الحزب بشكل من الأشكال، دون أن يكون منضماً أو راغباً في الانضمام إلى أية منظمة من منظماته. ونكاد نكون في غير حاجة إلى التدليل على أن هذا النظام الفريد، لو تأصل في حزبنا، لأدى حتماً إلى ملء الحزب، حتى الحد الأقصى، بأساتذة وتلاميذ، وتحويله إلى تشكيلة غامضة عديمة الشكل، عديمة التنظيم، ضائعة في خضم من المحبذين، تمحو كل خط فاصل بين الحزب والطبقة، وتقلب رأساً على عقب مهمة الحزب التي هي رفع الجماهير غير المنظمة إلى مستوى فصيلة الطليعة. وغني عن القول أن حزبنا، لو اخذ بهذا النظام الانتهازي، لما استطاع أن يقوم بدوره كنواة منظمة للطبقة العاملة في ثورتنا.
يقول لينين:
إن وجهة نظر الرفيق مارتوف هي أن تظل حدود الحزب بدون تعيين على الإطلاق، إذ أن كل مضرب بإمكانه أن يعلن نفسه عضواً في الحزب . فما هي الفائدة من هذا الإبهام؟ إنها نشر التسمية على نطاق واسع. ووجه الضرر في ذلك هو أن هذا الإبهام ينطوي على فكرة هدم التنظيم، وخلق الالتباس بين الطبقة والحزب . (المصدر نفسه، الصفحة 211).
ولكن الحزب ليس مجموع منظماته وحسب، بل هو في الوقت نفسه النظام الأوحد لهذه المنظمات، هو اتحادها الشكلي في كل قوامه هيئات قيادية عليا ودنيا، وخضوع الأقلية للأكثرية، على أساس قرارات عملية إلزامية لجميع أعضاء الحزب. وبدون هذه الشروط لا يستطيع الحزب أن يؤلف كلا موحداً ومنظماً، في وسعه أن يؤمن، لنضال الطبقة العاملة، قيادة مستمرة ومنظمة.
يقول لينين:
قديماً، لم يكن حزبنا، من حيث الشكل، كلاً منظماً، بل كان فقط مجموع فرق خاصة، ولذلك لم يكن من الممكن أن يكون بين هذا الفرق من صلة سوى العمل الفكري. أما الآن، فقد أصبحنا حزباً منظماً، وهذا يعني انشاء سلطة، وجعل هيئة الأفكار هيبة للسلطة. وتأمين تبعية الهيئات الدنيا في الحزب للهيئات العليا . (المرجع نفسه، ص 291).
إن مبدأ خضوع الأقلية للأكثرية، مبدأ قيادة عمل الحزب من قبل هيئة مركزية، يثير غالباً هجمات من العناصر غير الثابتة، واتهامات بالبيروقراطية و التمسك بالشكليات الخ... ولا حاجة إلى البرهان على أن من المستحيل القيام بعمل الحزب بصورة مستمرة منظمة من حيث هو كل موحد، وقيادة نضال الطبقة العاملة، بدون تطبيق هذه المبادئ اللينينية، في ميدان التنظيم هي تطبيق هذه المبادئ بمنتهى الدقة. إن لينين ينعت النضال ضد هذه المبادىء بالنهيلية الروسية(36) و بالفوضوية المتعالية المتكبرة التي تستحق السخرية والنبذ.
وإليكم ما يقوله لينين عن هذه العناصر غير الثابتة، في كتابه: خطوة إلى الأمام :
إن هذه الفوضوية المتعالية المتكبرة هي، بصورة خاصة، من صفات النهيليستي الروسي. فأن منظمة الحزب تتراءى له كـ فبركة مخيفة، أما خضوع الجزء للكل والأقلية للأكثرية فهو في نظره ضرب من العبودية ، أما تقسيم العمل، تحت قيادة مركز واحد، فأمر يدفعه إلى إرسال صيحات مبكيات مضحكات، احتجاجاً على تحويل الناس إلى دواليب ونوابض(37) .. وما أن تذكر أمامه قوانين تنظيم الحزب حتى ترتسم على وجهه تكشيرة احتقار، ويتفضل بملاحظة كلها ازدراء واستخفاف مؤداها أن من الممكن الاستغناء عن هذه القوانين بأجمعها...
ومن الواضح، فيما أعتقد أن هذه الاحتجاجات ضد البيروقراطية الشهيرة هدفها الوحيد إخفاء الاستياء من كيفية تركيب الهيئات المركزية، فهي ليست سوى ورقة التين... فأنت بيروقراطي لأنك عينت من قبل المؤتمر، لا وفقاً لإرادتي، بل ضد إرادتي، وأنت متمسك بالشكليات لأنك تستند إلى قرارات شكلية من المؤتمر، لا إلى موافقتي، وأنت تتصرف تصرفاً ميكانيكاً فظاً. لأنك تعتمد على أكثرية مؤتمر الحزب الميكانيكية ، ولا تأخذ بعين الاعتبار رغبتي في أن أعين عن طريق الضم، وأنت أوتوقراطي لأنك لا تريد تسليم السلطة إلى كتلة الأصحاب الطيبين القدماء . (38) (لينين – المؤلفات الكاملة، الجزء 6
وأنت تتصرف تصرفاً ميكانيكاً فظاً. لأنك تعتمد على أكثرية مؤتمر الحزب الميكانيكية ، ولا تأخذ بعين الاعتبار رغبتي في أن أعين عن طريق الضم، وأنت أوتوقراطي لأنك لا تريد تسليم السلطة إلى كتلة الأصحاب الطيبين القدماء . (38) (لينين – المؤلفات الكاملة، الجزء 6 ص 310 و 287).

3 – الحزب من حيث هو أعلى أشكال تنظيم البروليتاريا الطبقي
الحزب هو الفصيلة المنظمة من الطبقة العاملة. ولكنه ليس المنظمة الوحيدة للطبقة العاملة. فللبروليتاريا أيضاً سلسلة من المنظمات الأخرى التي لا تستطيع البروليتاريا بدونها أن تناضل بنجاح ضد الرأسمال، وهي: النقابات، التعاونيات، منظمات المعمل، الكتل البرلمانية، اتحاد النساء غير الحزبيات، الصحافة، المنظمات الثقافية والتعليمية، اتحادات الشباب، المنظمات الثورية للكفاح (أثناء الأعمال الثورية المكشوفة)، المجالس السوفياتية للنواب كشكل من أشكال تنظيم الدولة (إذا كانت البروليتاريا في الحكم)، الخ.. أن الأكثرية الكبرى من هذه المنظمات هي منظمات غير حزبية، وبعضها فقط مرتبط بالحزب مباشرة، أو متفرع عنه. وجميع هذه المنظمات هي، في بعض الأحوال، ضرورية جداً للطبقة العاملة، لأن من المستحيل بدونها، توطيد مواقع البروليتاريا الطبقية في مختلف ميادين النضال، وتقوية مراسها في الكفاح، من حيث هي قوة مدعوة إلى تبديل النظام البرجوازي بالنظام الاشتراكي. ولكن كيف السبيل إلى تحقيق وحدة القيادة مع وجود هذا العدد الكبير من المنظمات؟ وماذا يضمن أن لا يؤدي تعددها إلى عدم الانسجام في القيادة؟ قد يقول قائل: إن هذه المنظمات تقوم كل منها بأعمالها، في نطاقها الخاص، فلا يمكن، إذن، أن تزعج أحداها الأخرى. وهذا صحيح طبعاً. ولكن الصحيح أيضاً هو أن من واجب هذه المنظمات جميعاً أن توجه عملها في اتجاه واحد، لأنها تخدم طبقة واحدة هي طبقة البروليتاريين. وهنا يبرز هذا السؤال: ومن يعين هذه الخطة، وهذا الاتجاه العام الذي ينبغي على جميع المنظمات إتباعه في عملها؟ ومن هي المنظمة المركزية التي بفضل ما عندها من التجارب اللازمة، تستطيع لا وضع الخطة العامة فقط، بل في وسعها أيضاً، بفضل ما لها من هيبة كافية لهذا الغرض، أن تدفع جميع هذه المنظمات إلى تطبيق هذه الخطة، فتحقق بذلك وحدة القيادة، وتقضي على احتمال ما يمكن أن يحدث من عثرات؟
هذه المنظمة هي حزب البروليتاريا.
فلدى الحزب تتوفر جميع المعطيات الضرورية لذلك، لأن الحزب هو، أولاً مركز التجمع لأحسن عناصر الطبقة العاملة، هذه العناصر المرتبطة مباشرة بالمنظمات اللاحزبية للبروليتاريا، وهي في الكثير الغالب، تقود هذه المنظمات، وثانياً بما أن الحزب هو مركز التجمع لنخبة الطبقة العاملة، فهو لذلك خير مدرسة لتكوين زعماء للطبقة العاملة قادرين أن يقودوا جميع أشكال التنظيم لطبقتهم. وبما أن الحزب، ثالثاً هو خير مدرسة لتكوين زعماء للطبقة العاملة، فهو بفضل ما عنده من تجربة وما له من نفوذ، المنظمة الوحيدة التي تستطيع أن تمركز في يديها قيادة نضال البروليتاريا، وبذلك تجعل من مختلف المنظمات اللاحزبية للطبقة العاملة، أجهزة مساعدة وأسلاكاً موصلة تربط الحزب بالطبقة.
إن الحزب هو أعلى شكل لتنظيم البروليتاريا الطبقي.
ومن المؤكد أن هذا لا يعني أبداً أن المنظمات غير الحزبية، كالنقابات والتعاونيات، الخ... يجب أن تكون خاضعة شكلياً لقيادة الحزب المنتمين إلى هذه المنظمات والذين يتمتعون فيها بنفوذ لا جدال فيه، أن يستخدموا جميع طرق الأقناع، حتى تقترب المنظمات غير الحزبية، في عملها من حزب البروليتاريا، وتقبل قيادته السياسية بملء اختيارها.
لهذا يقول لينين أن الحزب هو الشكل الأعلى لاتحاد البروليتاريين الطبقي ، ويجب أن تشمل قيادته السياسية جميع أشكال التنظيم الأخرى للبروليتاريا. (لينين – مرض الطفولة في الشيوعية – الجزء 25 من المؤلفات الكاملة – ص 194).
ولذلك، فالنظرية الانتهازية عن استقلال المنظمات اللاحزبية و حيادها تلك النظرية التي تؤدي إلى تكاثر عدد البرلمانيين المستقلين والكتاب غير المرتبطين بالحزب، والنقابيين الضيقي الأفق، ورجال التعاونيات المتبرجزين، تتنافى على خط مستقيم، مع نظرية اللينينية وتطبيقها العملي.

4 – الحزب من حيث هو أداة ديكتاتورية البروليتاريا 
إن الحزب هو أعلى شكل تنظيمي للبروليتاريا. فهو العامل القيادي الأساسي في داخل طبقة البروليتاريين، وبين منظمات هذه الطبقة. ولكن لا ينتج عن ذلك قطعاً أن الحزب غاية لذاته، وقوة تكفي نفسها بنفسها. فليس الحزب أعلى شكل لاتحاد البروليتاريين الطبقي وحسب، بل هو، في الوقت نفسه، أداة في يد البروليتاريا لأجل الوصول إلى الديكتاتورية، قبل أن يتم الوصول إليها، ولأجل توطيد الديكتاتورية وتوسيع مداها، بعد الوصول إليها. وما كان الحزب ليستطيع أن يرفع أهميته إلى هذه الدرجة ويفوق جميع أشكال التنظيم الأخرى للبروليتاريا، لو لم تجابه البروليتاريا قضية الحكم ولو لم تتطلب الأحوال التي خلقها الاستعمار، والحروب الحتمية، ووجود الأزمة، تركيز جميع قوى البروليتاريا على نقطة واحدة، وجمع كل خيوط الحركة الثورية في مكان واحد، لقلب حكم البرجوازية والوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا. إن الحزب ضروري للبروليتاريا، قبل كل شيء، كهيئة أركان للكفاح لا غنى عنها للاستيلاء الظافر على الحكم. ونكاد لا نحتاج إلى التدليل على أنه لولا وجود حزب قادر على حشد المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا حوله، وعلى تركيز قيادة مجموع الحركة بيديه، في سياق النضال، لما استطاعت البروليتاريا تحقيق ديكتاتوريتها الثورية في روسيا.
ولكن الحزب ليس ضرورياً للبروليتاريا للاستيلاء على الحكم وحسب، بل هو أشد ضرورة أيضاً، للاحتفاظ بالديكتاتورية وتوطيدها، وتوسيع مداها، لأجل تأمين انتصار الاشتراكية التام.
يقول لينين:
من المؤكد أن جميع الناس، على وجه التقريب، يرون اليوم، أن البلاشفة ما كانوا ليستطيعوا البقاء في الحكم، لا أقول سنتين ونصف سنة، بل شهرين ونصف شهر، لولا الانضباط الصارم، لولا الانضباط الحديدي حقاً، في حزبنا، ولولا التأييد الكلي المتين الذي بذل للحزب سواد الطبقة العاملة، أي كل ما فيها من مفكر وشريف ومتفان إلى حد إنكار الذات، وكل ما فيها من ذي نفوذ ومن كفؤ لقيادة الفئات المتأخرة وراءه، واجتذابها معه . (المرجع نفسه ـ ص 173). 
ولكن ما معنى المحافظة على الديكتاتورية، و توسيع مداها ؟ ذلك معناه تلقين ملايين البروليتاريين روح النظام والتنظيم، معناه خلق التماسك بين الجماهير البروليتارية وإقامة حاجز يقيها التأثير الهدام الذي يبثه العنصر البرجوازي الصغير، والعادات البرجوازية الصغيرة، ذلك معناه تقوية عمل البروليتاريين التنظيمي في سبيل إعادة تثقيف الفئات البرجوازية الصغيرة وتغييرها، معناه مساعدة الجماهير البروليتارية على القيام بتثقيف نفسها حتى تصبح قوة قادرة على محو الطبقات وتهيئة الشروط الضرورية لتنظيم الإنتاج الاشتراكي. وهذا كله غير ممكن تحقيقه بدون حزب قوي بتماسكه ونظامه.
يقول لينين:
إن ديكتاتورية البروليتاريا هي نضال عنيد، دام وغير دام، عنيف سلمي، عسكري واقتصادي، تربوي وأداري، ضد قوى المجتمع القديم وتقاليده. إن قوة العادة عند الملايين وعشرات الملايين من الناس هي أفظع قوة. فبدون حزب حديدي متمرس بالنضال، ومتمتع بثقة كل من هو شريف في الطبقة المعنية، حزب يعرف أن يلاحظ حالة الجماهير الفكرية وأن يؤثر في حالتها، تستحيل قيادة هذا النضال بنجاح . (المرجع نفسه، ص 190).
إن البروليتاريا بحاجة إلى الحزب لاجل الاستيلاء على ديكتاتوريتها والمحافظة عليها، فالحزب هو أداة ديكتاتورية البروليتاريا.
فينتج إذن، أن زوال الطبقات وتلاشي ديكتاتورية البروليتاريا، ينبغي أن يجر معهما أيضاً تلاشي الحزب.

5 – الحزب من حيث هو وحدة في الإرادة لا تقبل وجود التكتلات الانقسامية
إن الفوز بديكتاتورية البروليتاريا والمحافظة عليها أمر غير ممكن، بدون حزب قوي بتجانسه وبانضباطه الحديدي. ولكن الانضباط الحديدي في الحزب لا يمكن تصوره بدون وحدة الإرادة، وبدون وحدة العمل التامة والمطلقة بين جميع أعضاء الحزب. على أن هذا لا يعني طبعاً انتفاء وقوع نضال في الآراء في داخل الحزب، بل على العكس من ذلك، فإن الانضباط الحديدي لا ينفي، بل يفترض مقدماً، وجود الانتقاد ونضال الآراء في داخل الحزب، وليس يعني ذلك، بالأحرى، أن الانضباط ينبغي أن يكون أعمى بل على العكس، فالانضباط الحديدي لا ينفي بل يفترض مقدماً الخضوع الواعي القائم على ملء الاختيار الحر، لأن الانضباط الواعي هو الذي يمكن أن يكون حقاً نظاماً حديدياً. ولكن عند انتهاء نضال الآراء، واستنفاد الانتقاد، واتخاذ القرار، تكون وحدة الإرادة ووحدة العمل بين جميع أعضاء الحزب، الشرط الذي لا غنى عنه، والذي بدونه لا يمكن تصور حزب موحد، ولا انضباط حديدي في الحزب.
يقول لينين:
في هذا العهد من الحرب الأهلية الحادة، لن يتمكن الحزب الشيوعي من أداء واجبه إلا إذا كان منظماً على أقصى درجات المركزية، ويسوده انضباط حديدي، يقرب من الانضباط العسكري، وإلا إذا كان مركز الحزب هيئة تتمتع بهيبة رفيعة، وذات سلطات واسعة، وحائزة على ثقة أعضاء الحزب العامة . (شروط قبول الأحزاب في الأممية الشيوعية، المؤلفات الكاملة، الجزء 25 – صفحة 282 – 283).
هذا ما ينبغي أن يكون عليه الانضباط في الحزب في ظروف النضال قبل الاستيلاء على الديكتاتورية.
والشيء نفسه ينبغي أن يقال، ولكن على نطاق أوسع، عن الانضباط في الحزب، بعد الاستيلاء على الديكتاتورية.
يقول لينين:
إن من يضعف لو قليلا جداً، الانضباط الحديدي في حزب البروليتاريا (خصوصاً في عهد ديكتاتوريتها) يساعد البرجوازية، في الواقع، ضد البروليتاريا . (مرض الطفولة، المؤلفات الكاملة، الجزء 25، صفحة 190).
فينتج عن ذلك، إذن، أن وجود تكتلات انقسامية في الحزب لا يتفق مع وحدة الحزب، ومع الانضباط الحديدي فيه. ولا حاجة إلى التدليل على أن وجود التكتلات يجر معه إلى تأليف عدة مراكز، ووجود عدة مراكز معناه انعدام مركز واحد مشترك في الحزب، معناه انقسام الإرادة الواحدة وتراخي الانضباط وتفككه، وتراخي الديكتاتورية وتفككها.
إن أحزاب الأممية الثانية التي تحارب ديكتاتورية البروليتاريا ولا تريد أن تقود البروليتاريين إلى الاستيلاء على الحكم، يمكنها طبعاً أن تسمح لنفسها بمثل هذه الليبرالية من حرية وجود التكتلات الانقسامية، لأن هذه الأحزاب لا تحتاج، بوجه من الوجوه، إلى انضباط حديدي. ولكن أحزاب الأممية الشيوعية، وهي التي تنظم عملها على أساس المهمة التالية، – مهمة الفوز بدكتاتورية البروليتاريا وتوطيدها – لا يمكنها أن تقبل لا بالليبرالية ولا بحرية التكتلات الانقسامية.
إن الحزب هو وحدة في الإرادة تنفي كل عمل انقسامي وكل تجزئة للسلطة في الحزب.
لذلك يبين لينين خطر العمل الانقسامي من ناحية وحدة الحزب وتحقيق وحدة الإرادة لدى طليعة البروليتاريا، هذه الوحدة التي هي شرط أساسي لنجاح ديكتاتورية البروليتاريا ، وهو ما جرى تثبيته في قرار خاص، وافق عليه المؤتمر العاشر لحزبنا، تحت عنوان حول عنوان وحدة الحزب .
ولذلك يطالب لينين بمحو كل عمل انقسامي محواً تاماً ، و حل جميع الكتل فوراً، وبلا استثناء، مهما يكن البرنامج الذي تألفت على أساسه تلك الكتل ، تحت طائلة الطرد من الحزب، بصورة مؤكدة مباشرة . (قرار حول وحدة الحزب ).

6 – الحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر الانتهازية
إن ينبوع العمل الانقسامي(39) في الحزب، هو العناصر الانتهازية فيه. فالبروليتاريا ليست طبقة مقفلة، بل تتدفق إليها، بغير انقطاع، عناصر أصلها من الفلاحين، والبرجوازية الصغيرة، وعناصر من المثقفين الذين استحالوا، بفعل تطور الرأسمالية، إلى بروليتاريين. وفي نفس الوقت، تجري عملية تفسخ في الفئات العليا من البروليتاريا، ولاسيما بين القادة النقابيين والبرلمانيين الذين تنفق عليهم البرجوازية من الربح الزائد الذي تبتزه من المستعمرات.
يقول لينين: 
إن هذه الفئة من العمال المتبرجزين، أو من أريستوقراطية العمال ، الذين هم برجوازيون صغار تماماً، من حيث طراز معيشتهم، ومن حيث نسبة أجورهم ومن حيث كل مفهومهم للعالم، لأن هذه الفئة هي السند الرئيسي للأممية الثانية، وهي في أيامنا هذه، السند الاجتماعي الرئيسي (غير العسكري) للبرجوازية. ذلك لأنهم عملاء حقيقيون للبرجوازية في حركة العمال، ووكلاء من بين العمال لطبقة الرأسماليين، ودعاة حقيقيون للفكرة الإصلاحية و الشوفينية (40). (الاستعمار، المجلد 19، ص 77).
إن كل هذه الجماعات البرجوازية الصغيرة تتسرب إلى الحزب، بهذه الطريقة أو بتلك، حاملة إليه روح التردد والانتهازية، روح إفساد المعنويات وعدم اليقين. هؤلاء هم الذين يؤلفون، بصورة رئيسية، منبع العمل الانقسامي والتفكك، منبع تخريب الحزب وتفكيك تنظيمه وهدم الحزب من الداخل. إن القيام بالحرب ضد الاستعمار، مع وجود مثل هؤلاء الحلفاء في المؤخرة، معناه التعرض إلى النار من جهتين: من الجبهة ومن المؤخرة. ولذلك، فالنضال بلا رحمة ضد مثل هذه العناصر وطردها من الحزب هما الشرط الأولي للنضال الناجح ضد الاستعمار.
إن النظرية القائلة بأن من الممكن التغلب على العناصر الانتهازية، عن طريق النضال الفكري داخل الحزب، النظرية القائلة بأن من الواجب التغلب على هذه العناصر في نطاق حزب واحد، هي نظرية عفنة وخطرة، تهدد الحزب بالشلل، وبالوقوع في حالة مرض مزمن، أنها تهدد بجعل الحزب مرتعاً للانتهازية، وبترك البروليتاريا بدون حزب ثوري، وبحرمانها سلاحها الرئيسي في النضال ضد الاستعمار. إن حزبنا ما كان ليستطيع أن يسير على الطريق الكبرى، وأن يستولي على الحكم، وأن ينظم ديكتاتورية البروليتاريا، وأن يخرج ظافراً من الحرب الأهلية، لو كان في صفوفه أمثال مارتوف ودان، وبوتريسوف واكسيلرود(41) . وإذا كان حزبنا قد نجح في تكوين وحدته الداخلية وتكوين التماسك الذي يسود صفوفه، بصورة لم يسبق لها مثيل، فذلك يعود، قبل كل شيء، إلى أنه استطاع أن يطهر نفسه، في الوقت المناسب، من دنس الانتهازية، ولأنه استطاع أن يطرد من صفوفه دعاة التصفية(42) والمنشفيك. إن الطريق إلى تطوير الأحزاب البروليتارية وتقويتها تمر عبر تطهير هذه الأحزاب من الانتهازيين والإصلاحيين، ومن الاشتراكيين الاستعماريين والاشتراكيين الشوفينيين، ومن الاشتراكيين الوطنيين والاشتراكيين السلميين.
إن الحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر الانتهازية.
يقول لينين:
إذا كان صفوفنا إصلاحيون ومنشفيك، فلا يمكن الانتصار في الثورة البروليتارية، ولا يمكن صونها. هذا مبدأ بديهي. وقد أكدته بجلاء تجربة روسيا والمجر.. ففي روسيا نشأت مراراً أحوال صعبة. كان من شأنها أن تؤدي بكل تأكيد إلى قلب النظام السوفياتي، لو أن المنشفيك والإصلاحيين والديمقراطيين البرجوازيين الصغار، بقوا في داخل حزبنا.. كذلك الأمر في ايطاليا حيث يسود الرأي بوجه عام. بأن البروليتاريا تسير نحو خوض معارك فاصلة ضد البرجوازية، في سبيل الاستيلاء على سلطة الدولة. ففي فترة كهذه، ليس من الضروري فقط، بصورة مطلقة، إبعاد المنشفيك، والإصلاحيين والتوراتيين(43) عن الحزب، بل قد يكون من المفيد أيضاً حتى إبعاد شيوعيين ممتازين، من الذين يمكن أن يترددوا ومن الذين يظهرون تردداً في جانب الوحدة مع الإصلاحيين، من المفيد أبعادهم عن جميع المراكز الهامة.. إن أقل تردد في قلب الحزب، على أعتاب الثورة، وفي لحظات النضال الشديد الحامي في سبيل انتصارها، يمكن أن يؤدي إلى ضياع كل شيء، وأن يحبط الثورة وأن ينتزع الحكم من أيدي البروليتاريا، لأنه يكون حكماً غير وطيد بعد، ولأن الهجمات عليه ما تزال قوية جداً؛ فإذا انسحب الزعماء المترددون في مثل هذا الوقت، فذلك لن يضعف بل يقوي الحزب وحركة العمال والثورة جميعاً . (لينين الخطب المرئية عن الحرية المؤلفات الكاملة، المجلد 25، الصفحات 462 – 463 – 464).

(34) الاتباعية Suivisme هي السير في مؤخرة الحركة بدلاً من السير في طليعتها – هيئة التعريب.
(35) Manilovisme99 غباوة، أحلام الفارغين من الأعمال. ومانيلوف هو أحد أشخاص قصة غوغول الأرواح الميتة ـ هيئة التعريب.
(36) Nihilisme: أو العدمية، والنهليستي هو العدمي. وكان يسمى بذلك فريق من المثقفين الروس الذين يتميزون بشدة ميولهم الفردية. واحتقارهم كل القيم الفكرية، وازدرائهم للشعب، وتقديسهم للفوضى. وقد أدى ذلك بالكثيرين منهم إلى استعمال أساليب الإرهاب الفردي ضد أفراد الطبقات الحاكمة في روسيا القيصرية – هيئة التعريب.
(37) النوابض: الزنبركات.
(38) المقصود هنا بكلمة الأصحاب : أكسيلرود ومارتوف وبوتريسوف وغيرهم، الذين كانوا يرفضون الانصياع لقرارات المؤتمر الثاني ويتهمون لينين بالبيروقراطية. (ستالين).
(39) Fractionuisme :العمل الانقسامي، ضد – هيئة التعريب.
(40) راجع الشرح في الهامش رقم 27.
(41) زعماء منشفيك، انتهازيون – هيئة التعريب.
(42) Liquidateurs: دعاة "التصفية" تيار انتهازي انهزامي ظهر في الحزب البلشفي، بعد فشل ثورة 1905 في روسيا. وكانت خطة أصحابه تلخص بالدعوة إلى وقف نضال الحزب السري، والاقتصار على الأشكال العلنية في النشاط الذي "تسمح" به الحكومة القيصرية. وهذا كان معناه تصفية الحزب وحله – هيئة التعريب.
(43) أتباع توراتي، وهو أحد الزعماء الإصلاحيين في حركة العمال في ايطاليا – هيئة التعريب.
- 9 -
الأسلوب في العمل

ليس المقصود هنا الأسلوب الأدبي. وإنما أريد أن أحدثكم عن الأسلوب في العمل، عن هذه الميزة الخاصة الفريدة في نشاط اللينينية العملي، الذي يخلق نوعاً خاصاً من المناضلين اللينينيين. إن اللينينية هي مدرسة نظرية وعملية تكّون نوعاً خاصاً من المناضلين في الحزب كما في جهاز الدولة، ويخلق أسلوباً خاصاً في العمل، هو الأسلوب اللينيني. 
ماهي الخطوط المميزة لهذا الأسلوب؟ ما هي خصائصه؟
لهذا الأسلوب خاصتان اثنتان:
أ) الاندفاع الثوري الروسي.
ب) الروح العملية الأميركية.
وأسلوب اللينينية هو الجمع بين هاتين الخاصتين في العمل في داخل الحزب وفي جهاز الدولة.
فالاندفاع الثوري الروسي هو ترياق ضد الجمود والرتابة وروح المحافظة، وركود الفكر، والخضوع العبودي لتقاليد الأجداد. إن الاندفاع الثوري الروسي هو تلك القوة المحيية التي توقظ الفكر، وتدفع إلى أمام، وتحطم الماضي، وتفتح الآفاق. وبدون هذا الاندفاع، لا يمكن وجود أية حركة إلى أمام.
ولكن الاندفاع الثوري الروسي، يظل دائماً عرضة لأن يتحول، في النشاط العملي، إلى مانيلوفية(44) "ثورية" فارغة، إذا لم يتحد مع الروح العملية الأميركية في العمل. والأمثلة على مثل هذا التحول أكثر من أن تحصى. فمن منا لا يعرف داء تكلف الابتكار "الثوري" وهو من البرامج "الثوري" هذا الداء الناشئ عن الايمان الأعمى بقدرة المرسوم الذي يستطيع أن يدبر كل شيء، ويبدل كل شيء؟ في قصة عنوانها أوسكو متشيل (الإنسان الشيوعي الكامل) صوَّر كاتب روسي، هو أ. أهرنبرغ، طراز الشخص "البلشفي" المصاب بهذا الداء، وقد اختط لنفسه هدفاً هو وضع تصميم للإنسان الكامل والمثالي، فكان.. أن "غرق" في هذا "العمل". في هذه القصة قسط كبير من المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أنها قد أحسنت تصوير هذا الداء. ويبدو لي، مع ذلك، أنه ما من احد قط سخر بهؤلاء المرضى سخرية قاسية لاذعة كما فعل لينين.
"الغرور الشيوعي"، هكذا كان لينين ينعت هذا الايمان المريض بالابتكار المتكلف وهوس المراسيم. يقول لينين:
"إن الغرور الشيوعي هو صفة رجل عضو في الحزب الشيوعي، إلا أنه لم يطرد منه بعد، يتصور أن بوسعه أداء جميع مهماته عن طريق المراسيم الشيوعية".(خطاب القي في المؤتمر الثاني لشغيلة التعليم السياسي في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، في 17 تشرين الأول 1921 المؤلفات، المجلد 27 الصفحة 50 – 51).
لقد كان لينين عادة يجابه الهدر "الثوري" بالمهمات العادية اليومية مشيراً بذلك إلى أن تكلف الابتكار "الثوري" مضاد للينينية الحقة روحاً ونصاً. لقد كان يقول:
"يلزمنا الإقلال من العبارات الطنانة، والإكثار من العمل البسيط اليومي..
يلزمنا الإقلال من الثرثرة السياسية، والإكثار من الانتباه لأبسط الوقائع التي هي، مع ذلك، حيوية للبناء الشيوعي". ("المبادرة الكبرى").
إن الروح العملية الأميركية هي، على العكس، ترياق ضد المانيلوفية "الثورية" والابتكارات الخيالية. إن الروح العملية الأميركية هي القوة التي، لا تُكبح ولا تعرف العقبات ولا تعترف بها، هي القوة التي، بثباتها الحاذق، تكتسح العقبات من كل نوع وكل درجة، ولا تحجم عن السير إلى النهاية بالمهمة التي تبدأها، مهما كانت ضئيلة الشأن، انها القوة التي بدونها لا يمكن تصور عمل بنائي جدي. 
ولكن الروح العملية الأميركية عرضة دائماً لأن تنقلب إلى ضرب من الروح التجاري الضيق الخالي من المبدأ، إذا هي لم تقترن بالاندفاع الثوري الروسي. ومن منا لا يعرف داء الممارسة الضيقة وداء الروح التجاري الخالي من المبدأ، هذا الداء الذي يؤدي غالباً ببعض "البلاشفة" إلى الانحطاط والتخلي عن القضية الثورية؟ إن هذا الداء الخاص قد وصفه ب. بيلنياك في روايته: السنة العارية، حيث يعرض المؤلف نماذج من "البلاشفة" الروس المملوئين إرادة وتصميماً عملياً، وهم "يعملون" بكثير من "الهمة"، ولكنهم لا آفاق لهم، ولا يعرفون "لا ماذا ولا لماذا"، وهم، لهذا، ينحرفون عن جادة العمل الثوري. ولم يسخر أحد من داء الروح التجاري هذا مثل سخرية لينين اللاذعة. "ممارسة ضيقة" و"وروح تجارية خرقاء"، هكذا كان ينعت هذا الداء. وكان يجابهه، عادة، بالعمل الثوري الحي وبضرورة وجود الآفاق الثورية في أقل مهمة من أعمالنا اليومية، مشيراً بذلك إلى أن الروح التجاري الخالي من المبدأ هو أيضاً مضاد للينينية الحقة كتكلف الابتكار "الثوري".
إن الاندفاع الثوري الروسي، مقترناً بالروح العملية الأميركية، ذلك هو جوهر اللينينية في عمل الحزب والدولة.
إن هذا الاقتران فقط هو الذي يعطينا النموذج الكامل للمناضل اللينيني وأسلوب اللينينية في العمل.
(44) راجع الشرح في الهامش رقم 35
- 1 -
الشروط الخارجية والداخلية لثورة أكتوبر
إن السهولة النسبية التي تمكنت بها الثورة البروليتارية في روسيا من تحطيم أغلال الامبريالية، وكذلك من الإطاحة بسلطة البرجوازية تتحدد بثلاث ظروف خارجية.
أولاً، لقد بدأت ثورة أكتوبر في مرحلة الصراع المسعور بين الكتلتين الامبرياليتين الرئيسيتين الانكليزية - الفرنسية و النمساوية - الألمانية، في الوقت الذي ما كانت فيه هاتان الكتلتان، المنهمكتان في صراع حتى الموت فيما بينها. تملكان لا الوقت ولا الوسائل للاهتمام بصورة جدية بمكافحة ثورة أكتوبر. ولقد كان لهذه الظروف أهمية فائقة بالنسبة إلى ثورة أكتوبر إذ أتاح لها أن تستفيد من المصادمات الحادة في معسكر الامبريالية لتوطد قواها وتنظمها.
ثانياً، لقد بدأت ثورة أكتوبر إبان الحرب الامبريالية، في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الكادحة، المرهقة بالحرب والطامحة إلى السلم، منقادة، بحكم منطق الأشياء بالذات، نحو الثورة البروليتارية باعتبارها منفذ النجاة الوحيد من الحرب. ولقد كان لهذا الظرف أكبر الأهمية بالنسبة إلى الامبريالية إذ وضع بين يديها أداة السلم القوية وأتاح لها إمكانية ربط الثورة السوفياتية بتصفية الحرب البغيضة وأكسبها بذلك عطف الجماهير سواء في الغرب بين العمال أم في الشرق بين الشعوب المضطهدة.
ثالثاً، وجود طبقة عاملة قوية في الغرب، ونضوج الأزمة الثورية، المتولدة عن الحرب الامبريالية الطويلة، في الغرب وفي الشرق. ولقد كان لهذا الظرف بالنسبة إلى الثورة الروسية أهمية لا تقدر بثمن لها حلفاء أوفياء خارج روسيا، في نضالها ضد الامبريالية العالمية.
ولكن بالإضافة إلى الظروف الخارجية - مهدت الطريق لثورة أكتوبر جملة من شروط داخلية سهلت لها الانتصار.
ويجب أن نميز من هذه الشروط التالية:
أولاً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكثر فعالية من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة في روسيا.
ثانياً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكيد من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة الفلاحية الفقيرة وغالبية الجنود الطامحين في السلم والأرض. 
ثالثاً، لقد كان يقف على رأسها، كقوة قائدة، ذلك الحزب البلشفي، القوي لا بتجربته وانضباطه الذي أحكمت أواصره السنون فحسب، بل أيضاً بصلاته الواسعة مع الجماهير الكادحة.
رابعاً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكثر فعالية من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة ثورة أكتوبر تواجه أعداء يسهل نسبياً قهرهم ويتمثلون في البرجوازية الروسية الضعيفة بهذا القدر أو ذاك، وفي طبقة كبار الملاك العقاريين التي كانت معنوياتها قد انهارت تماماً بفعل " التمردات" الفلاحية، وفي الأحزاب التوفيقية ( المناشفة والاشتراكيين – الثوريين) التي كانت قد أفلست تمام الإفلاس إبان تلك الحرب.
خامساً، لقد كان في متناولها المساحات الشاسعة لدولة فتية، الأمر الذي أتاح لها إمكانية المناورة بحرية، فكانت تتراجع متى اقتضى الموقف ذلك وتسترد أنفاسها وتعيد تجميع قواها إلخ...
سادساً، لقد كان وسع ثورة أكتوبر أن تعتمد في صراعها مع الثورة المضادة، على كمية كافية من القوت والوقود والمواد الأولية داخل البلاد.
هذه الشروط الخارجية والداخلية مجتمعة أوجدت وضعاً خاصاً حدد السهولة النسبية لانتصار ثورة أكتوبر.
هذا لا يعني البتة، بالطبع، إن ثورة أكتوبر لم تواجه ظروفاً سالبة، في الخارج وفي الداخل سواء بسواء. ويكفي أن نعيد إلى الذهان، على سبيل المثال، ذلك الظرف السالب المتمثل في عزلة ثورة أكتوبر من بعض الوجوه وفي عدم وجود قطر سوفياتي مجاور إلى جانبها كان بوسعها الاعتماد عليه. وأنه لما لا يرتقي إليه الشك أن الثورة القادمة، في ألمانيا على سبيل المثال، ستجد نفسها، من هذا المنظور، في وضع انسب بحكم وجود قطر سوفياتي مرموق القوة، هو اتحادنا السوفياتي، في جوارها. وإنني لأضرب صفحاً عن ذلك الظرف السالب الآخر لثورة أكتوبر الناجم عن عدم وجود غالبية بروليتارية في البلاد.
بيد أن الظروف غير الموائمة إنما تبرز الأهمية الكبرى لذلك الوضع الفريد الذي كانت تمثله الشروط الخارجية والداخلية لثورة أكتوبر على نحو ما فصلنا آنفا.
هذا الوضع الفريد يجب ألا يغيب عن أنظارنا ولو للحظة واحدة. ومن الأجدر بنا أن نتذكره بوجه خاص عندما نحلل أحداث 1923، في ألمانيا. وعلى تروتسكي قبل أي إنسان آخر أن يتذكر ذلك، هو الذي يقيم دفعة واحدة تناظرا بين ثورة أكتوبر والثورة في ألمانيا، وينهال بسياطه دونما رادع على الحزب الشيوعي الألماني لأخطائه الواقعية والمزعومة.
يقول لينين:
"لقد كان سهلا على روسيا، نظرا للوضع الفريد من نوعه إلى ابعد الحدود في عام1917، أن تبدأ الثورة الإشتراكية، في حين أن الاستمرار بها وقيادتها إلى خاتمة مطافها سيكون أصعب عليها مما على الأقطار الأوروبية. وقد سبق أن أتيحت لي الفرصة، في مستهل 1918، للتنويه بهذه الواقعة، ولقد أكدت تجربة عامين من الزمن طريقتي في تصور الأشياء. إن شروطاً نوعية مثل: 
1. إمكانية ربط الثورة السوفياتية بوقف الحرب الامبريالية- بفضل هذه الثورة- تلك الحرب التي كانت تعرض العمال والفلاحين إلى عذابات لا تصدق. 
2. إمكانية استغلال الصراع المستميت بين أقوى كتلتين في العالم من الكواسر الامبرياليين لحين من الزمن بعد عجزهما عن الاتحاد ضد العدو السوفياتي.
3. إمكانية الصمود في حرب أهلية طويلة الأمد نسبيا بفضل ترامي أطراف البلاد وسوء وسائل مواصلاتها جزئيا. 
4. وجود حركة ثورية ديمقراطية برجوازية بالغة العمق في صفوف الطبقة الفلاحية إلى درجة أمكن معها لحزب البروليتاريا على السلطة السياسية- إن شروطا نوعية كهذه لا وجود لها في أوروبا الغربية في الوقت الراهن، وتجدد شروط مماثلة أو مشابهة ليس سهلا البتة. ولهذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلى مجموعة من الأسباب الأخرى، فإن البدء بالثورة الاشتراكية سيكون أصعب على أوروبا الغربية مما علينا ". (مرض الطفولة- المجلد 25، ص 205، الطبعة الروسية).
إن كلمات لينين هذه لا يجوز لنا أن ننساها
- 2 -
حول خاصتي ثورة أكتوبر
أو ثورة أكتوبر و نظرية تروتسكي
في الثورة الدائمة

إن لثورة أكتوبر خاصتين لا غنى عن تفهمهما لإدراك المعنى الداخلي والأهمية التاريخية لهذه الثورة.
فما هاتان الخاصتان؟
الخاصة الأولى أن دكتاتورية البروليتاريا ولدت عندنا كسلطة منبثقة على أساس تحالف البروليتاريا وجماهير الفلاحين الكادحة بقيادة البروليتاريا. والخاصة الثانية أن دكتاتورية البروليتاريا توطدت عندنا كنتيجة لانتصار الاشتراكية في بلد واحد ضعيف التطور رأسماليا، بينما لا تزال الرأسمالية قائمة في البلدان الأخرى الأرقى تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية. هذا لا يعني، بالطبع، أن ثورة أكتوبر لا تتسم بخواص أخرى. ولكن ما يهمنا في الوقت الراهن هو على وجه التحديد هاتان الخاصتان، لا لأنهما تعبران بوضوح عن ماهية ثورة أكتوبر وحسب، بل أيضاً لأنهما تبرزان على نحو مرموق الطبيعة الانتهازية لنظرية الثورة الدائمة .
لندرس باقتضاب هاتين الخاصتين.
إن مسألة الجماهير الكادحة التي تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة المدينية والريفية ومسألة جذب هذه الجماهير إلى جانب البروليتاريا هي مسألة أساسية في الثورة البروليتارية. فلمن سيمحض الشعب الشغيل في المدينة و الريف تأييده في الصراع على السلطة، أللبرجوازية أم للبروليتاريا؟ و لمن سيصبح احتياطيا، أللبرجوازية أم للبروليتاريا؟ - إن مصير الثورة ورسوخ دكتاتورية البروليتاريا مرهونان بذلك. فلقد أخفقت ثورتا 1948 و1871 في فرنسا لأن الاحتياطي الفلاحي بوجه خاص وقف إلى جانب البرجوازية. و لقد انتصرت ثورة أكتوبر لأنها عرفت كيف تنتزع من البرجوازية احتياطيها الفلاحي، ولأنها عرفت كيف تدفع بهذا الاحتياطي إلى جانب البروليتاريا، ولأن البروليتاريا كانت في هذه الثورة القوة القائدة الوحيدة لجماهير الشعب الشغيل التي لا يحصى لها عد في المدينة والأرياف. 
ومن لم يفهم ذلك لن يفهم أبداً لا طابع ثورة أكتوبر، ولا طبيعة دكتاتورية البروليتاريا، ولا الطابع الخاص للسياسة الداخلية لسلطتنا البروليتاريا.
إن دكتاتورية البروليتاريا ليست محض نخبة حكومية تم انتقائها بذكاء بجهود مخطط استراتيجي محنك ، و تستند بحكمة إلى هذه الشريحة أو تلك من شرائح السكان. إن دكتاتورية البروليتاريا هي تحالف طبقة البروليتاريا وجماهير الفلاحين الشغيلة للإطاحة بالرأسمال، ولتحقيق النصر النهائي للاشتراكية، شريطة أن تكون البروليتاريا هي القوة القائدة لهذا التحالف.
ليست المسألة إذن التهوين ولو قيد شعرة من الإمكانات الثورية للحركة الفلاحية، كما يحلو الآن لبعض المدافعين الدبلوماسيين عن الثورة الدائمة أن يقولوا. وإنما المسألة مسألة طبيعة الدولة البروليتارية الجديدة المنبثقة عن ثورة أكتوبر، مسألة طابع السلطة البروليتارية وأسس دكتاتورية البروليتاريا بالذات.
يقول لينين:
إن دكتاتورية البروليتاريا شكل خاص من التحالف الطبقي بين البروليتاريا، طليعة الشغيلة، و بين الشرائح العديدة غير البروليتارية من الشغيلة (البرجوازية الصغيرة، صغار أرباب العمل، الطبقة الفلاحية، المثقفين، الخ)، أو غالبية هذه الشرائح، وهو تحالف موجه ضد الرأسمال، تحالف يستهدف الإطاحة الكاملة بالرأسمال والسحق الكامل لمقاومة البرجوازية ولمحاولتها للاستيلاء على الحكم مجدداً، تحالف يرمي إلى تأسيس الاشتراكية وتوطيدها بصورة نهائية . (مقدمة خطاب: كيف يخدع الشعب بشعارات الحرية و المساواة ، المجلد 24، ص311، الطبعة الروسية).
و يقول فيما بعد:
إن دكتاتورية البروليتاريا، إذا ما ترجم هذا التعبير اللاتيني العلمي، التاريخي- الفلسفي، إلى لغة أبسط، تعني أن طبقة محددة لا غير – هي طبقة عمال المدن، وبوجه عام عمال المصانع، العمال الصناعيين - هي وحدها القادرة على قيادة جمهرة الشغيلة والمستغلين بأسرهم في النضال من أجل الإطاحة بنير الرأسمال، إبان هذه الإطاحة بالذات؛ وفي النضال من أجل الحفاظ على النصر وتوطيده، وفي مأثرة إنشاء نظام اجتماعي جديد، اشتراكي؛ وفي مجمل النضال من أجل إلغاء الطبقات إلغاء كاملاً . ( المبادرة الكبرى ، المجلد 24، ص 336).
هذه هي نظرية دكتاتورية البروليتاريا كما صاغها لينين.
و إحدى خواص ثورة أكتوبر تتمثل في أن هذه الثورة تطبيق كلاسيكي للنظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا.
و يخيل إلى بعض الرفاق أن هذه النظرية نظرية روسية خالصة لا صلة لها بغير الواقع الروسي. هذا غير صحيح، غير صحيح بالمرة. فلينين في حديثه عن الجماهير الكادحة من الطبقات غير البروليتارية التي تقودها البروليتاريا لا يقصد الفلاحين الروس فحسب، بل أيضاً العناصر الشغيلة من مناطق الأطراف في الاتحاد السوفياتي، تلك المناطق التي كانت إلى عهد قريب مستعمرات لروسيا. وما كان لينين يتعب أو يكل من التكرار بأن البروليتاريا روسيا لن تكتب لها الغلبة إذا لم تتحالف مع هذه الجماهير من القوميات الأخرى. و لقد قال لينين مراراً و تكراراً في مقالاته التي عالج فيها المسألة القومية وفي خطاباته أمام مؤتمرات الأممية الشيوعية أن انتصار الثورة العالمية مستحيل بدون التحالف الثوري والتكتل الثوري بين بروليتاريا المدن المتقدمة والشعوب المضطهدة في المستعمرات المسترقة. ولكن ما المستعمرات إن لم تكن تلك الجماهير الشغيلة المضطهدة ذاتها، وفي المقام الأول جماهير الفلاحين الشغيلة؟ هل ثمة من يجهل أن مسألة تحرر المستعمرات هي في واقع الأمر مسألة تحرر الجماهير الشغيلة التي تنتمي إلى الطبقات غير البروليتارية من نير الرأسمال المالي واستغلاله؟
ومن هذا يتضح أن النظرية اللينينية دكتاتورية البروليتاريا ليست نظرية روسية خالصة، وإنما نظرية ملزمة لجميع الأقطار. والبلشفية ليست ظاهرة روسية فحسب. يقول لينين: إن البلشفية نموذج تكتيكي للجميع ( الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد 23، ص 386، الطبعة الروسية).
هذه هي السمات المميزة لأولى خواص ثورة أكتوبر.
فما كنه نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة ، من وجهة نظر خاصة ثورة أكتوبر هذه؟
إننا لن نتوقف عند موقف تروتسكي في عام 1905 عندما نسي بكل بساطة الطبقة الفلاحية بوصفها قوة ثورية إذ اقترح شعار لا قيصر، وإنما حكومة عمالية ، أي شعار الثورة دون الطبقة الفلاحية. وحتى راديك، ذلك المحامي الدبلوماسي عن الثورة الدائمة، يجد نفسه مكرها الآن على الاعتراف بأن الثورة الدائمة في عام 1905 كانت تعني قفزة في الفراغ ومجانبة للواقع. ويقر الجميع اليوم بلا لبس بأن الاهتمام بهذه القفزة في الفراغ جهد ضائع.
ولن نتوقف كذلك عند موقف تروتسكي إبان الحرب، في عام 1915 على سبيل المثال، عندما انتهى إلى الاستنتاج في مقاله الصراع على السلطة بأن الدور الثوري للطبقة الفلاحية آيل إلى الضمور لا محالة، وبأن شعار مصادرة الأرض فقد ما كان له من أهمية في السابق، وهذا كله انطلاقاً من واقع أننا نحيا في عصر الامبريالية وأن الامبريالية لا تؤلب الأمة البرجوازية على النظام القديم، بل تؤلب البروليتاريا على البرجوازية . ومعروف أن لينين اتهم تروتسكي، في معرض تحليل مقاله ذاك، ب نفي دور الطبقة الفلاحية ، وقال أن تروتسكي يساعد في الواقع سياسيي العماليين الليبراليين الذين يفهمون نفي دور الطبقة الفلاحية على أنه امتناع عن حض الفلاحين على الثورة . ( خطا الثورة ، المجلد 18، ص 318، الطبعة الروسية).
و الأجدر بنا أن ننتقل إلى أحدث كتابات تروتسكي عن هذه المسألة، إلى كتابات المرحلة التي كان الوقت قد أتيح فيها لدكتاتورية البروليتاريا كيما توطد نفسها والتي كان متاحا فيها لتروتسكي أن يتحقق عمليا من صحة نظريته في الثورة الدائمة وأن يصحح أخطائه. لنأخذ المقدمة التي كتبها في عام 1922 لكتابه المعنون 1905 . وإليكم ما يقوله في تلك المقدمة بصدد الثورة الدائمة : إنما في الحقبة الفاصلة بين 9 كانون الثاني وإضراب تشرين الأول 1905 تكونت لدى المؤلف تصوراته عن طابع تطور روسيا الثوري، تلك التصورات التي عرفت باسم نظرية الثورة الدائمة . ولقد كانت هذه التسمية العويصة تعبر عن الفكرة القائلة بأن الثورة الروسية، التي تواجه مباشرة أهدافاً برجوازية، لا تستطيع رغم ذلك أن توقف عند هذه الغاية. فالثورة لن تستطيع تحقيق هذه الأهداف البرجوازية المباشرة ما لم تحمل البروليتاريا إلى سدة السلطة. والحال أن البروليتاريا، بمجرد استيلائها على السلطة، لن يكون في مقدورها أن تحد نفسها بإطار الثورة البرجوازي. بل على النقيض من ذلك، فالطليعة البروليتارية سترى لزاما عليها، من الأيام لسيطرتها، وضماناً لانتصارها على وجه التحديد، أن تقوم بأعمق الاقتحامات لا في الملكية الإقطاعية فحسب، وإنما في الملكية البرجوازية أيضا. وهي بفعلها هذا ستدخل في صدام عدائي، لا مع تكتلات البرجوازية التي تكون قد محضتها مؤازرة في مستهل نضالها الثوري فحسب، وإنما أيضاً جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة التي يكون تضافرها قد دفع بها إلى السلطة. ولن تجد التناقضات التي ستواجه الحكومة العمالية في قطر متأخر تتألف من الفلاحين، من حل لها إلا على الصعيد الأممي وفي حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا (1)
هكذا يتكلم تروتسكي عن ثورته الدائمة .
ويكفي أن نقارن بين هذا الشاهد وبين الشواهد التي أوردها آنفا واقتبسناها من مؤلفات لينين عن دكتاتورية البروليتاريا، حتى ندرك أي هوة تفصل النظرية اللينينية في دكتاتورية البروليتاريا عن نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة .
إن لينين يتكلم عن تحالف البروليتاريا والشرائح الشغيلة من الطبقة الفلاحية، على اعتباره أساس دكتاتورية البروليتاريا. والحال أن تروتسكي يرى أن الصدام العدائي ناشب لا محالة بين الطليعة البروليتارية و جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة .
ويتحدث لينين عن قيادة البروليتاريا للجماهير الشغيلة والمستغلة. والحال أن تروتسكي يرى في ذلك تناقضات ستواجه الحكومة العمالية في قطر متأخر تتألف غالبيته الساحقة من الفلاحين .
وفي حين يرى لينين أن الثورة تستمد قواها من عمال روسيا وفلاحيها بالذات قبل كل شيء، يذهب تروتسكي لا يترك إلا بصيص من الأمل لأن التناقضات التي ستواجه الحكومة العمالية... لن من حل لها... إلا في حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا . وبمقتضى هذه الخطة لا يبقى أمام ثورتنا غير منظور واحد: أن تراوح في تناقضاتها الذاتية وأن تهلك في مكانها في انتظار الثورة العالمية.
ما دكتاتورية البروليتاريا في رأي لينين؟
ما دكتاتورية البروليتاريا إلا السلطة التي تستند إلى تحالف البروليتاريا والجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية للإطاحة الكاملة بالرأسمال و لتأسيس الاشتراكية وتوطيدها بصورة نهائية .
ما دكتاتورية البروليتاريا في رأي تروتسكي؟
ما دكتاتورية البروليتاريا إلا سلطة تدخل في صدام عدائي مع جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة وتبحث عن حل التناقضات في حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا وحدها.
بم تختلف نظرية الثورة الدائمة هذه عن نظرية المنشفية المشهورة التي تنفي فكرة دكتاتورية البروليتاريا؟
الحقيقة أنها لا تختلف عنها في شيء.
ولا مجال للشك. فـ الثورة الدائمة ليست مجرد تهوين من الإمكانيات الثورية للحركة الفلاحية. وإنما الثورة الدائمة استهانة بالحرمة الفلاحية إلى درجة إنكار النظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا. 
إن ثورة تروتسكي الدائمة وجه من وجوه المنشفية.
هذا فيما يتعلق بالخاصة الأولى لثورة أكتوبر.
فما السمات المميزة لثورة أكتوبر الثانية؟
لقد توصل لينين، من خلال دراسته للامبريالية، ولاسيما في مرحلة الحرب، إلى قانون لا نظامية تطور البلدان الرأسمالية الاقتصادي والسياسي ولا استمراريته. هذا القانون يعني أن تطور المشاريع والتروستات والفروع الصناعية والأقطار المختلفة لا يتم بصورة نظامية وتسلسلية ثابتة، بحيث أن هذا التروست أو ذاك وهذا الفرع الصناعي أو ذاك وهذا أو ذاك يسير دوما في الطليعة بينما تبقى سائر التروستات أو الأقطار في المؤخرة، تفصل بينها باستمرار المسافات ذاتها. وإنما يتم ذلك التطور، على العكس، في شكل قفزات، مع انقطاع في تطور بعض الأقطار ووثبات إلى الأمام في تطور الأخرى. والحال أن ميل الأقطار المتأخرة المشروع تماماً إلى الحفاظ على مواقعها القديمة، وميل الأقطار التي قفزت إلى الأمام – وهو ميل لا يقل عن الأول مشروعية - إلى الاستيلاء على مواقع جديدة، يجعلان من المصادمات العسكرية بين أقطار الامبريالية ضرورة محتومة. هذا ما كانه، على سبيل المثال، وضع ألمانيا التي كانت، لنصف قرن من الزمن خلا، قطرا متأخرا بالمقارنة مع فرنسا وانكلترا. والقول نفسه ينطبق على اليابان بالمقارنة مع روسيا. بيد أننا نعلم أن ألمانيا واليابان قد قفزا منذ مستهل القرن العشرين قفزة هائلة إلى الأمام، فنجحت الأولى في تخطي فرنسا وشرعت تزيح انكلترا وتحتل مكانها في السوق العالمية، وشرع الثاني بإزاحة روسيا. وإنما من هذه التناقضات تأتي، كما هو معروف، الحرب الامبريالية الأخيرة.
إن ذلك القانون ينطلق من الوقائع التالية:
1. لقد تحولت الرأسمالية إلى نظام عالمي من الاضطهاد الاستعماري والخنق المالي للغالبية الساحقة من سكان المعمورة على يد حفنة من الأقطار المتقدمة . (لينين: مقدمة الطبعة الفرنسية لـ الامبريالية ، المجلد 19، ص 74، الطبعة الروسية).
2. إن تقاسم هذه الغنائم قد جرى بين اثنين أو ثلاثة من الكواسر الكلية القدرة، المسلحة من أخمص قدميها إلى رأسها (أمريكا، انكلترا، اليابان)، والتي جرفت الكرة الأرضية بأسرها في حربها من أجل تقاسم غنائمها . (المصدر نفسه).
3. إن نمو التناقضات داخل النظام الاضطهاد المالي العالمي والمصادمات العسكرية المحتومة تجعل الجبهة العالمية للامبريالية هشة قابلة لأن تحطم بسهولة على يد الثورة، كما تجعل قطيعة بعض الأقطار مع الجبهة ممكنة .
4. إن فرص وقوع هذه القطيعة هي على أكبر ما يمكن أن تكون عند النقاط وفي الأقطار التي تكون فيها سلسلة جبهة الامبريالية على أضعف ما يمكن أن تكون، أي حيث تكون الامبريالية أوهن تحصينا وحيث يكون في مستطاع الثورة أن تتطور بسهولة.
5. لهذا فإن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن تماماً ومرجح، حتى وإن كان هذا البلد من أضعف البلدان تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية، وحتى وإن كانت الرأسمالية ما تزال على قيد الحياة في البلدان الأخرى بما فيها البلدان الأقوى تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية.
تلكم هي باختصار مبادئ النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
فما كنه ثانية خصائص ثورة أكتوبر؟
إن ثانية خصائص ثورة أكتوبر تكمن في أن هذه الثورة تؤلف نموذجاً للتطبيق العملي للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
ومن لم يفهم خاصة ثورة أكتوبر هذه فلن يفهم أبداً الطبيعة الأممية لهذه الثورة، ولا قوتها الأممية الهائلة، ولا سياستها الخارجية الفريدة في نوعها.
يقول لينين:
إن عدم تساوي التطور الاقتصادي والسياسي قانون مطلق من قوانين الرأسمالية. ومن هنا فإن انتصار الاشتراكية ممكن في البداية في عدد صغير من البلدان الرأسمالية، أو حتى في بلد رأسمالي واحد فرد. وفي هذه الحال فإن البروليتاريا الظافرة في هذا القطر، بعد أن تصادر ملكية الرأسماليين وتنظم الإنتاج الاشتراكي، ستهب ضد بقية العالم الرأسمالي، جاذبة إليها الطبقات المضطهدة من البلدان الأخرى، ومحرضة إياها على التمرد على الرأسماليين، وغير محجمة عند الضرورة عن استخدام القوة العسكرية ضد طبقات المستغلين ودولهم. ذلك أن اتحاد الأمم الحر في ظل الاشتراكية مستحيل بدون نضال عنيد، طويل الأمد بهذا القدر أو ذاك، من جانب الجمهوريات الاشتراكية ضد الدول المتأخرة ( حول شعار الولايات المتحدة الأوروبية : المجلد 18، ص 232-233، الطبعة الروسية).
إن الانتهازيين من جميع الأقطار يزعمون أن الثورة البروليتارية لا يمكن أن تبدأ –هذا إذا كان مقيضا لها موجب نظريتهم أن تبدأ في مكان ما – إلا في البلدان المتطورة صناعياً، وأنه كلما كانت هذه البلدان أكثر تطوراً من الزاوية الصناعية كانت فرص الاشتراكية في الانتصار أكبر. أما انتصار الاشتراكية في بلد واحد فإنهم يستبعدونها كما لو أنها من رابع المستحيلات ولاسيما إذا كان ذلك البلد ضعيف التطور من وجهة النظر الرأسمالية. ولقد كان لينين، إبان الحرب، وبالاستناد إلى قانون التطور اللامتساوي للدول الامبريالية، قد عارض الانتهازيين بنظريته عن الثورة البروليتارية بخصوص انتصار الاشتراكية في بلد واحد حتى وإن كان أوهن البلدان تطوراً من وجهة النظر الرأسمالية. 
ومعلوم أن ثورة أكتوبر قد أيدت كامل التأييد صحة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
فكيف تتبدى ثورة تروتسكي الدائمة من وجهة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
لنأخذ كراسة تروتسكي: ثورتنا (1906). يكتب تروتسكي 
إن الطبقة العاملة في روسيا لن تستطيع أن تصمد في موقع السلطة وأن تحول سيطرتها المؤقتة إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة دون مساعدة حكومية مباشرة من جانب البروليتاريا الأوروبية. هذه حقيقة لا يمكن أن يخامرنا فيها الشك لحظة واحدة .
ما فحوى هذا الشاهد؟ فحواه أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ولاسيما في روسيا، مستحيل بدون مساعدة حكومية مباشرة من جانب البروليتاريا الأوروبية ، أي قبل استيلاء البروليتاريا الأوروبية على السلطة.
هل هناك من صلة بين هذه النظرية وبين أطروحة لينين عن إمكانية انتصار الاشتراكية في بلد رأسمالي واحد فرد ؟
جلي للعيان أن ليس هناك من صلة.
ولكن لنفترض أن كراسة تروتسكي، المنشورة تلك في عام 1906، في وقت كان يصعب فيه تحديد طابع ثورتنا، تحتوي أخطاء لاإرادية ولا تنطبق تمام الانطباق على التصورات التي أخذ بها تروتسكي فيما بعد. لنأخذ كراسة لتروتسكي، ولتكن برنامجه للسلم الصادرة قبل ثورة أكتوبر 1917، والمعاد طبعها الآن (في عام 1924) في كتابه 1917 . ينتقد تروتسكي في هذه الكراسة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية بصدد انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ويعارضها بشعار الولايات المتحدة الأوروبية. ويزعم أن انتصار الاشتراكية مستحيل في بلد واحد، وأن انتصار الاشتراكية ليس ممكنا إلا إذا أخذ انتصار لعدة بلدان أوروبية رئيسية (انكلترا، روسيا، ألمانيا) في إطار الولايات المتحدة الأوروبية – وهو مستحيل مطلق الاستحالة في غير هذه الحال. ويقول بجلاء ما بعده جلاء أن ثورة مظفرة في روسيا أو في انكلترا لا يمكن تصورها بدون ثورة في ألمانيا، وبالعكس .
يقول تروتسكي:
إن الاعتراض التاريخي الوحيد ولو في أضيق الحدود على شعار الولايات المتحدة قد صدر عن جريدة الاشتراكي-الديمقراطي السويسرية (الصحيفة المركزية للبلاشفة في ذلك الزمن .ج.س) بالصيغة التالية: إن تفاوت الاقتصادي والسياسي قانون مطلق في الرأسمالية . ومن هنا استخلصت الاشتراكي-الديمقراطي نتيجة تقول أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن، وأنه لا جدوى بالتالي من اعتبار تكوين الولايات المتحدة الأوروبية شرطا لدكتاتورية البروليتاريا في كل دولة على حدة. أما أن التطور الرأسمالي للبلدان المختلفة غير متساو، فهذا أمر لا يقبل جدالا بحال من الأحوال، ولكن هذه اللامساواة هي متفاوتة إلى أبعد الحدود. فالمستوى الرأسمالي لانكلترا أو للنمسا أو لفرنسا ليس واحدا. بيد أن هذه الأقطار مجتمعة تمثل، بالمقارنة مع أفريقا وأسيا، أوروبا الرأسمالية الناضجة للثورة الاجتماعية. والفكرة الأساسية التي نرى أن من المفيد ومن الضروري الإلحاح عليها هي أنه لا يتوجب على أي قطر أن ينتظر الأقطار الأخرى في نضاله، وذلك حتى لا تحل فكرة الخمول الأممي الانتظاري محل فكرة العمل الأممي المتوازي. فمن دون أن ننتظر الآخرين نبدأ النضال ونستمر به على المستوى القومي، مع يقيننا الكامل بأن مبادرتنا ستكون حافزا للنضال في الأقطار الأخرى. وإذا لم تسر الأمور على هذا النحو، فلا مجال إلى الاعتقاد بأن روسيا الثورية على سبيل المثال ستكون قادرة على الصمود في وجه أوروبا المحافظة، أو بأن ألمانيا الاشتراكية ستكون قادرة على البقاء بمفردها في العالم الرأسمالي –ولنا في التجربة التاريخية والاعتبارات النظرية خير دليل على ذلك .
إنها كما ترون النظرية عينها عن الانتصار المتواقت للاشتراكية في الأقطار الأوروبية الرئيسية، تلك النظرية التي تنفي بوجه عام النظرية اللينينية عن الثورة بصدد انتصار الاشتراكية في بلد واحد.
لا مراء أن في انتصار الاشتراكية التام وفي أن الضمانة الكاملة ضد عودة النظام القديم يستلزمان تضافر جهود البروليتاريين في عدة أقطار. ولا مراء في أن بروليتاريا روسيا ما كانت لتستطيع، لولا دعم بروليتاريا أوروبا لثورتنا، أن تقاوم الضغط العام، تماما كما أن الحركة الثورية في الغرب ما كانت تستطيع، لولا دعم الثورة الروسية لها، أن تتطور بنفس الإيقاع الذي شرعت تتطور به بعد إرساء أسس دكتاتورية البروليتاريا في روسيا. لا مراء في أننا بحاجة إلى دعم. ولكن ماذا نعني بدعم بروليتاريا أوروبا الغربية لثورتنا؟ هل يشكل تعاطف العمال الأوروبيين مع ثورتنا ورغبتهم في إحباط مخططات الامبرياليين للتدخل، هل يشكل هذا كله مساعدة جدية؟ بلا جدال. فبدون مثل هذا الدعم وبدون مثل هذه المساعدة، لا من جانب العمال الأوروبيين فحسب بل أيضاً من جانب المستعمرات والبلدان التابعة، كانت دكتاتورية البروليتاريا في روسيا ستجد نفسها في مأزق صعب. هل كان ذلك التعاطف وهذه المساعدة كافيين حتى الآن، بالإضافة إلى قوة جيشنا الأحمر وإلى تصميم عمال روسيا وفلاحيها على تقديم صدورهم دفاعاً عن الوطن الاشتراكي – هل كان هذا كله كافياً ضد هجمات الامبرياليين ولتوفير الشروط الضرورية لعمل بناء جدي؟ بلى، كان هذا كافيا! وذلك التعاطف، أهو آخذ بالتزايد أم بالتناقص؟ إنه يتزايد بلا جدال. هل تتوفر لدينا بالتالي شروط مناسبة، لا للتقدم إلى أمام بتنظيم الاشتراكي فحسب، بل أيضاً لنقدم بدورنا دعما لعمال أوروبا الغربية ولشعوب الشرق المضطهدة على حد سواء؟ بلى، إنها متوفرة. وتاريخ السنوات السبع من دكتاتورية البروليتاريا في روسيا أفصح دليل على ذلك. هل يسعنا أن ننكر أن العمل قد انطلق انطلاقة رائعة لدينا؟ كلا، لا نستطيع أن ننكر ذلك.
ما المعنى الذي يمكن أن يكون بعد هذا كله لتصريح تروتسكي القائل بأن روسيا الثورية لا تستطيع الصمود في وجه أوروبا المحافظة؟
لا يمكن أن يكون له غير معنى واحد وهو: أن تروتسكي أولاً لا يشعر بالقوة الداخلية لثورتنا، وتروتسكي ثانياً لا يفهم الأهمية التي لا تقدر بثمن للتأييد المعنوي الذي يقدمه عمال أوروبا وفلاحو الشرق لثورتنا، وتروتسكي ثالثاً لا يرى الداء الداخلي الذي ينخر الامبريالية في الوقت الراهن.
إن تروتسكي. الذي أخذ في شباك نقده للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية، قد هزم نفسه بنفسه، من قبيل السهو والغفلة، شر هزيمة في كراسته برنامج السلم التي صدرت عام 1917 وأعيد نشرها عام 1924.
ولكن لعل كراسة تروتسكي هذه قد تقادم عليها بدورها، فما عادت، لسبب من الأسباب، تتطابق مع تصوراته اليوم؟ لنأخذ مؤلفات تروتسكي الأحدث عهدا والمكتوبة بعد انتصار ثورة البروليتارية في بلد واحد، في روسيا. لنأخذ على سبيل المثال مقدمة تروتسكي للطبعة الجديدة لكراسته برنامج السلم ، تلك المقدمة التي كتبها عام 1922. إليكم ما يقوله فيها:
إن التوكيد القائل بأن الثورة البروليتارية لا يمكن السير بها إلى خاتمة مطافها بنجاح في الإطار القومي، وهو التوكيد الذي كررناه مرارا في برنامج السلم ، قد يبدو اليوم، في نظر بعض القراء، وكأن تجربة جمهوريتنا السوفياتية التي باتت لها من العمر حوالي خمس سنين تكذبه. ولكن مثل هذا الاستنتاج يفتقر إلى أساس ومبرر. فلئن كانت الدولة العمالية في بلد واحد، وبلد متأخر علاوة على ذلك، قد قاومت العالم قاطبة وصمدت أمامه، فإن هذه الواقعة تشهد على القوة الهائلة للبروليتاريا التي ستكون قادرة على إنجاز معجزات حقيقة في الأقطار الأخرى الأكثر تقدما والأرسخ حضارة. ولكن إذا كنا قد صمدنا سياسيا وعسكريا كدولة، فإننا لم نفلح في بناء مجتمع اشتراكي، بل إننا لم نقترب منه مجرد اقتراب... وما دامت البرجوازية تتربع على سدة السلطة في البلدان الأوروبية الأخرى، فإننا نكون مرغمين في نضالنا ضد العزلة الاقتصادية على السعي وراء اتفاقات مع العالم الرأسمالي. وفي وسعنا القول في الوقت نفسه بيقين تام بأن تلك الاتفاقات قد تساعدنا، في أحسن الأحوال، على شفاء هذا الجرح أو ذاك من جروحنا الاقتصادية، وعلى التقدم خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكن النهضة الحقيقية للاقتصاد الاشتراكي في روسيا لن تكون ممكنة إلا بعد انتصار البروليتاريا في الأقطار الأوروبية الرئيسية .
هكذا يتكلم تروتسكي ناطحا رأسه بصخرة الواقع ومعاندا في تصميمه على إنقاذ الثورة الدائمة من الغرق النهائي .
وهكذا فإننا مهما نفعل ومهما نقل فلكن نكون قد أفلحنا في بناء مجتمع اشتراكي، بل لن نكون قد اقتربنا منه مجرد اقتراب . وهناك من يعلق الآمال، على ما يبدو، على اتفاقات مع العالم الرأسمالي ، بيد أن هذه الاتفاقات لم تجد هي الأخرى فتيلا على ما يبدو. ذلك أننا مهما نفعل ومهما نقل، فإن النهضة الحقيقية للاقتصاد الاشتراكي لن تكون ممكنة ما لم تنتصر البروليتاريا في الأقطار الأوروبية الرئيسية .
ولما لم يكن أي انتصار قد تحقق بعد في الغرب، لا يبقى أمام الثورة روسيا غير خيار واحد: أما أن تفطس في مكانها وأما أن تنحط إلى دولة برجوازية.
وليس من قبيل الصدفة أن يتكلم تروتسكي، منذ عامين من الزمن، عن انحطاط حزبنا.
وليس من قبيل الصدفة أن يكون تروتسكي، قد تنبأ في العام الماضي بـ هلاك وطننا.
كيف نوفق بين هذه النظرية الغريبة وبين نظرية لينين عن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ؟
كيف نوفق بين هذه النظرة الغريبة وبين نظرة لينين التي ترى أن السياسة الاقتصادية الجديدة ستتيح لنا إمكانية بناء أسس الاقتصاد الاشتراكي ؟
كيف نوفق بين هذا اليأس الدائم وبين كلمات لينين التالية على سبيل المثال: 
إن الاشتراكية لم تعد من الآن مسألة مستقبل بعيد، أو نوعا من رؤية مجردة، أو نوعا من أيقونة. وفيما يتعلق بالأيقونات، نحن مازلنا على رأينا السابق، البالغ السوء. لقد أدخلنا الحياة الاشتراكية إلى الحياة اليومية، وعلينا الآن أن نشق طريقنا إليها. هذه هي مهمتنا اليوم، هذه هي مهمة عصرنا. اسمحوا لي بأن أنهي خطابي معبرا عن يقيني بأن هذه المهمة مهما تكن شاقة ومهما تكن جديدة بالمقارنة مع مهمتنا السابقة ومهما تكن عديدة الصعوبات التي تثيرها أمامنا، فإنها سننجزها، جميعنا معا، أيا يكن الثمن، لا في الغد مباشرة، وإنما على مدى عدة سنوات، بحيث تصبح روسيا السياسية الاقتصادية الجديدة روسيا اشتراكية . ( خطاب في الهيئة العامة لسوفييت موسكو – المجلد 27، ص 366، الطبعة الروسية).
كيف نوفق بين انعدام بعد النظر الدائم ذاك وبين كلمات لينين الأخيرة التالية على سبيل المثال:
بالفعل أليست سلطة الدولة على جميع وسائل الإنتاج الرئيسية، أليست سلطة الدولة التي بين يدي البروليتاريا، أليست تحالف هذه البروليتاريا مع الملايين والملايين من صغار الفلاحين، أليست قيادة البروليتاريا للطبقة الفلاحية، الخ، أليس هذا هو كل اللازم حتى نستطيع بواسطة التعاون، والتعاون وحده، الذي كنا نصفه في السابق بالروح التجارية والذي يحق لنا اليوم أيضاً، في السياسة الاقتصادية الجديدة، أن نصفه بالوصف نفسه – أليس هذا هو كل اللازم لبناء المجتمع الاشتراكي الكامل؟ إننا لا نتكلم بعد عن بناء المجتمع الاشتراكي، وإنما عن كل ما هو لازم وكاف لبنائه . ( حول التعاون – المجلد 27، ص 392، الطبعة الروسية).
من الجلي الواضح أنه لا مجال هناك لأي توفيق. فـ ثورة تروتسكي الدائمة هي نفي النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية، وكذلك بالعكس: فالنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية هي نفي نظرية الثورة الدائمة .
انعدام الإيمان بقوى ثورتنا وطاقاتها، انعدام الإيمان بقوى بروليتاريا روسيا وطاقاتها، هذا هو باطن نظرية الثورة الدائمة .
لقد كان يشار عادة حتى اليوم إلى جانب واحد من جوانب نظرية الثورة الدائمة : انعدام الإيمان بالإمكانات الثورية للحركة الفلاحية. ومن الضروري اليوم، إنصافا للحقيقة، أن نكمل هذا الجانب بجانب آخر : انعدام الإيمان بقوى بروليتاريا روسيا وطاقاتها.
بم تختلف نظرية تروتسكي عن نظرية المنشفية المبتذلة القائلة أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد، وبلد متأخر علاوة على ذلك، مستحيل بدون مسبق للثورة البروليتارية في أقطار أوروبا الغربية الرئيسية ؟
لا تختلف عنها في شيء، في واقع الأمر.
لا مجال للشك. أن نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة هي ضرب من المنشفية.
لقد تكاثرت في صحافتنا في الآونة الأخيرة محاولات الدبلوماسيين المتعفنين لتمرير نظرية الثورة الدائمة كنظرية لا تتنافى واللينينية. فهم يقولون: لا ريب في أن هذه النظرية قد أقام الدليل على عدم صلاحيتها في عام 1905. ولكن غلطة تروتسكي آنذاك أنه استبق الأحداث إذ حاول أن يطبق على وضع 1905 ما لم يكن قابلاً للانطباق عليه في تلك المرحلة. أما فيما بعد على حد زعمهم، في أكتوبر 1917 على سبيل المثال، فإن نظرية تروتسكي باتت موائمة تماماً على حد ما يدعون بعد نضج الثورة. وليس من الصعب أن نخمن إن رائد أولئك الدبلوماسيين هو راديك. فلنستمع إليه:
لقد حفرت الحرب هوة بين الطبقة الفلاحية التي تهفو إلى الاستيلاء على الأرض وإلى السلم وبين الأحزاب البرجوازية الصغيرة. ولقد وضعت الحرب الطبقة الفلاحية تحت قيادة الطبقة العاملة وطليعتها، الحزب البلشفي. وما أصبح ممكنا ليس ديكتاتورية الطبقة العاملة المستندة إلى الطبقة الفلاحية. ولقد اتضح بالفعل أن ما قال به تروتسكي وروزا لوكسمبرغ في عام 1905 ضد لينين (أي الثورة الدائمة –ج.ز.) كان المرحلة الثانية من التطور التاريخي .
إن كل كلمة من هذه الكلمات تنضج بالتلفيق .
فليس صحيحاً أن ما أصبح ممكناً إبان الحرب ليست دكتاتورية الطبقتين العاملة والفلاحية وإنما دكتاتورية الطبقة العاملة المستندة إلى الطبقة الفلاحية. والواقع أن ثورة شباط 1917 قد حققت دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين جامعة بينها وبين دكتاتورية البرجوازية على نحو غير متوقع.
وليس صحيحاً أن نظرية الثورة الدائمة التي يلزم راديك الصمت بصددها بحياء، قد صاغها في عام 1905 كل من روزا لكسمبرغ وتروتسكي. والواقع أن هذه النظرية قد صاغها بارفوس وتروتسكي. واليوم، وبعد مرور عشرة أشهر يستدرك راديك نفسه ويرتئي ضرورة توبيخ بارفوس على ثورته الدائمة . ولكن الإنصاف يقتضي من راديك أن يوبخ أيضاً رفيق بارفوس، تروتسكي.
وليس صحيحاً أن الثورة الدائمة التي دحضتها ثورة 1905 قد ثبتت صحتها بالنسبة إلى المرحلة الثانية من التطور التاريخي . فمسيرة ثورة أكتوبر برمتها وتطورها بأسره قد بينا وأثبتا القصور التام لنظرية الثورة الدائمة وتنافيها التام مع المبادئ اللينينية.
ولن تتمكن لا الخطابات المعسولة ولا الدبلوماسية المتعفنة من تمويه الهوة الفائقة فاها بين نظرية الثورة الدائمة وبين اللينينية.
- 3 -
بعض خصائص تكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر
حتى نفهم تكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر، فلا بد أن نفهم على الأخص بعض خصائص هذا التكتيك البالغ الأهمية. ومما يؤكد ضرورة ذلك أن هذه الخصائص غالبا ما تنبذ جانباً في الكراسات العديدة عن تكتيك البلاشفة.
ما هذه الخصائص إذن؟
الخاصة الأولى: من يسمع تروتسكي يخيل إليه أنه لا وجود في تاريخ تهيئة أكتوبر لغير مرحلتين: مرحلة الاستطلاع والتعرف ومرحلة الانتفاضة، وأن كل ما عدا ذلك هو من اختلاف إبليس. ما تظاهرة نيسان 1917؟ إن تظاهرة نيسان، التي انعطفت إلى اليسار أكثر مما كان ينبغي، كانت نوعاً من استطلاع لتعرف حالة الجماهير المعنوية وصلاتها بالغالبية في السوفيتات . وما تظاهرة تموز 1917؟ يرى تروتسكي أن المسألة ترتد في جوهرها، هذه المرة أيضاً، إلى استطلاع جديد أوسع نطاقاً، في مرحلة جديدة وأعلى من الحركة . ولا حاجة البتة إلى القول بأن تظاهرة حزيران 1917، التي نظمت بدعوة من حزبنا، يجب أن توصف هي الأخرى من منظور تروتسكي بأنها استطلاعية .
والفرض الذي يفرض نفسه بناء على ما تقدم هو أن البلاشفة كان لهم منذ آذار 1917 جيش سياسي من العمال والفلاحين جاهز للعمل، وأنهم إذا كانوا لم يستخدموه للقيام بانتفاضة لا في نيسان ولا في حزيران ولا في تموز، وأنهم إذا لم يولوا اهتماماً إلا لمهام الاستطلاع ، فهذا فقط لأن معطيات الاستطلاع لم تقدم آنذاك إشارات مشجعة.
ولا حاجة البتة للقول بأن هذا التصور مغرق في التبسيط عن التكتيك السياسي لحزبنا لا يعني من شيء آخر غير الغلط بين التكتيك العسكري العادي وبين التكتيك الثوري للبلاشفة.
والواقع أن تلك التظاهرات كافة كانت قبل كل شيء نتيجة اندفاع الجماهير العفوي، نتيجة سخطها على الحرب، ذلك السخط الذي كان يتوق على التعبير عن نفسه في الشارع.
والواقع أن دور الحزب كان يكمن آنذاك في إعطاء الجماهير، الذي كان يعبر عن نفسه عفوياً، شكلاً واتجاها يتجاوبان مع شعارات البلاشفة الثورية.
والواقع أن البلاشفة ما كان لهم وما كان من الممكن أن يكون لهم آذار 1917 والاصطدامات الطبقية الممتدة بين نيسان وأكتوبر 1917 (وقد أنجزوا تشكيله في أكتوبر 1917). وقد شكلوه من خلال تظاهرة نيسان ومن خلال مظاهرتي حزيران وتموز، وكذلك من خلال انتخابات الدوما في الدوائر والمدن، ومن خلال النضال ضد كورنيلوف، ومن خلال الاستيلاء على السوفيتات. إن الجيش السياسي لشيء يختلف عن الجيش الحربي. ففي حين تدخل القيادة العسكرية الحرب وبين يديها جيش جاهز، يكون الحزب مضطرا إلى تكوين جيشه الخاص به أثناء القتال بالذات وأثناء المصادمات الطبقية، وبذلك بقدر ما تقتنع الجماهير نفسها، وبتجربتها الذاتية، وبصحة شعارات الحزب وبصحة سياسته.
ولا مرية في أن كل مظاهرة من المظاهرات كانت تسلط في الوقت نفسه بعض الضوء على علاقات القوى المتوارية على الأنظار، وكانت نوعا من استطلاع. ولكن الاستطلاع هنا لم يكن دافع المظاهرة، بل كانت نتيجته الطبيعية.
يقول لينين في معرض تحليله الأحداث عشية انتفاضة أكتوبر وفي معرض مقارنتها بأحداث نيسان- تموز:
إن الوضع ليختلف عما كان عليه عشية 20 و 21 نيسان و 9 حزيران و 3 تموز. فلقد كانت المسألة آنذاك مسألة غليان عفوي. كنا كحزب لا ندركه (20 نيسان) أو كنا نسعى إلى احتوائه بإعطائه شكل مظاهرة سلمية (9 حزيران و 3 تموز). فلقد كنا نعرف حق المعركة آنذاك أن السوفيتات ليست لنا بعد، وأن الفلاحين ما يزالون يؤمنون بطريق ليبر-دان-تشيرنوف، لا بالطريق البلشفي (الانتفاضة). وأن غالبية الشعب بالتالي لا يمكن أن تكون معنا، والانتفاضة من ثم سابقة لآوانها . ( رسالة إلى رفيق – المجلد 21، ص 345، الطبعة الروسية).
من الجلي الواضح أن الاستطلاع وحده ما كان ليذهب بنا بعيدا.
وبديهي أن المسألة ليست مسألة استطلاع ، وإنما مسألة:
1. لقد اعتمد الحزب في نضاله باستمرار، وطوال مرحلة تهيئة أكتوبر، على الانطلاقة العفوية للحركة الثورية الجماهيرية.
2. لقد ضمن لنفسه، باعتماده على هذه الانطلاقة العفوية، قيادة الحركة بلا منازع.
3. أن قيادة الحركة هذه كانت تسهل على الحزب مهمة تشكيل جيش سياسي جماهيري استعداداً لانتفاضة أكتوبر.
4. لم يكن هناك مفر من تؤدي هذه السياسة إلى أن تتم تهيئة أكتوبر تحت قيادة حزب واحد هو الحزب البلشفي.
5. لقد أدت هذه التهيئة بدورها إلى تركز السلطة في أعقاب انتفاضة أكتوبر بين يدي حزب واحد هو الحزب البلشفي.
هكذا فإن هذه النقطة الأساسية في تهيئة أكتوبر هي قيادة حزب واحد هو الحزب البلشفي بلا منازع، هذه هي السمة المميزة لثورة أكتوبر، هذه هي أولى خصائص تكتيك البلاشفة إبان مرحلة تهيئة أكتوبر.
ولا يكاد يكون هناك من حاجة إلى البرهان على أن انتصار دكتاتورية البروليتاريا في شروط الامبريالية كان سيكون من مستحيلاً لولا هذه الخصيصة من خصائص تكتيك البلاشفة.
ذلك هو الوجه الإيجابي الذي تختلف به ثورة أكتوبر عن ثورة 1871 في فرنسا حيث كان يتقاسم قيادة الثورة حزبان اثنان لا يمكن أن نسمي أي منهما حزبا شيوعيا.
الخاصة الثانية: لقد تمت إذن تهيئة أكتوبر بقيادة حزب واحد هو الحزب البلشفي. و لكن كيف مارس الحزب هذه القيادة، وأي خط اتبعه ؟ لقد اتبعت هذه القيادة خط عزل الأحزاب التوفيقية بوصفها أخطر المنظمات في مرحلة إشعال فتيل الثورة، خط عزل الاشتراكيين- الثوريين والمناشفة.
ما قوام القاعدة الإستراتيجية الأساسية للينينية؟ 
قوامها الاعتراف بان:
1. الأحزاب التوفيقية تشكل أخطر سند اجتماعي لأعداء الثورة في مرحلة اندلاع الثورة الوشيكة.
2. من المستحيل الإطاحة بالعدو ( القيصرية أو البرجوازية) بدون عزل هذه الأحزاب.
3. يجب بالتالي أن يكون هدف السهام الرئيسية في مرحلة تهيئة الثورة عزل هذه الأحزاب وفصل جماهير الشغيلة العريضة عنها.
4. لقد كان أخطر سند اجتماعي للقيصرية في مرحلة النضال ضد القيصرية ففي مرحلة تهيئة الثورة الديمقراطية البرجوازية ( 1905-1917) الحزب الملكي الليبرالي، حزب الكاديت. لماذا؟ لأنه كان حزبا توفيقيا، حزب مصالحة بين القيصرية وغالبية الشعب، أي مجمل الطبقة الفلاحية. وطبيعي أن يكون حزبنا قد سدد آنئد ضرباته الرئيسية إلى الكاديت، لأننا لو لم نعزل حزب الكاديت لما كان في مستطاعنا الاعتماد على قطيعة بين الطبقة الفلاحية والقيصرية. وبدون هذه القطيعة ما كان ممكنا أن تعقد الآمال على انتصار الثورة. إن الكثيرين لم يفهموا آنئذ هذه الخصيصة من خصائص الإستراتيجية البلشفية واتهموا البلاشفة بالرغبة المشتطة في افتراس الكاديت وأكدوا أن النضال ضد الكاديت يتقدم في نظر البلاشفة على النضال ضد العدو الرئيسي، القيصرية. بيد أن هذه الاتهامات العارية من الصحة أزاحت النقاب عن جهل مطبق بالإستراتيجية البلشفية التي تقتضي عزل الحزب التوفيقي بهدف تسهيل الانتصار على العدو الرئيسي وتقريب موعده.
ولا يكاد يكون هناك من حاجة للبرهان على أن هيمنة البروليتاريا في الثورة الديمقراطية البرجوازية كانت ستكون مستحيلة لولا تلك الإستراتيجية.
لقد انتقل مركز ثقل القوى المتصارعة في مرحلة تهيئة أكتوبر إلى مستوى جديد فالقيصر لم يعد له وجود وحزب الكاديت تحول من قوة توفيقية إلى قوة حاكمة، قوة مهيمنة من قوى الامبريالية والصراع ما عاد يدور بين القيصرية والشعب، وإنما بين البرجوازية والبروليتاريا وفي هذه المرحلة أمسى أخطر سند اجتماعي للامبريالية يتمثل في الأحزاب الديمقراطية البرجوازية - الصغيرة، أحزاب الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة لماذا لأن هذه الأحزاب كانت وقتئذ أحزاب توفيقية، أحزاب مصالحة بين الامبريالية والجماهير الكادحة وطبيعي أن يكون البلاشفة قد سددوا آنئد ضرباتهم الرئيسية إلى تلك الأحزاب، لأننا لو لم نعزل هذه الأخيرة لما كان في مستطاعنا الاعتماد على قطيعة بين الجماهير الكادحة والامبريالية وبدون هذه القطيعة ما كان ممكنا أن نعقد الآمال على انتصار الثورة السوفياتية إن الكثيرين لم يفهموا آنئد هذه الخصيصة من خصائص تكتيك البلاشفة، واتهموا هؤلاء الخيرين بـأنهم يكنون حقدا مشتطا تجاه الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة وبـأنهم ينسون الهدف الرئيسي ولكن مرحلة تهيئة أكتوبر بأسرها تشير بفصاحة إلى أن البلاشفة ما أمكنهم أن يضمنوا انتصار ثورة أكتوبر إلا بفضل ذلك التكتيك، وذلك التكتيك وحسب.
إن السمة المميزة لهده المرحلة هي التغلغل الثوري المتنامي بين صفوف الجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية، وخيبة أمل هذه الجماهير بالاشتراكين – الثورين والمناشفة، وابتعادها عن هذين الحزبين، وتغير اتجاهها للانضواء المباشر تحت لواء البروليتاريا، القوة الوحيدة الثورية حتى النهاية، والوحيدة القادرة على الأخذ بيد البلاد إلى السلم. وتاريخ هذه المرحلة هو تاريخ صراع الاشتراكين - الثوريين والمناشفة من جهة، والبلاشفة من الجهة الثانية، على الجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية على الفوز بثقة هذه الجماهير. ومرحلة الائتلاف، ومرحلة كيرنسكي، ورفض الاشتراكين - الثوريين والمناشفة مصادرة أراضي كبار الملاكين العقارين، ونضال الاشتراكين الثوريين والمناشفة في سبيل الاستمرار بالحرب، وهجوم حزيران على الجبهة، وعقوبة الموت للجنود، وتمرد كوربيلوف، هذا كله هو الذي قرر مصير ذلك الصراع ولقد قرره لصالح الإستراتجية البلشفية وحدها. ولو لم يُعزل الاشتراكيون – الثوريون والمناشفة لكان من المستحيل الخلاص من الحرب. هكذا اتضح أن سياسة عزل الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة هي وحدها السياسة الصحيحة.
إذن فالخصيصة الثانية من خصائص تكتيك البلاشفة هي عزل الحزبين المنشفي والاشتراكي – الثوري كخط هاد في مرحلة تهيئة أكتوبر.
ولا يكاد يكون هناك من حاجة للبرهان على أن تحالف الطبقة العاملة والجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية كان سيبقى معلقا في الهواء لولا تلك الخصيصة من خصائص تكتيك البلاشفة.
وانه لما له دلالته أن تروتسكي لا يقول شيئا أو لا يقول شيئا تقريبا عن هذه الخصيصة من خصائص التكتيك البلشفي في كراسته دروس أكتوبر .
الخاصية الثالثة: إن قيادة الحزب لتهيئة أكتوبر قد سارت ادن في خط عزل الحزبين الاشتراكي – الثوري والمنشفي، ذلك الخط الذي استهدف فصل جماهير العمال والفلاحين العريضة عنهما. ولكن كيف حقق الحزب عينيا هذا العزل، وبأي شكل، وتحت أي شعار؟ لقد تم هذا العزل في شكل حركة ثورية جماهيرية تأييدا للسوفييتات تحت شعار كل السلطة للسوفييتات ، عن طريق النضال من أجل تحويل السوفيتات من أجهزة تعبئة للجماهير إلى أجهزة تمرد، أجهزة سلطة، أجهزة دولة بروليتارية جديدة.
لمادا اختار البلاشفة السوفيتات على وجه التحديد رافعة تنظيمية أساسية قمينة بتسهيل عزل المناشفة والاشتراكيين – الثوريين، وقادرة على دفع الثورة البروليتارية إلى الأمام ومدعوة إلى قيادة الشغيلة التي لا يحصى لها عد إلى انتصار ديكتاتورية البروليتارية؟
ما السوفيتات؟
قال لينين منذ أيلول 1917:
تشكل السوفيتات جهاز دولة جديدا يخلق أولا قوة العمال والفلاحين المسلحة، قوة مسلحة غير منفصلة عن الشعب انفصال قوة الجيش النظامي القديم، بل مرتبطة بالشعب ارتباطا وثيقا، ومتفوقة بما لا يقاس عن الجيش القديم من وجهة النظر العسكرية، وغير قابلة لأن تحل محلها أية قوة أخرى من وجهة النظر الثورية، ويقيم هذا الجهاز ثانيا مع الجماهير مع غالبية الشعب صلة وثيقة للغاية ومتينة لا تقبل انحلالا وقابلة بمنتهى السهولة للمراقبة والتجدد إلى درجة نضيع معها وقتنا هدرا فيما لو فتشنا عن شبيه لها في جهاز الدولة القديم، وهذا الجهاز أكثر ديمقراطية بكثير ثالثا من جميع الأجهزة السابقة لأنه مكون عن طريق الانتخاب وقابلا للتجديد تبعا لمشيئة الشعب وخلو من الشكليات البيروقراطية. ويتيح المجال رابعا أمام صلة متينة بالمهن الأكثر تنوعا فيسهل بذلك تطبيق أعمق الإصلاحات وأكثرها تنوعا بدون بيروقراطية، ويؤلف خامسا شكلا تنظيميا للطليعة أي لذلك الجزء الأكثر وعيا وطاقة وتقدما من الطبقات المضطهدة من العمال والفلاحين ويشكل بالتالي جهازا تستطيع طليعة الطبقات المضطهدة بواسطته أن ترفع وتربي وتثقف وتجر في ركابها الكتلة الهائلة من تلك الطبقات التي ما تزال إلى اليوم تقف خارج الحياة السياسية وخارج التاريخ. ويفسح المجال سادسا أمام الجمع بين محاسن البرلمانية ومحاسن الديمقراطية المباشرة، أي الجمع في شخص ممثلي الشعب المنتخبين بين السلطة التشريعية وتنفيذ القوانين. وفي هذا، بالمقارنة مع البرلمانية البرجوازية تقدم كبير الأهمية تاريخيا وعالميا في طريق تطور الديمقراطية ... ولو لم تخلق العبقرية الشعبية الخلاقة التي تمتاز بها الطبقات الثورية السوفيتات، لكان قضي على الثورة البروليتارية بروسيا بأنه يستحيل قطعا على البروليتاريا أن تحافظ على السلطة في ظل الجهاز القديم ومن غير الممكن خلق جهاز جديد بين عشية وضحاها . ( هل سيحتفظ البلاشفة بالسلطة ، المجلد 21، الصفحة 258 -259 الطبعة الروسية).
لهذا وقع اختيار البلاشفة على السوفيتات بوصفها الحلقة التنظيمية الأساسية القمينة بتسهيل تنظيم ثورة أكتوبر وإنشاء جهاز جديد وقوي لدولة بروليتارية.
لقد مر شعار كل السلطة للسوفيتات في تطوره الداخلي بمرحلتين اثنتين:
المرحلة الأولى حتى هزيمة البلاشفة في شهر تموز في فترة ثنائية السلطة، والثانية تبدأ مع هزيمة عصيان كرونيلوف.
في المرحلة الأولى كان هذا الشعار يعني القطيعة مع كتلة المناشفة والاشتراكيين الثوريين وبين الكاديت، وتشكيل حكومة سوفياتية مؤلفة من المناشفة والاشتراكيين - الثوريين (لن السوفيتات كانت آنئذ اشتراكية - ثورية ومنشفية) وحرية الدعاية والتحريض للمعارضة (أي للبلاشفة ) وحرية صراع الأحزاب داخل السوفيتات، ذلك الصراع الذي كان لابد أن يتيح للبلاشفة السيطرة على السوفيتات وتعديل تركيب الحكومة السوفياتية في مرحلة سلمية من تطور الثورة.
ولم تكن هذه الخطة بالبداهة تعني ديكتاتورية البروليتاريا. ولكن لا مراء في أنها كانت تسهل تهيئة الشروط الضرورية لإقامة الديكتاتورية، بأنها إذا حملت الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة إلى السلطة وأرغمتهم على وضع برنامجهم المناهض للثورة موضع التطبيق عجلت بإزاحة النقاب عن الطبيعة الحقيقية لهذين الحزبين، وعجلت بانعزالهما وانفصالهما عن الجماهير ولكن هزيمة البلاشفة في تموز أوقفت هذا التطور، إذ جعلت الغلبة لثورة الجنرالات والكاديت المضادة ورمت بالاشتراكيين الثوريين والمناشفة بين دراعي هذه الأخيرة. لقد أرغم هذا الظرف الحزب على أن يسحب مؤقتا شعار كل السلطة للسوفيتات وعلى أن ينتظر انطلاقة جديدة حتى يشهره ثانية.
وجاءت هزيمة عصيان كرونلوف لتفتح المرحلة الثانية، وأطلق من جديد شعار كل السلطة للسوفيتات . ولكن هذا الشعار ما عادت له في هذه المرحلة الدلالة التي كانت له في المرحلة الأولى. ففي هذه المرحلة الجديدة كان ذلك الشعار يعني القطيعة الكاملة مع الامبريالية وانتقال السلطة إلى البلاشفة مادامت السوفيتات قد أمست في غالبيتها بلشفية. في هذه المرحلة الجديد كان ذلك الشعار يعني اقتراب الثورة المباشرة من ديكتاتورية البروليتاريا عن طريق الانتفاضة علاوة على ذلك كان يعني تنظيم ديكتاتورية البروليتاريا وتأسيسها في دولة.
إن ما أضفى على تكتيك تحويل السوفيتات إلى أجهزة لسلطة الدولة أهمية لا تقدر بثمن هو انه سلخ عن الامبريالية جماهير الشغيلة التي لا يحصى لها عد وفضح الحزبين المنشفي والاشتراكيين - الثوري بوصفهما أداة الامبريالية وقاد تلك الجماهير إلى ديكتاتورية البروليتاريا بطريق مباشر إن جاز التعبير.
إذن فالخاصة الثالثة لتكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر هي سياسة تحويل السوفيتات إلى أجهزة لسطلة الدولة كأهم شرط من شروط عزل الأحزاب التوفيقية وانتصار ديكتاتورية البروليتاريا.
الخاصة الرابعة: لن تكتمل اللوحة ما لم نولي عنايتنا بمسألة معرفة كيفية وعلة نجاح البلاشفة في تحويل شعارات حزبهم إلى شعارات جماهيرية عريضة، إلى شعارات تدفع بالثورة إلى الأمام وكيفية وعلة نجاحهم في إقناع غالبية الشعب لا غالبية الطليعة وحدها ولا غالبية الطبقة وحدها بصحة سياستهم.
الحق انه لا يكفي أن تكون شعارات الحزب صحيحة حتى تنتصر الثورة، إذا كانت هذه الثورة شعبية حقا إذا كانت تضم جماهير غفيرة. فنجاح الثورة يتطلب أيضا شرطا آخر لا غنى عنه، أعني: أن تقتنع الجماهير بتجربتها الذاتية بصحة تلك الشعارات آنئذ فقط تصبح شعارات الحزب شعارات الجماهير نفسها. آنئذ فقط تصبح الثورة ثورة شعبية فعلا. ومن خصائص تكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر أنه عرف كيف يحدد تحديدا صحيحا الطرق والمنعطفات التي لا مندوحة من أن تقود الجماهير إلى شعارات الحزب، إلى عتبة الثورة بالذات إن جاز التعبير، إذ يمنحها القدرة على أن تحس وتتحقق وتتعرف بتجربتها الذاتية صحة هذه الشعارات. وبعبارة أخرى، إن من خصائص التكتيك البلشفي انه لا يخلط بين هذين الأمرين: قيادة الحزب وقيادة الجماهير، وانه يرى بوضوح الفارق بين القيادة التي من النوع الأول والقيادة من النوع الثاني، وانه يمثل لا علم قيادة الحزب فقط بل أيضا علم قيادة الجماهير الشغيلة التي لا يحصى لها عد. 
إن تجربة دعوة الجمعية التأسيسية وحلها لمثال ساطع على الكيفية التي تتجلى بها هذه الخصيصة من خصائص التكتيك البلشفي.
فمعروف أن البلاشفة صاغوا شعار جمهورية السوفيتات منذ نيسان 1917 ومعروف أن الجمعية التأسيسية برلمان برجوازي يتناقض صارخ التناقض مع مبادئ جمهورية السوفيتات. فكيف أمكن للبلاشفة أن يطالبوا الحكومة المؤقتة بدعوة الجمعية التأسيسية فورا في الوقت نفسه الذي كانوا يتقدمون فيه نحو جمهورية السوفيتات؟ كيف أمكن للبلاشفة لا أن يشاركوا في الانتخابات فحسب بل أن يتولوا دعوة الجمعية التأسيسية للانعقاد، وكيف أمكن للبلاشفة أن يقبلوا قبل شهر من الانتفاضة، وفي لحظة الانتقال من النظام القديم إلى الجديد بإمكانية الجمع المؤقت بين جمهورية السوفيتات والجمعية التأسيسية؟
لقد أمكن ذلك لأن:
1. فكرة الجمعية التأسيسية كانت من أكثر الأفكار شعبية لدى الجماهير الغفيرة من السكان.
2. شعار دعوة الجمعية التأسيسية للانعقاد فورا كان يتيح إزاحة النقاب بسهولة اكبر عن طبيعة الحكومة المؤقتة المناهضة للثورة.
3. لم يكن هناك بد حتى تفقد فكرة الجمعية التأسيسية حظوتها لدى الجماهير الشعبية، من إيصال هذه الجماهير إلى عتبة الجمعية التأسيسية مع مطالبها بخصوص الأرض والسلم وسلطة السوفيتات، ومن وضعها وجها لوجه أمام الجمعية التأسيسية الفعلية، الحية.
4. كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لتمكين الجماهير من الاقتناع بسهولة اكبر، وبتجربتها الذاتية، وبطبيعة الجمعية التأسيسية المناهضة للثورة وبضرورة حلها.
5. كان هذا كله يفترض بالبداهة إمكانية الجمع المؤقت بين جمهورية السوفيتات والجمعية التأسيسية كوسيلة من الوسائل القمينة بتصفية هذه الأخيرة.
6. لم يكن مثل هذا الجمع يعني غير تبعية الجمعية التأسيسية للسوفيتات وتحولها إلى استطالة للسوفيتات وموتها بلا الم، شريطة أن تنتقل السلطة كلها إلى السوفيتات. 
ولا تكاد يكون هناك من حاجة للبرهان على أن حل الجمعية التأسيسية ما كان ليكون بتلك السهولة وعلى أن عمل الاشتراكيين الثوريين والمناشفة فيما بعد تحت شعار كل السلطة للجمعية التأسيسية ما كان لينهار بمثل تلك القرقعة لولا سياسة البلاشفة تلك.
قال لينين:
لقد شاركنا في انتخابات برلمان روسيا البرجوازي، في انتخابات الجمعية التأسيسية، في أيلول - تشرين الثاني 1917. فهل كان تكتيكنا صائبا أم لم يكن؟.. ألم يكن من حقنا، نحن البلاشفة الروس، في أيلول - تشرين الثاني 1917، لأن نقدر، أكثر من جميع شيوعيي الغرب، إن البرلمانية قد فات أوانها سياسيا في روسيا؟ لقد كان ذلك من حقنا بالبداهة، لأن المسألة من مسألة معرفة ما إذا كانت البرجوازية قد وجدت منذ عهد بعيد أو قريب، وإنما هي مسألة معرفة ما إذا كانت الجماهير الكادحة الغفيرة على استعداد ( إيديولوجيا وسياسيا وعمليا) لتبني النظام السوفياتي ولحل البرلمان الديمقراطي البرجوازي أو السماح بحله. وإنها لحقيقة تاريخية واقعة لا يرقى إليها شك ولا تحتمل نقاشا أن الطبقة العاملة في المدن وجنود روسيا وفلاحيها كانوا على استعداد في أيلول – تشرين أول1917، بحكم ظروف خاصة محددة، لتبني النظام السوفياتي ولحل أكثر البرلمانات البرجوازية الديمقراطية. ومع ذلك لم يقاطع البلاشفة الجمعية التأسيسية، بل شاركوا على العكس في الانتخابات قبل وبعد استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية . (مرض الطفولة - المجلد 25، ص 201 -202 الطبعة الروسية).
لماذا لم يقاطعوا الجمعية التأسيسية؟ إن السبب كما يقول لينين: 
إن المشاركة في برلمان ديموقراطي بورجوازي، حتى بعد بضعة أسابيع من انتصار الجمهورية السوفياتية، حتى بعد هذا الانتصار ما كانت تلحق الضرر بالبروليتاريا الثورية، لا كانت تسمح لها بأن تبين بسهولة أكبر للجماهير المتأخرة لماذا تستأهل هذه البرلمانات الحل، وتسهل التصفية السياسية للبرلمانية البرجوازية . (المصدر نفسه).
وانه لما له دلالته أن تروتسكي لا يفهم هذه الخصيصة من خصائص التكتيك البلشفي، ويسخر من نظرية الجمع بين الجمعية التأسيسية والسوفيتات وكأنها نظرية من نظريات هليفردينغ.
إنه لا يفهم أن القبول بمثل هذا الجمع، بالإضافة إلى شعار الانتفاضة وأرجحية انتصار السوفيتات والقبول بدعوة الجمعية التأسيسية هو التكتيك الثوري الوحيد الذي لا يمت بصلة إلى تكتيك هيلفردينغ الذي ينزع إلى تحويل السوفيتات إلى استطالة للجمعية التأسيسية. ولا يفهم أن غلطة بعض الرفاق في هذه المسألة لا تمنحه الحق في التهجم على موقف لينين والحزب الصحيح مطلق الصحة من إمكانية القبول، في بعض الشروط، بـ نمط مركب من الدولة ( لينين: رسالة إلى الرفاق ، المجلد21، ص 338، الطبعة الروسية).
انه لا يفهم أن البلاشفة، لولا سياستهم الخاصة التي انتهجوها تجاه الجمعية التأسيسية، لما افلحوا في كسب جماهير الشعب الغفيرة إلى جانبهم، وأنهم لولا كسب هذه الجماهير لما أمكنهم أن يحولوا انتفاضة أكتوبر إلى ثورة شعبية عميقة. وانه لما يسترعي الاهتمام أن تروتسكي يسخر حتى من كلمات الشعب الديموقراطية الثورية إلخ، تلك الكلمات التي نصادفها في كتابات البلاشفة والتي يرتأي أنها لا تليق بماركسي.
ولا مراء في أن تروتسكي ينسى إن لينين، ذلك الماركسي الذي لا يمكن أن ينازعه منازع. قد كتب حتى في أيلول 1917، أي قبل شهر واحد من انتصار الدكتاتورية، عن ضرورة انتقال السلطة كلها فورا إلى الديمقراطية الثورية التي تقودها البروليتاريا الثورية ( الماركسية والانتفاضة ، المجلد 21، الصفحة 198).
لا مراء في أن تروتسكي ينسى أن لينين، ذلك الماركسي الذي لا يمكن أن ينازعه منازع، قد كتب بالحرف الواحد السطور التالية في معرض استشهاده برسالة ماركس المعروفة إلى كوغلمان نيسان 1871 التي جاء فيها قوله أن هدم جهاز الدولة البيروقراطي والعسكري هو الشرط المسبق لكل ثورة شعبية حقا في البر الأوروبي:
عن ما يستأهل انتباها خاصا هو ملاحظة ماركس العميقة تلك القائلة أن تدمير آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية هو الشرط المسبق لكل ثورة شعبية حقا . وفكرة الثورة الشعبية هذه قد تبدو مدهشة على لسان ماركس، ربما كان في مستطاع تلامذة بليخانوف في روسيا وكذلك المناشفة، تلامذة ستروفه أولئك الذين يرغبون في أن يعدوا ماركسيين، أن يصفوا مثل هذا التعبير لدى ماركس بأنه زلــة لسان . فلقد مسخوا الماركسية إلى مذهب ليبرالي بالغ التفاهة حتى لم يعد من وجود لشيء في أنظارهم خارج هذا الطباق: الثورة البرجوازية والثورة البروليتارية. وعلاوة على ذلك فإنهم يفهمون هذا الطباق فهما مغرقا في السكولائية... ففي البر الأوروبي في 1871 لم تكن البروليتاريا تؤلف في أي قطر غالبية الشعب. فما كان ممكنا أن تكون الثورة شعبية وان تجر حقا الغالبية إلى الحركة إلا إذا ضمت البروليتاريا والطبقة الفلاحية معا. ولقد كان الشعب يتألف بالضبط من هاتين الطبقتين. وهاتين الطبقتان كان يوحدهما كونهما مضطهدتين، مسحوقتين، مستغلتين من قبل آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية . وكانت مصلحة الشعب، مصلحة غالبيته. ومصلحة العمال وغالبية الفلاحين، تقتضي تحطيم تلك الآلة وهدمها ذلكم هو الشرط المسبق للتحالف الحر بين الفلاحين الفقراء والبروليتاريين. والحال انه لا ديمقراطية متينة ولا إمكانية للتحويل الاشتراكي بدون ذلك التحالف ( الدولة والثورة ، المجلد21، ص 390-392).
إن كلمات لينين هذه لا يجوز لكائن من كان أن ينساها.
إذن فالخاصة الرابعة لتكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر هي القدرة على إقناع الجماهير بتجربتها الذاتية بصحة شعارات الحزب، عن طريق إيصال هذه الجماهير إلى المواقع الثورية كأهم شرط من شروط كسب الحزب لملايين الشغيلة. 
وإني لأعتقد أن ما تقدم يكفي كل الكفاية لفهم السمات المميزة لذلك التكتيك.
-4-
ثورة أكتوبر بداية الثورة العالمية ومقدمتها

لا جدال في أن النظرية العامة القائلة بانتصار الثورة المتواقت في بلدان أوروبا الرئيسية، نظرية استحالة انتصار الاشتراكية في بلد واحد، قد ثبت أنها نظرية مصطنعة، غير قابلة للحياة. وتاريخ الأعوام السبعة من الثورة البروليتارية في روسيا يشهد لا لصالح هذه النظرية، بل ضدها. إن هذه النظرية مرفوضة كمخطط لتطور الثورة العالمية لأنها تتناقض مع الوقائع البديهية. وهي ادعى إلى الرفض أيضا كشعار لأنها لا تطلق بل تعرقل مبادهة الأقطار التي تملك، بفضل بعض الشروط التاريخية، إمكانية اختراق جبهة الرأسمال بمفردها، ولأنها بدلا أن تكون حافزا على شن الهجوم على الرأسمال في كل قطر على حدة تقود إلى الانتظار السلبي للحظة الحل العام ، ولأنها تبث بين بروليتاريي مختلف الأقطار لا روح التصميم الثوري، بل روح الشك على طريقة هملت: ماذا لو لم يهب الآخرون لمؤازرتنا! . إن لينين لعلى أتم الصواب حين يقول أن انتصار البروليتاريا في قطر واحد هو حالة نموذجية ، إن الثورة المتواقتة في عدة أقطار لا يمكن أن تكون الا استثناء نادرا ( الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد23، ص 354، الطبعة الروسية).
ولكن النظرية اللينينية عن الثورة لا تقتصر، كما هو معلوم، على هذا الجانب وحده من المسألة. فهي في الوقت نفسه نظرية تطور الثورة العالمية. وانتصار الاشتراكية في بلد واحد ليس غاية في حد ذاته. ولا يجوز للثورة المنتصرة في قطر من الأقطار أن تعد نفسها مفخرة تكفي نفسها بنفسها، بل أن تعد نفسها عاملا مساعدا، وسيلة لتسريع انتصار البروليتاريا في سائر الأقطار. ذلك أن انتصار الثورة في بلد واحد، في روسيا في مثالنا، ليس مجرد ثمرة لتطور الامبريالية اللا متساوي ولانحلالها التدريجي. بل هو في الوقت نفسه بداية الثورة العالمية ومقدمتها.
لا جدال في أن طرق تطور الثورة العالمية ليست على مثل تلك البساطة التي كان يمكن أن تبدوا بها في السابق، قبل انتصار الثورة في بلد واحد وقبل ظهور الامبريالية المتطورة ويؤكد حتمية المصادمات المسلحة والوهن العام للجبهة الرأسمالية العالمية وإمكانية انتصار الاشتراكية في أقطار منعزلة. وذلك أيضا أن عاملا جديدا قد أعلن عن وجوده: بلاد السوفيتات الشاسعة، الواقعة بين الغرب والشرق، بين مركز الاستغلال المال للعالم وحلبة الاضطهاد الاستعماري، تلك البلاد التي تشعل فتيل الثورة في العالم قاطبة لمجرد وجودها.
إن هذين لعاملان (إن اضرب صفحا عن العوامل الأخرى الأقل أهمية) يستحيل ألا يحسب لهما حساب عند دراسة طرق الثورة العالمية.
لقد كان يسود الاعتقاد في الماضي بأن الثورة ستتطور عن طريق النضج النظامي لعناصر الاشتراكية، وبادئ ذي بدئ في الأقطار الأكثر تطورا، في الأقطار المتقدمة . هذا الأسلوب في رؤية الأشياء بحاجة الآن إلى تعديل جوهري.
يقول لينين:
إن نظام العلاقات الأممية هو الآن على نحو يسمح للدول الغالبة في أوروبا بأن تستعبد دولة أخرى: ألمانيا. ثم إن جملة من الدولة، ومن أعرقها في الغرب، قد وجدت نفسها عقب الانتصار في شروط تتيح لها أن تستخدم هذا الانتصار لتقديم جملة من التنازلات لصالح الطبقات المضطهَدة من قبلها، وهي تنازلات تأخر، بالرغم من تفاهتها، الحركة الثورية في هذه البلدان وتخلق ما يشبه السلام الاجتماعي .
وفي الوقت نفسه، ومن جراء الحرب الامبريالية الأخيرة على وجه الدقة، نرى أن عددا كبيرا من البلدان - الشرق، الهند، الصين،..الخ،- قد قذف به بصورة نهائية خارج طريقه المألوف. فقد سلك تطورها بصورة نهائية سبيل الرأسمالية الأوروبية العام. والاختمار الذي يقض مضاجع أوروبا بأسرها أخذ يشمل هذه البلدان. وواضح الآن في نظر العالم قاطبة أنها اندفعت في طريق للتطور سيؤدي لا محالة إلى نشوب أزمة في مجمل الرأسمالية العالمية .
وبناءا على هذا، ونظرا إلى هذا، فإن بلدان أوروبا الغربية الرأسمالية ستستكمل تطورها نحو الاشتراكية... لا على نحو ما كنا نتوقع سابقا. إنها ستستكمله لا عن طريق نضوج الاشتراكية فيها بانتظام، بل عن طريق استغلال بعض الدول لبعضها الآخر، عن طريق استغلال أول دولة مغلوبة في الحرب الامبريالية الأولى، دخل الشرق نهائيا في الحركة الثورية العالمية . (من الأفضل أقل شرط أن يكون أحسن ، المجلد27، ص415-416، الطبعة الروسية).
إذا أضفنا إلى هذا أن البلدان المغلوبة والمستعمرات ليست الوحيدة التي تستغلها البلدان الغالبة، وان جزءا من البلدان الغالبة يدور هو الآخر في مدار الاستغلال المالي من قبل أقوى البلدان المنتصرة، أي أمريكا وإنكلترا، وان التناقضات بين جميع هذه البلدان تشكل عاملا أساسيا في تحلل الامبريالية العالمية، وان هناك بالإضافة إلى هذه التناقضات تناقضات أخرى بالغة العمق تتطور داخل كل قطر من تلك الأقطار، وأن جميع هذه التناقضات تتعمق وتتفاقم بنتيجة وجود جمهورية السوفيتات الكبيرة إلى جانب تلك البلدان – إذا أخذنا هذا كله بعين الاعتبار تكونت لدينا صورة كاملة بهذا القدر أو ذاك عن غرابة الوضع العالمي.
وأرجح الاحتمالات أن الثورة العالمية ستتطور عن طريق انفصال جملة من البلدان الأخرى انفصالا ثوريا عن منظومة الدول الامبريالية، على أساس لأن بروليتاريي هذه البلدان سيحظون بمؤازرة بروليتاريا الدول الامبريالية. ونحن نرى بأعيننا أن القطر الأول الذي انفصل، القطر الأول المنتصر، يتمتع بمساندة العمال، وبوجه عام، بمساندة الجماهير الكادحة في الأقطار الأخرى. ولولا هذه المساندة لما كان أمكنه الصمود. ومن المؤكد أن هذه المساندة ستتدعم وتتنامى يوما بعد يوم. ولكن من المؤكد أيضا أن تطور الثورة العالمية بالذات، إن سيرورة انفصال جملة من الأقطار الجديدة عن الامبريالية ستكون أسرع وأعمق كلما توطدت الاشتراكية بمزيد من العمق في القطر المنتصر الأول، وكلما تحول هذا القطر بسرعة اكبر إلى قاعدة للتطور اللاحق للثورة العالمية، إلى عتلة لتحلل الامبريالية اللاحق.
وإذا كان صحيحا أن الانتصار النهائي للاشتراكية في القطر المتحرر الأول مستحيل بدون الجهود المتضافرة لبروليتاريي جملة من الأقطار، فمن الصحيح أيضا أن تطور الثورة العالمية سيكون أسرع وأعمق كلما كان العون الذي يمد به القطر الاشتراكي الأول العمال والجماهير الكادحة في سائر الأقطار أكثر نجعا وفعالية.
مما ينبغي أن يتأتى هذا العون؟
ينبغي أن يتأتى أولا من أن القطر المنتصر، سيبدل أقصى ما في المستطاع تحقيقه في قطر واحد من أجل تطور الثورة ومساندتها ويقظتها في جميع الأقطار . (لينين: الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد 23، ص380، الطبعة الروسية).
والصفة المميزة لهذا العون من جانب القطر المنتصر لا تكمل في انه يعجل بانتصار البروليتاريين في الأقطار الأخرى، بل أيضا في انه يضمن، أن يسهل هذا الانتصار، الانتصار النهائي للاشتراكية في القطر المنتصر الأول.
وأرجح الاحتمالات أنه ستتشكل، في مجرى تطور الثورة العالمية، وإلى جانب بؤر الامبريالية في بعض الأقطار الرأسمالية ومنظومة هذه الأقطار في العالم قاطبة، بؤر للاشتراكية في بعض الأقطار السوفياتية ومنظومة من هذه البؤر في العالم قاطبة، وان الصراع بين هاتين المنظومتين سيملأ تاريخ تطور الثورة العالمية.
وكما يقول لينين فإن: 
اتحاد الأمم الحر في الاشتراكية مستحيل بدون نضال عنيد، متفاوت الطول، تشنه الجمهوريات الاشتراكية ضد الدول المتأخرة . (المصدر نفسه).
إن الأهمية العالمية لثورة أكتوبر لا تكمن في أنها تمثل مبادهة كبرى من جانب قطر واحد لتحطيم سلسلة النظام الامبريالي فحسب، ولا في أنها تمثل البؤرة الأولى للإشتراكية في خضم الأقطار الامبريالية فحسب، بل أيضا في أنها تشكل المرحلة الأولى من الثورة العالمية وقاعدة متينة لتطورها اللاحق.
ولهذا لا يخطئ فحسب أولئك الذين يتناسون الطابع الأممي لثورة أكتوبر ويعلنون أن انتصار الثورة في بلد واحد ظاهرة قومية محضة خالصة، بل يخطئ أيضا أولئك الذين يميلون، من غير أن ينسوا الطابع الأممي لثورة أكتوبر إلى النظر إلى هذه الثورة وكأنها شيء سلبي مدعو فقط إلى تلقي الدعم من الخارج. والواقع أن ثورة أكتوبر ليست هي وحدها التي بحاجة إلى مساندة الثورة في الأقطار الأخرى، فثورة هذه الأقطار بحاجة هي الأخرى إلى تأييد ثورة أكتوبر لتسريع عملية الإطاحة بالامبريالية العالمية ودفعها إلى الأمام.
17 كانون الأول 1924.
إلى منظمة الحزب الشيوعي (البولشفي)
في لينينغراد أهدي هذه الصفحات
ج. ستالين
- 1 -
تعريف اللينينية

تضمن كتاب "أسس اللينينية" التعريف المعلوم عن اللينينية، والذي اكتسب، على ما يبدو، اعتراف الجميع. وهو ينص:
"اللينينية هي ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية. وبتعبير أدق: اللينينية هي نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية بوجه عام. نظرية وتكتيك دكتاتورية البروليتاريا بوجه خاص".
هل هذا التعريف صحيح؟
اعتقد أنه صحيح. وهو صحيح، أولاً، يشير بصورة صحيحة إلى الجذور التاريخية للينينية، إذ يعتبرها ماركسية عصر الاستعمار، بعكس بعض نقَّاد لينين الذين يعتقدون خطأ أن اللينينية ظهرت بعد الحرب الاستعمارية. وهو صحيح، ثانياً، لأنه يشير بصورة صحيحة إلى طابع اللينينية الأممي، بعكس الاشتراكية الديمقراطية التي تعتبر أن اللينينية لا تطبق إلا على الوضع الوطني الروسي. وهو صحيح ثالثاً، لأنه يشير بصورة صحيحة إلى ارتباط اللينينية ارتباطاً عضوياً بمذهب ماركس، إذ يعتبرها ماركسية عصر الاستعمار، بعكس بعض نقاد اللينينية الذين لا يعتبرونها أطراداً لتطوير الماركسية وتطبيقاً لها على الواقع الروسي ليس إلا.
يبدو أن كل ذلك لا جدال فيه.
والحال، يظهر أن في حزبنا من يعتبر أن من الضروري تعريف اللينينية بشكل يختلف بعض الشيء. فزينوفييف، مثلاً، يعتقد أن: 
"اللينينية هي ماركسية عصر الحروب الاستعمارية والثورة العالمية، التي بدأت مباشرة في بلاد التفوق فيها للفلاحين".
ماذا يمكن أن تعني الكلمات التي يشير إليها زينوفييف؟ وما معنى إدخال تأخر روسيا وطابعها الفلاحي في تعريف اللينينية؟
معنى ذلك تحويل اللينينية، من مذهب بروليتاري أممي، إلى نتاج لخواص الواقع الروسي.
معنى ذلك دغم بارو وكاوتسكي، اللذين ينكران صلاح اللينينية للبلدان الأخرى الأكثر تطوراً من الناحية الرأسمالية.
لا جدال في أن لمسألة الفلاحين أهمية قصوى بالنسبة لروسيا، وفي أن بلادنا بلاد فلاحين. ولكن أية أهمية يمكن أن تكون لهذا الواقع بالنسبة لميزة أسس اللينينية؟ وهل تكونت اللينينية على صعيد روسيا وحدها ولروسيا وحدها، ولم تتكون على صعيد الاستعمار ولجميع البلدان الاستعمارية عامة؟ وهل أن مؤلفات لينين الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية – الدولة والثورة – الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي – مرض الشيوعية الطفولي ("اليسارية")، تصلح لروسيا وحدها ولا تصلح لجميع البلدان الاستعمارية عامة؟ أو ليست اللينينية تعميماً لتجربة الحركة الثورية في كل البلدان؟ أو ليست أسس نظرية وتكتيك اللينينية صالحة وإجبارية لجميع الأحزاب البروليتارية في كل البلدان؟ هل كان لينين مخطئاً عندما قال أن "البولشفية نموذج تكتيكي للجميع"؟ (المجلد 23، صفحة 386) وهل كان لينين مخطئاً عندما تكلم عما "لسلطة السوفيات ولأسس النظرية والتكتيك البولشفيين من أهمية عالمية "؟ (المجلد 25، صفحة 171 – 172). أو ليست صحيحة كلمات لينين التالية: 
"لا مفر من أن تتسم دكتاتورية البروليتاريا في روسيا ببعض الخصائص بالمقارنة مع البلدان المتقدمة بسبب تأخر بلادنا تأخراً كبيراً جداً ولكونها بلاد برجوازيين – صغار. ولكن القوى الأساسية – وأشكال الاقتصاد الاجتماعي الأساسية – هي نفسها في روسيا مثل أي بلد رأسمالي، بشكل لا تستطيع معه هذه الخصائص أن تمس إلا ما هو غير رئيسي ".
ولكن إذا كان كل هذا صحيحاً، أفلا يستنتج منه أن تعريف زينوفييف للينينية لا يمكن أن يعترف به صحيحاً؟
وكيف نوفق بين تعريف اللينينية الوطني الضيق هذا وبين الأممية؟
- 2 -
الرئيسي في اللينينية


جاء في كتاب "أسس اللينينية":
"يعتقد البعض أن القضية الأساسية في اللينينية هي مسألة الفلاحين: وأن نقطة انطلاق اللينينية هي مسألة الفلاحين، دورهم وأهميتهم. هذا غير صحيح قطعاً. فالمسألة الأساسية في اللينينية. ونقطة انطلاقها، ليست مسألة الفلاحين، بل مسألة دكتاتورية البروليتاريا، مسألة الفوز بها، مسألة توطيدها. إن مسألة الفلاحين باعتبارها مسألة حليف البروليتاريا في نضالها في سبيل السلطة، هي مسألة مشتقة".
هل هذه الموضوعة صحيحة؟
أعتقد أنها صحيحة. أن هذه الموضوعة مأخوذة بكاملها من تعريف اللينينية. في الواقع، إذا كانت اللينينية هي نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية وإذا كان مضمون الثورة البروليتارية الأساسي هو دكتاتورية البروليتاريا، فإن من الواضح أن الرئيسي في اللينينية هو مسألة دكتاتورية البروليتاريا، هو تركيز هذه المسألة، وتبريرها نظرياً وتجسيدها .
إلا أن زينوفييف غير موافق علناً على هذه الموضوعة، فقد قال في مقالة "في ذكرى لينين":
"كما سبق لي فإن مسألة دور الفلاحين هي المسألة الأساسية في البولشفية، في اللينينية".
وكما ترون، فإن موضوعة زينوفييف هذه مأخوذة بكاملها من تعريفه المغلوط للينينية. لذلك فإن هذه الموضوعة مغلوطة – مثل ما هو عليه تعريف اللينينية.
هل هي صحيحة موضوعة لينين القائلة أن دكتاتورية البروليتاريا هي "المضمون الأساسي للثورة البروليتارية"؟ (المجلد 23، ص 337) إنها صحيحة على وجه الإطلاق. وهل صحيحة الموضوعة القائلة أن اللينينية هي نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية؟ أعتقد أنها صحيحة. ولكن ماذا يستنتج من ذلك؟ يستنتج من ذلك، أن مسألة دكتاتورية البروليتاريا هي مسألة الأساسية في اللينينية، هي نقطة انطلاقها، هي أساسها.
أليس صحيحاً أن مسألة انتصار الاشتراكية في بلد واحد، مسألة الدولة البروليتارية ومسألة الشكل السوفياتي لهذه الدولة، مسألة دور الحزب في نظام دكتاتورية البروليتارية، مسألة طرق بناء الاشتراكية – أليس صحيحاً أن كل هذه المسائل عالجها لينين بالذات؟ أليس صحيحاً أن هذه المسائل، على وجه الضبط، تشكل أساس ودعامة فكرة دكتاتورية البروليتاريا؟ أليس صحيحاً أنه بدون معالجة هذه المسائل الأساسية لكان من المستحيل معالجة مسألة الفلاحين من وجهة نظر دكتاتورية البروليتاريا؟
لا جدال في أن لينين كان ضليعاً بمسألة الفلاحين. ولا جدال في أن لمسألة الفلاحين أهمية قصوى للبروليتاريا باعتبارها مسألة حليف البروليتاريا، وفي أنها جزء لا يتجزأ من المسألة الأساسية، مسألة دكتاتورية البروليتاريا. أليس واضحاً أن اللينينية لو لم يكن أمامها حل المسألة الأساسية، مسألة دكتاتورية البروليتاريا، لما واجهت المسألة المشتقة، مسألة حليف البروليتاريا؟ أليس واضحاً أن اللينينية لو لم يكن أمامها حل المسألة العملية، مسألة استيلاء البروليتاريا على السلطة، لما واجهت مسألة التحالف مع الفلاحين؟
لو أن لينين لم يعالج مسألة الفلاحين على أساس نظرية دكتاتورية البروليتاريا وتكتيكها، لو أنه عالجها غير آبه بهذا الأساس، وخارج هذا الأساس، لما كان أعظم مفكر بروليتاري، كما هو دون ريب، بل كان مجرد "فيلسوف فلاحين" كما يصوره باستمرار الكويتبون البرجوازيون – الصغار في الخارج. ومن هنا أحد أمرين:
أما أن تكون مسألة الفلاحين المسألة الرئيسية في اللينينية، وعندها تكون اللينينية غير صالحة، غير إلزامية، للبلدان المتطورة رأسمالياً، للبلدان التي ليست ببلدان فلاحين.
وأما أن تكون دكتاتورية البروليتاريا الرئيسي في اللينينية، وعندها تكون اللينينية مذهباً أممياً لبروليتاريي جميع البلدان، صالحة وإلزامية لجميع البلدان بدون استثناء، بما فيها البلدان المتطورة رأسمالياً. 
هنا ينبغي الخيار.

- 3 -
مسألة الثورة الدائمة


في كتاب "أسس اللينينية" اعتبرت "نظرية الثورة الدائمة نظرية تستعرض دور الفلاحين. وقد جاء فيه:
"وإذن فلينين لم يكن يحارب أنصار الثورة "الدائمة" حول قضية استمرار الثورة، إذ أن لينين نفسه كان يتمسك بوجهة نظر الثورة المستمرة، بل كان يحاربهم لأنهم كانوا يستصغرون جماهير الفلاحين، الذين هم اكبر احتياطي للبروليتاريا".
إن وصف "الدائمين" الروس هذا اعتبر حتى الآونة الأخيرة، معترفاً به من الجميع. ولكن مع أنه صحيح بوجه عام فلا يمكن، مع ذلك، اعتباره كافياً. فمناقشة العام 1924، من جهة، وتحليل مؤلفات لينين تحليلاً دقيقاً، من جهة أخرى أظهر أن خطأ "الدائمين" الروس لا يمكن في استصغارهم لدور الفلاحين فحسب، بل وفي استصغارهم لقوى وطاقة البروليتاريا على جر الفلاحين وراءها، وفي عدم أيمانهم بفكرة زعامة البروليتاريا.
ولذا وسعت هذا الوصف في كتبي "ثورة أكتوبر وتكتيك الشيوعيين الروس" (كانون الأول 1924) واستبدلته بآخر، أوفى، وها كم ما جاء في هذا الكتيب:
يشار عادة، حتى الآن إلى ناحية واحدة من نظرية "الثورة الدائمة" – إلى عدم الأيمان بالإمكانيات الثورية في حركة الفلاحين. أما الآن، ولنكن على صواب، من الضروري أتمام هذه الناحية بناحية أخرى – "عدم الأيمان بقوى وطاقات البروليتاريا الروسية".
وهذا لا يعني، طبعاً، أن اللينينية وقفت أو تقف ضد فكرة الثورة الدائمة بدون محاذير، الفكرة التي نادى بها ماركس في العقد الخامس من القرن الماضي. بالعكس. لقد كان لينين الماركسي الوحيد الذي فهم فكرة الثورة الدائمة على وجه صحيح، وطورها. فالذي يميز لينين عن "الدائمين" هو أنهم شوهوا فكرة ماركس عن الثورة الدائمة وحولوها إلى مبدأ كتيبي لا حياة فيه، في حين أن لينين أخذها على حالها وجعل منها أساساً من أسس نظريته عن الثورة. ويجدر بنا أن نتذكر أن فكرة تحويل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى ثورة اشتراكية، التي طلع بها لينين منذ عام 1905، هي شكل من أشكال تجسيد نظرية ماركس عن الثورة الدائمة. وهاكم ما كتبه لينين بهذا الصدد عام 1905:
"من الثورة الديمقراطية نبدأ فوراً – بمقدار قوانا الصحيح، بمقدار قوى البروليتاريا الواعية والمنظمة – بالانتقال إلى الثورة الاشتراكية، إننا نؤيد الثورة المتواصلة ، ولن نقف في منتصف الطريق...
دون أن نقع تحت تأثير روح المغامرة ودون أن نخون ضميرنا العلمي ودون أن نركض وراء شهرة رخيصة، ولا يسعنا أن نقول ولا نقول سوى أمراً واحداً: سنساعد بكل قوانا جميع الفلاحين على القيام بالثورة الديمقراطية، لكي يصبح من الأسهل علينا، نحن حزب البروليتاريا الانتقال بأسرع ما يمكن إلى مهمة جديدة وأعلى، - إلى الثورة الاشتراكية". (المجلد 8، ص 186 – 187).
وهاكم ما كتبه لينين عن هذا الموضوع بعد مضي ستة عشر عاماً، أي بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة:
"إن كاوتسكي وهليفردينغ ومارتوف وتشيرنوف وهيلكيت ولونغي ماكدونالد وتوراتي ومن لف لفهم من أبطال الماركسية، لم يستطيعوا فهم الصلة بين الثورة الديمقراطية البرجوازية والثورة الاشتراكية البروليتاريا. فالأولى تتحول إلى الثانية . والثانية تحل، أثناء سيرها، قضايا الأولى. والثانية تعزز قضية الأولى. وإن النضال والنضال وحده يقرر إلى أي مدى تنجح الثانية في تخطي الأولى". (المجلد 27، ص 26).
أنني ألف الأنظار، بوجه خاص على الفقرة الأولى المأخوذة من مقال لينين: "موقف الاشتراكية – الديمقراطية من حركة الفلاحين" المنشورة في الأول من أيلول عام 1905. وأني ألفت الأنظار إلى هذه الفقرة ليتنبه أولئك الذين مازالوا يؤكدون أن لينين لم يصل إلى فكرة تحويل الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى ثورة اشتراكية، أي فكرة الثورة الدائمة، إلا بعد اندلاع الحرب الاستعمارية. إن هذه الفقرة لا تترك أدنى ريب في أن هؤلاء الناس قد ضلوا ضلالاً كبيراً.

- 4 -
الثورة البروليتارية ودكتاتورية البروليتاريا

ما هي السمات المميزة التي تفرق الثورة البروليتارية عن الثورة البرجوازية؟
يمكن تلخيص الفرق بين الثورة البروليتارية والثورة البرجوازية في خمس نقاط أساسية:
1) تبتدىء الثورة البرجوازية عادة حين تكون أشكال النظام الرأسمالي، التي نمت ونضجت في قلب المجتمع الإقطاعي، قبل الثورة المكشوفة، جاهزة إلى حد ما، بينما تبتدىء الثورة البروليتارية حين تكون أشكال النظام الاشتراكي الجاهزة معدومة أو شبه معدومة.
2) تكمن مهمة الثورة البرجوازية الأساسية في الاستيلاء على السلطة وجعلها موافقة للاقتصاد البرجوازي القائم، بينما تكمن مهمة الثورة البروليتارية الأساسية في الاستيلاء على السلطة وبناء اقتصاد جديد، اشتراكي. 
3) تنتهي الثورة البرجوازية، عادة، بالاستيلاء على السلطة، في حين أن الاستيلاء على السلطة، بالنسبة للثورة البروليتارية، ليس إلا بدايتها، على أن تستخدم هذه السلطة. أداة لصهر الاقتصاد القديم وتنظيم الجديد.
4) تقتصر الثورة البرجوازية على تسليم السلطة لفريق من المستثمرين عوضاً عن فريق آخر منهم، وبحكم ذلك فهي ليست بحاجة إلى تحطيم آلة الدولة القديمة، في حين أن الثورة البروليتارية تزيح عن السلطة جميع فرق المستثمرين على أنواعهم وترفع إلى السلطة قائد كل الشغيلة، والمستثمرين، طبقة البروليتاريا، وبحكم ذلك، لا مندوحة لها عن تحطيم آلة الدولة القديمة واستبدالها بآلة جديدة.
5) لا تستطيع الثورة البرجوازية أن ترص حول البرجوازية، لأمد طويل إلى حد ما، الملايين من جماهير الشغيلة والمستثمَرين، ذلك بالضبط لأنهم شغيلة مستثمَرين، في حين تستطيع الثورة البروليتارية، ويجب عليها، أن تربطهم بالبروليتاريا في حلف مديد، ذلك بالضبط باعتبارهم شغيلة ومستثمَرين، هذا إذا كانت تريد القيام بمهمتها الأساسية، مهمة توطيد سلطة البروليتاريا وبناء اقتصاد جديد، اشتراكي.
وها كم بضعة موضوعات أساسية للينين حول هذا الموضوع. 
يقول لينين:
"إن أحد الفوارق الأساسية بين الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية، هو أنه بالنسبة للثورة البرجوازية، التي تنبثق من الإقطاعية، تنشأ تدريجياً في قلب النظام القديم منظمات اقتصادية جديدة تبدل بالتدريج جميع أوجه المجتمع الإقطاعي. إن الثورة البرجوازية لا تواجه إلا مهمة واحدة: تكنيس ورمي وهدم كل قيود المجتمع السابق وبتنفيذ هذه المهمة، تكون كل ثورة برجوازية قد أتمت كل ما هو مطلوب منها: إنها تحفز نمو الرأسمالية.
أما بالنسبة للثورة الاشتراكية فالوضع يختلف تمام الاختلاف. فكلما كانت متأخرة البلاد التي يتأتى عليها، بحكم تعاريج التاريخ، أن تكون البادئة بالثورة الاشتراكية، كلما كان من العسير عليها الانتقال من العلاقات الرأسمالية القديمة إلى العلاقات الاشتراكية. فهنا تضاف إلى مهمات الهدم مهمات جديدة لا مثيل لصعوبتها؛ إنها مهمات التنظيم". (المجلد 22، ص 315).
ويستطرد لينين قائلاً:
"لو أن الإبداع الشعبي في الثورة الروسية، الذي أجتاز تجربة العام 1905 العظيمة. لم يخلق مجالس السوفيات منذ شباط العام 1917، لما كان بإمكان مجالس السوفيات، بحال من الأحوال، أن تأخذ السلطة في أكتوبر، لأن النجاح كان يتوقف فقط على وجود أشكال تنظيمية جاهزة لحركة تشمل الفلاحين. وقد كانت مجالس السوفيات هذا الشكل الجاهز، ولذا كان بانتظارنا، في الميدان السياسي، تلك النجاحات الباهرة، وذلك الزحف الشامل المظفر الذي قمنا به، لأن شكل السلطة السياسية الجديد كل جاهزاً، ولم يبق أمامنا سوى تحويل سلطة السوفيات، ببعض المراسيم – من تلك الحالة الجنينية التي كانت عليها خلال الأشهر الأولى الثورة – إلى شكل معترف به شرعاً ومقرر في الدولة الروسية، إلى جمهورية روسيا السوفياتية". (المجلد 22، ص 315).
ويقول لينين:
"ما زالت أمامنا مهمتان في منتهى الصعوبة، وأن الزحف الظافر الذي حققته ثورتنا في أشهرها الأولى، لا يمكن أن يكون، بحال من الأحوال، حلاً لها". (نفس المصدر، ص 315).
"إنها (أي الصعوبة الأولى – ملاحظة من هيئة التعريب) بادىء ذي بدء مهمات التنظيم الداخلي التي تواجه كل ثورة اشتراكية. فالذي يميز بالضبط الثورة الاشتراكية عن الثورة البرجوازية هو أن للثورة البرجوازية أشكالاً جاهزة من العلاقات الرأسمالية، في حين السلطة السوفياتية – البروليتاريا – تفتقر إلى العلاقات الجاهزة، باستثناء أشكال الرأسمالية الأكثر تطوراً، والتي لم تشمل. في الأساس، إلا بعض قمم الصناعة ولم تمس الزراعة إلا قليلاً جداً. إن تنظيم الحسابات والإشراف على المشاريع الكبرى وتحويل كل الآلة الاقتصادية في الدولة إلى آلة ضخمة واحدة، إلى هيئة اقتصادية تعمل بشكل يجعل مئات الملايين من الناس يسترشدون بمنهاج واحد – تلك هي المهمة التنظيمية الهائلة التي تقع على عاتقنا. وفي ظروف العمل الحالية لا يمكن، بحال من الأحوال، حلها بـ"ضربة قاضية" كما تسير لنا أن نحل مهمات الحرب الأهلية". (نفس المصدر، ص 316).
"والصعوبة الثانية الهائلة... المسألة الدولية. فإذا كنا قد تغلبنا، بهذه السهولة، على عصابات كيرنسكي، وإذا كنا قد خلقنا، بهذه السهولة، السلطة عندنا، وإذا كنا قد أصدرنا، بدون أقل صعوبة، مراسيم جعل الأرض ملكية اشتراكية وإقامة رقابة العمال، إذا كنا قد حصلنا على كل ذلك بهذه السهولة، فذلك لأن ظروفاً مواتية قد تكونت وصانتنا، لفترة قصيرة من الزمن. من الاستعمار العالمي. فالاستعمار العالمي، بكل جبروت رأسماله وبتكتيكه الحربي الرفيع التنظيم والذي يشكل قوة حقيقية، وحصناً حقيقياً لرأس المال العالمي، لا يستطيع، بحال من الأحوال، بحكم حالته الموضوعية وبحكم المصالح الاقتصادية، مصالح تلك الطبقة الرأسمالية التي تتجسد فيه؛ فهو لا يستطيع أن يفعل ذلك بحكم العلاقات التجارية والعلاقات المالية العالمية، وهنا لا مفر من النزاع. هنا تكمن كبرى صعوبات الثورة الروسية، وأعظم مشاكلها التاريخية: ضرورة حل المهمات الدولية، ضرورة إثارة الثورة العالمية". (المجلد 22، ص 317).
هذا هو كنه الثورة البروليتارية ومغزاها الأساسي.
فهل يمكن القيام بمثل هذا التغيير الجذري للأوضاع البرجوازية القديمة بدون ثورة عاصفة بدون دكتاتورية البروليتاريا؟
من الواضح أنه لا يمكن. والتفكير بأن بالإمكان القيام بمثل هذه الثورة بصورة سلمية، في نطاق الديمقراطية البرجوازية المعدة لسيادة البرجوازية يعني أما الجنون وفقدان المفاهيم الإنسانية العادية وإما الارتداد بفظاظة وعلناً عن الثورة البروليتارية.
ويجب أن نزيد في تشديدنا على هذه الموضوعة إذ أننا نواجه ثورة بروليتارية لم تنتصر حتى الآن،إلا في بلاد واحدة مطوقة ببلدان رأسمالية معادية ولا يسع رأس المال العالمي إلا أن يدعم برجوازيتها.
لهذا السبب يقول لينين:
"إن إنعتاق الطبقة المضطهدة مستحيل، لا بدون ثورة عنفية وحسب، بل وكذلك بدون تحطيم جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الطبقة السائدة". (المجلد 21، ص 373).
"أولاً، بعد أن تعلن أغلبية السكان – مع استتباب الملكية الخاصة، أي استتباب سلطة ونير الرأسمال – تأييدها لحزب البروليتاريا، عندها فقط يستطيع هذا الحزب وعليه أن يستلم السلطة" هكذا يقول صغار البرجوازيين الديمقراطيين، خدم البرجوازية الحقيقيون، الذين ينتحلون أسم الاشتراكية ". (المجلد 24، ص 647).
أما نحن فنقول : "لتقم البروليتاريا الثورية في البدء بإسقاط البرجوازية ولتسحق نير رأس المال وتحطم جهاز الدولة البرجوازي، عندئذ تستطيع البروليتاريا الظافرة أن تكسب إلى جانبها بسرعة عطف وتأييد أكثرية الشغيلة من الطبقات غير البروليتارية. وذلك بإرضائها على حساب المستثمرين". (نفس المصدر).
ويستطرد لينين قائلاً:
"لكي تكسب البروليتاريا أغلبية السكان إلى جانبها، يتوجب عليها أولاً، أن تسقط البرجوازية وتستولي على سلطة الدولة، ويتوجب عليها ثانياً، أن تقيم السلطة السوفياتية بعد أن تحطم شر تحطيم جهاز الدولة القديم، ناسفة بذلك، دفعة واحدة، سيادة وسلطان ونفوذ البرجوازية والتوفيقيين البرجوازيين الصغار على جماهير الشغيلة البروليتاريين وعليها ثالثاً، أن تجهز على ما للبرجوازية والتوفيقيين البرجوازيين – الصغار من نفوذ بين أغلبية جماهير الشغيلة غير البروليتاريين، وذلك بسد حاجاتهم الاقتصادية ثورياً على حساب المستثمرين". (نفس المصدر).
تلك هي الدلائل التي تميز الثورة البروليتارية.
ما هي إذن السمات الأساسية لدكتاتورية البروليتاريا، إذا كنا نعتبرها المحتوى الأساسي للثورة البروليتارية؟
هاكم أعم تعريف أعطاه لينين لدكتاتورية البروليتاريا:
"ليست دكتاتورية البروليتاريا نهاية النضال الطبقي، بل هي استمرار لهذا النضال بأشكال جديدة. فدكتاتورية البروليتاريا هي النضال الطبقي للبروليتاريا الظافرة، التي استولت على السلطة السياسية، ضد البرجوازية المغلوبة ولكن غير المبادة، غير المتلاشية، والتي لم تكف عن المقاومة بل شددت مقاومتها". (المجلد 24، ص 311).
لقد قال لينين معترضاً على الذين يخلطون دكتاتورية البروليتاريا بسلطة "كل الشعب"، "المنتخبة من الجميع"، بالسلطة "اللاطبقية":
"إن الطبقة التي أخذت بأيديها السيادة السياسية، قد أخذتها وهي تدرك أنها أخذتها وحدها. وهذا ما يتضمنه مفهوم دكتاتورية البروليتاريا. ولا معنى لهذا المفهوم إلا عندما تدرك الطبقة أنها تستولي وحدها على السلطة السياسية، فلا تخدع نفسها ولا الآخرين بأقاويل عند سلطة "كل الشعب المنتخبة من الجميع والتي يقدسها الشعب بأسره". (المجلد 26، ص 286).
بيد أن هذا لا يعني أن سلطة الطبقة الواحدة، طبقة البروليتاريين، الطبقة التي لا تشاطر ولا يسعها أن تشاطر الطبقات الأخرى هذه السلطة، ليست بحاجة، كيما تحقق أهدافها، إلى مساعدة، إلى تحالف مع جماهير الشغيلة والمستثمرين من الطبقات الأخرى. بالعكس إن هذه السلطة، سلطة الطبقة الواحدة، لا يمكن توطيدها وممارستها حتى النهاية إلا عن طريق شكل خاص للتحالف بين طبقة البروليتاريا وجماهير الشغيلة من طبقات صغار البرجوازيين، وقبل كل شيء، مع جماهير الفلاحين الشغيلة.
ما هو هذا الشكل الخاص للتحالف. وبمَ يتلخص؟ وهذا التحالف مع جماهير الشغيلة من الطبقات الأخرى غير البروليتارية، إلا يناقض، بوجه عام، فكرة دكتاتورية الطبقة الواحدة؟
إن هذا الشكل الخاص للتحالف يتلخص في أن البروليتاريا هي قوته القائدة. ويتلخص هذا الشكل الخاص للتحالف في أن قائد الدولة، في أن القائد في نظام دكتاتورية البروليتاريا هو حزب واحد، حزب البروليتاريا، الحزب الشيوعي، الذي لا يشاطر الأحزاب الأخرى ولا يسعه أن يشاطرها القيادة.
وكما ترون، فإن التناقض هنا ليس إلا ظاهرياً وخيالياً.
يقول لينين:
"إن دكتاتورية البروليتاريا هي شكل خاص لتحالف طبقي بين البروليتاريا، طليعة الشغيلة، والفئات الغفيرة من الشغيلة غير البروليتاريين (البرجوازية الصغيرة، صغار أرباب العمل، الفلاحون، المثقفون، الخ) أو مع أغلبية هذه الفئات، وهو تحالف موجه ضد رأس المال، تحالف هدفه إسقاط رأس المال نهائياً والقضاء التام على مقاومة البرجوازية ومحاولاتها أعادة النظام القديم، تحالف هدفه إقامة وتوطيد الاشتراكية نهائياً. إنه تحالف من نوع خاص، يتكون في ظروف خاصة، ظروف الحرب الأهلية الطاحنة، إنه تحالف أنصار الاشتراكية الحازمين مع حلفائها المترددين، وأحياناً مع "المحايدين" (عندئذ يتحول التحالف من اتفاق على النضال إلى اتفاق من أجل الحياد) أنه تحالف بين طبقات تختلف من النواحي الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية والإيديولوجية".
وقد اعترض كامنييف، في أحد تقاريره الإعلامية، على مثل هذا المفهوم لدكتاتورية البروليتاريا فقال مجادلاً:
"الديكتاتورية ليست تحالف طبقة مع أخرى".
أعتقد أن كامنييف يقصد هنا، قبل كل شيء، فقرة من كتيبي: "ثورة أكتوبر وتكتيك الشيوعيين الروس" الذي جاء فيه:
"ليست دكتاتورية البروليتاريا مجرد نخبة حكومية اصطفتها "بمهارة" يد "استراتيجي مجرّب" و"تستند بحكمة" إلى هذه الفئة أو تلك من السكان. إن دكتاتورية البروليتاريا هي تحالف طبقي بين البروليتاريا وجماهير الفلاحين لإسقاط رأس المال ولانتصار الاشتراكية النهائي، شرط أن تكون البروليتاريا القوة القائدة في هذا التحالف".
إنني ادعم بصورة تامة هذا التعريف لدكتاتورية البروليتاريا، إذ أنني اعتقد أنه يتفق تماماً وبدون تحفظ مع تعريف لينين، الذي استشهدت به أعلاه.
إنني أجزم بأن تصريح كامنييف القائل بأن "دكتاتورية البروليتاريا ليست تحالف طبقة مع أخرى"، والذي جاء خالياً من أي تحفظ لا يمت بصلة إلى النظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا.
إنني أجزم بأنه لا يستطيع أن يقول هذا القول إلا الذين يفهموا معنى فكرة إتحاد، فكرة تحالف البروليتاريا مع الفلاحين، فكرة سيادة البروليتاريا في هذا التحالف.
لا يستطيع أن يقول مثل هذا القول إلا الذين لم يفهموا موضوعة لينين القائلة:
"إن الاتفاق مع الفلاحين وحده يستطيع إنقاذ الثورة الاشتراكية في روسيا ما دامت الثورة في البلدان الأخرى لم تندلع بعد". (المجلد 26، ص 238).
لا يستطيع أن يقول هذا القول إلا الذين لم يفهموا موضوعة لينين القائلة:
"إن مبدأ الدكتاتورية الأعلى هو دعم تحالف البروليتاريا مع الفلاحين، لأجل أن تتمكن البروليتاريا من الاحتفاظ بدور القائد وبسلطة الدولة". (نفس المصدر، ص 460).
يقول لينين مشيراً إلى هدف من أهم أهداف الدكتاتورية، هدف سحق المستثمرين:
"لا تعني الدكتاتورية، في مفهومها العملي، إلا سلطة لا يحدها شيء، سلطة لا يحدها أي قانون، ولا تنطبق عليها أية قاعدة إطلاقاً، وتستند مباشرة إلى العنف". (المجلد 25، ص 441).
"الدكتاتورية تعني – وخذوا بذلك علماً أيها السادة الكاديت – سلطة غير محدودة، تستند إلى القول لا إلى القانون. إن كل سلطة ظافرة في زمن الحرب الأهلية لا يمكن أن تكون إلا دكتاتورية". (المجلد 25، ص 436).
ولكن العنف ليس كل ما في دكتاتورية البروليتاريا طبعاً، رغم أنه لا وجود للدكتاتورية بدون العنف.
يقول لينين:
"الدكتاتورية لا تعني فقط العنف، رغم كونها مستحيلة بدون عنف؛ أنها تعني كذلك تنظيماً للعمل أرقى من التنظيم السابق". (المجلد 24، ص 305).
"دكتاتورية البروليتاريا... ليست فقط العنف المطبق على المستثمرين، وحتى أنها ليست العنف بصورة رئيسية. أن الأساس الاقتصادي لهذا العنف الثوري، وضمان حيويته ونجاحه، هو أن البروليتاريا تعطي وتنجز، بالمقارنة مع الرأسمالية، النموذج الأرقى لتنظيم العمل الاجتماعي، هنا يكمن جوهر المسألة؛ من هنا مصدر القوة، ومن هنا ضمانة انتصار الشيوعية الكلي المحتوم".
"إن كنهها الرئيسي (أي كنه الدكتاتورية ج. ستالين) يكمن في تنظيم وانضباط فصيلة الشغيلة المتقدمة، تنظيم وانضباط طليعتهم وقائدهم الوحيد، البروليتاريا، وأن هدفها هو بناء الاشتراكية والقضاء على انقسام المجتمع إلى طبقات، وتحويل كل أعضاء المجتمع إلى شغيلة، وإزالة أساس كل استثمار إنسان لإنسان. إن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه دفعة واحدة، ذلك لأن إعادة تنظيم الإنتاج أمر صعب، ولأن إجراء تبديلات جوهرية في جميع ميادين الحياة يحتاج إلى وقت، ولأن التغلب على القوة الهائلة، قوة العادة إزاء الإدارة البرجوازية الصغيرة والبرجوازية غير ممكن إلا بنضال عنيد وطويل النفس. ولهذا تحدث ماركس عن مرحلة كاملة من دكتاتورية البروليتاريا باعتبارها مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية". (نفس المصدر، ص 314).
تلك هي السمات المميزة لدكتاتورية البروليتاريا.
ومن هنا ثلاث نواحٍ أساسية لدكتاتورية البروليتاريا:
1) استخدام سلطة البروليتاريا لسحق المستثمرين، وللدفاع عن البلاد، ولأجل توطيد الروابط مع بروليتاريي البلدان الأخرى، ولتطوير الثورة وجعلها تنتصر في جميع البلدان.
2) استخدام سلطة البروليتاريا لفصل الجماهير الكادحة والمستثمرة نهائياً عن البرجوازية، ولتوطيد تحالف البروليتاريا مع هذه الجماهير، ولجذب هذه الجماهير لبناء الاشتراكية، ولتأمين قيادة هذه الجماهير من قبل البروليتاريا الحاكمة.
3) استخدام سلطة البروليتاريا لتنظيم الاشتراكية وللقضاء على الطبقات وللانتقال إلى المجتمع اللاطبقي إلى المجتمع الاشتراكي.
استخدام سلطة البروليتاريا هي جمع هذه النواحي الثلاث. ولا يمكن أن تعرض ناحية من هذه النواحي على أنها الدليل الوحيد المميز لدكتاتورية البروليتاريا، وبالعكس، يكفي انعدام ولو دليل واحد من هذه الأدلة لكيما تكف دكتاتورية البروليتاريا على أن تكون دكتاتورية في ظروف التطويق الرأسمالي. ولهذا السبب لا يمكن نفي ناحية من هذه النواحي الثلاث بدون المجازفة بخطر تحريف مفهوم دكتاتورية البروليتاريا. وأن هذه النواحي الثلاث، مأخوذة بمجموعها، هي التي تعطينا مفهوماً كاملاً وتاماً عن دكتاتورية البروليتاريا.
ولدكتاتورية البروليتاريا مراحلها، وأشكالها الخاصة، وطرق عملها المتنوعة. ففي مرحلة الحرب الأهلية تستلفت الأنظار في الدكتاتورية بوجه خاص ناحية العنف فيها. ولكن لا يستنتج من ذلك إطلاقاً أن أي عمل بناء لا يتم في مرحلة الحرب الأهلية. فبدون العمل البناء يستحيل خوض الحرب الأهلية. أما في مرحلة بناء الاشتراكية فإن القضية على العكس فالذي يلفت النظر بوجه خاص هو عمل الدكتاتورية السلمي، والتنظيمي، والثقافة والشرعية الثورية، الخ.
ولكن هنا أيضاً لا يستنتج من ذلك إطلاقاً أن ناحية العنف في الدكتاتورية قد زالت أو يمكنها أن تزول في مرحلة البناء. فأجهزة القمع، كالجيش وغيره من المنظمات تظل ضرورية في مرحلة البناء، كما هي في مرحلة الحرب الأهلية. وبدون هذه الهيئات يصبح عمل الدكتاتورية البنائي مستحيلاً. يجب أن لا ننسى أن الثورة لم تنتصر بعد إلا في بلاد واحدة، ويجب أن لا ننسى أن خطر التدخل، مع كل ما ينجم عنه من عواقب، سيظل ما دام التطويق الرأسمالي موجوداً
- 5 -
الحزب والطبقة العاملة 
في نظام دكتاتورية البروليتاريا
تكلمت فيما تقدم عن دكتاتورية البروليتاريا من وجهة نظر حتميتها التاريخية، من وجهة نظر محتواها الطبقي، من وجهة نظر طبيعتها كدولة، وأخيراً من وجهة نظر مهماتها في الهدم والبناء، التي تنفذ خلال مرحلة تاريخية كاملة، تسمى مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
والآن ينبغي أن نتكلم عن دكتاتورية البروليتاريا من وجهة نظر تركيبها، من وجهة نظر ميكانيكيتها ، من وجهة نظر دور وأهمية الأسلاك الموصلة ، دور وأهمية المخول . و القوة الموجهة التي تكوّن في مجموعها نظام دكتاتورية البروليتاريا ، على حد تعبير لينين، والتي بواسطتها تنجز دكتاتورية البروليتاريا عملها اليومي.
فما هي هذه الأسلاك الموصلة و المخول في نظام دكتاتورية البروليتاريا؟ وما هي القوة الموجهة ؟ وما هي الحاجة إليها؟ 
المخول أو الأسلاك الموصلة هي نفس هذه المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا، والتي بدونها يستحيل تحقيق الدكتاتورية.
والقوة الموجهة، هي الفصيلة المتقدمة من البروليتاريا، هي طليعتها، والتي هي القوة القائدة الأساسية لدكتاتورية البروليتاريا.
ولا غنى للبروليتاريا عن هذه الأسلاك الموصلة، عن هذه المخول، وعن هذه القوة الموجهة، إذ بدونها ستجد البروليتاريا نفسها، في نضالها من أجل النصر، في وضع جيش اعزل بوجه رأس المال المنظم والمسلح. ولا غنى للبروليتاريا عن هذه المنظمات، إذ بدونها، لمنيت بالهزيمة حتماً في نضالها من أجل الإطاحة بالبرجوازية وفي نضالها من أجل توطيد سلطتها وفي نضالها من أجل بناء الاشتراكية. ولا غنى عن مساعدة هذه المنظمات بانتظام وعن القوة الموجهة للطليعة، إذ بدون هذه الظروف لا يمكن أن تكون دكتاتورية بروليتاريا مديدة ووطيدة لأي حد كان.
فما هي هذه المنظمات؟
إنها أولاً، نقابات العمال مع تشعباتها في المدن والنواحي بشكل مجموعة كاملة من المؤسسات الإنتاجية والثقافية والتربوية وسواها. فهي توحد عمال كل المهن. وهي ليست منظمة حزبية. بوسعنا أن ننعت النقابات بأنها منظمة تجمع كل الطبقات العاملة الحاكمة عندنا، أنها مدرسة الشيوعية وهي تُخرّج خيرة الناس لأعمال القيادة في جميع فروع الإدارة. كما أنها تؤمن الارتباط بين العناصر المتقدمة والعناصر المتأخرة في الطبقة العاملة. وتوحد جماهير العمال بطليعة الطبقة العاملة.
وهي ثانياً، مجالس السوفيات بتشعباتها العديدة في المدن والنواحي، بشكل منظمات إدارية، واقتصادية، وعسكرية وثقافية وغيرها من منظمات الدولة، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات العفوية لجماهير الشغيلة التي تحيط بهذه المنظمات وتربطها بالسكان. مجالس السوفيات هي منظمة جماهيرية لجميع الشغيلة في المدينة والريف. وهي منظمة غير حزبية. فمجالس السوفيات هي التعبير المباشر عن دكتاتورية البروليتاريا. فعن طريق مجالس السوفيات تمر جميع تدابير تعزيز الدكتاتورية وبناء الاشتراكية، على اختلاف أشكال وأنواع هذه التدابير. وعن طريق مجالس السوفيات تؤمن البروليتاريا الحاكمة قيادتها للفلاحين. فمجالس السوفيات تربط الملايين من جماهير الشغيلة بطليعة البروليتاريا.
وهي ثالثاً، التعاونيات بجميع أشكالها، وبكل تشعباتها، هي منظمة جماهيرية للشغيلة منظمة غير حزبية توحد الشغيلة قبل كل شيء، باعتبارهم مستهلكين، وكذلك، مع مرور الزمن، باعتبارهم منتجين (التعاونيات الزراعية). وهي تكتسب أهمية خاصة بعد توطيد دكتاتورية البروليتاريا، في مرحلة البناء الواسع. وهي تسهل إرتباط طليعة البروليتاريا بجماهير الفلاحين، كما أنها تمكن من اجتذاب هذه الجماهير في طريق البناء الاشتراكي.
وهي رابعاً، اتحاد الشبيبة، وهو منظمة جماهيرية لشبيبة العمال والفلاحين، منظمة غير حزبية؛ لكنها تمس الحزب عن كثب.
ومهمة اتحاد الشبيبة مساعدة الحزب على تكوين الجيل الجديد بروح اشتراكية. كما أن اتحاد الشبيبة يزود بالاحتياطي من الشباب كل منظمات البروليتاريا الجماهيرية الأخرى، في جميع فروع الإدارة. لقد اكتسب اتحاد الشبيبة أهمية خاصة بعد توطيد دكتاتورية البروليتاريا، في مرحلة عمل البروليتاريا الواسع الثقافي والتربوي.
وهي، أخيراً، حزب البروليتاريا، طليعتها، وتكمن قوته في كونه يضم إلى صفوفه خيرة أبناء البروليتاريا من جميع منظماتها الجماهيرية. وتتلخص رسالته في تنسيق عمل كل منظمات البروليتاريا الجماهيرية، دون استثناء، وتوجيه نشاطها نحو هدف وحيد، هدف تحرير البروليتاريا.
ومن الضروري أطلاقاً توحيد وتنسيق نشاط هذه المنظمات نحو هدف واحد، لأن وحدة نضال البروليتاريا غير ممكنة بدون ذلك؛ ولأنه بدون ذلك من غير الممكن قيادة الجماهير البروليتارية في نضالها من أجل السلطة، في نضالها من أجل بناء الاشتراكية. والحال، أن طليعة البروليتاريا، حزبها، هو وحده القادر على تنسيق وتوجيه عمل منظمات البروليتاريا الجماهيرية. وحزب البروليتاريا وحده، الحزب الشيوعي وحده، قادر على القيام بهذا الدور، دور القائد الأساسي في نظام دكتاتورية البروليتاريا.
لماذا؟
أولاً، لأن الحزب هو نقطة التقاء خيرة عناصر الطبقة العاملة المرتبطة مباشرة بالمنظمات البروليتارية اللاحزبية. والتي تقودها غالباً، ثانياً، وبسبب أن الحزب هو نقطة التقاء خيرة أبناء الطبقة العاملة، فإنه أفضل مدرسة لتكوين قادة للطبقة العاملة، قادرين على قيادة كل أشكال تنظيم طبقتهم؛ ثالثاً، وبسبب أن الحزب هو أفضل مدرسة لتكوين قادة الطبقة العاملة، فإنه من حيث تجربته ونفوذه، المنظمة الوحيدة القادرة على تركيز قيادة نضال البروليتاريا، وعلى هذا الشكل تحويل مختلف أشكال منظمات الطبقة العاملة اللاحزبية إلى منظمات مساعدة، وإلى أسلاك موصلة تربط الحزب بالطبقة .
الحزب هو القوة القائدة الأساسية في نظام دكتاتورية البروليتاريا.
الحزب هو أعلى شكل من أشكال اتحاد البروليتاريا الطبقي (لينين).
وهكذا، فالنقابات، من حيث هي منظمة جماهيرية للبروليتاريا تربط الحزب بالطبقة، قبل كل شيء في ميدان الإنتاج، مجالس السوفيات، من حيث هي منظمة جماهيرية للشغيلة تربط الحزب بهم، قبل كل شيء في ميدان إدارة الدولة؛ والتعاونيات، من حيث هي، بصورة رئيسية، منظمة جماهيرية للفلاحين تربط الحزب بجماهير الفلاحين، قبل كل شيء في ميدان الاقتصاد، وذلك بجعلها الفلاحين يشتركون في البناء الاشتراكي؛ واتحاد الشبيبة، من حيث هي منظمة جماهيرية لشبيبة العمال والفلاحين، مدعو ليسهل على طليعة البروليتاريا تربية الجيل الجديد تربية اشتراكية وتنشئة الشباب الاحتياطي؛ وأخيراً، الحزب، من حيث هو القوة الموجهة الأساسية في نظام دكتاتورية البروليتاريا، مدعو إلى قيادة كل هذه المنظمات الجماهيرية. هذا هو بمجموعه، جدول ميكانيكية ، جدول نظام دكتاتورية البروليتاريا .
وبدون الحزب، من حيث هو القوة القائدة الأساسية يستحيل وجود دكتاتورية بروليتاريا وطيدة ومديدة لأي أمد كان.
وهكذا، على حد قول لينين:
يكون الحاصل بمجموعه جهازاً بروليتارياً قوياً جداً، غير شيوعي، شكلاً، ومرناً وواسعاً نسبياً، جهازاً يرتبط الحزب بواسطته ارتباطاً وثيقاً بالطبقة وبالجماهير، كما تتحقق بواسطته دكتاتورية الطبقة تحت قيادة الحزب . (المجلد 25، ص 192).
ولا يصبح، طبعاً، أن يفهم من ذلك أن بوسع الحزب أو من واجبه أن يقوم مقام النقابات ومجالس السوفيات وغيرها من المنظمات الجماهيرية. إن الحزب يقيم دكتاتورية البروليتاريا لكنه لا يقيمها مباشرة، بل بمساعدة النقابات وعن طريق مجالس السوفيات وتشعباتها. ولولا هذه الأسلاك الموصلة لما أمكن وجود دكتاتورية وطيدة لأي أمد كان.
يقول لينين:
من المستحيل إقامة دكتاتورية بدون بعض الأسلاك الموصلة التي تمتد من الطليعة إلى جماهير الطبقة المتقدمة، ومنها إلى جماهير الشغيلة . (المجلد 26، ص 65).
والحزب، إن أمكن القول، يضم في صفوفه طليعة البروليتاريا، وهذه الطليعة هي التي تقيم دكتاتورية البروليتاريا. وبدون الاستناد إلى أساس كالنقابات لا يمكن إقامة الديكتاتورية، كما لا يمكن القيام بوظائف الدولة. وأننا مجبرون على ممارستها بواسطة مجموعة من المؤسسات الخاصة، من طراز جديد، اعني بها: الجهاز السوفياتي . (المجلد 26، ص 64).
يجب الاعتراف أن التعبير الأسمى عن دور الحزب كقائد، عندنا، في الاتحاد السوفياتي مثلاً، في بلاد دكتاتورية البروليتاريا، يكمن في أن أية مسألة هامة سياسية كانت أم تنظيمية لا تحلها مؤسساتنا السوفياتية وغيرها من المؤسسات الجماهيرية بدون توجيهات الحزب. وفي هذا المعنى يمكن أن نقول أن دكتاتورية البروليتاريا هي، في الأساس؛ دكتاتورية طليعة، دكتاتورية حزبها، الذي هو القوة القائدة الأساسية للبروليتاريا. وهاكم ما قاله لينين، في هذا الصدد، في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية.
يقول تانير إنه يؤيد دكتاتورية البروليتاريا ولكنه، لا يتصور دكتاتورية البروليتاريا تماماً كما نتصورها نحن. وهو يقول أننا نفهم دكتاتورية البروليتاريا على أنها، بالأساس ، دكتاتورية أقليتها المنظمة والواعية .
وفي الواقع فإن السمة الأكثر تمييزاً لأحزاب العمال السياسية في عصر الرأسمالية، حين تكون جماهير العمال عرضة لاستثمار دائم وحين لا يكون بإمكانها تنمية كفاءاتها الإنسانية، هي، بالضبط، كون هذه الأحزاب لا تستطيع أن تضم سوى أقلية طبقتها. إن الحزب السياسي لا يستطيع أن يضم سوى أقلية الطبقة، كما أن العمال الواعين حقاً لا يشكلون، في كل مجتمع رأسمالي، سوى الأقلية من مجموع العمال. لذا نحن مضطرون للاعتراف بأن هذه الأقلية الواعية هي وحدها التي تستطيع أن تقود جماهير العمال الغفيرة وأن تتقدمها. وإذا كان الرفيق تانير يقول أنه عدو للحزب، لكنه في الوقت نفسه يؤيد أن تدل أقلية العمال، الأكثر تنظيماً وثورية، كل البروليتاريا على الطريق، فإنني أقول أن لا فرق بيننا في الواقع .
ولكن لا يصح أن يُفهم من ذلك أن بالإمكان وضع علامة المساواة بين دكتاتورية البروليتاريا ودور الحزب كقائد ( دكتاتورية الحزب) وأن بالإمكان جعل التعبيرين شيئاً واحداً، وأن بالإمكان وضع الثاني محل الأول. فها هو سورين، مثلاً، يقول إن دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية حزبنا .
إن هذه الموضوعة، كما ترون، تساوي بين دكتاتورية الحزب و دكتاتورية البروليتاريا . فهل يمكن الاعتراف بأن هذه المساواة صحيحة مع البقاء على صعيد اللينينية؟ كلا، وإليكم السبب: 
أولاً، في الفقرة التي ذكرتها أعلاه من خطاب لينين في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، لم يساو لينين مطلقاً بين دور الحزب كقائد وبين دكتاتورية البروليتاريا. إنه يقول فقط إن الأقلية الواعية وحدها (أي الحزب .ج. ستالين) بإمكانها قيادة الجماهير الغفيرة من العمال وتسييرها وراءها؛ وأنه بهذا المعنى على وجه الضبط، نفهم دكتاتورية البروليتاريا، بالأساس، على أنها دكتاتورية أقليتها المنظمة والواعية .
وأن يُقال بالأساس، لا يعني بعد أنه ممكن أن يقال بصورة تامة . غالباً ما نقول أن المسألة الوطنية، هي بالأساس، مسألة فلاحين. وهذا صحيح تماماً. لكنه لا يعني بعد أن مسألة الفلاحين تغطي المسألة الوطنية، وأن مسألة الوطنية هي، من حيث اتساعها، أوسع وأغنى من مسألة الفلاحين. وبالمقارنة مع ذلك ينبغي أن يقال نفس الشيء عن دور الحزب كقائد وعن دكتاتورية البروليتاريا. فإذا كان الحزب يقيم دكتاتورية البروليتاريا، وبهذا المعنى إذا كانت دكتاتورية البروليتاريا، بالأساس، دكتاتورية حزبها، فإن ذلك لا يعني أن دكتاتورية الحزب (دور القيادة) ودكتاتورية البروليتاريا شيء واحد، وإن الأولى تساوي الثانية من حيث اتساعها، ولا حاجة للبرهان قط على أن دكتاتورية البروليتاريا هي، من حيث اتساعها، أوسع وأغنى من دور الحزب كقائد. فالحزب يطبق دكتاتورية البروليتاريا، ولكنه يطبق دكتاتورية البروليتاريا وليس أية دكتاتورية غيرها.
إن المساواة بين دور الحزب كقائد وبين دكتاتورية البروليتاريا تعني احتلال دكتاتورية الحزب محل دكتاتورية البروليتاريا.
ثانياً، لا تتخذ منظمات البروليتاريا الجماهيرية أي قرار هام بدون توجيهات الحزب. هذا صحيح تماماً. ولكن هل يعني ذلك أن دكتاتورية البروليتاريا تقتصر على توجيهات الحزب؟ وهل يعني ذلك أن توجيهات الحزب يمكن أن تكون، لهذا السبب، متساوية مع دكتاتورية البروليتاريا؟ بالطبع لا. فدكتاتورية البروليتاريا تشتمل على توجيهات الحزب بالإضافة إلى تطبيق منظمات البروليتاريا الجماهيرية وتطبيق السكان لهذه التوجيهات.
وكما ترون، فإننا هنا أمام سلسلة من الانتقالات والحلقات الوسيطة التي تشكل عنصراً هاماً جداً في دكتاتورية البروليتاريا. وبالتالي هناك بين توجيهات الحزب وتطبيقها، أرادة وعمل المنقادين، إرادة وعمل الطبقة، استعدادها (أو رفضها) لدعم هذه التوجيهات، طاقتها (أو عجزها) على تطبيقها كما يتطلب الوضع بالضبط. ولا حاجة إطلاقاً للبرهان أن الحزب، الذي تسلم القيادة، لا يمكنه إلا أن يحسب حساباً لإرادة وحالة ومستوى وعي المنقادين؛ ولا يمكنه إلا أن يحسب حساباً لإرادة وحالة ومستوى وعي طبقته. لهذا السبب فإن مساواة دور الحزب كقائد مع دكتاتورية البروليتاريا يعني إحلال توجيهات الحزب محل إرادة عمل الطبقة.
ثالثاً، إن دكتاتورية البروليتاريا، كما يقول لينين، هي نضال البروليتاريا الظافرة الطبقي التي استولت على السلطة السياسية . (المجلد 24، ص 311).
وكيف يستطيع أن يظهر هذا النضال الطبقي؟ يمكنه أن يظهر في سلسلة من الأعمال البروليتارية المسلحة ضد منكرات البرجوازية المخلوعة أو ضد تدخل البرجوازية الأجنبية. يمكنه أن يظهر في الحرب الأهلية، إذا لم تكن سلطة البروليتاريا قد توطدت بعد، يمكنه أن يظهر في عمل البروليتاريا الواسع في حقلي التنظيم والبناء، بالاشتراك مع الجماهير الغفيرة، بعد أن يتوطد الحكم. والفاعل النشيط في جميع هذه الحالات هو البروليتاريا، من حيث هي طبقة . لم يحدث إطلاقاً أن نظم الحزب، الحزب وحده، كل هذه الأعمال بقواه الخاصة وحده، بدون دعم الطبقة. وهو عادة لا يقوم بأكثر من قيادة هذه الأعمال، ويقودها بمقدار ما يستند إلى تأييد الطبقة. إذ أن الحزب لا يستطيع أن يشمل الطبقة ولا أن يحل محلها. إذ أن الحزب، رغم كل أهمية دوره كقائد، ليس إلا جزءً من الطبقة. لهذا السبب فإن المساواة بين دور الحزب كقائد وبين دكتاتورية البروليتاريا، تعني إحلال الحزب محل الطبقة.
رابعاً، يقيم الحزب دكتاتورية البروليتاريا. الحزب وهو طليعة البروليتاريا، يمارس السلطة مباشرة، إنه القائد (لينين). فبهذا المعنى يتسلم الحزب السلطة، وبهذا المعنى يحكم الحزب البلاد .
ولكن يجب أن نفهم من ذلك أن الحزب يقيم دكتاتورية البروليتاريا خارج نطاق سلطة الدولة، وأن الحزب يحكم البلاد خارج نطاق السوفياتات، وبدون السوفياتات. وهذا لا يعني بعد أن بالإمكان مساواة الحزب بالسوفياتات، بسلطة الدولة، فالحزب هو نواة السلطة. لكنه ليس سلطة الدولة ولا يمكن مساواته بها.
يقول لينين:
بصفتنا الحزب الحاكم لم يسعنا إلا أن ندمج قمة السوفياتات مع قمة الحزب؛ إنهما، عندنا، مدمجان، وسيظلان كذلك . (المجلد 26، ص 208).
وهذا صحيح كل الصحة. ولكن لينين لا يريد بتاتاً أن يقول بذلك أن دوائرنا السوفياتية في مجموعها، مثلاً جيشنا ووسائل النقل ودوائرنا الاقتصادية الخ. هي دوائر لحزبنا وأن بإمكان الحزب أن يقوم مقام السوفياتات وتشعباتها وأن بالإمكان جعل الحزب وسلطة الدولة شيئاً واحداً لقد قال لينين مراراً وتكراراً أن: نظام السوفيات هو دكتاتورية البروليتاريا وأن السلطة السوفياتية هي دكتاتورية البروليتاريا (المجلد 24، ص 12 – 15) ولكنه لم يقل أبداً أن الحزب هو سلطة الدولة وأن السوفياتات والحزب هما نفس الشيء ذاته. أن الحزب الذي يعد مئات الألوف من الأعضاء يقود، في المدن والمقاطعات، السوفياتات وتشعباتها التي تشمل عشرات الملايين من الناس الحزبيين واللاحزبيين، ولكنه لا يستطيع ولا يجب عليه أن يقوم مقامها ولهذا السبب يقول لينين أن الدكتاتورية تقيمها البروليتاريا المنظمة في السوفياتات التي يقودها الحزب الشيوعي البلشفي وأن كل عمل الحزب يتم عن طريق السوفياتات التي توحد جماهير الشغيلة على اختلاف مهنهم (المجلد 25، ص 192 ـ 193) وأن الدكتاتورية يجب إقامتهما عن طريق الجهاز السوفياتي (المجلد 26، ص 64). ولهذا السبب فإن من يجعل دور الحزب كقائد ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً، يضع الحزب محل السوفياتات، محل سلطة الدولة.
خامساً، إن مفهوم دكتاتورية البروليتاريا هو مفهوم الدولة. فدكتاتورية البروليتاريا تتضمن بصورة إلزامية مفهوم العنف. ولا وجود للدكتاتورية بدون العنف، إذا فهمنا الدكتاتورية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة يعرّف لينين دكتاتورية البروليتاريا بأنها سلطة تستند مباشرة إلى العنف (المجلد 19، ص 315). وبالتالي فإن الكلام عن دكتاتورية الحزب إزاء طبقة البروليتاريا والمساواة بين هذه الدكتاتورية وبين دكتاتورية البروليتاريا، يعني أن الحزب يجب أن لا يكون لطبقته قائداً وحسب، مرشداً يقول لينين:
من الأكيد أن الجميع تقريباً يرون الآن أنه لم يكن بإمكان البلاشفة الاحتفاظ بالسلطة، لا أقول سنتين ونصف، بل ولا شهرين ونصف، لو لم يوجد في حزبنا انضباط صارم، حديدي حقاً، لو لم تؤيده تأييداً تاماً متفانياً كل جماهير الطبقة العاملة ، أي كل ما فيها من مفكر شريف، من مخلص حتى النهاية، من ناقد، من قادر على تقدم الفئات المتأخرة أو جذبها، (المجلد 25، ص 173).
ويستطرد لينين قائلاً:
دكتاتورية البروليتاريا هي نضال عنيد، دام وغير دام، عنيف وسلمي، عسكري واقتصادي، تربوي وإداري، ضد قوى المجتمع القديم وتقاليده. إن قوة العادة في الملايين وعشرات الملايين هي أرهب قوة. وبدون حزب حديدي تمرس في النضال، بدون حزب يتمتع بثقة كل شريف في الطبقة المعنية، بدون حزب يحسن تتبع مزاج الجماهير والتأثير عليه، يستحيل القيام بمثل هذا النضال بنجاح . (المجلد 25، ص 190).
ولكن كيف يكتسب الحزب ثقة الطبقة وتأييدها؟ وكيف يتكون في الطبقة العاملة الانضباط الحديدي الضروري لدكتاتورية البروليتاريات وعلى أي صعيد ينمو؟ 
هاكم ما يقوله لينين في هذا الصدد:
ما الذي يوطد الانضباط في حزب البروليتاريا الثوري؟ وكيف يراقب. وبم يدعم؟ أولاً، بادراك الطليعة البروليتارية وإخلاصها للثورة، برباطة جأشها وتضحيتها وبطولتها. وثانياً، بمعرفتها الارتباط والاقتراب، وأن شئتم، الاندماج إلى حد معين بأوسع جماهير الشغيلة مع الجماهير البروليتارية في المقام الأول. ولكن كذلك مع جماهير الشغيلة غير البروليتاريين. وثالثاً، بصحة القيادة السياسية التي تمارسها هذه الطليعة، بصحة استراتيجيتها وتكتيكها السياسيين، شريطة أن تقتنع أوسع الجماهير بصحتهما بتجربتها الخاصة . وبدون هذه الشروط لا يمكن تحقيق الانضباط في الحزب الثوري الكفؤ حقاً ليكون حزب الطبقة المتقدمة المدعوة إلى إسقاط البرجوازية وتحويل المجتمع بأسره. إن محاولات خلق الانضباط بدون هذه الشروط، تؤول حتماً إلى هراء، إلى عبارات، إلى تصنع. ومن جهة أخرى فإن هذه الشروط لا يمكن أن تنبثق فجأة. إنها لا تتكون إلا بعمل طويل وبتجربة قاسية؛ ولا تسهل تكوينها إلا نظرية ثورية صحيحة ليست بدورها عقيدة جامدة، ولا تتكون نهائياً إلا بالاتصال الوثيق مع تطبيق حركة جماهيرية حقاً وثورية حقاً . (المجلد 25، ص 174).
وبعد ذلك:
لتأمين الانتصار على الرأسمالية يقتضي وجود علاقات صحيحة بين الحزب القائد، الحزب الشيوعي، والطبقة الثورية، البروليتاريا، وبين الجماهير، أي مجموع الشغيلة والمستثمرين. فالحزب الشيوعي وحده، إذا كان في الواقع طليعة الطبقة الثورية، إذا كان يضم في صفوفه أحسن ممثليها، إذا كان يتألف من شيوعيين مدركين كل الإدراك ومخلصين كل الإخلاص، متنورين ومتمرسين بتجربة نضال ثوري عنيد، إذا أحسن هذا الحزب ومعلماً وحسب، بل وكذلك دكتاتوراً يستخدم العنف إزاء هذه الطبقة، وهذا أمر غير صحيح إطلاقاً. ولهذا السبب فإن من يجعل دكتاتورية الحزب ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً ينطلق ضمناً من إمكان إقامة نفوذ الحزب على العنف إزاء الطبقة العاملة وهو رأي أخرق ولا يتفق إطلاقاً مع اللينينية. يقوم نفوذ الحزب على ثقة الطبقة العاملة، وثقة الطبقة العاملة لا تكتسب بالعنف – الذي يحطمها ليس إلا – بل بصحة نظرية الحزب، بصحة سياسة الحزب، بإخلاص الحزب للطبقة العاملة، بصلته بجماهير الطبقة العاملة، باستعداده وقدرته على إقناع الجماهير بصحة شعاراته .
فماذا يستنتج من كل ذلك؟ 
يستنتج من كل ذلك:
1) أن لينين لم يستعمل كلمة دكتاتورية الحزب بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة ( سلطة تستند مباشرة إلى العنف )، بل بمعناها المجازي، بمعنى انفراده في القيادة.
2) أن من يجعل قيادة الحزب ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً، يشوه لينين، وينسب إلى الحزب خطأ وظائف العنف إزاء الطبقة العاملة بمجموعها.
3) إن من ينسب إلى الحزب ما ليس فيه من وظائف العنف إزاء الطبقة العاملة بمجموعها يخل بأبسط مقتضيات العلاقات الصحيحة المتبادلة بين الطليعة والطبقة، بين الحزب والبروليتاريا.
على هذه الصورة وصلنا بصورة مباشرة إلى مسألة العلاقات المتبادلة بين الحزب والطبقة، بين الحزبيين واللاحزبيين في الطبقة العاملة.
يعرِّف لينين هذه العلاقات المتبادلة بأنها
ثقة متبادلة بين طليعة الطبقة العاملة والجماهير العمالية . (المجلد 26، ص 235).
ما معنى ذلك؟ 
ذلك يعني، أولاً، أن على الحزب أن يصغي بانتباه إلى صوت الجماهير، أن عليه أن يقف موقف العناية من الغريزة الثورية عند الجماهير، أن عليه أن يدرس نضال الجماهير العملي متحققاً بذلك من صحة سياسته وأن عليه، إذن، ألا يعلم الجماهير وحسب، بل وأن يتعلم منها أيضاً.
ذلك يعني، ثانياً، أن على الحزب أن يكتسب ثقة الجماهير البروليتارية يوماً فيوماً، وأن عليه أن يضمن لنفسه، بسياسته وعمله، تأييد الجماهير، وأن عليه ألا يأمر، بل أن يقنع، قبل كل شيء، مسهلاً على الجماهير إدراك صحة سياسة الحزب بتجربتها الخاصة، وأن عليه، إذن، أن يكون قائد طبقته وزعيمها ومعلمها.
إن الإخلال بهذه الشروط يعني الإخلال بالعلاقات الصحيحة المتبادلة بين الطليعة والطبقة، وتقويض الثقة المتبادلة وتفكيك الانضباط الطبقي والحزبي.
ربط نفسه ربطاً محكماً بجميع حياة طبقته، وعن طريقها، بكل جماهير المستثمرين وإلهام هذه الطبقة وهذه الجماهير الثقة التامة . إن حزباً كهذا الحزب هو وحده القادر على قيادة البروليتاريا في النضال النهائي الفاصل، الأشد، ضد جميع قوى الرأسمالية. ومن جهة أخرى، لا تستطيع البروليتاريا، إلا تحت قيادة حزب كهذا الحزب، إظهار كل بأس اندفاعها الثوري محوّلة إلى عدم الخمول المحتوم وحتى المقاومة التي تظهرها أقلية ضئيلة من أريستقراطية العمال التي أفسدتها الرأسمالية، ـ زعماء الحركة التريديونيونية والتعاونية القدماء الخ ـ إظهار كل قوتها التي هي أكبر بما لا يقاس من نسبتها العددية في السكان بحكم نفس التركيب الاقتصادي في المجتمع الرأسمالي (المجلد 25، ص 315).
يستنتج من هاتين الفقرتين:
1) أن نفوذ الحزب والانضباط الحديدي في الطبقة العاملة الضروريان لدكتاتورية البروليتاريا لا يقومان على الخوف أو على حقوق الحزب غير المحدودة ، بل على ثقة الطبقة العاملة بالحزب، على تأييد الطبقة العاملة للحزب.
2) أن ثقة الطبقة العاملة بالحزب لا تكتسب فجأة ولا بوسيلة العنف إزاء الطبقة العاملة، بل بعمل طويل يقوم به الحزب بين الجماهير وبسياسة الحزب الصحيحة وبمعرفة الحزب اقناع الجماهير بصحة سياسته على أساس تجربة الجماهير الخاصة، بمعرفة الحزب أن يضمن لنفسه تأييد الطبقة العاملة وأن يتقدم جماهير الطبقة العاملة.
3) إن قيادة حقة من قبل الحزب لا توجد ولا يمكن أن توجد بدون سياسة صحيحة للحزب مدعمة بتجربة نضال الجماهير وبدون ثقة الطبقة العاملة
4) أن الحزب وقيادته إذا كان يتمتع بثقة الطبقة العاملة وإذا كانت هذه القيادة قيادة حقة لا يمكن أن يتعارضا مع دكتاتورية البروليتاريا، إذ، بدون قيادة الحزب دكتاتورية (الحزب) الذي يتمتع بثقة الطبقة العاملة لا يمكن وجود دكتاتورية بروليتاريا وطيدة ولو إلى أقصر حد.
فنفوذ الحزب والانضباط الحديدي في الطبقة العاملة هما، وبدون هذه الشروط، إما عبارة فارغة وإما غرور ومغامرة.
لا تصح معارضة قيادة دكتاتورية الحزب بدكتاتورية البروليتاريا. لا يصح ذلك لأن قيادة الحزب هي الرئيسي في دكتاتورية البروليتاريا إذا كان المرء يضع نصب عينيه دكتاتورية وطيدة وكاملة لأي حد كان، لا دكتاتورية كما كانت، مثلاً، كومونة باريس التي كانت عبارة عن دكتاتورية غير كاملة وغير وطيدة. لا يصح ذلك لأن دكتاتورية البروليتاريا وقيادة الحزب قائمتان، إن أمكن القول، في خط عمل واحد وتعملان في اتجاه واحد.
يقول لينين:
إن مجرد وضع مسألة دكتاتورية الحزب أو دكتاتورية الطبقة؟ دكتاتورية (حزب) الزعماء أو دكتاتورية (حزب) الجماهير؟ يشهد على وقوع الفكر في حالة من الاضطراب والقنوط لا يمكن تصورها... يعرف الجميع أن الجماهير تنقسم إلى طبقات... وأن الطبقات تقودها عادة وفي أغلب الحالات، على الأقل في البلدان المتمدنة الحديثة، ـ الأحزاب السياسية؛ وأن الأحزاب السياسية تديرها، كقاعدة عامة، جماعات ثابتة إلى حد ما تتألف من الأشخاص الأوسع سلطاناً ونفوذاً والأكثر خبرة ينتخبون إلى أكثر المناصب مسؤولية ويلقبون بالزعماء... فالوصول.. إلى معارضة دكتاتورية الزعماء بدكتاتورية الجماهير، بوجه عام، هو بلادة مضحكة وحماقة . (المجلد 25، ص 187 و 188).
وهذا صحيح كل الصحة، ولكن هذه الموضوعة الصحيحة تنطلق من تلك التوطئة وهي وجود علاقات متبادلة صحيحة بين الطليعة وجماهير العمال، بين الحزب والطبقة. وهي تنطلق من افتراض أن العلاقات المتبادلة بين الطليعة والطبقة تظل، إن أمكن القول، طبيعية، تظل في حدود الثقة المتبادلة .
ولكن ما العمل إذا أختلت العلاقات الصحيحة المتبادلة بين الطليعة والطبقة، إذا اختلت علاقات الثقة المتبادلة بين الحزب والطبقة؟
ما العمل إذا بدأ الحزب بالذات، بشكل أو بأخر، بمعارضة الطبقة مخلاً بأسس العلاقات الصحيحة المتبادلة مع الطبقة، مخلاً بأسس الثقة المتبادلة ؟
وهل يمكن، بوجه عام، وجود حالات كهذه؟ 
أجل، يمكن.
إنها ممكنة:
1) إذا أخذ الحزب يبني نفوذ بين الجماهير على حقوقه غير المحدودة ، لا على عمله وثقة الجماهير.
2) إذا كانت سياسة الحزب غير صحيحة بشكل بين وإذا كان لا يريد إعادة النظر في غلطته وإصلاحها.
3) إذا كانت سياسة الحزب صحيحة، بوجه عام، ولكن الجماهير ليست مستعدة بعد لاستساغتها، والحزب لا يريد أو لا يحسن الانتظار لكيما يعطي الجماهير إمكانية الاقتناع على أساس تجربتها بصحة سياسة الحزب ويحاول فرضها على الجماهير.
إن تاريخ حزبنا يعطي مجموعة كاملة من أمثال هذه الحالات. فمختلف الكتل والفرق في حزبنا قد سقطت وتبعثرت لأنها أخلت بشرط من هذه الشروط الثلاثة وبجميع هذه الشروط مجتمعه في بعض الأحيان. 
ويستنتج من ذلك، إذن أن معارضة دكتاتورية البروليتاريا بـ دكتاتورية (قيادة) الحزب لا يمكن الاعتراف بها صحيحة:
1) إذا فهم المرء دكتاتورية الحزب إزاء الطبقة العاملة لا الدكتاتورية بمعنى هذه الكلمة الحقيقي ( سلطة تستند إلى العنف )، بل قيادة الحزب التي تنفي العنف إزاء الطبقة العاملة بمجموعها، إزاء أكثريتها، كما يفهمها لينين بالضبط.
2) إذا كان الحزب يملك المؤهلات ليكون قائد الطبقة الحقيقي، أي إذا كانت سياسة الحزب صحيحة، إذا كانت هذه السياسة تتفق ومصالح الطبقة.
3) إذا كانت الطبقة، إذا كانت أكثرية الطبقة تقبل هذه السياسة وتستسيغها وتقتنع بصحة هذه السياسة بفضل عمل الحزب والطبقة وتثق بالحزب وتؤيده.
إن الإخلال بهذه الشروط يسبب، حتماً، نزاعاً بين الحزب والطبقة، انشقاقاً بينهما وتعارضهما.
هل يمكن فرض قيادة الحزب على الطبقة بالقوة؟ 
لا، لا يمكن. وعلى كل حال فإن قيادة كهذه لا يمكن أن تكون مديدة لأي حد كان. ينبغي على الحزب. إذا كان يريد أن يظل حزب البروليتاريا، أن يعلم أنه، قبل كل شيء وبصورة رئيسية، قائد الطبقة العاملة، مرشدها ومعلمها . ولا يسعنا أن ننسى الكلمات التي قالها لينين بهذا الصدد في كتابه الدولة والثورة :
إن الماركسية، بتربيتها الحزب العمالي، إنما تربي طليعة البروليتاريا القادرة على استلام السلطة والسير بكل الشعب إلى الاشتراكية، وعلى قيادة وتنظيم نظام جديد، وعلى أن تكون المعلم، القائد والمرشد لكل الشغيلة والمستثمرين لأجل تنظيم حياتهم الاجتماعية، بدون البرجوازية وضد البرجوازية . (المجلد 21، ص 386).
هل يمكن اعتبار الحزب قائداً حقيقياً للطبقة إذا كانت سياسته غير صحيحة، إذا كانت سياسته تصطدم مع مصالح الطبقة؟ 
طبعاً لا يمكن. فإذا كان الحزب يريد أن يظل قائداً ينبغي عليه في مثل هذه الحالات أن يعيد النظر في سياسته، ينبغي عليه أن يصلح سياسته ينبغي عليه أن يعترف بغلطته وأن يصلح. ولتأييد هذه الموضوعة بالإمكان الرجوع، مثلاً، إلى هذا الواقع من تاريخ حزبنا وهو مرحلة إلغاء مصادرة فائض المواد الغذائية، حين كانت جماهير العمال والفلاحين غير راضية بصورة بينة عن سياستنا وحين أقدم الحزب، علناً وبشرف، على إعادة النظر في هذه السياسة. وهاكم ما قاله لينين حينئذ في المؤتمر العاشر بصدد إلغاء مصادرة فائض المواد الغذائية ووضع السياسة الاقتصادية الجديدة:
علينا ألا نحاول أخفاء أمر ما، بل علينا أن نقول بصراحة تامة أن الفلاحين غير راضين عن شكل العلاقات التي قامت عندنا معهم وأنهم لا يريدون هذا الشكل من العلاقات وأنهم لن يواصلوا الحياة على هذا المنوال. أن هذا لا ريب فيه. وقد تجلت رغبتهم هذه بوضوح. وأنها لرغبة الجماهير الغفيرة من السكان الشغيلة. فعلينا أن نحسب حساباً لذلك، ونحن رجال سياسة بصيرون لحد يكفي لكي نقول بصراحة فلنعد النظر بسياستنا إزاء الفلاحين . ( المجلد 26، ص 238).
أيمكن أن يُعتبر من واجب الحزب أن يأخذ المبادرة والقيادة في تنظيم الأعمال الجماهيرية الحاسمة فقط على أساس أن سياسته صحيحة بوجه عام، إذا كانت هذه السياسة لم تنل بعد ثقة وتأييد الطبقة بسبب، لنقل مثلاً، تأخرها السياسي وإذا كان الحزب لم يوفق بعد إلى إقناع الطبقة بصحة سياسته بسبب، لنقل مثلاً، عدم نضوج الحوادث؟ 
لا، لا يمكن، فإذا كان الحزب يريد أن يكون قائداً حقاً ينبغي عليه، في مثل هذه الحالات، أن يحسن الانتظار، ينبغي عليه أن يقنع الجماهير بصحة سياسته. ينبغي عليه أن يساعد الجماهير على الاقتناع بصحة هذه السياسة بتجربتها الخاصة.
إذا لم تكن لدى الحزب الثوري الأكثرية في فصائل الطليعة من الطبقات الثورية وفي البلاد، فإن مسألة الانتفاض لا يمكن أن تطرح . (المجلد 21، ص 282).
لا يمكن أن تحدث الثورة إذا لم تتغير نظرات أكثرية الطبقة العاملة. وهذا التغير تحدثه تجربة الجماهير السياسية . (المجلد 25، ص 221).
لقد اكتسبت الطليعة البروليتارية أيديولوجيا. وهذا هو الأمر الرئيسي. فبدون ذلك لا يمكن حتى أن نخطو خطوة أولى نحو الانتصار. ولكن من هذا إلى الانتصار ما زالت المسافة بعيدة جداً. بالطليعة وحدها يستحيل النصر. والقذف بالطليعة وحدها إلى المعركة الفاصلة، ما دامت الطبقة بكاملها، ما دامت الجماهير الغفيرة لم تقف من الطليعة إما موقف التأييد المباشر أو على الأقل، موقف الحياد المشبع بالعطف والعجز التام عن إسداء المساعدة لعدوها، لا يكون حماقة وحسب، إنما يكون جريمة أيضاً. ولكيما تصل الطبقة بكاملها حقاً والجماهير الغفيرة حقاً من الشغيلة ومظلومي رأس المال إلى الوقوف هذا الموقف، فلبلوغ ذلك ينبغي أن تغتني الجماهير بتجربتها السياسية الخاصة . ( نفس المصدر، ص 228).
ومن المعروف أن حزبنا سلك هذا السلوك عينه في غضون المرحلة المنصرمة منذ أن وضع لينين موضوعات نيسان حتى انتفاضة أكتوبر سنة 1917، وقد انتصرت الانتفاضة بالضبط لأنه عمل وفق إرشادات لينين هذه.
هذه هي، من حيث الأساس، شروط العلاقات الصحيحة بين الطليعة والطبقة.
وما هي القيادة إذا كانت سياسة الحزب صحيحة وإذا لم تختل العلاقات الصحيحة بين الطليعة والطبقة؟ 
القيادة، في مثل هذه الشروط، تعني معرفة أقناع الجماهير بصحة سياسة الحزب، معرفة وضع وتطبيق شعارات تصل بالجماهير إلى مواقف الحزب وتسهل عليها أدراك صحة سياسة الحزب على أساس تجربتها الخاصة، معرفة رفع الجماهير إلى مستوى أدراك الحزب، وعلى هذا النحو، ضمان تأييدها واستعدادها للنضال الحاسم.
ولذا فإن طريقة الإقناع هي الطريقة الأساسية في قيادة الحزب للطبقة العاملة.
يقول لينين:
لو وضعنا نحن الآن، في روسيا، بعد سنتين ونصف من انتصارات لا نظير لها على برجوازية روسيا والحلفاء الاعتراف بالدكتاتورية كشرط للانتساب إلى النقابات لأقترفنا حماقة، لفقدنا نفوذنا على الجماهير ولساعدنا المناشفة. لأن كل واجب الشيوعيين هو معرفة إقناع المتأخرين، معرفة العمل بينهم، لا الانفصال عنهم بشعارات يسارية من مخيلات الصبيان . ( المجلد 25، ص 197).
ولا ينبغي طبعاً أن يُفهم من ذلك أن على الحزب أن يقنع جماهير العمال عن آخرهم وأن البدء بالعمل لا يمكن إلا بعد ذلك، وأن الشروع بالعمل لا يمكن إلا بعد ذلك. أبداً! إن هذا يعني فقط أن من واجب الحزب، قبل البدء بعمل سياسي حاسم، أن يضمن لنفسه، عن طريق عمل ثوري طويل، تأييد أكثرية جماهير العمال، وعلى الأقل، حياد أكثرية الطبقة مع عطفها عليه. وإلا يفقد كل معنى المبدأ اللينيني القائل بأن اكتساب الحزب لأكثرية الطبقة العاملة هو شرط لا بد منه لانتصار الثورة.
ولكن ما العمل بالأقلية إذا كانت لا تريد، إذا كانت لا توافق طوعاً على الخضوع لإرادة الأغلبية؟ أيستطيع الحزب، أيجب على الحزب، إذا كان يتمتع بثقة الأغلبية، إجبار الأقلية على الخضوع لإرادة الأكثرية؟ 
أجل يستطيع ذلك ويجب عليه أن يفعل ذلك. إن الحزب يؤمن قيادته بطريقة إقناع الجماهير باعتبارها الطريقة الأساسية لتأثير الحزب على الجماهير. ولكن هذا لا ينفي الإجبار، بل يفترضه، إذا كان هذا الإجبار يستند على ثقة أكثرية الطبقة العاملة بالحزب وتأييدها له، إذا طبق حيال الأقلية بعد أن تم أقناع الأكثرية.
من المفيد أن نتذكر الجدال الذي دار في حزبنا حول هذا الموضوع في مرحلة المناقشات بصدد النقابات. بمَ كانت تتلخص آنئذ غلطة المعارضة، غلطة اللجنة المركزية لنقابة النقليات الحديدية والمائية؟ أليس في كون المعارضة كانت تعتبر الإجبار آنئذ أمراً ممكناً! لا. ليس في ذلك. إن غلطة المعارضة كانت تتلخص آنئذ في كونها، مع عجزها عن إقناع الأكثرية بصحة موقفها، وبعد أن فقدت ثقة الأكثرية، أخذت مع ذلك تطبق الإجبار أخذت تصر على معاقبة الناس المتمتعين بثقة الأكثرية.
وهاكم ما قاله آنئذ في المؤتمر العاشر للحزب في خطابه عن النقابات:
لإقامة العلاقات المتبادلة. الثقة المتبادلة بين طليعة الطبقة العاملة والجماهير العمالية كان ينبغي، إذا كانت اللجنة المركزية لنقابة النقليات الحديدة والمائية قد اقترفت غلطة...، كان ينبغي إصلاح هذه الغلطة. ولكن حين يُبدأ بالدفاع عن هذه الغلطة يصبح ذلك منبع خطر سياسي. ولو لم نحقق الحد الأقصى الممكن في اتجاه الديمقراطية، آخذين بعين الاعتبار الحالة الفكرية التي أفصح عنها هنا كوتوزوف، لوصلنا إلى أخفاق سياسي. يجب علينا أن نقنع قبل كل شيء ومن ثم نجبر. يجب علينا أن نقنع بادئ ذي بدء مهما كلف الأمر، ومن ثم نجبر . نحن لم نستطع إقناع الجماهير الغفيرة وأخللنا بالعلاقات الصحيحة بين الطليعة والجماهير . (المجلد 26، ص 235).
والشيء نفسه يقوله لينين في كراسه بصدد النقابات :
لقد طبقنا الإجبار بصورة صحيحة وبتوفيق حين أحسسنا في بادىء الأمر أقامته على أساس من الإقناع . (نفس المصدر، ص 74).
هذا صحيح كل الصحة. لأنه لا يمكن ممارسة أية قيادة بدون هذه الشروط. لأن وحدة العمل في الحزب، إذا كان الحديث يدور عن الحزب، وحدة عمل الطبقة، إذا كان الحديث يدور عن الطبقة بمجموعها، لا يمكن أن تُضمن إلا على هذه الصورة، وبدون ذلك، يحدث الإنشقاق والتشتت والانحلال في صفوف الطبقة العاملة.
هذه هي، بوجه عام، أسس قيادة الحزب للطبقة العاملة قيادة صحيحة.
وكل مفهوم آخر للقيادة هو نقابية، فوضوية، بيروقراطية، وكل ما شئتم إلا البلشفية، إلا اللينينية.
لا تصح معارضة قيادة (دكتاتورية) الحزب بدكتاتورية البروليتاريا إذا كانت هنالك علاقة صحيحة متبادلة بين الحزب والطبقة العاملة، بين الطليعة وجماهير العمال. فيستنتج من ذلك إذن أنه، بالأحرى، لا يصح جعل الحزب والطبقة العاملة، قيادة ( دكتاتورية الحزب ودكتاتورية الطبقة العاملة)، شيئاً واحداً. فعلى أساس بطلان معارضة دكتاتورية البروليتاريا بدكتاتورية الحزب وصل سورين إلى ذلك الاستنتاج غير الصحيح القائل بأن دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية حزبنا .
ولكن لينين لم يتكلم قط عن بطلان مثل هذه المعارضة. لقد تكلم في الوقت نفسه عن بطلان معارضة دكتاتورية الزعماء بدكتاتورية الجماهير . فهلا نجعل على هذا الأساس دكتاتورية الزعماء ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً؟ ولئن سلكنا هذه الطريق ينبغي علينا أن نقول أن دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية زعمائنا . فإلى هذه الحماقة بالضبط تؤدي، بكل وضوح، سياسة جعل دكتاتورية الحزب ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً...
وما هو أمر زينوفييف بهذا الصدد؟
يتمسك زينوفييف، في الجوهر، كسورين، بنفس وجهة نظر جعل دكتاتورية الحزب ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً، ولكن مع هذا الفارق وهو أن سورين يفصح عن نفسه بصراحة ووضوح في حين يعمد زينوفييف إلى اللف والدوران . وحسب المرء، لكيما يقتنع بذلك، أن يقرأ ولو الفقرة التالية من كتاب زينوفييف اللينينية .
يقول زينوفييف:
ما هو النظام القائم في الاتحاد السوفياتي من وجهة نظر مضمونه الطبقي؟ إنه دكتاتورية البروليتاريا. وما هو لولب السلطة المباشر في الاتحاد السوفياتي؟ من يمارس سلطة الطبقة العاملة؟ أنه الحزب الشيوعي! وبهذا المعنى لدينا دكتاتورية الحزب. وما هو شكل السلطة الحقوقي في الاتحاد السوفياتي؟ ما هو طراز الدولة الجديد الذي خلقته ثورة أكتوبر؟ إنه النظام السوفياتي. وأحدهما لا يناقض الآخر بتاتاً .
أما أن أحدهما لا يناقض الآخر فهو صحيح، طبعاً، إذا فهم المرء من دكتاتورية الحزب إزاء الطبقة العاملة بمجموعها قيادة الحزب. ولكن كيف يمكن أن توضع على هذا الأساس علامة المساواة بين دكتاتورية البروليتاريا و دكتاتورية الحزب، بين النظام السوفياتي و دكتاتورية الحزب؟ لقد جعل لينين نظام مجالس السوفيات ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً، وقد كان على حق، لأن مجالس السوفيات، لأن مجالسنا السوفياتية، هي منظمة ترص جماهير الشغيلة حول البروليتاريا تحت قيادة الحزب. ولكن متى وضع لينين وفي أي مكان وفي أي مؤلف من مؤلفاته علامة المساواة بين دكتاتورية الحزب ودكتاتورية البروليتاريا، بين دكتاتورية الحزب ونظام مجالس السوفيات، كما يفعل ذلك الآن زينوفييف؟ ليس فقط قيادة ( دكتاتورية ) الحزب، بل وحتى قيادة ( دكتاتورية ) الزعماء لا تناقض دكتاتورية البروليتاريا. فهلا يُعلن على هذا الأساس بأن بلادنا هي بلاد دكتاتورية البروليتاريا، أي بلاد دكتاتورية الحزب، أي بلاد دكتاتورية الزعماء؟ فإلى هذه الحماقة، بالضبط، يؤدي مبدأ جعل دكتاتورية الحزب ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً، المبدأ الذي يطبقه زينوفييف خلسة وبجبن.
في مؤلفات لينين العديدة لم أوفق إلى العثور إلا على خمس حالات يمس فيها لينين عابراً مسألة دكتاتورية الحزب.
الحالة الأولى هي في جداله مع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، حيث يقول:
حين يأخذون علينا دكتاتورية الحزب الواحد ويقترحون، كما سمعتم، الجبهة الاشتراكية الموحدة، نقول: أجل، دكتاتورية حزب واحد! نحن نتمسك بذلك ولا نستطيع الخروج عن هذا الصعيد، لأنه هو ذلك الحزب الذي اكتسبت خلال عشرات السنين مكانة طليعة جميع بروليتاريا المصانع والمعامل، جميع البروليتاريا الصناعية . (المجلد 24، ص 423).
والحالة الثانية هي في رسالته إلى العمال والفلاحين بصدد الانتصار على كولتشاك حيث يقول:
يخيفون الفلاحين (ولا سيما المناشفة والاشتراكيون الثوريون، جميعهم حتى اليساريون منهم) بفزيعة دكتاتورية الحزب الواحد ، دكتاتورية حزب البلاشفة – الشيوعيين.
وقد تعلم الفلاحين، بمثل كولتشاك، عدم الخوف من الفزيعات.
فإما دكتاتورية (أي السلطة الحديدية) كبار ملاكي الأراضي والرأسماليين وإما دكتاتورية الطبقة العاملة . (المجلد 24، ص 436).
والحالة الثالثة هي في خطاب لينين في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أثناء جداله مع تانير. وقد استشهدت بهذا الخطاب فيما تقدم.
والحالة الرابعة هي بضعة أسطر في كتاب مرض الشيوعية الطفولي اليسارية وقد ذكرت الفقرات المناسبة فيما تقدم.
والحالة الخامسة هي في الصورة التي رسمها عن دكتاتورية البروليتاريا والتي نشرت في المجلد الثالث من مؤلفات لينين المختارة تحت عنوان صغير دكتاتورية حزب واحد (مؤلفات لينين المختارة المجلد 3، ص 497).
وينبغي أن نذكر أن لينين، في حالتين من خمس، في الحالتين الأخيرة والثانية، وضع كلمات دكتاتورية حزب واحد بين مزدوجتين مشيراً بصورة بيِّنة إلى عدم دقة هذه الصيغة، إلى معناها المجازي. وينبغي أن نذكر كذلك أن لينين، في جميع هذه الحالات، قصد من دكتاتورية الحزب الدكتاتورية ( السلطة الحديدية ) على كبار ملاكي الأراضي والرأسماليين ، لا على الطبقة العاملة، برغم تخرصات كاوتسكي وشركائه وافترائهم.
والجدير بالذكر هو أن في أي مؤلف من مؤلفات لينين الأساسية والثانوية التي تناول فيها أو ذكر ببساطة بدكتاتورية البروليتاريا وبدور الحزب في نظام دكتاتورية البروليتاريا لم يقل، ولو تلميحاً، أن دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية حزبنا . بالعكس، إن كل صفحة، كل سطر من هذه المؤلفات ينفث الحمم ضد صيغة كهذه الصيغة (راجع الدولة والثورة ، الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، مرض الشيوعية الطفولي اليسارية والخ).
والأجدر بالذكر أننا لا نجد كلمة واحدة، كلمة واحدة بالمعنى الحرفي، عن دكتاتورية الحزب، في موضوعات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية عن دور الحزب السياسي، تلك الموضوعات التي وضعت تحت أشراف لينين مباشرة والتي أستشهد بها لينين مراراً وتكراراً في خطاباته باعتبارها نموذج الصيغة الصحيحة لدور الحزب ومهماته.
عمَّ يشهد كل ذلك؟ 
يشهد على:
أ – أن لينين لم يعتبر صيغة دكتاتورية الحزب صيغة لا تشوبها شائبة، صيغة دقيقة، لهذا السبب لم ترد في مؤلفات لينين إلا في النادر جداً ووضعت في بعض الأحيان بين مزدوجين.
ب – أن لينين في تلك الحالات النادرة التي كان فيها مضطراً، أثناء الجدال مع الخصوم، إلى التكلم عن دكتاتورية الحزب، كان يتكلم عادة عن دكتاتورية حزب واحد ، أي عن واقع أن حزبنا يتسلم السلطة وحده، وأنه لا يشاطر الأحزاب الأخرى السلطة، وقد كان يشرح دائماً أنه ينبغي أن يفهم أن دكتاتورية الحزب إزاء الطبقة العاملة قيادة الحزب، دوره كقائد.
ج – أن لينين في جميع تلك الحالات التي كان يعتبر فيها من الضروري أن يحدد عملياً دور الحزب في نظام دكتاتورية البروليتاريا، لم يتكلم إلا عن دور الحزب كقائد (وهذه الحالات تعد بالألوف) إزاء الطبقة العاملة.
د – إن لينين، لهذا السبب بالضبط، لم يفكر في إدراج صيغة دكتاتورية الحزب في القرار السياسي عن دور الحزب – أعني قرار المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية.
هـ– إن أولئك الرفاق الذين يجعلون أو يحاولون أن يجعلوا دكتاتورية الحزب، وعليه دكتاتورية الزعماء ودكتاتورية البروليتاريا شيئاً واحداً هم غير محقين من وجهة نظر لينين وقصيروا النظر سياسياً، لأنهم بذلك يخلون بشروط العلاقات الصحيحة المتبادلة بين الطليعة والطبقة.
هذا فضلاً عن أن صيغة دكتاتورية الحزب مأخوذة بدون التحفظات التي ذكرتها أعلاه، يمكنها أن تخلق العديد من الأخطار والنواقص السياسية في نشاطنا العملي. فبهذه الصيغة، مأخوذة بدون تحفظات، كأنها يُوحى:
أ – إلى جماهير اللاحزبيين: لا تجرأوا على الأخذ والرد، لا تجرأوا على النقاش، لأن الحزب قادر على كل شيء، لأن عندنا دكتاتورية الحزب.
ب – إلى الملاكات الحزبية: شددوا ضغطكم، بوسعكم ألا تصغوا إلى صوت جماهير اللاحزبيين، لأن عندنا دكتاتورية الحزب. 
ج – إلى قواد الحزب: بوسعكم أن تسمحوا لأنفسكم بشيء من زهو الإعجاب بالنفس، وربما حتى بالخيلاء، لأن عندنا دكتاتورية الحزب و عليه دكتاتورية الزعماء أيضاً.
من المفيد أن نذكر بهذه الأخطار في الوقت الحاضر بالضبط، في مرحلة نهوض نشاط الجماهير السياسي، حين غدا استعداد الحزب للأصغاء بانتباه إلى صوت الجماهير أمراً ذا أهمية خاصة بالنسبة إلينا، حين غدت العناية بحاجات الجماهير وصية حزبنا الأساسية، حين يطلب من الحزب منتهى التبصر والمرونة في السياسة، حين غدا خطر الخيلاء أخطر الأخطار التي تواجه الحزب في أمر قيادة الجماهير قيادة صحيحة.
لا يسع المرء إلا أن يتذكر كلمات لينين الذهبية التي قالها في المؤتمر الحادي عشر لحزبنا:
لسنا نحن (الشيوعيين – ج. ستالين) في الجماهير سوى قطرة في بحر، ونحن لا نستطيع ممارسة الحكم إلا عندما نعبر على وجه صحيح عما يتحسسه الشعب. بدون ذلك لن يقود الحزب الشيوعي البروليتاريا ولن تقود البروليتاريا الجماهير وتتفكك كل الآلة . (المجلد 27، ص 256).
التعبير على وجه صحيح عما يتحسسه الشعب هو، بالضبط، ذلك الشرط الضروري الذي يضمن للحزب الدور المشرف، دون القوة القائدة الأساسية في نظام دكتاتورية البروليتاريا.
--------------------
- 6 -مسألة انتصار الاشتراكية في بلد واحد
تضمن كتاب "أسس اللينينية" (أيار سنة 1924، الطبعة الأولى) صيغتان فيما يخص مسألة انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة. تنص الصيغة الأولى:
"فيما مضى كانوا يعتبرون أن انتصار الثورة في بلاد واحدة أمر غير ممكن، حاسبين، أنه لا بد، للانتصار على البرجوازية، من أن يعمل معاً بروليتاريو جميع البلدان المتقدمة أو، على كل حال، معظم هذه البلدان. ووجهة النظر هذه قد غدت، في الوقت الحاضر، لا تتفق مع الواقع. في الوقت الحاضر ينبغي الانطلاق من إمكانية هذا الانتصار، لأن تطور مختلف البلدان الرأسمالية بصورة غير متساوية وبقفزات في ظروف الاستعمار؛ تطور التناقضات المهلكة في داخل الاستعمار، التناقضات التي تفضي إلى حروب لا مفر منها؛ ونمو الحركة الثورية في جميع بلدان العالم، ـ كل هذا لا يؤدي فقط إلى إمكانية انتصار البروليتاريا في البلدان بمفردها، بل أيضاً إلى ضرورة انتصارها" (أسس اللينينية).
إن هذه الصيغة صحيحة كل الصحة وهي لا تحتاج إلى تعليقات.
إنها موجهة ضد نظرية الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يعتبرون من الخيار استيلاء البروليتاريا على السلطة في بلاد واحدة، دون ثورة ظافرة تجري بوقت واحد في بلدان أخرى .
ولكن كتاب "أسس اللينينية" يحوي صيغة أخرى. فقد جاء فيه: 
"ولكن إسقاط سلطة البرجوازية وإقامة سلطة البروليتاريا في بلاد واحدة لا يعني بعد ضمان انتصار الاشتراكية انتصاراً كاملاً. إن مهمة الاشتراكية الرئيسية – تنظيم الإنتاج الاشتراكي – لا تزال قضية مستقبل. فهل يمكن حل هذه القضية، هل يمكن الوصول إلى انتصار الاشتراكية انتصاراً نهائياً في بلاد واحدة بدون جهود مشتركة يبذلها بروليتاريو عدة بلدان متقدمة؟ لا، لا يمكن ذلك. فلإسقاط البرجوازية تكفي جهود بلاد واحدة – وهذا ما يقوله لنا تاريخ ثورتنا. وأما لانتصار الاشتراكية انتصاراً نهائياً، لتنظيم الإنتاج الاشتراكي، فلا تكفي جهود بلاد واحدة، ولا سيما بلاد فلاحين كروسيا – لذلك لا بد من جهود بروليتاريي عدة بلدان متقدمة" "أسس اللينينية". (الطبقة الأولى).
إن هذه الصيغة الثانية قد كانت موجهة ضد مزاعم نقاد اللينينية، ضد التروتسكيين، الذين كانوا يعلنون أن دكتاتورية البروليتاريا في بلاد واحدة، مع عدم وجود الانتصار في البلدان الأخرى، لا تستطيع "الصمود ضد أوروبا المحافظة".
بهذا المقدار – وبهذا المقدار فقط – كانت هذه الصيغة كافية آنذاك (أيار سنة 1924) وقدمت، دون ريب، فائدة بينة.
ولكن فيما بعد، حين تمت الغلبة في الحزب على انتقاد اللينينية في هذا الحقل وحين طرحت على بساط البحث مسألة أخرى، مسألة إمكانية بناء مجتمع اشتراكي كامل بقوى بلادنا وبدون مساعدة من الخارج، ظهرت الصيغة الثانية غير كافية بصورة جلية، وبالتالي غير صحيحة.
بمَ يتلخص نقص هذه الصيغة؟
يتلخص نقصها في كونها تربط في مسألة واحدة مسألتين مختلفتين هما مسألة أمكانية بناء الاشتراكية بقوى بلاد واحدة، وهو ما ينبغي أن يجاب عليه بالإيجاب، ومسألة ما إذا كانت بلاد دكتاتورية البروليتاريا تستطيع أن تعتبر نفسها مضمونة بصورة تامة ضد التدخل، وعليه، ضد أعادة الأوضاع القديمة، بدون ثورة ظافرة في مجموعة من البلدان الأخرى، وهو ما ينبغي أن يجاب عليه بالنفي. هذا فضلاً عن أن بوسع هذه الصيغة أن تحمل على الظن بأن تنظيم المجتمع الاشتراكي بقوى بلاد واحدة أمر لا يمكن، وهو غير صحيح طبعاً.
على هذا الأساس عدلت، أصلحت هذه الصيغة في كراسي: "ثورة أكتوبر وتكتيك الشيوعيين الروسي" (كانون الأول، سنة 1924). مقسماً هذه المسألة إلى مسألتين، إلى مسألة الضمانة التامة ضد أعادة الأوضاع البرجوازية ومسألة أمكانية بناء مجتمع اشتراكي كامل في بلاد واحدة. وقد توصلت إلى ذلك، أولاً، من زاوية النظر إلى "انتصار الاشتراكية التام" أصبح باعتباره "ضمانة تامة ضد أعادة الأوضاع القديمة"، وهي ضمانة غير ممكنة إلا "بجهود مشتركة يبذلها بروليتاريو عدة بلدان" و"ثانياً، عن طريق المناداة، على أساس كراس لينين "حول جمعيات تعاون"، بتلك الحقيقة التي لا تقبل الجدل، وهي أن لدينا كل ما يلزم لبناء مجتمع اشتراكي كامل "ثورة أكتوبر وتكتيك الشيوعيين الروس" ).
إن هذه الصيغة الجديدة للمسألة قد غدت أساساً للقرار المعروف "بصدد مهمات الأممية الشيوعية والحزب الشيوعي (البلشفي) الروسي" المتخذ في الإجتماع الحزب الرابع عشر والذي يبحث مسألة انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة من زاوية ارتباطها مع استقرار الرأسمالية (نيسان سنة 1925) ويعتبر بناء الاشتراكية بقوى بلادنا أمراً ممكناً وضرورياً.
وقد غدت كذلك أساساً لكراسي "حول نتائج أعمال الإجتماع الرابع عشر للحزب الشيوعي (البولشفي) الروسي" الذي صدر مباشرة إثر الاجتماع الحزبي الرابع عشر، في أيار سنة 1925.
وقد قيل في هذا الكراس فيما يخص مسألة انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة:
"إن بلادنا تمثل مجموعتين من التناقضات. المجموعة الأولى من التناقضات هي التناقضات الداخلية القائمة بين البروليتاريا والفلاحين (يدور الحديث هنا عن بناء الاشتراكية في بلاد واحدة. ج. ستالين). والمجموعة الثانية من التناقضات هي التناقضات الخارجية الموجودة بين بلادنا، بوصفها بلاد الاشتراكية، وجميع البلدان الأخرى، بوصفها بلدان الرأسمالية (يدور الحديث هنا عن انتصار الاشتراكية النهائي. ج. ستالين)"... "ومن يخلط المجموعة الأولى من التناقضات، التي يمكن التغلب عليها بصورة تامة بجهود بلاد واحدة، بالمجموعة الثانية من التناقضات التي يتطلب حلها جهود بروليتاريي عدة بلدان فإنه يقترف أفحش غلطة ضد اللينينية. وهو أما مشوش وإما انتهازي لا يمكن إصلاحه" (حول نتائج أعمال الاجتماع الرابع عشر للحزب الشيوعي (البولشفي) الروسي".
وقيل في الكراس بصدد انتصار الاشتراكية في بلادنا:
"نحن نستطيع أن نبني الاشتراكية بناءً ناجزاً وسنبنيها مع الفلاحين تحت قيادة الطبقة العاملة"... لأنه "في ظل دكتاتورية البروليتاريا لدينا.. كل المؤهلات الضرورية لبناء مجتمع اشتراكي كامل متغلبين على جميع الصعوبات الداخلية بأنواعها، لأن بوسعنا ومن واجبنا التغلب عليها بقوانا الخاصة". (نفس المصدر).
أما بصدد انتصار الاشتراكية النهائي فقد قيل في الكراس:
"إن انتصار الاشتراكية النهائي هو الضمانة التامة ضد محاولات التدخل، وعليه ضد أعادة الأوضاع القديمة، لأن أية محاولة، جدية ولو لحد ما، لإعادة الأوضاع القديمة لا يمكن أن تحدث إلا بتأييد جدي من الخارج، إلا بتأييد رأس المال العالمي. ولذا فتأييد عمال جميع البلدان لثورتنا، وبالأحرى، انتصار هؤلاء العمال ولو في عدة بلدان هو شرط ضروري لضمان البلاد الظافرة الأولى ضمانة تامة ضد محاولات التدخل وإعادة الأوضاع القديمة، هو شرط ضروري لانتصار الاشتراكية انتصاراً نهائياً". (نفس المصدر).
أعتقد أنه واضح.
ومن المعروف أن هذه المسألة قد بحثت بالروح ذاتها في كراسي "أسئلة وأجوبة" (حزيران سنة 1925) وفي تقرير اللجنة المركزية السياسي للمؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي (البولشفي) في الاتحاد السوفييتي (كانون الأول سنة 1925).
هذه هي الوقائع.
واحسب أن جميع الرفاق يعرفون هذه الوقائع بمن فيهم زينوفييف.
وإذا كان زينوفييف يعتبر الآن، بعد مرور زهاء سنتين على الصراع الإيديولوجي في الحزب وبعد القرار المتخذ في الاجتماع الحزبي الرابع عشر (نيسان سنة 1925)، أن بوسعه، في كلمته الختامية في المؤتمر الحزبي الرابع عشر (كانون الأول سنة 1925)، أن يأخذ من كراس ستالين صيغة قديمة غير كافية أبداً، كتبت في نيسان سنة 1924، ليجعل منها أساساً لحل مسألة قد حلت هي مسألة انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة – فإن سلوك زينوفييف الغريب هذا ينبىء فقط بأنه قد ضلَّ نهائياً في هذه المسألة. إن جر الحزب إلى الوراء بعد أن خطا إلى الأمام وتجنب قرار الاجتماع الحزب الرابع عشر بعد أن صادقت عليه اللجنة المركزية في جمعيتها العامة(45) ، يعني الوقوع بيأس في التناقضات وعدم الإيمان بقضية بناء الاشتراكية والخروج عن طريق لينين والاعتراف بالهزيمة.
ما هي إمكانية انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة؟
إنها إمكانية حل التناقضات بين البروليتاريا والفلاحين بقوى بلادنا الداخلية، إمكانية استيلاء البروليتاريا على السلطة والاستفادة من هذه السلطة لبناء مجتمع اشتراكي كامل في بلادنا مع عطف وتأييد بروليتاريي البلدان الأخرى، ولكن بدون انتصار الثورة البروليتارية مقدماً في البلدان الأخرى.
وبدون إمكانية كهذه يكون بناء الاشتراكية بناءً لا يحدوه الأمل ولا اليقين ببنائها بصورة ناجزة. لا يمكن بناء الاشتراكية بدون يقين بإمكانية بنائها ناجزة، بدون يقين بأن تأخر بلادنا من الناحية التكتيكية ليس بعقبة لا يمكن التغلب عليها في طرق بناء مجتمع اشتراكي كامل. وإنكار هذه الإمكانية هو عدم الإيمان بقضية بناء الاشتراكية، هو إعراض عن اللينينية.
وما هي استحالة انتصار الاشتراكية انتصاراً تاماً ونهائياً في بلاد واحدة بدون انتصار الثورة في بلدان أخرى؟
إنها استحالة وجود ضمانة تامة ضد التدخل، وعليه، ضد إعادة الأوضاع البرجوازية، بدون انتصار الثورة في عدد من البلدان على الأقل. وإنكار هذا المبدأ الذي لا جدال فيه هو أعراض عن الأممية، أعراض عن اللينينية.
يقول لينين:
"نحن لا نعيش في دولة وحسب، بل في نظام دول، ووجود الجمهورية السوفياتية إلى جانب الدول الاستعمارية خلال مدة طويلة أمر لا يمكن تصوره. ففي نهاية الأمر تنتصر إما هذه وإما تلك. ولكن قبل الوصول إلى هذه الخاتمة لا مفر من سلسلة من أفظع الإصطدامات بين الجمهورية السوفياتية والدول البرجوازية. ومعنى ذلك أنه يتوجب على الطبقة السائدة، البروليتاريا، إذا كانت تريد السيادة وإذا كانت ستسود، أن تبرهن على ذلك بتنظيمها العسكري أيضاً". (المجلد 24، ص 122).
يقول لينين في مكان آخر:
"نحن نواجه توازناً ما متقلباً لأقصى حد، ولكنه على كل حال لا يقبل الريب ولا الجدال، لا أدري ما إذا كان لزمن طويل وأظن أن من غير الممكن معرفة ذلك. ولهذا السبب يجب علينا أن نكون في منتهى الحذر. فأولى الدلائل التي أعطتها سياستنا، والعبرة الأولى من نشاطنا الحكومي خلال سنة، العبرة التي يجب أن يستوعبها جميع العمال والفلاحين هي أن يكونوا دوماً على أهبة الاستعداد، أن يتذكروا أننا محاطون بأناس، بطبقات، بحكومات تعبر على المكشوف عن أشد الحقد علينا. يجب أن نتذكر أننا دوماً على قيد شعرة من الغزو". (المجلد 27، ص 117).
أعتقد أنه واضح.
وكيف يتصور زينوفييف مسألة انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة؟
أسمعوا:
"من انتصار الاشتراكية النهائي على المرء أن يفهم على الأقل:
1) القضاء على الطبقات، وعليه،
2) إلغاء دكتاتورية الطبقة الواحدة، وفي هذه الحالة، دكتاتورية البروليتاريا"... ويستطرد زينوفييف قائلاً: "ولكيما نتبين بصورة أدق كيف طرحت المسألة عندنا – في الاتحاد السوفياتي – في سنة 1925، يجب التمييز بين أمرين:
1) ضمان إمكانية بناء الاشتراكية – وإمكانية كهذه لبناء الاشتراكية يمكن، طبعاً، تصورها تماماً في نطاق بلاد واحدة،
2) بناء الاشتراكية النهائي وتوطيدها، أي تحقيق النظام الاشتراكي ، المجتمع الاشتراكي".
وما يعني كل ذلك؟
ذلك يعني أن زينوفييف لا يفهم من انتصار الاشتراكية النهائي في بلاد واحدة الضمانة ضد التدخل وإعادة الأوضاع البرجوازية القديمة، بل إمكانية بناء المجتمع الاشتراكي ناجزاً. ويفهم زينوفييف من انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة على انه بناء اشتراكي ليس بمقداره ولا يجب عليه أن يؤدي إلى بناء الاشتراكية الناجز. بناء في أيدي القدر، بدون آفاق، بناء للاشتراكية بدون إمكانية بناء المجتمع الاشتراكي ناجزاً. هذا هو موقف زينوفييف. إن تبنى الاشتراكية بدون إمكانية إنجازها، أن تبني وأنت تعلم أنك لن تنجز البناء – إلى هذا الحد بلغ زينوفييف من عدم الترابط.
ولكن ليس حلاً للمسألة، بل هزءاً بها.
وهاكم فقرة أخرى من كلمة زينوفييف الختامية في مؤتمر الحزب الرابع عشر:
"انظروا، مثلاً، إلى أي درك تردى الرفيق ياكوفيلف في الإجتماع الأخير للحزب الشيوعي في مقاطعة كورسك. فهو يسأل: "هل يمكننا في بلاد واحدة، ونحن مطوقون من جميع الجهات بأعداء رأسماليين، هل يمكننا، في هذه الظروف، أن نبني الاشتراكية ناجزة في بلاد واحدة؟" ويجيب: "على أساس كل ما قيل يحق لنا أن نقول أننا لا نبني الاشتراكية وحسب، بل وسنبني هذه الاشتراكية ناجزة مع أننا لا نزال وحدنا حتى الآن، مع أننا لا نزال البلاد السوفياتية، الدولة السوفياتية الوحيدة في العالم". ("كورسكايا برافدا" العدد 279، الثامن من كانون الأول سنة 1925).
ويسأل زينوفييف: "وهل هذه طريقة لينينية لطرح المسألة؟ أفلا تفوح منها رائحة ضيق الأفق الوطني؟" 
على هذه الصورة يُستنتج، حسب رأي زينوفييف، أن الاعتراف بإمكانية بناء الاشتراكية ناجزة في بلاد واحدة يعني الأخذ بوجهة نظر ضيق الأفق الوطني وأن إنكار هذه الإمكانية يعني الأخذ بوجهة نظر الأممية.
ولكن إذا كان هذا صحيحاً فهل من معنى، بوجه عام، للنضال في سبيل الأنصار على العناصر الرأسمالية في اقتصادنا. ألا يستنتج من ذلك أن مثل هذا الأنتصار أمر مستحيل؟
الاستسلام أمام العناصر الرأسمالية في اقتصادنا، - هذا ما يؤدي إليه كنه منطق حجج زينوفييف.
ويقدم لنا زينوفييف عدم الترابط هذا، الذي لا يجمعه جامع باللينينية، على أن "الأممية، على أنه اللينينية مئة في المئة"!
إني أجزم بأن زينوفييف يعرض عن اللينينية في مسألة عامة للغاية هي مسألة بناء الاشتراكية، منزلقاً إلى وجهة نظر المنشفي سوخانوف. 
فلنتوجه إلى لينين. وهاكم ما قاله قبل ثورة أكتوبر، في أب سنة 1915، عن انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة:
"تفاوت التطور الاقتصادي والسياسي هو قانون الرأسمالية المطلق. ومن هنا يُستنتج أن انتصار الاشتراكية أمر ممكن باديء ذي بدء في عدد قليل من البلدان الرأسمالية أو حتى في بلاد رأسمالية واحدة مأخوذة على حدة. والبروليتاريا الظافرة في هذه البلاد، بعد أن تنزع ملكية الرأسماليين وتنظم الإنتاج الاشتراكي في بلادها تهب ضد بقية العالم الرأسمالي، جاذبة إليها الطبقات المظلومة في البلدان الأخرى حاثة أياها للانتفاض على الرأسماليين، وتمارس عند الضرورة، حتى القوة العسكرية ضد الطبقات المستثمرة ودولها". (المجلد 18، ص 232 – 233).
ماذا تعني عبارة لينين المشار إليها: "تنظيم الإنتاج الاشتراكي في بلادها"؟ إنها تعني أن البروليتاريا البلاد الظافرة تستطيع ويجب عليها أن تنظم في بلادها الإنتاج الاشتراكي بعد أخذ السلطة وماذا يعني "تنظيم الإنتاج الاشتراكي"؟ أنه يعني على أن مبدأ بناء المجتمع الاشتراكي. ولا حاجة للبرهان قط على أن مبدأ لينين الواضح والدقيق هذا ليس بحاجة لأية تعليقات. وإلا يكون غير مفهومة نداءات لينين إلى البروليتاريا لأخذ السلطة في تشرين الأول سنة 1917.
وترون أن مبدأ لينين الجلي هذا يختلف اختلاف السماء والأرض عن "مبدأ" زينوفييف المشوش والمعادي للينينية، القائل أن بإمكاننا بناء الاشتراكية "في نطاق بلاد واحدة" في حالة استحالة إنجاز بنائها. 
لقد قال لينين ذلك في سنة 1915، قبل أخذ البروليتاريا للسلطة؛ ولكن لعله غير رأيه بعد تجربة أخذ السلطة، بعد سنة 1917؟ فلنراجع كراس لينين "حول جمعيات التعاون" الذي كتبه سنة 1923. 
يقول لينين:
"في الواقع، سلطة الدولة عي جميع وسائل الإنتاج الضخمة، سلطة الدولة في أيدي البروليتاريا، تحالف هذه البروليتاريا مع الملايين والملايين من الفلاحين الصغار والصغار جداً، ضمان قيادة هذه البروليتاريا للفلاحين والخ، - أليس هذا كل ما يلزم لكي نبني، بواسطة جمعيات التعاون وجمعيات التعاون وحدها، جمعيات التعاون التي كنا ننظر إليها سابقاً نظرتنا إلى جمعيات ذات صفة تجارية والتي يحق لنا، من ناحية معينة، أن ننظر إليها الآن ذات النظرة في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة، أليس ما هو ضروري لكي نبني مجتمعاً اشتراكياً كاملاً؟ إن هذا ليس بناء المجتمع الاشتراكي بعد، ولكن هذا كل ما هو ضروري وكاف لهذا البناء". (المجلد 27، ص 392).
وبعبارة أخرى: يمكننا ويجب علينا أن نبني مجتمعاً اشتراكياً كاملاً، لأن تحت تصرفنا كل ما هو ضروري وكاف لهذا البناء.
يبدو لي أن من العسير الإفصاح بصورة أوضح.
قارنوا مبدأ لينين الكلاسيكي هذا مع الرد المعادي للينينية، رد زينوفييف على ياكوفليف فتفهمون أن ياكوفليف لم يفعل أكثر من تكرار كلمات لينين عن إمكانية بناء الاشتراكية ناجزة في بلاد واحدة، في حين أن زينوفييف، بوقوفه ضد هذا المبدأ وبتقريعه لياكوفليف، قد ابتعد عن لينين وأخذ بوجهة نظر المنشفي سوخانوف، بوجهة النظر القائلة باستحالة بناء الاشتراكية ناجزة في بلادنا بسبب تأخرها التكنيكي.
لا نعرف ما دعانا لأخذ السلطة في تشرين الأول سنة 1917 إذ كنا لم نحسب أننا سنبني الاشتراكية ناجزة؟
ما كان ينبغي أخذ السلطة في تشرين الأول سنة 1917، - أنظروا إلى أي استنتاج يؤدي كنه منطق حجج زينوفييف.
وبعد، فإني أجزم بأن زينوفييف، في مسألة هامة للغاية هي مسألة انتصار الاشتراكية، يخرج على قرارات حزبنا الدقيقة جداً والمسجلة في القرار المعروف المتخذ في الاجتماع الحزبي الرابع عشر "عن مهمات الأممية الشيوعية والحزب الشيوعي (البولشفي) الروسي وارتباطها بالجمعية العامة الموسعة للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية".
فلنرجع هذا القرار. وهاكم ما جاء فيه بصدد انتصار الاشتراكية في بلاد واحدة:
"وجود نظامين اجتماعيين متضادين مباشرة بسبب خطراً دائماً هو خطر الحصار الرأسمالي وأشكال الضغط الاقتصادي الأخرى والتدخل المسلح وإعادة الأوضاع البرجوازية القديمة. والضمانة الوحيدة لانتصار الاشتراكية النهائي. أي الضمانة ضد إعادة الأوضاع البرجوازية القديمة ، هي، إذن الثورة الاشتراكية المظفرة في مجموعة من البلدان...." "تعلم اللينينة أن انتصار الاشتراكية النهائي بمعنى الضمانة التامة ضد إعادة العلاقات البرجوازية لا يمكن إلا في النطاق العالمي..." "ومن هذا لا يستنتج بتاتاً أن بناء المجتمع الاشتراكي الكامل في بلاد متأخرة كروسيا لا يمكن بدون "مساعدة دول" (تروتسكي) بلدانها أكثر تطوراً من الناحيتين الاقتصادية والتكنيكية". (راجع القرار).
وأنتم ترون أن القرار يفسر انتصار الاشتراكية النهائي بأنه ضمانة ضد التدخل وإعادة الأوضاع البرجوازية القديمة، وهذا ما يخالف تماماً التفسير الذي يعطيه زينوفييف في كتابه "اللينينية".
وأنتم ترون أن القرار يعترف بإمكان بناء المجتمع الاشتراكي كاملاً في بلاد متأخرة كروسيا بدون "مساعدة دول" بلدانها أكثر تطوراً من الناحيتين الاقتصادية والتكنيكية، وهذا ما يخالف تماماً التأكيد المضاد الذي جاء به زينوفييف في رده على ياكوفليف ضمن كلمته الختامية في مؤتمر الحزب الرابع عشر.
وكيف نسمي ذلك إن لم يكن نضالاً من قبل زينوفييف ضد قرار الاجتماع الحزبي الرابع عشر؟
إن قرارات الحزب ليست، طبعاً، معصومة من الزلل في بعض الأحيان. فقد يحدث أن تتضمن قرارات الحزب الأخطاء. وبوسعنا أن نفترض، بوجه عام، أن قرار الاجتماع الحزبي الرابع عشر يتضمن كذلك بعض الأخطاء. ويحتمل أن يعلن ذلك بجلاء وعلى المكشوف، كما يليق ببلشفي. بيد أن زينوفييف لا يفعل ذلك لسبب ما. لقد فضل اختيار طريق أخرى، طريق مهاجمة قرار الاجتماع الحزبي الرابع عشر من المؤخرة دون أن يذكر هذا الاجتماع الحزبي الرابع عشر من المؤخرة دون أن يذكر هذا القرار بحرف، دون أن يوجه لهذا القرار أي انتقاد مكشوف. ويظن زينوفييف، على ما يظهر، أن هذه الطريق هي أحسن الطرق لإصابة الهدف. أما هدفه فواحد، وهو أن "يحسن" القرار وأن يصلح لينين "قليلاً ما". ولا حاجة للبرهان فقط على أن زينوفييف قد أخطأ في حساباته.
ما هو مصدر غلطة زينوفييف؟ وأين جذر هذه الغلطة؟ 
يكمن جذر هذه الغلطة، حسب رأيي، في اعتقاد زينوفييف بأن تأخر بلادنا التكنيكي عقبة لا يمكن تذليلها في طريق بناء المجتمع الاشتراكي ناجزة بسبب تأخر بلادنا التكنيكي. لقد جرب زينوفييف وكامينيف يوماً ما عرض هذه الحجة في جلسة من جلسات لجنة الحزب المركزية، قبل الاجتماع الحزبي المنعقد في نيسان . ولكنهما حصلا على رد قاس فاضطرا على التقهقر بالخضوع شكلاً لوجهة النظر المعاكسة، وجهة نظر أكثر اللجنة المركزية،/ ولكن زينوفييف، إذ خضع لوجهة النظر هذه شكلاً، واصل نضاله ضدها طيلة الوقت. وهاكم ما تقوله لجنة حزبنا في موسكو عن هذا "الحادث" في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (البولشفي) الروسي في "جوابها" على رسالة الاجتماع الحزبي لمقاطعة لينينغراد:
"لأمد غير بعيد دافع كامينيف وزينوفييف في المكتب السياسي عن وجهة النظر التي تزعم أن ليس بإمكاننا تذليل الصعوبات الداخلية بسبب تأخرنا التكنيكي والاقتصادي، إذا لم تنقذنا الثورة العالمية. أما نحن فنعتقد، مع أكثرية اللجنة المركزية، أن بوسعنا بناء الاشتراكية وأننا نبنيها وسننجز بناءها بصرف النظر عن تأخرنا التكنيكي ورغماً عنه. نحن نعتقد أن هذا البناء سيسير طبعاً بخطى أبطأ جداً مما لو كان في ظروف انتصار عالمي، ولكننا على كل حال نسير وسنواصل السير إلى الأمام. ونحن نعتبر كذلك أن وجهة نظر كامينيف وزينوفييف تعبر عن عدم الإيمان بالقوى الداخلية لطبقتنا العاملة ولجماهير الفلاحين التي تتبعها ونعتبر أن وجهة النظر هذه إعراض عن الموقف اللينيني".
لقد ظهرت هذه الوثيقة في الصحف خلال الجلسات الأولى التي عقدها المؤتمر الحزبي الرابع عشر. وقد كان بإمكان زينوفييف، طبعاً، أن يرد على هذه الوثيقة في المؤتمر نفسه. والجدير بالذكر أن زينوفييف وكامينيف لم يجدا في جعبتهما حججاً ضد هذا الإتهام الخطير الذي وجهته إليهما لجنة حزبنا في موسكو. هل هذا من قبيل الصدف؟ إني لا أظنه من قبيل الصدف. لقد أصاب الاتهام الهدف، على ما يظهر. "فأجاب" زينوفييف وكامينيف على هذا الاتهام بالصمت لأنهما لم يجدا ما "يفتك" به.
تشكو "المعارضة الجديدة" من اتهام زينوفييف بعدم الإيمان بقضية انتصار البناء الاشتراكي في بلادنا. ولكن إذا كان زينوفييف بعدم الإيمان بقضية انتصار الاشتراكي في بلاد واحدة خلال سنة كاملة، وبعد أن رد مكتب اللجنة المركزية السياسي (نيسان سنة 1925) وجهة نظر زينوفييف، وبعد أن كوّن الحزب رأياً معيناً بشأن هذه المسألة سُجل في القرار المعروف المتخذ في الاجتماع الحزبي الرابع عشر (نيسان 1925)، إذا كان زينوفييف بعد كل ذلك يجرأ على الوقوف ضد وجهة نظر الحزب في كتابه "اللينينية" (أيلول سنة 1925) وإذا كان قد كرر فيما بعد هذا الموقف في مؤتمر الحزب الرابع عشر، فكيف يفسر كل هذا، كيف يفسر هذا العناد، هذا الإصرار على التمسك بأخطائه إذا لم يفسر بكون زينوفييف مصاباً، مصاباً حتى القرار، بعدم الإيمان بقضية انتصار البناء الاشتراكي في بلادنا؟
يحلو لزينوفييف أن يفسر عدم إيمانه هذا بأنه من الأممية. ولكن منذ متى أصبح الأعراض عن اللينينية في مسألة أساسية من مسائل اللينينية يفسر عندنا، بأنه من الأممية؟
أليس من الأصوب أن يقال أن زينوفييف، لا الحزب، يقترف، في هذا الحقل، الأثم ضد الأممية والثورة العالمية؟ لأنه، ما هي بلادنا "الآخذة في بناء الاشتراكية" إن لم تكن قاعدة للثورة العالمية؟ ولكن أيمكنها أن تكون قاعدة حقيقية للثورة العالمية إن لم تكن أهلاً لبناء المجتمع الاشتراكي ناجزاً؟ وهل بإمكانها أن تظل مركز الجاذبية العظيم لعمال جميع البلدان، كما هي دون ريب في الوقت الحاضر، إن لم تكن أهلاً لإحراز النصر، على العناصر الرأسمالية في اقتصادنا، لإحراز انتصار البناء الاشتراكي؟ أظن أنها لا تستطيع ذلك. ولكن ألا يُستنتج من ذلك أن عدم الإيمان بانتصار البناء الاشتراكي والتبشير بعدم الإيمان يؤدي إلى خلع بلادنا من مقامها باعتبارها قاعدة للثورة العالمية، وأن خلع بلادنا من مقامها يؤدي إلى أضعاف الحركة الثورية العالمية؟ بم كان السادة الاشتراكيون الديمقراطيون يبعدون عنا العمال؟ بتبشير مآله أن "الروس لن يفلحوا". وبمَ نصفع الآن الاشتراكيين الديمقراطيين جاذبين إلينا كوكبة كاملة من وفود العمال وموطدين بذلك مواقف الشيوعية في العالم بأسره؟ بنجاحاتنا في حقل بناء الاشتراكية أفليس من الواضح بعد ذلك أن من يبشر بعدم الإيمان بنجاحاتنا في حقل بناء الاشتراكية يساعد الاشتراكيين الديمقراطيين بصورة غير مباشرة، ويضعف نهضة الحركة الثورية العالمية ويعرض حتماً عن الأممية؟
وترون أن أمر "أممية" زينوفييف ليس بأفضل من "لينينيته المئة في المئة" في مسألة بناء الاشتراكية في بلاد واحدة.
ولهذا السبب كان موقف المؤتمر الحزبي الرابع عشر صحيحاً إذ عرّف نظرات "المعارضة الجديدة" بأنها "عدم إيمان بقضية بناء الاشتراكية" هو "تحريف اللينينية".
(45) هي الجمعية العامة التي عقدتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (البولشفي) الروسي من 23 إلى 30 نيسان 1925. وقد أقرت الجمعية العامة القرارات المتخذة في الاجتماع الرابع عشر للحزب ومنها قرار "عن مهمات الأممية الشيوعية والحزب الشيوعي (البولشفي) الروسي وارتباطها بالجمعية العامة الموسعة للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. والقرار يؤيد موقف الحزب في مسألة انتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي.
- 7 -
النضال في سبيل انتصار البناء الاشتراكي
أظن أن عدم الإيمان بانتصار البناء الاشتراكي هو الخطأ الأساسي الذي تقترفه "المعارضة الجديدة". وهذا الخطأ هو الأساسي، حسب رأيي. لأنه منشأ جميع الأخطاء الأخرى التي تقترفها "المعارضة الجديدة". فأخطاء "المعارضة الجديدة" في مسائل السياسة الاقتصادية الجديدة ورأسمالية الدولة وطبيعة صناعتنا الاشتراكية ودور جمعيات التعاون في ظل دكتاتورية البروليتاريا وطرق النضال ضد الكولاك ودور الفلاحين المتوسطين ووزنهم النسبي، إن جميع هذه الأخطاء ناشئة من الخطيئة الأساسية التي تقترفها المعارضة. من عدم الإيمان بإمكان بناء مجتمع اشتراكي بقوى بلادنا.
ما هو عدم الإيمان بانتصار البناء الاشتراكية في بلادنا؟
إنه، قبل كل شيء، انعدام اليقين بإمكان اجتذاب جماهير الفلاحين الأساسية، بحكم الظروف الخاصة بتطور بلادنا، إلى قضية البناء الاشتراكي.
إنه، ثانياً، انعدام اليقين بكفاءة بروليتاريا بلدنا، التي تهيمن على مراكز قيادة الاقتصاد الوطني. لجذب الجماهير الأساسية من الفلاحين إلى قضية البناء الاشتراكي.
من هذين المبدأين تنطلق المعارضة ضمناً في نظرتها عن طرق تطورنا، سواء كانت تفعل ذلك عن إدراك أو عن غير ادارك.
فهل يمكن جذب الجماهير الأساسية من الفلاحين السوفياتيين إلى قضية البناء الاشتراكي؟
يتضمن كتاب "أسس اللينينية" صيغتان أساسيتان حول هذا الموضوع:
1) "لا يصح الخلط بين فلاحي الاتحاد السوفياتي فلاحي الغرب. فالفلاحون الذين اجتازوا مدرسة ثلاثة ثورات والذين ناضلوا ضد القيصر وسلطة البرجوازية مع البروليتاريا وتحت قيادتها، الفلاحون الذين نالوا الأرض والسلم على أيدي الثورة البروليتارية والذين أصبحوا، بسبب ذلك، احتياطاً للبروليتاريا إن هؤلاء الفلاحين يختلفون، لا محالة، عن الفلاحين الذين ناضلوا في زمن الثورة البرجوازية تحت قيادة البرجوازية الحرة ونالوا الأرض على أيدي هذه البرجوازية وأصبحوا، بسبب ذلك، احتياطاً للبرجوازية، ولا حاجة للبرهان قط على أن الفلاحين السوفياتيين الذين اعتادوا تقدير الصداقة السياسية والتعاون السياسي مع البروليتاريا والمدينين بحريتهم لهذه الصداقة ولهذا التعاون، لا يسعهم إلا أن يكونوا ميداناً ملائماً جداً للتعاون الاقتصادي مع البروليتاريا".
2) "لا يصح الخلط بين الاقتصاد الزراعي في روسيا والاقتصاد الزراعي في الغرب. هناك، يسير تطور الاقتصاد الزراعي في اتجاه الرأسمالية العادي، في ظرف تفاوت طبقي عميق بين الفلاحين، مع الأملاك الواسعة والإقطاعات الرأسمالية الخاصة في قطب العوز والبؤس وعبودية المأجورين في القطب الآخر. هناك، التفكك والإنحلال هما، بسبب ما تقدم، أمران طبيعيان تماماً. والأمر على غير ذلك في روسيا. لا يستطيع تطور الاقتصاد الزراعي عندنا أن يسلك مثل هذه الطريق، ذلك لأن وجود السلطة السوفياتية وتأميم أدوات ووسائل الإنتاج الرئيسية يحول دون مثل هذا التطور. ينبغي على تطور الاقتصاد الزراعي في روسيا أن يسلك طريقاً أخرى، طريق التعاونيات التي تضم الملايين من صغار الفلاحين ومتوسطيهم، طريق تطوير جمعيات تعاونية جماهيرية في القرى تدعمها الدولة بسلف متهاودة. لقد أشار لينين، وهو على حق، في مقالاته عن الجمعيات التعاونية، طريق إدخال مبادىء التعاونية إلى الاقتصاد الزراعي بالتدريج، في البدء في حقل التصريف وثم في حقل إنتاج محاصيل الاقتصاد الزراعي.
ولا حاجة للبرهان على أن الأغلبية الكبرى من الفلاحين ستسير بملء أرادتها في طريق التطور الجديد هذه، رافضة طريق الإقطاعات الرأسمالية الخاصة وعبودية العمل المأجور، طريق البؤس والخراب".
هل هاتان الموضوعتان صحيحتان؟
أعتقد أن هاتين الموضوعتين صحيحتين لا غبار عليهما طيلة مرحلتنا في البناء في ظروف السياسة الاقتصادية الجديدة.
فهما ليستا أكثر من تعبير عن موضوعات لينين المعروفة عن تحالف البروليتاريا والفلاحين وعن أدراج استثمارات الفلاحين في نظام تطور البلاد الاشتراكية وعن أنه من واجب البروليتاريا أن تسير نحو الاشتراكية مع جماهير الفلاحين الأساسية وعن أن انتساب الملايين من جماهير الفلاحين إلى الجمعيات التعاونية هو جادة البناء الاشتراكي في القرى وأن "نمو الجمعيات التعاونية البسيط ونمو الاشتراكية هما، بالنسبة إلينا، شيء واحد" في ظرف نمو صناعتنا الاشتراكية (المجلد 27، ص 396).
وفي الواقع، في أية طريق يمكن ويجب، أن يسير تطور استثمارات الفلاحين في بلادنا؟
إن استثمارات الفلاحين ليست باستثمارات رأسمالية. فاستثمارات الفلاحين، إذا أخذت الأكثرية الساحقة من استثمارات الفلاحين، هي استثمارات إنتاج صناعي صغير. وما هي استثمارات الفلاحين ذات الإنتاج البضاعي الصغير؟ إنها استثمارات تقف على مفترق الطرق بين الرأسمالية والاشتراكية. فبوسعها أن تتطور سواء في اتجاه الرأسمالية، كما يحدث الآن في البلدان الرأسمالية، وسواء في اتجاه الاشتراكية، كما ينبغي أن يحدث عندنا، في بلادنا، في ظل دكتاتورية البروليتاريا.
ما هو منشأ عدم ثبات، عدم استقلال استثمارات الفلاحين؟ وبمَ يفسر؟
إنه يفسر بتبعثر استثمارات الفلاحين، بكونها غير منظمة، بتوقفها على المدينة، على الصناعة، على نظام التسليف، على صفة السلطة في البلاد، وأخيراً، على ذلك الواقع الذي يعرفه الجميع وهو أن القرية تتبع ويجب عليها أن تتبع المدينة سواء في الناحية المادية أو في الناحية الثقافية.
إن الطريق الرأسمالي لتطور استثمارات الفلاحين تعني التطور عبر تفاوت طبقي عميق بين الفلاحين، الأملاك الكبيرة في قطب وبؤس الجماهير في القطب الآخر. ولا مفر من طريق التطور هذا في البلدان الرأسمالية، لأن القرية، لأن استثمارات الفلاحين تتوقف على المدينة، على الصناعة، على التسليف المتمركز في المدينة، على صفة السلطة؛ وفي المدينة يسود البرجوازية، الصناعة الرأسمالية، نظام التسليف الرأسمالي وسلطة الدولة الرأسمالية.
وهل أن طريق تطور استثمارات الفلاحين هذه، هي إلزامية في بلادنا، التي تختلف فيها معالم المدينة كل الاختلاف، وتوجد فيها الصناعة في أيدي البروليتاريا، وتمركزت فيها وسائل النقل ونظام التسليف وسلطة الدولة الخ. في أيدي البروليتاريا وغدا فيها تأميم الأرض قانوناً عاماً في البلاد. إنها غير الزامية طبعاً. بالعكس، فبالضبط لأن المدينة هي قائد القرية، وفي المدينة تسود عندنا البروليتاريا القابضة على جميع مراكز القيادة في الاقتصاد الوطني، لهذا السبب بالضبط، يتوجب على استثمارات الفلاحين أن تسلك، في تطورها، طريقاً أخرى، طريق البناء الاشتراكي.
ما هي هذه الطريق؟
إنها طريق انضمام الملايين من استثمارات الفلاحين أفواجاً إلى الجمعيات التعاونية بجميع أشكالها، طريق تكتل استثمارات الفلاحين المبعثرة حول الصناعة الاشتراكية، طريق غرس مبادىء التعاونية بين الفلاحين، في بادىء الأمر في ميدان تصريف المنتجات الزراعية وتموين استثمارات الفلاحين بمنتجات المدن وثم في ميدان الإنتاج الزراعي.
وكلما أوغلنا في السير كلما أصبحت هذه الطريق أمراً لا مناص منه في ظروف دكتاتورية البروليتاريا، لأن التعاون في حقل التصريف، التعاون في حقل التموين، وأخيراً التعاون في حقل التسليف والإنتاج (الجمعيات الزراعية) هو الطريق الوحيدة لزيادة رخاء الريف، هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ جماهير الفلاحين الغفيرة من البؤس والخراب.
يقال أن الفلاحين عندنا ليسوا اشتراكيين من حيث وضعهم وأنهم، لهذا السبب، غير أهل للتطور الاشتراكي. وصحيح طبعاً، أن الفلاحين ليسوا اشتراكيين من حيث وضعهم. ولكن هذا ليس بحجة ضد تطور استثمارات الفلاحين في طريق الاشتراكية إذا كان من المحقق أن القرية تتبع المدينة وأن الأمر والنهي في المدينة للصناعة الاشتراكية. فأثناء ثورة أكتوبر لم يكن الفلاحون كذلك اشتراكيين من حيث وضعهم، وهم لم يريدوا قط إقامة الاشتراكية في البلاد. إن ما كانوا يسعون إليه، بوجه خاص، في ذلك الحين، هو القضاء على سلطة كبار ملاكي الأراضي وإنهاء الحرب وإقرار السلام. بيد أنهم قد ساروا في ذلك الحين وراء البروليتاريا الاشتراكية. لماذا؟ ذلك لأن إسقاط البرجوازية وأخذ البروليتاريا الاشتراكية للسلطة كانا في ذلك الحين الطريق الوحيد للخروج من الحرب الاستعمارية، الطريق الوحيد لإقرار السلام. ذلك لأنه لم توجد في ذلك الحين ولم يكن بالإمكان وجود طرق أخرى. ذلك لأن حزبنا قد وفق في ذلك الحين إلى تحسس وإيجاد الدرجة التي تجمع بين مصالح الفلاحين الخاصة (إسقاط كبار ملاكي الأراضي، السلام) وبين مصلحة البلد العامة (دكتاتورية البروليتاريا) وإخضاع الأولى للثانية، الدرجة التي جاءت مقبولة ومفيدة للفلاحين وقد سار الفلاحون في ذلك الحين وراء البروليتاريا الاشتراكية، برغم طبيعتهم غير الاشتراكية.
والشيء نفسه يجب أن يقال عن البناء الاشتراكي في بلادنا وعن جذب الفلاحين إلى مجرى هذا البناء. إن الفلاحين ليسوا اشتراكيين من حيث وضعهم. ولكن يجب عليهم أن يسلكوا طريق التطور الاشتراكي، وسيسلكونها حتماً، لأنه لا توجد ولا يمكن وجود طرق أخرى، لإنقاذ الفلاحين من البؤس والخراب، غير التحالف مع البروليتاريا، غير التحالف مع الصناعة الاشتراكية، غير إدخال استثمارات الفلاحين في طريق التطور الاشتراكي العامة عبر انتساب الفلاحين إلى الجمعيات التعاونية أفواجاً.
ولماذا بالضبط، عبر انتساب الفلاحين إلى الجمعيات التعاونية أفواجاً؟
لأننا، في انتساب الفلاحين إلى الجمعيات التعاونية أفواجاً، "قد وجدنا درجة التنسيق بين المصلحة الخاصة، المصلحة التجارية الخاصة، وبين ضبط الدولة لها وأشرافها عليها، درجة إخضاعها للمصلحة العامة" (لينين)، الدرجة المقبولة للفلاحين والمفيدة لهم والتي تؤمن للبروليتاريا إمكانية جذب جماهير الفلاحين الأساسية إلى قضية البناء الاشتراكي. وبالضبط لأن من مصلحة الفلاحين تنظيم تصريف بضائعهم وتموين استثماراتهم بالماكينات عن طريق الجمعيات التعاونية، لهذا السبب بالضبط، يجب عليهم أن يسلكوا وسيسلكون، طريق الانتساب أفواجاً إلى الجمعيات التعاونية.
وما معنى انضمام استثمارات الفلاحين أفواجاً إلى الجمعيات التعاونية، في حال سيادة الصناعة الاشتراكية؟
إنه يعني ابتعاد اقتصاد الفلاحين البضاعي الصغير عن الطريق الرأسمالية القديمة المنطوية على خراب الفلاحين أفواجاً والانتقال إلى طريق تطور جديدة، إلى طريق البناء الاشتراكي.
ولذا فالنضال في سبيل الطريق الجديد لتطور اقتصاديات الفلاحين النضال في سبيل جذب جماهير الفلاحين الأساسية إلى قضية بناء الاشتراكية، هو واجب حزبنا المباشر.
ولذا فقد كان موقف المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي (البولشفي) في الاتحاد السوفياتي صحيحاً إذ قرر:
"تكمن الطريق الأساسية لبناء الاشتراكية في الريف، - في ظرف تعاظم دور صناعة الدولة الاشتراكية ودوائر التسليف الحكومية وغيرها من مراكز الإشراف الموجودة في أيدي البروليتاريا – في جذب جماهير الفلاحين الأساسية إلى المنظمة التعاونية وضمان تطور اشتراكي لهذه المنظمة باستخدام عناصرها الرأسمالية وبالتغلب على هذه العناصر وإزاحتها" (راجع قرار المؤتمر بصدد تقرير اللجنة المركزية).
إن أفدح غلطات "المعارضة الجديدة" تتلخص في كونها لا تؤمن بطريق تطور الفلاحين الجديدة هذه، لا ترى أو لا تفهم أنه لا مفر من هذا الطريق في ظروف دكتاتورية البروليتاريا. وهي لا تفهم ذلك لأنها لا تؤمن بانتصار البناء الاشتراكي في بلادنا، لا تؤمن بكفاءة بروليتاريا بلادنا على جر الفلاحين وراءها في الطريق المؤدية إلى الاشتراكية. 
من هنا عدم فهم طابع السياسة الاقتصادية الجديدة المزدوج والمبالغ بالنواحي السلبية في السياسة الاقتصادية الجديدة وتأويل السياسة الاقتصادية الجديدة بأنها تقهقر في معظمها.
من هنا المبالغة بدور العناصر الرأسمالية في اقتصادنا والتقليل من دور مخول تطورنا الاشتراكي (الصناعة الاشتراكية، نظام التسليف، الجمعيات التعاونية، سلطة البروليتاريا،الخ).
من هنا عدم فهم الطبيعة الاشتراكية لصناعة دولتنا والشك في صحة مشروع لينين حول الجمعيات التعاونية.
من هنا تكبير التفاوت الطبقي في القرى والذعر من الكولاك والتقليل من دور الفلاحين المتوسط ومحاولة إحباط سياسة الحزب في حقل تأمين تحالف وطيد مع الفلاح المتوسط، وبوجه عام، القفز من جانب إلى آخر في مسألة سياسة الحزب في الريف.
من هنا عدم فهم ذلك العمل الكبير الذي يقوم به الحزب في حقل جذب الملايين من جماهير العمال والفلاحين إلى المساهمة في بناء الصناعة والاقتصاد الزراعي، في إنعاش الجمعيات التعاونية ومجالس السوفيات، في إدارة البلاد، في النضال ضد البيروقراطية، في النضال من أجل تحسين جهاز دولتنا وإعادة سبكه، هذا النضال الذي يستهل مرحلة جديدة في التطور والذي لا يمكن بدونه تصور أي بناء اشتراكي.
من هنا القنوط والارتباط أمام صعوبات بنائنا والشك في إمكان تصنيع بلادنا وثرثرة التشاؤم بصدد تفسخ الحزب وإلى ما هنالك.
تسير الأمور عندهم، عند البرجوازية، بصورة حسنة لهذا الحد أو ذاك، أما عندنا، عند البروليتاريين، فهي سيئة لهذا الحد أو ذاك؛ وإن لم تحدث الثورة في الغرب في وقتها فالذنب ذنبنا – هذه هي النغمة العامة "للمعارضة الجديدة"، وهي، حسب رأيي، نغمة دعاة التصفية، والتي تحاول المعارضة لسبب ما، (ربما لتسلية الناس) إظهارها بمظهر "الأممية":
تقول المعارضة أن السياسة الاقتصادية الجديدة هي الرأسمالية. ويقول زينوفييف أن السياسة الاقتصادية الجديدة هي تقهقر في معظمها. وكل هذا غير صحيح طبعاً. فالسياسة الاقتصادية الجديدة هي، في الواقع، سياسة الحزب التي تسلم بصراع العناصر الاشتراكية والرأسمالية وتستهدف انتصار العناصر الاشتراكية على العناصر الرأسمالية. والواقع أن السياسة الاقتصادية الجديدة ابتدأت بالتراجع فقط، ولكنها ترمي إلى إعادة حشد القوى أثناء التراجع وإلى شن الهجوم. ونحن نهاجم، في الواقع، منذ عدة سنوات، ونهاجم بنجاح، مطورين صناعتنا، موسعين التجارة السوفياتية ومضيقين على رأس المال الخاص.
ولكن ما مغزى صيغة: السياسة الاقتصادية الجديدة هي الرأسمالية، السياسة الاقتصادية الجديدة هي تقهقر في معظمها؟ وما هو منشأ هذه الصيغة؟
إن منشأها هو افتراض غير صحيح مآله أن ما يجري عندنا الآن هو مجرد إعادة للرأسمالية، مجرد "عودة" للرأسمالية. فبهذا الافتراض وحده يمكن تفسير شكوك المعارضة فيما يخص الطبيعة الاشتراكية في صناعتنا، وبهذا الافتراض وحده يمكن تفسير ذعر المعارضة في التشبث بأرقام غير صحيحة عن تفاوت الفلاحين الطبقي. وبهذا الافتراض وحده يمكن تفسير نسيان المعارضة الغريب لواقع أن الفلاح المتوسط هو، عندنا، الشخصية المركزية في الزراعة. وبهذا الافتراض وحده يمكن تفسير عدم تقدير أهمية الفلاح المتوسط النسبية حق التقدير والشكوك فيما يخص المشروع التعاوني الذي وضعه لينين. بهذا الافتراض وحده يمكن "تعليل" عدم إيمان "المعارضة الجديدة" بالطريق الجديد لتطور الريف، بطريق جذب الريف إلى البناء الاشتراكي.
وما يجري عندنا الآن، في الواقع، ليس تطوراً وحيد الجانب لإعادة الرأسمالية، بل تطوراً مزدوجاً، تطوراً إلى الرأسمالية وتطوراً إلى الاشتراكية، إنه سير متناقض، سير نضال العناصر الاشتراكية ضد العناصر الرأسمالية. وهذا لا جدال فيه سواء بشأن المدينة حيث تكون صناعة الدولة قاعدة الاشتراكية وسواء بشأن الريف حيث يكون انتساب الجماهير للجمعيات التعاونية المرتبطة بالصناعة الاشتراكية المخل الأساسي للتطور الاشتراكي.
إن إعادة الرأسمالية بهذه البساطة أمر مستحيل، ذلك بسبب أن السلطة في بلادنا هي سلطة البروليتاريا، والصناعة الضخمة في أيدي البروليتاريا، ووسائل النقل والتسليف هما تحت تصرف الدولة البروليتارية.
لا يستطيع التفاوت الطبقي في الريف أن يبلغ مقاييسه السابقة، ويظل الفلاح المتوسط الجمهور الأساسي في الفلاحين، ولا يستطيع الكولاك استرداد قوته السابقة ذلك بسبب أن الأرض قد أصبحت عندنا ملكاً للأمة ورفعت من التداول ولأن سياستنا في ميادين التجارية والتسليف والضرائب والجمعيات التعاونية. تهدف إلى تحديد نزعات الكولاك الاستثمارية وإلى زيادة رخاء الجماهير الغفيرة من الفلاحين وإيجاد التوازن في الريف. هذا فضلاً عن أن النضال ضد الكولاك لا يسير عندنا في الوقت الحاضر في الاتجاه القديم وحسب، في اتجاه تنظيم الفقراء ضد الكولاك، بل يسير أيضاً في اتجاه جديد، في اتجاه تعزيز تحالف البروليتاريا والفقراء مع جماهير المتوسطين من الفلاحين ضد الكولاك. وواقع أن المعارضة لا تفهم معنى وأهمية النضال ضد الكولاك حسب هذا الاتجاه الثاني، هذا الواقع يؤكد مرة أخرى أن المعارضة تعرّج على الطريق القديم لتطور الريف، على طريق تطوره الرأسمالي، حين كان الكولاك والفلاح الفقير يؤلفان القوتين الأساسيتين في الريف بينما كان الفلاح المتوسط "يذوب".
تقول المعارضة أن الجمعيات التعاونية هي ضرب من رأسمالية الدولة مستندة، في ذلك، إلى مؤلف لينين "الضريبة العينية"، وهي، بسبب ذلك، لا تؤمن بإمكانية الاستفادة من الجمعيات التعاونية كمخل أساسي للتطور الاشتراكي. وتقترف المعارضة خطيئة فاحشة في هذا الحقل أيضاً. فهذا التفسير للجمعيات التعاونية قد كان كافياً ومرضياً في سنة 1921، حين كُتب مؤلف "الضريبة العينية"، حين لم تكن لدينا صناعة اشتراكية متطورة، حين كان لينين يتصور رأسمالية الدولة شكلاً أساسياً محتملاً لإدارتنا الاقتصادية وحين كان ينظر للجمعيات التعاونية بالاقتران مع رأسمالية الدولة. ولكن هذا التفسير قد غدا الآن غير كاف وقد تخطاه التاريخ، لأن الأزمنة قد تغيرت منذ ذلك الحين، فقد تطورت الصناعة الاشتراكية عندنا ولم تتأصل رأسمالية الدولة بالدرجة التي كانت مطلوبة، أما الجمعيات التعاونية التي تضم الآن أكثر من عشرة ملايين عضو فقد أخذت تلتحم بالصناعة الاشتراكية.
وإلا فبم يفسر واقع أن لينين قد أخذ، بعد مضي سنتين على صدور "الضريبة العينية"، في سنة 1923، ينظر إلى الجمعيات التعاونية نظرة أخرى، معتبراً أن "الجمعيات التعاونية تنطبق في معظم الحالات، في ظروفنا، انطباقاً تاماً مع الاشتراكية"؟ (المجلد 27، ص 396).
وإلا فبم يفسر هذا إن لم يكن بواقع أن الصناعة الاشتراكية قد وجدت في غضون هاتين السنتين متسعاً من الوقت لتتطور وإن رأسمالية الدولة لم تتأصل بالدرجة المطلوبة، وبسبب ذلك أخذ لينين ينظر إلى الجمعيات التعاونية بالاقتران مع الصناعة الاشتراكية، لا بالاقتران مع رأسمالية الدولة؟
لقد تغيرت ظروف تطور الجمعيات التعاونية وكان على طريقة النظر إلى مسألة الجمعيات التعاونية أن تتغير أيضاً.
وهاكم، مثلاً، فقرة رائعة من كرّاس لينين "حول الجمعيات التعاونية" (سنة 1923) تلقي الضوء على هذه المسألة: 
في ظروف رأسمالية الدولة تختلف المشاريع التعاونية عن مشاريع رأسمالية الدولة، أولاً باعتبارها مشاريع خاصة، ومن ثم تعاونية، وفي ظل نظامنا القائم تختلف المشاريع التعاونية عن المشاريع الرأسمالية الخاصة باعتبارها مشاريع تعاونية ولكنها لا تختلف عن المشاريع الاشتراكية إذا كانت قائمة على أرض تعود مع وسائل الإنتاج للدولة، أي للطبقة العاملة" (المجلد 27، ص 396).
لقد حلت مسألتان كبيرتان في هذه الفقرة الصغيرة. أولاً، أن "نظامنا القائم" ليس برأسمالية الدولة. وثانياً، أن "المشاريع التعاونية" بالاقتران مع "نظامنا" "لا تختلف" عن المشاريع الاشتراكية.
أحسب أن من العسير الإفصاح بصورة أوضح.
وهاكم فقرة أخرى من كراس لينين الآنف الذكر:
"تطور الجمعيات التعاونية البسيط وتطور الاشتراكية هما، بالنسبة إلينا، شيء واحد (مع الشذاذ "الصغير" المذكور أعلاه)، ونحن في الوقت نفسه مضطرون للاعتراف بأن كل وجهة نظرنا عن الاشتراكية قد تغيرت تغيراً أساسياً" (نفس المصدر).
من الجلي أننا نواجه في كراس "حول الجمعيات التعاونية" تقديراً جديداً للجمعيات التعاونية، الأمر الذي لا تريد أن تعترف به "المعارضة الجديدة" وتلزم الصمت عنه بعناية، وذلك برغم الوقائع، برغم الحقيقة البينة، برغم اللينينية.
إن الجمعيات التعاونية مأخوذة بالاقتران مع رأسمالية الدولة، والجمعيات التعاونية مأخوذة بالاقتران مع الصناعة الاشتراكية هما أمران مختلفان.
غير أن من الجائز أن يستنتج من ذلك أن بين "الضريبة العينية" وكراس "حول الجمعيات التعاونية" هوة. إن هذا غير صحيح طبعاً. حسبنا أ، نرجع، مثلاً، إلى الفقرة التالية من "الضريبة العينية" لكيما ندرك للحال تلك الصلة الوثيقة القائمة بين "الضريبة العينية" وكراس "حول الجمعيات التعاونية" في مسألة تقدير الجمعيات التعاونية، وها هي:
"إن الانتقال من نظام الامتيازات إلى الاشتراكية هو انتقال من شكل من أشكال الإنتاج الضخم إلى شكل آخر من أشكال الإنتاج الضخم. والانتقال من التعاونيات صغار المنتجين إلى الاشتراكية هو انتقال من الإنتاج الصغير إلى الإنتاج الضخم، أي أنه انتقال أكثر تعقيداً، ولكن في وسعه، في المقابل، أن يشمل، في حالة النجاح، جماهير أوسع من السكان، في وسعه اجتثاث الجذور الأعمق والأكثر حيوية، جذور العلاقات القديمة، علاقات ما قبل الاشتراكية ، وحتى ما قبل الرأسمالية، العلاقات الأشد عناداً بمعنى مقاومتها لكل ابتكار". (المجلد 26، ص 337).
يتضح من هذه الفقرة أن لينين كان منذ زمن "الضريبة العينية" قبل أن توجد عندنا صناعة اشتراكية متطورة، يعتبر أن من الممكن، في حالة النجاح، تحويل الجمعيات التعاونية إلى وسيلة فعالة في النضال ضد علاقات "ما قبل الاشتراكية" وعليه، ضد العلاقات الرأسمالية أيضاً. وأني أظن أن هذه الفكرة بالذات قد غدت فيما بعد نقطة الإنطلاق في كراسه "حول الجمعيات التعاونية".
ولكن ماذا يستنتج من ذلك؟
يستنتج من كل ذلك أن "المعارضة الجديدة" لا تواجه مسألة الجمعيات التعاونية بطريقة ماركسية، بل بطريقة ميتافيزيقية. وهي لا تنظر إلى الجمعيات التعاونية على أنها ظاهرة تاريخية مأخوذة بالاقتران مع الظواهر الأخرى بالاقتران، لنقل مثلاً، مع رأسمالية الدولة (في سنة1921) أو مع الصناعة الاشتراكية (في سنة 1923)، بل على أنها شيء ثابت، مقرر أبداً، على أنها "شيء قائم بذاته".
ومن هنا أغلاط المعارضة في مسألة الجمعيات التعاونية، من هنا عدم إيمانها بتطور الريف إلى الاشتراكية عن طريق الجمعيات التعاونية، من هنا تعريج المعارضة على الطريق القديمة، على الطريق الرأسمالية لتطور الريف.
هذا هو، بالإجمال، موقف "المعارضة الجديدة" من مسائل البناء الاشتراكي العملية.
الاستنتاج واحد: أن خط المعارضة، بمقدار ما يوجد لديها خط، أن تردد المعارضة وتأرجحها وعدم إيمانها بقضيتنا وارتباكها أمام الصعوبات يؤدي إلى الاستسلام أمام العناصر الرأسمالية في اقتصادنا. لأنه، إذا كانت السياسة الاقتصادية الجديدة تقهقراً في معظمها، وإذا كانت الطبيعة الاشتراكية في صناعة الدولة عرضة للشكوك، وإذا كان الكولاك قادراً على كل شيء تقريباً، وإذا كان الأمل بالجمعيات التعاونية ضئيلاً، وإذا كان دور الفلاح المتوسط يتضاءل بالتدريج، وإذا كانت الطريق الجديدة لتطور الريف موضعاً للشك، وإذا كان الحزب في حالة انحلال تقريباً، وإذا كانت الثورة في الغرب ما تزال بعيدة، فماذا يبقى، إذن، بعد كل ذلك في ترسانة المعارضة؟ وعلام تعول في النضال ضد العناصر الرأسمالية في اقتصادنا؟ ولا يصح، على كل حال، التوجه إلى المعركة مع "فلسفة العصر" وحدها.
من الجلي أن "المعارضة الجديدة" لا تُحسد على ترسانتها، إذا أمكن، بوجه عام، تسميتها ترسانة. إن هذه الترسانة ليست للنضال، فكم بالأحرى أنها ليست للانتصار.
من الجلي أن الحزب فيما لو نزل إلى الميدان مع ترسانة كهذه لصُرع "بجولتين" ولما بقي له إلا الاستسلام أمام العناصر الرأسمالية في اقتصادنا.
ولذا فالمؤتمر الحزب الرابع عشر قد وقف موقفاً صحيحاً تماماً إذ قرر أن "النضال في سبيل انتصار البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي هو مهمة حزبنا الأساسية"؛ وأن "النضال ضد عدم الإيمان بقضية بناء الاشتراكية في بلادنا وضد محاولات النظر إلى مشاريعنا، وهي مشاريع من "النموذج الاشتراكي المستقيم" (لينين) على أنها مشاريع رأسمالية الدولة" هو شرط من الشروط الضرورية للقيام بهذه المهمة وأن "أمثال هذه التيارات الفكرية التي تجعل من المستحيل وقوف الجماهير موقف الإدراك من بناء الاشتراكية بوجه عام، ومن الصناعة الاشتراكية بوجه خاص، لا يسعها إلا إعاقة نمو العناصر الاشتراكية في الاقتصاد وتسهيل نضال رأس المال، الخاص ضدها" وأن "المؤتمر يعتبر، لهذا السبب، أن من الضروري القيام بعمل تربوي واسع للتغلب على تشويه اللينينة هذا" (راجع القرار الخاص بتقرير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (البولشفي) في الاتحاد السوفياتي).
تتلخص الأهمية التاريخية للمؤتمر الرابع عشر الذي عقده الحزب الشيوعي (البولشفي) في الاتحاد السوفياتي في كونه استطاع كشف جذور أغلاط "المعارضة الجديدة" ورمى عدم إيمانها وتباكيها عرض الحائط ورسم، بوضوح ودقة، طريق مواصلة النضال في سبيل الاشتراكية وأظهر للحزب أفق الانتصار وبذلك سلح البروليتاريا بإيمان راسخ بانتصار البناء الاشتراكي. 

25 كانون الثاني سنة 1926
ج .ف. ستالين

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire