أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة
العائلة
إن مورغان الذي أمضى القسم الأكبر من حياته بين الإيروكوا الذين لا يزالون يعيشون اليوم في ولاية نيويورك، و الذي تبنته إحدى قبائلهم (قبيلة سينيكا)، قد اكتشف عندهم نظاماً للقرابة يتناقض مع علاقاتهم العائلية الفعلية. فقد كان يسود عندهم ذلك الزواج الأحادي، الذي يسهل على كل من الطرفين المعنيين حله، و الذي يسميه مورغان "العائلة الثنائية". و لهذا كانت ذرية هذين الزوجين معروفة و معترف بها من الجميع: فلم يكن من الممكن أن يقوم أي شك فيما يتعلق بالأشخاص الذين ينبغي إطلاق أسماء الأب و الأم و الابن و الابن و الأخ و الأخت عليهم. و لكن استعمال هذه التعابير في الواقع يناقض هذا الأمر. فإن الإيروكوي لا يسمي أولاده بالذات و حسب بأبنائه و بناته، بل أيضاً أولاد أخوته، و هؤلاء يسمونه بوالدهم. أما أولاد أخواته، فيسميهم بأبناء و بنات أخواته، و هؤلاء يسمونه بخالهم. و على العكس تسمي الإيروكوية أولاد أخواتها، مثل أولادها بالذات، بأبنائها و بناتها، و أولاد أخواتها يسمونها بأمهم. أما أولاد أخوتها، فتسميهم بأبناء و بنات أخوتها، و تسمى هي عمة. و أولاد الأخوة يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة و الأخوات، شأنهم شأن أولاد الأخوات. و على العكس، يسمي أولاد المرأة و أولاد أخيها بعضهم بعضاً " بالأخوة و الأخوات من المرتبة الثانية" (أي بأبناء و بنات الخال و العمة) و ليست هذه مجرد أسماء لا معنى لها و لا أهمية، بل تعابير عن النظرات القائمة فعلاً إلى القرابة و البعد، و إلى المساواة وعدم المساواة في قرابة الدم، و هذه النظرات تشكل أساس نظام للقرابة موضوع بصورة كاملة، و بوسعه أن يعكس بضع مئات من مختلف علاقات القربى لدى فرد واحد. و فضلاً عن ذلك، لا يسري مفعول هذا النظام كلياً عند جميع الهنود الحمر الأميركيين و حسب ( و حتى الآن لم يظهر أي استثناء له) بل يسود أيضاً بدون تغيير تقريباً عند أقدم سكان الهند، أي عند قبائل ديكان الدرافيدية و قبائل غاوورا في هندوستان. إن أسماء القرابة عند قبائل تاميل في الهند الجنوبية و عند الإيروكوا من قبيلة سينيكا في ولاية نيويورك لا تزال حتى الآن متماثلة فيما يتعلق بأكثر من مائيتين من مختلف علاقات القرابة. و علاقات القرابة ، الناجمة من شكل العائلة القائم ، تناقض كذلك نظام القرابة سواء عند هذه القبائل الهندية أم عند جميع الهند الحمر الأميركيين.
فكيف نفسر هذا؟ نظراً للدور الحاسم الذي تضطلع به القرابة في النظام الاجتماعي عند جميع الشعوب المتوحشة و البربرية، لا يمكن بمجرد الجمل إزالة أهمية هذا النظام المنتشر هذا الانتشار الواسع. و أن نظاماً يسود في كل مكان من أميركا و يوجد كذلك في آسيا عند شعوب من عرق آخر تماماً، و يقوم بكثرة بأشكال معدلة إلى هذا الحد أو ذاك في كل مكان من إفريقيا و أوستراليا، إن نظاماً كهذا يتطلب تفسيراً تاريخياً، و لا يمكن التهرب منه بالكلمات، كما حاول أن يفعل ذلك، مثلاً، ماك-لينان (15). إن أسماء الأب و الولد و الأخ و الأخت، ليست مجرد ألقاب فخرية، بل تستتبع واجبات متبادلة محددة تماماً، و جدية جداً، يشكل مجموعها قسماً جوهرياً من النظام الاجتماعي عند هذه الشعوب. و قد وجد التفسير. ففي جزر السندويتش (هاواي)، كان لا يزال يوجد في النصف الأول من القرن الحالي، القرن التاسع عشر، شكل للعائلة يقوم فيه آباء و أمهات و أخوة و أخوات و أبناء و بنات و أخوال و خالات و أعمام و عمات و أبناء و بنات أخ أو أخت كالذين يقتضيهم نظام القرابة في أميركا و في الهند القديمة. و لكن، يا للغرابة! فإن نظام القرابة الساري المفعول في جزر هاواي لم يكن يتطابق هو أيضاً مع شكل العائلة الموجودة هناك فعلاً. فالواقع أن جميع أولاد الأخوة و الأخوات بلا استثناء يعتبرون هناك أخوة و أخوات و أولاد مشتركين لا لأمهم و أخواتها و حسب أو لوالدهم و أخوته، بل أيضاً لجميع أخوة و أخوات والديهم بلا تمييز. و لذا، إذا كان نظام القرابة الأميركي يفترض شكلاً للعائلة أكثر بدائية لم يعد له وجود في أميركا و لا نزال نجده بالفعل في جزر هاواي، فإن نظام القرابة الهاوايي يشير، من جهة أخرى، إلى شكل للعائلة أقدم عهداً من ذاك، لم يعد بإمكاننا في الوقت الحاضر، و الحق يقال، أن نجده في أي مكان، و لكنه كان من كل بد موجوداً و إلا لما كان من الممكن أن ينشأ نظام القرابة المناسب.
يقول مورغان:
"إن العائلة عنصر نشيط، فعال. فهي لا تبقى أبداً كما هي عليه بدون أي تغيير، بل تنتقل من شكل أدنى إلى شكل أعلى بقدر ما يتطور المجتمع من درجة دنيا إلى درجة عليا. أما أنظمة القرابة، فهي ، على العكس، خاملة، غير نشيطة. و هي لا تسجل، إلا بعد مرور حقبات طويلة من الزمن، ذلك التقدم الذي تحققه العائلة في خلال هذه الحقبات، و لا تطرأ عليها أي تغيرات جذرية إلا عندما تكون العائلة قد تغيرت بصورة جذرية" (16).
و يضيف ماركس قائلاً:
"كذلك هي الحال بالضبط فيما يتعلق بالأنظمة السياسية و الحقوقية و الدينية الفلسفية على العموم"(17).
فبينا العائلة تواصل تطورها، يتحجر نظام القرابة، و بينا هذا الأخير يظل قائماً بحكم العادة، تتجاوز العائلة حدوده. و لكن بنفس اليقين الذي استطاع كوفيه أن يستنتج به من عظام جرابية الشكل لهيكل حيوان وجدها في ضواحي باريس بأن هذا الهيكل هو هيكل حيوان جرابي و بأنه كانت تعيش هناك فيما مضى حيوانات جرابية انقرضت بعد ذاك،بنفس هذا اليقين نستطيع نحن أن نستنتج من نظام القرابة الذي وصل إلينا عبر التاريخ، أنه كان يوجد شكل للعائلة زال اليوم من الوجود و كان مناسباً له.
إن أنظمة القرابة و أشكال العائلة ، التي ذكرناها آنفاً، تختلف عن الأنظمة و الأشكال السائدة حالاً بوجود عدة آباء و أمهات للولد الواحد. فبموجب نظام القرابة الأميركي الذي تناسبه العائلة الهاوايية، لا يمكن للأخ و الأخت أن يكونا والد و أم الولد نفسه. و لكن نظام القرابة الهاوايي يفترض عائلة كان فيها ذلك، بالعكس، هو القاعدة. و هنا نواجه جملة من أشكال العائلة تناقض مباشرة الأشكال التي كانت تعتبر عادة حتى الآن الأشكال الوحيدة. إن المفهوم التقليدي لا يعرف غير الزواج الأحادي، إلى جانبه تعدد زوجات الرجل، و بالإضافة إليه عند اللزوم، تعدد أزواج المرأة، و لكنه، فضلاً عن ذلك، يلزم الصمت، كما يليق بالتافه الضيق الأفق الواعظ، حول أن الممارسة تتعدى الحدود التي يرسمها المجتمع الرسمي، و تتعداها خلسة، و لكن بدون تكلف. و على العكس، تبين لنا دراسة التاريخ البدائي ظروفاً يعيش فيها الرجال في حالة تعدد الزوجات و تعيش فيها زوجاتهن في الوقت نفسه في حالة تعدد الأزواج، و يعتبر فيها، لهذا السبب، أولاد هؤلاء و أولئك أولاداً مشتركين لهم جميعهم، ظروفاً طرأت عليها بدورها سلسلة كاملة من التغيرات قبل أن تندمج نهائياً في الزواج الأحادي. و هذه التغيرات هي على نحو بحيث أن الحلقة التي تشملها عرى الزواج المشتركة، و التي كانت في البدء واسعة جداً، أخذت تتقلص أكثر فأكثر إلى حد أنه لم يبق، في آخر المطاف، غير الزوج المتميز الذي يهيمن في الوقت الحاضر.
إن مورغان، و قد بعث على هذا النحو تاريخ العائلة بتسلسل معكوس، يخلص إلى القول، بالاتفاق مع غالبية زملائه، بأنه كان يوجد وضع بدائي كانت فيه العلاقات الجنسية غير المحدودة تسود داخل القبيلة بحيث إن كل امرأة كانت تخص كل رجل و بحيث إن كل رجل كان يخص كل امرأة. و منذ القرن الماضي، أخذوا يتحدثون عن هذا الوضع البدائي، و لكنهم كانوا يكتفون بالجمل و التعابير العامة، إلا أن باهوفن وحده- و هنا تقوم إحدى مآثره الكبيرة- نظر إلى هذه المسألة نظرة جدية و شرع يبحث عن آثار هذا الوضع في الحكايات التاريخية و الدينية (18). و نحن نعرف الآن أن هذه الآثار التي وجدها لا تعود بنا البتة إلى طور اجتماعي من علاقات جنسية غير منظمة، بل إلى شكل ظهر بعد ذلك بوقت كبير، إلى الزواج الجماعي. أما الطور الاجتماعي البدائي المنوه به هنا، هذا إذا كان قد وجد فعلاً، فإنه يعود إلى عهد بعيد عنا إلى حد أنه يستحيل علينا تقريباً أن تأمل بأننا سنجد بين الدفائن الاجتماعية، و بين المتوحشين المتخلفين، براهين مباشرة على وجوده فيما مضى. و مأثرة باهوفن تتلخص على وجه الضبط في كونه طرح بحث هذه المسألة في المرتبة الأولى*[1]
و في الآونة الأخيرة، أصبح من الدارج إنكار هذا الأطوار الأولية من حياة الناس الجنسية. فالمقصود إنقاذ البشرية من هذا "العار". و لهذا الغرض، لا يستشهدون بعدم وجود أي برهان مباشر و حسب، بل يركزون أيضاً بوجه خاص على مثال بقية العالم الحيواني، و في هذا الميدان، جمع ليتورنو ("تطور الزواج و العائلة"، 1888) (19) وقائع كثيرة تبين أن العلاقات الجنسية غير المنظمة إطلاقاً تلازم، هنا أيضاً ، درجة دنيا من التطور. و لكن كل ما أستطيع استخلاصه من هذه الوقائع، هو أنها لا تثبت أي شيء على الإطلاق فيما يخص الإنسان و ظروف حياته البدائية. فإن المساكنة الزوجية الطويلة الأمد عند الفقاريات تفسرها بصورة كافية الأسباب الفيزيولوجية: فعند الطيور ، مثلاً، تفسرها حاجة الأنثى إلى المساعدة و الحماية في مرحلة حضانة البيض و الأفراخ، و أن أمثلة على متانة أحادية الزواج عند الطيور لا تثبت شيئاً فيا يتعلق بالناس لأن الناس لا يتحدرون من الطيور. و إذا كانت أحادية الزواج الصرف ذروة كل فضيلة، فإن قصب السبق في هذا لمجال يعود عن حق و استحقاق إلى الدودة الشريطية التي يوجد في كل من عقدها أو مفاصلها الـ 50 إلى 200، جهاز تناسلي كامل للذكر و الأنثى، و التي تقضي حياتها كلها في مضاجعة نفسها بنفسها في كل من عقدها هذه. أما إذا اقتصرنا على الضرعيات، فإننا نجد عندها جميع أشكال الحياة الجنسية: العلاقات غير المنظمة، و أشكالاً مماثلة للزواج الجماعي، و تعدد الزوجات، و الزواج الأحادي، و لا ينقص غير تعدد الأزواج، الذي لم يستطع أن يبلغه غير البشر. و حتى عند أقرب أقربائنا القرود، يظهر تجمع الذكور و الإناث بجميع الأشكال الممكنة، و إذا أخذنا نطاقاً أضيق، و إذا لم نأخذ بالحسبان غير الأنواع الأربعة من القرود الشبيهة بالإنسان، فإن كل ما يستطيع ليتورنو أن يقوله لنا في هذا الصدد، هو أننا نجد عندها أحادية الزواج تارة و طوراً تعدد الزوجات ، في حين أن سوسور يؤكد، بالاستناد إلى جيرو-طولون، أنها أحادية الزواج. ثم أن تأكيدات فسترمارك الحديثة ("تاريخ الزواج البشري"، لندن، 1891)(20) حول أحادية الزواج (21) عند القرود الشبيهة بالإنسان هي أيضاً أبعد من أن تشكل برهاناً و بكلمة ، إن المعطيات المتوفرة لعلى نحو بحيث أن الفاضل و النزيه ليتورنو يعترف بأنه:
"لا توجد أبداً، مع ذلك، عند الضرعيات، مطابقة دقيقة بين درجة التطور العقلي و شكل العلاقات الجنسية"(22).
أما إيسبيناس ("في المجتمعات الحيوانية"، 1877) فيقول صراحة:
"القطيع هو أعلى جماعة اجتماعية يمكننا أن نراقبها عند الحيوانات. و هي تتألف ، على ما يبدو، من عائلات، و لكن العائلة و القطيع في تناحر منذ بادئ بدء، و كل منهما يتطور باتجاه معاكس لتطور الآخر"(23).
و هكذا، كما يتبين مما قيل أعلاه، نحن لا نعرف تقريباً أي شيء دقيق عن الجماعات العائلية و غيرها من المجموعات العائشة معاً من القرود الشبيهة بالإنسان، و المعطيات المتوافرة يناقض بعضها بعضاً تماماً. و لا غرابة. فما أشد التناقض حتى بين المعطيات المتوافرة لنا عن القبائل البشرية في طور الوحشية و ما أكثر ما تحتاج إلى التحليل و الدراسة و الغربلة بعين نقادة! و الحال، أن مراقبة مجتمعات القرود أصعب بكثير من مراقبة المجتمعات البشرية. و لذا ينبغي لنا أن ننبذ كل استنتاج مستخلص من هذه المعطيات المشكوك فيها إطلاقاً ، طالما لم نحصل على معطيات أوضح و أوسع.
أما فكرة إيسبيناس التي استشهدنا بها آنفاً، فإنها، على العكس، تعطينا نقطة ارتكاز أمتن. فإن القطيع و العائلة عند الحيوانات العليا لا يكملان بعضهما بعضاً، بل يناقض بعضهما بعضاً. و يبين إيسبيناس جيداً جداً كيف تضعف غيرة الذكور، أثناء فترة الهيجان، لحمة القطيع أو تقضي عليها مؤقتاً. "حيث العائلة و ثيقة اللحمة، لا يتشكل القطيع إلا بصورة استثنائية جداً. و لكن القطيع يتشكل ، على العكس، من تلقاء نفسه تقريباً حيث تسود إما المجامعة الجنسية الحرة و إما تعدد الأزواج... و لكي يتشكل القطيع، كان لا بد أن تضعف الروابط العائلية و أن يستعيد الفرد حريته. و لهذا نادراً جداً ما نرى أسراباً منظمة عند الطيور ... أما عند الضرعيات، فإننا نجد ، على العكس، مجتمعات منظمة إلى درجة ما، و ذلك على وجه الضبط لأن الفرد هنا لا تبتلعه العائلة ... و لهذا لا يمكن أن يجابه الشعور بجماعية القطيع لدن نشوئه عدواً أكبر من الشعور بجماعية العائلة. و نقول صراحة: إذا كان قد قام و تطور شكل اجتماعي أعلى من العائلة، فإن ذلك لم يحدث إلا لأن هذا الشكل قد أذاب في داخله العائلات التي طرأت عليها تغيرات جذرية، مع العلم أنه ليس من المستبعد أن يكون ذلك على وجه الضبط ما أتاح فيما بعد للعائلات أن تتشكل من جديد في ظروف أكثر ملائمة إلى ما لا حد له". (إيسبيناس. المرجع المذكور. فقرة أوردها جيرو –طولون في مؤلفه "أصل الزواج و العائلة"، عام 1884).
و من هنا نرى أن للمجتمعات الحيوانية قيمة ما بالنسبة للاستنتاجات التي يجب استخلاصها منها بصدد المجتمعات البشرية، و لكن هذه القيمة سلبية فقط. فعند الفقاريات العليا، حسبما نعرف، لا يوجد غير شكلين من العائلة: تعدد الزوجات، و المعايشة أزواجاً منفردة، و كل من الشكلين لا يجيز سوى ذكر راشد واحد، سوى زوج واحد. إن غيرة الذكر التي تشد عرى العائلة الحيوانية و تحدها في آن واحد تجعل العائلة مضادة للقطيع. و إذا القطيع، هو شكل أعلى للمعاشرة، يزول أحياناً بسبب هذه الغيرة و أحياناً يفقد لحمته أو ينحل أثناء فترة اليهجان، أو يتوقف تطوره، في أفضل الأحوال. و هذا وحده يكفي لتقديم البرهان على أن العائلة الحيوانية و المجتمع البشري البدائي شيئان لا يتفقان، و أن الناس البدائيين الذين تخلصوا من الحالة الحيوانية (بفضل العمل)، إما أنهم لم يعرفوا العائلة على الإطلاق و إما أنهم، في أفضل الأحوال، عرفوا عائلة غير موجودة عند الحيوانات. فإن الحيوان غير المسلح، كما كان عليه الإنسان بسبيل التكون، كان بوسعه ، أغلب الظن، أن يبقى بعدد غير كبير حتى في حالة العزلة التي كان أعلى شكل للمعاشرة فيها هو شكل المعايشة أزواجاً كالذي تعيش فيه ، على حد قول فسترمارك بالاستناد إلى حكايات لصيادين، قرود الغوريللا و الشمبانزي. و لكن لأجل الخروج في سياق التطور من الحالة الحيوانية لأجل تحقيق التقدم الأكبر الذي تعرفه الطبيعة، كان لا بد من عنصر آخر: كان ينبغي إحلال قوة القطيع الموحدة و أعماله الجماعية محل نقص قدرة الفرد على الدفاع. و أنه ليستحيل إعطاء تفسير للانتقال من هذه الظروف التي تعيش فيها حالياً القرود الشبيهة بالإنسان إلى الحالة البشرية. فإن هذه القرود تظهر بالأحرى بمظهر خطوط جانبية منحرفة محكوم عليها بالاندثار تدرجياً و بسبيل الانحطاط و الزوال على كل حال. و هذا وحده يكفي للامتناع عن إجراء أي مقارنات بين أشكل العائلة عندها و عند الإنسان البدائي. ذلك أن التساهل المتبادل بين الذكور الراشدين و انعدام الغيرة كانا الشرط الأول لنشوء جماعات أكثر اتساعاً و أطول عمراً لم يكن من الممكن أن يتحقق تحول الحيوان إلى إنسان إلا في وسطها. و بالفعل ، أي شيء نجده بوصفه أقدم و أبكر شكل للعائلة، بوصفه الشكل الذي نقدم الدليل المفحم على وجوده في التاريخ و الذي يمكننا أن ندسه في الوقت الحاضر أيضاً هنا و هناك؟ الزواج جماعات جماعات (الزواج الجماعي) ، شكل الزواج الذي كانت بموجبه جماعات كاملة من الرجال و جماعات كاملة من النساء تخص بعضها بعضاً بصورة متبادلة و الذين كان يترك مجالاً صغيراً جداً للغيرة. و فيما بعد، في درجة لاحقة من التطور، نجد شكلاً استثنائياً كما هو عليه شكل تعدد الأزواج الرجال الذي يناقض، تناقضاً صارخاً، بالتأكيد، كل شعور بالغيرة، و الذي هو بالتالي غير معروف عند الحيوانات. و لكن الأشكال التي نعرفها من الزواج الجماعي تقترن بشروط متشابكة و معقدة إلى حد أنها تشير بالضرورة إلى أشكال للمعاشرة الجنسية أبكر عهداً و أكثر بساطة، و تشير في الوقت نفسه، في آخر المطاف، إلى مرحلة من العلاقات الجنسية غير المنظمة تناسب الانتقال من الحالة الحيوانية إلى الحالة البشرية، و لهذا تعود بنا الاستشهادات بأشكال الزواج عند الحيوانات إلى نفس النقطة التي كان يجب أن تبعدنا عنها مرة واحدة و إلى الأبد.
فماذا يعني تعبير: العلاقات الجنسية غير المنظمة؟ إنه يعني إن القيود المانعة السارية المفعول في زمننا أو في زمن أسبق لم تكن سارية المفعول آنذاك. و قد سبق لنا و رأينا سقوط القيد الذي تشترطه الغيرة. و من الثابت أن الغيرة شعور تطور في مرحلة لاحقة نسبياً. و يمكن قول الشيء نفسه بصدد مفهوم سفاح القربى. فإن الأخ و الأخت كانا في المرحلة البدائية زوجاً و زوجة، و ليس هذا و حسب، بل أن شعوباً كثيرة لا تزال في الوقت الحاضر تجيز العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد. و يشهد بانكروفت ("العروق الأصلية في ساحل المحيط الهادئ من أميركا الشمالية"، عام 1875، المجلد الأول (24)) على وجود مثل هذه العلاقات عند الكافياك المقيمين عند سواحل مضيق بيرينغ و عند سكان جزيرة كادياك في جوار ألاسكا و عند التينّه المقيمين في القسم الداخلي من أميركا الشمالية البريطانية، و يعطي ليتورنو موجزاً لمثل هذه الوقائع عند الهنود الحمر الشيبيوي و عند الكوكوس في التشيلي، و عند الكاراييب و عند الكارين في شبه جزيرة الهند الصينية، هذا بالإضافة إلى حكايات قدماء اليونانيين و الرومانيين عن البارثيين و الفرس و السقيتيين و الهون و غيرهم. و قبل اكتشاف سفاح القربى (و هذا اكتشاف حقاً و فعلاً، بل هو اكتشاف فائق القيمة) ، لم يكن من المكن أن تثير العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد نفوراً أكبر من ذاك الذي تثيره العلاقة الجنسية بين أشخاص آخرين ينتمون إلى أجيال مختلفة، و الحال، لا يزال يحدث هذا الآن في أكثر البلدان تفاهة و ابتذالاً دون أن يثير شديد الاشمئزاز، فحتى "الآنسات" العوانس ممن تجاوزن الستين من العمر يتزوجن أحياناً، إذا كن غنيات، من شبان في الثلاثين من العمر. أما إذا طرحنا عن أبكر أشكال العائلة، التي نعرفها، مفاهيم سفاح القربى المقرونة بها – و هي مفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيمنا، و تناقضها كلياً أحياناً كثيرة- لوجدنا شكلاً من العلاقات الجنسية لا يمكن نعته إلا بأنه غير منظم. غير منظم، لأن القيود التي فرضها العرف و العادة فيما بعد لم تكن قد ظهرت بعد. و لكنه لا ينجم أبداً من هنا أن التشوش التام في ممارسة هذه العلاقات يومياً كان أمراً محتماً. فإن المعايشة المؤقتة بين بعض الأزواج لم تكن أبداً مستبعدة إذ أن حالاتها غدت الآن أغلبية الحالات حتى في ظل الزواج الجماعي. و إذا كان فسترمارك، و هو أحدث البحاثة الذين ينكرون مثل هذا الوضع البدائي، ينعت بالزواج كل حالة يبقى فيها الجنسان (الرجل و المرأة ) متحدين في مساكنة زوجية حتى ولادة نسل منهما، فإنه ينبغي القول أنه كان من الممكن أن يقوم مثل هذا النوع من الزواج في ظل العلاقات الجنسية غير المنظمة، دون أن يناقض أبداً حالة انعدام التنظيم، أي حالة انعدام القيود التي يفرضها العرف و العادة على العلاقات الجنسية. صحيح أن فسترمارك ينطلق من النظرة القائلة أن:
"انعدام التنظيم يفترض خنق الميول الفردية"، و لذلك "كان البغاء (25) أصح أشكاله".
أما أنا، فيخيل إلي، على العكس، أنه يستحيل فهم الظروف البدائية طالما ينظرون إليها حسب مفهوم بيوت الدعارة. و سنعود إلى هذه المسألة عند دراسة الزواج الجماعي.
و إليكم، حسب مورغان، أي تطور طرأ في زمن باكر جداً، حسب كل احتمال، على هذه الحالة البدائية للعلاقات غير المنظمة:
هنا تنقسم الجماعات الزواجية حسب الأجيال: فإن جميع الجدود و الجدات في نطاق العائلة هم أزواج و زوجات فيما بينهم، شأنهم شأن أولادهم، أي الآباء و الأمهات، و على النحو نفسه، يشكل أولاد الأخيرين الحلقة الثالثة من الأزواج المشتركين، و يشكل أولادهم، أي أولاد أحفاد الأولين الحلقة الرابعة. و في هذا الشكل من العائلة، لا تنتفي الحقوق و الواجبات الزوجية المتبادلة (إذا تكلمنا بغلة عصرنا) إلا بين الأسلاف و الأخلاف، بين الآباء و الأولاد. أما الأخوة و الأخوات من الدرجة الأولى و الثانية و الثالثة و ما يليها، فإنهم جميعاً أخوة و أخوات فيما بينهم، و هم لهذا السبب بالذات أزواج و زوجات فيما بينهم. و في هذا الطور من العائلة تشمل علاقة القربى بين الأخ و الأخت العلاقة الجنسية فيما بينهما كشيء بديهي.*[1] ولذا يتألف الشكل المثالي لهذه العائلة من ذرية زوج واحد (رجل و امرأة) يكون الجميع فيها في كل جيل من الأجيال المتعاقبة أخوة و أخوات فيما بينهم، و بالتالي أزواج و زوجات فيما بينهم.
و قد زالت عائلة قربى الدم. و حتى عند أوحش الشعوب التي ذكرها التاريخ، يستحيل إيجاد مثال و احد لا مراء فيه. و لكنه كان لا بد لهذه العائلة أن تكون موجودة، و هذا ما يحملنا على الإقرار به نظام القرابة الهاوايي الذي لا يزال حالياً ساري المفعول في عموم بولينيزيا و الذي يعرب عن درجات من قرابة الدم لا يمكن ان تنشأ إلى في ظل هذا الشكل من العائلة . كذلك يحملنا على الإقرار بذلك كل تطور العائلة اللاحق الذي يفترض وجود هذا الشكل بوصفه درجة أولية لا غنى عنها.
و بصورة بحث في شعر السكالد وضعه في مستهل القرن الثالث عشر الشاعر و المؤرخ سنوري ستورلوسون ("إيدا الصغرى"). صورت أغاني "إيدا" حالة المجتمع السكاندينافي في مرحلة تفسخ النظام العشائري و هجرة الشعوب. و هي تتضمن شخصيات و مواضع من إبداع قدماء الجرمان الشعبي.
"أوغيسدريكا"- إحدى لأغاني "إيدا الكبرى"، و هي تعود إلى نصوص للمجموعة مكتوبة في زمن أكثر تأخراً. و هنا يورد إنجلس مقتطفات من المقطعين 32 و 36 من هذه الأغنية.
"ساغا إينغلينغ" – الساغا الأولى (حكاية، أسطورة) – من كتاب عن الملوك النروجيين (منذ غابر الأزمنة حتى القرن الثاني عشر) للشاعر و المؤرخ الأسلندي سنوري ستورلوسون من القرون الوسطى، "Heimskringla" ("الحلقة الأرضية") موضوع في النصف الأول من القرن الثالث عشر على أساس الأخبار التاريخية عن الملوك و النروجيين و الساغات العشيرية الأسلندية و النروجية. و هنا يورد إنجلس مقتطفاً من الفصل الرابع من هذه الساغا.
[1] أعرب ماركس في رسالة كتبها في ربيع 1882 (26) بأحد التعابير عن رأيه في نص "Nibelungen" ("نيبيلونغ") لفاغنر، الذي يشوه كلياً العصر البدائي. "هل سمع يوماً أن الأخ يعانق أخته كأنها زوجته؟ (27)". و بصدد هذه "الآلهة الشهوانية" الفاغنرية التي تضفي بطريقة عصرية تماماً على مساعيها الغرامية قدراً أكبر من الحرافة و اللذع برشها ببعض من سفاح القربى، لاحظ ماركس قائلاً: في العصر البدائي كانت الأخت زوجة، و كان ذلك أمراً أخلاقياً مشروعاً". (ملاحظة إنجلس لطبعة 1884).
إن واحداً من أصدقاء فاغنر الفرنسيين (بونيه) و من المعجبين به لم يوافق على هذه الملاحظة و أشار إلى أننا نجد في "إيدا الكبرى" التي يستند إليها فاغنر أن لوكي يوجه في "أوغيسدريكا" إلى فريا اللوم التالي: "لقد عانقت أخاك بالذات بحضور الآلهة". فكأنه ينجم من هنا أن الزواج بين الأخ و الأخت كان آنذاك محرماً. و لكن "أوغيسدريكا" تعكس ذلك الزمن الذي كان فيه الإيمان بالأساطير القديمة قد تحطم تماماً، فهي تسخر بالآلهة على طريقة لوقيانوس تماماً. و إذا كان لوكي يوجه هنا، على غرار مفيستو، مثل هذا اللوم إلى فريا، فإن هذا يشكل بالأحرى دليلاً ضد فاغنر. ناهيك بأن لوكي يقول لنيوردر بعد بضعة أبيات: "مع أختك ولدت أنت ابناً (كهذا)" (vidh systur thinni gaztu slikan mö-;-g (28)) صحيح أن نيوردر ليس آساً Ase بل فاناً Vane و أنه يقول في "أونغلينغا ساغا" Junglinga Saga أن الزواج بين الأخوة و الأخوات أمر عادي في بلاد الفان Vanaland، بينا لم يكن كذلك عند الآس Ases (29). قد يدل هذا على أن الفان آلهة أقدم من الآس. و على كل حال، يعيش نيوردر بين الآس على قدم المساواة، و لهذا تثبت "أوغيسدريكا" بالأحرى أن الزواج بين الأخوة و الأخوات، عند الآلهة على الأقل، في عهد ظهور الأساطير النروجية عن الآلهة، لم يكن يستثير بعد أي نفر و اشمئزاز. أما إذا كان المقصود تبرير فاغنر، فلعله من الأفضل الاستشهاد بغوته لا بـ "أيدا"، لأن غوته يقترف في قصيدته عن الإله و الراقصة الهندية خطأ مماثلاً فيما يتعلق بواجب المرأة الديني بالاستسلام و المضاجعة في المعابد، و يقرب هذه العادة كثيراً جداً من الدعارة العصرية". (إضافة إنجلس إلى طبعة 1981).
2/2 العائلة البونالوانية
إذا كانت الخطوة التقدمية الأولى في تنظيم العائلة قد تلخصت في تحريم العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد، فقد تلخصت الخطوة الثانية في تحريم العلاقة الجنسية بين الأخوة و الأخوات. و قد كانت هذه الخطوة، نظراً للقدر الأكبر من المساواة في العمر بين ذوي العلاقة، أهم من الأولى بما لا حد له، و لكنها كانت أيضاً أصعب منها. فهي لم تتحقق دفعة واحدة، بل تدريجياً، بادئة، حسب كل احتمال، من تحريم العلاقة الجنسية بين الأخوة و الأخوات الأخياف (أي من ناحية الأم فقط)، و قد شمل هذا التحريم أولاً حالات منفردة ثم أصبح تدريجياً قاعدة (و في جزر هاواي، كانت لا تزال هناك شواذات على القاعدة في قرننا)، و انتهى بتحريم الزواج حتى في خطوط القربى المنحرفة، أي، حسب تعابيرنا الحالية، بتحريمه بين أولاد و أحفاد و أولاد أحفاد الأخوة و الأخوات. و هذا التقدم كان، برأي مورغان، "مثالاً بيانياً ممتازاً على الطريقة التي يسري بها مفعول مبدأ الاصطفاء الطبيعي" (30).
و لا ريب في أنه كان لا بد للقبائل التي كان فيها سفاح القربى محدوداً بفضل هذه الخطوة أن تتطور بصورة أسرع و أكمل مما تطورت القبائل التي بقي فيها الزواج نين الأخوة و الأخوات قاعدة و واجباً. أما أي تأثير قوي كان لهذه الخطوة، فتثبته المؤسسة التي نجمت عنها مباشرة و التي تجاوزت كثيراً غايتها الأولية، و هي مؤسسة العشيرة التي تشكل أساس النظام الاجتماعي عند أغلبية الشعوب البربرية في الأرض، إن لم يكن عند جميعها، و التي ننتقل منها مباشرة في اليونان و روما إلى عصر الحضارة.
و كان لا بد أن تنقسم كل عائلة بدائية بعد بضعة أجيال لا أكثر. فإن الاقتصاد المنزلي المشترك الشيوعي البدائي الذي ظل سائداً بلا منازع قبل ازدهار الدرجة المتوسطة من البربرية كان يعين أبعاداً قصوى للمشاعة العائلية تتغير تبعاً للظروف، و لكنها ثابتة إلى هذا القدر أو ذاك في كل مرحلة بعينها. و لكن ما إن ظهرت فكرة عدم جواز العلاقة الجنسية بن أولاد أم واحدة حتى اضطلعت بدورها بالضرورة عند انقسام المشاعات المنزلية القديمة و عند تأسيس مشاعات منزلية جديدة (كانت لا تتطابق حتماً مع الجماعة العائلية). فقد كانت مجموعة أو بضع مجموعات من الأدوات تصبح نواة مشاعية واحدة و كان أخوتهن الأخياف يصبحون نواة مشاعية أخرى. و على هذا النحو أو بنحو مماثل، نجم من عائلة قربى الدم شكل للعائلة أسماه مورغان بالشكل البونالواني. و حسب العادة الهاوايية، كان عدد معين من الأخوات هن أخوات من أم واحدة أو على علاقة قربى أبعد (بنات خالات و أخوال و أعمام و عمات من الدرجة الأولى و الثانية، الخ..) زوجات مشتركات لأزواجهن المشتركين، و لكن باستثناء أخوتهن، و لم يعد هؤلاء الرجال يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة، فضلاً عن أنه لم يعد من الواجب أن يكونوا أخوة، بل "بونالوا" Punalua و كلمة بونالوا تعني رفيقاً قريباً أو associé *[1] إذا جاز القول. و على النحو ذاته، كانت مجموعة من الأخوة، أخوة من أم واحدة أو على علاقة قربى أبعد، تدخل في زواج مشترك مع عدد معين من النساء و لكن من غير أخواتهم، و كانت هؤلاء النساء يسمين بعضن بعضاً بالبونالوا. هكذا كان الشكل الكلاسيكي للتكوينة العائلة، و هذا الشكل طرأت عليه فيما بعد تغيرات و كان سمته المميزة الرئيسة الشراكة المتبادلة للرجال و النساء داخل حلقة عائلية معينة، و لكن هذه الحلقة لم تكن تشمل أخوة الزوجات، الأخوة الأخياف في البدء، ثم أيضاً الأخوة على درجات أبعد من القربى، و كذلك من الناحية المقابلة أخوات الأزواج.
إن شكل العائلة هذا هو الذي يقدم لنا بكامل الدقة درجات القرابة التي يعبر عنها النظام الأميركي. فإن أولاد أخوات أمي لا يزالون أولادها أيضاً، مثلما كان أولاد أخوة والدي لا يزالون أولاده، و جميعهم أخوتي و أخواتي. و لكن أولاد أخوة مي أصبحوا الآن أبناء و بنات أخوتها، و أولاد أخوات والدي أصبحوا أبناء و بنات أخواته، و جميعهم أصبحوا أخوتي و أخواتي من الدرجة الثانية أي أبناء و بنات أخوالي و عماتي. و بالفعل، بينا أزواج أخوات أمي لا يزالون أزواجها، مثلما زوجات أخوة والدي لا يزلن زوجاته، شرعاً إن لم يكن دائماً فعلاً، أدى تنديد المجتمع بالعلاقة الجنسية بين الأخوة و الأخوات من الدرجة الأولى إلى انقسام أولاد الأخوة و الأخوات إلى قسمين، مع إنهم كانوا قبل ذلك يعتبرون بلا تمييز أخوة وأخوات: فإن بعضهم يبقون فيما بينهم كما من قبل أخوة و أخوات (حتى و إن كانا على درجات أبعد من القرابة)، أما البضع الآخر، أي أولاد الأخ من جهة، و أولاد الأخت من جهة أخرى، فلم يبق بوسعهم أن يكونوا أخوة و أخوات، لم يبق بوسعهم أن يكون لهم آباء مشتركون، لا أب مشترك و لا أم مشتركة لا الأب و الأم معاً، و لهذا تظهر هنا للمرة الأولى الحاجة إلى فئة أبناء بنات الأخ و الأخت، و أبناء و بنات العم و الخال و العمة و الخالة (أو الأخوة و الأخوات من الدرجة الثانية)، أي إلى فئة لم يكن لها أي معنى في ظل النظام العائلي السابق. إن نظام القرابة الأميركي الذي يبدو أخرق تماماً في كل شكل للعائلة يرتكز على هذا النوع أو ذاك من الزواج الأحادي، إنما يجد لنفسه تفسيراً معقولاً و تعليلاً طبيعياً، بما في ذلك أقل تفاصيله، في العائلة البونالوانية. و بقدر ما انتشر نظام القرابة هذا، كان لا بد، على الأقل، أن توجد أيضاً العائلة البونالوانية أو شكل ما للعائلة مماثل.
و من المحتمل أننا كنا حصلنا في عموم بولينيزيا على المعلومات عن شكل العائلة هذا الذي أقيم البرهان على وجوده فعلاً في جزر هاواي، لو استطاع المرسلون الأتقياء مثلهم مثل القسس الإسبانيين الطيبي الذكر في أميركا، أن يروا في هذه العلاقات المناقضة للأخلاق المسيحية شيئاً غير "الرذائل"**[2]. و عندما يحكي لنا قيصر عن البريطانيين Bretons الذين كانوا في زمنه في الطور الأوسط من البربرية و يقول أن "عند كل عشرة رجال أو اثني عشر رجلاً زوجات مشتركات، ناهيك بأنهن في أغلب الأحوال مشتركات بين الأخوة أو بين الآباء و الأبناء" (33)، فإن خير تفسير لهذا الوضع إنما هو وجود الزواج الجماعي. ففي مرحلة البربرية، لم يكن لدى كل من الأمهات عشرة أولاد أو اثنا عشر ولداً بسن تتيح لهم أخذ زوجات مشتركات، بينا نظام القرابة الأميركي الذي يناسب العائلة البونالوانية يفترض عدداً كبيراً من الأخوة لأن جميع أبناء العم و الخال الأقربين و الأبعدين لكل رجل هم أخوته. أما فيما يخص "الآباء و الأبناء"، فمن الممكن أن يكون قيصر قد أخطأ. صحيح أنه ليس من المستبعد إطلاقاً في ظل هذا النظام أن ينتسب الأب و الابن أو الأم و الابنة إلى مجموعة زواجية واحدة، و لكنه من المستحيل بالمقابل وجود الأب و الابنة أو الأم و الابن في هذه المجموعة. كذلك بالذات يقدم هذا الشكل من الزواج الجماعي أو شكل مماثل له أسهل تفسير لأخبار هيرودوتس و غيره من قدماء الكتاب عن شراكة النساء عند الشعوب المتوحشة و البربرية. و هذا ما يصح أيضاً على ما يرويه وطسن و كاي ("سكان الهند" (34)) عن التيكور في أوذ (شمال نهر الغانج):
"إنهم يعيشون معاً" (و المقصود بذلك العلاقات الجنسية)"بغير نظام تقريباً، في نطاق جماعات كبيرة، و إذا كان اثنان منهم يعتبران زوجاً و زوجة، فإن علاقة الزواج هذه ليست إلا إسمية".
أغلب الظن أن مؤسسة العشيرة قد نشأت مباشرة من العائلة البونالوانية في معظم الحالات. صحيح أنه من الممكن أن يكون النظام الأوسترالي لطبقات الزواج (35) قد قدم هو أيضاً نقطة انطلاق لهذه المؤسسة: فعند الأوستراليين توجد عشائر و لكنه لا توجد بعد عندهم عائلة بونالوانية، بل شكل أكثر بدائية للزواج الجماعي.
و في جميع أشكال العائلة الجماعية، لا تمكن معرفة والد الطفل بدقة، و لكنه تمكن معرفة أمه بدقة. و إذا كانت تسمي جميع أولاد العائلة المشتركة أولادها، و تتحمل حيالهم واجبات الأمومة، فإنها مع ذلك تميز أولادها بالذات عن الباقين. و من هنا يتضح أنه ما دام الزواج الجماعي قائماً، لا يمكن إثبات الأصل إلا من ناحية الأم، و لا يمكن بالتالي الاعتراف إلا بخط الأم. و هكذا كان الحال فعلاً عند جميع الشعوب المتوحشة و عند جميع الشعوب التي بلغت الدرجة الدنيا من البربرية. و مأثرة باهوفن الثانية الكبرى، أنه كان أول من اكتشف ذلك. و هو يطلق اسم حق الأم على هذا الاعتراف بالأصل بموجب خط الأم بوجه الحصر، و على علاقات الإرث التي نشأت من هنا و تطورت مع مرور الزمن، و إني احتفظ بهذا الاسم لإيجازه، و لكنه غير موفق، لأنه لا يمكن بعد التحدث في هذه المرحلة من تطور المجتمع عن الحق بالمعنى الحقوقي.
و إذا أخذنا الآن من العائلة البونالوانية جماعة من جماعتيها النموذجيتين، و على وجه الضبط جماعة الأخوات من أم واحدة أو من درجات قرابة أبعد (أي متحدرات من أخوات من أم واحدة في الجيل الأول أو الثاني أو ما يليه)- مع أولادهن و أخوتهن- الأخياف أو من درجات قرابة أبعد من ناحية الأم (الذين ليسوا، حسب افتراضنا، أزواجهن) لرأينا على وجه الضبط تلك الحلقة من الأشخاص الذين يبرزون فيما بعد كأعضاء العشيرة بشكلها الأولي. فإن لجميعهم جدة واحدة مشتركة، و جميع ذريتها النسائية في كل جيل هن أخوات فيما بينهن بحكم تحدرهن منها. و لكنه لم يبق بمستطاع أزواج هؤلاء الأخوات أن يكونوا أخوتهن و لا يمكن أن يتحدروا بالتالي من هذه الجدة و لا يمكنهم بالتالي أن يدخلوا في قوام هذه الجماعة التي تربط بين أعضائها قرابة الدم و التي غدت فيما بعد العشيرة. و لكن أولادهم ينتمون إلى هذه الجماعة لأن النسب حسب خط الأم هو وحده الذي يضطلع بالدور الفاصل نظراً لأنه هو وحده ثابت لا ريب فيه. و مع إقرار تحريم العلاقات الجنسية بين الأخوة و الأخوات، و حتى بين أبعد أقرباء خط القرابة المنحرف من جهة الأم، تحولت الجماعة المعنية إلى عشيرة أي أنها تشكلت بوصفها حلقة ثابتة من أقارب بالدم حسب حبل النسل النسائي لا يستطيعون أن يتزاوجوا فيا بينهم، و هذه الحلقة أخذت مذ ذاك تتوطد أكثر فأكثر بفضل مؤسسات مشتركة أخرى، اجتماعية و دينية على السواء، و تتميز أكثر فأكثر عن العشائر الأخرى من القبيلة ذاتها. و سنتحدث عن هذا بمزيد من التفصيل فيما بعد. و لكن إذا وجدنا أن العشيرة تتطور من العائلة البونالوانية، لا بحكم الضرورة و حسب، بل أيضاً بصورة بسيطة بديهية، توفرت لنا الأسباب لكي نعتبر من المؤكد و الثابت تقريباً وجود هذا الشكل من العائلة فيما مضى عند جميع الشعوب التي يمكن إيجاد مؤسسات العشيرة عندها أي تقريباً عند جميع الشعوب البربرية و المتمدنة.
عندما كتب مورغان كتابه، كانت معلوماتنا عن الزواج الجماعي لا تزال محدودة جداً. كنا نعرف بعض التفاصيل عن الزواجات الجماعية عند الأوستراليين المنتظمين في طبقات، ناهيك بأن مورغان كان قد نشر في عام 1871 معطيات وصلت إليه عن العائلة البونالوانية الهاوايية (36). فإن العائلة البونالوانية قد أعطت ، من جهة، تفسيراً كاملاً لنظام القرابة السائد عند الهنود الحمر الأميركيين و الذي كان بالنسبة لمورغان نقطة انطلاق في جميع أبحاثه ، و كانت، من جهة أخرى، نقطة انطلاق جاهزة كان يمكن منها اشتقاق العشيرة المؤسسة على حق الأم، و كانت أخيراً درجة أعلى بكثير في سلم التطور من الطبقات الأوسترالية. و لهذا كان من المفهوم أن يعتبرها مورغان درجة من التطور سبقت بالضرورة الزواج الثنائي و أن ينسب إليها انتشاراً عاماً في الأزمنة السابقة. و مذ ذاك أطلعنا على جملة كاملة من أشكال الزواج الجماعي الأخرى، و نحن نعرف الآن أن مورغان تجاوز الحد هنا كثيراً جداً. و لكن الحظ حالفه مع ذلك و وجد في عائلته البونالوانية الشكل الأعلى، الشكل الكلاسيكي للزواج الجماعي، الشكل الذي يفسر بأبسط نحو، بالانطلاق منه، الانتقال إلى شكل أعلى.
أما الإغناء الجوهري في معلوماتنا عن الزواج الجماعي؟، فنحن مدينون به قبل كل شيء للمرسل البريطاني لوريمير فايسون الذي درس خلال سنوات عديدة هذا الشكل من العائلة في ميدانها الكلاسيكي، أي في أوستراليا (37). فقد اكتشف درجة التطور الدنيا عند الزنوج الأوستراليين في منطقة ماونت غامبير في أوستراليا الجنوبي. فإن القبيلة كلها هنا مقسومة إلى طبقتين كبيرتين، الكروكي و الكوميت. و العلاقات الجنسية في داخل كل من هاتين الطبقتين ممنوعة منعاً باتاً. و كل رجل من إحدى الطبقتين هو، على العكس، منذ الولادة، زوج كل امرأة من الطبقة الأخرى، و هذه المرأة هي زوجته منذ الولادة. فليس الأفراد، بل جماعات كاملة تتزاوج بعضها مع بعض، طبقة مع طبقة. و تجدر الإشارة إلى أن فارق العمر و القرابة بالدم لا يشكلان هنا أبداً عقبة أمام العلاقات الجنسية، و لا يوجد غير القيد الناجم عن الانقسام إلى طبقتين خارجيتي الزواج. إن كل امرأة من الكوميت هي بالنسبة لكل كروكي زوجته حقاً و شرعاً، و لكن بما أن ابنته بالذات بوصفها ابنة امرأة كوميت هي أيضاً من الكوميت بموجب حق الأم، فهي بحكم ذلك منذ الولادة زوجة كل كروكي و بالتالي زوجة والدها. و على كل حال، لا يقيم تنظيم الطبقات في الصورة التي نعرفه بها أي عقبة أمام ذلك. إذن، إما أن هذا التنظيم قد نشأ في حقبة لم ير فيها بعد الناس أي أمر رهيب بخاصة في العلاقات الجنسية بين الآباء و الأولاد، رغم كل سعيهم الغامض إلى الحد من سفاح القربى، في هذه الحال، ظهر نظام الطبقات مباشرة من حالة العلاقات الجنسية غير المنظمة، و إما أن العلاقات الجنسية بين الآباء و الأولاد كانت ممنوعة بحكم العرف و العادة عند نشوء الطبقات الزواجية، و في هذه الحال، يعود الوضع الحالي إلى وجود عائلة القربى بالدم قبل ذلك، و يشكل أول خطوة للخروج منها. إن الافتراض الأخير أكثر احتمالاً. و لا يذكرون، حسبما أعلم، أمثلة عن علاقات زواج بين الآباء و الأولاد في أوستراليا، ناهيك بأن الشكل اللاحق للزواج الخارجي، أي العشيرة القائمة على الحق الأمي، تفترض كذلك ، ضمناً، كقادة، منع مثل هذه العلاقات بوصفه واقعاً كان قائماً عند نشوئها.
و فضلاً عن منطقة ماونت –غامبير في أوستراليا الجنوبية، يقوم نظام الطبقتين أيضاً إلى أبعد في اتجاه الشرق، في حوض نهر دارلينغ، و في الشمال الشرقي، في كوينسلند، و هو بالتالي واسع الانتشار. و هو لا ينفي غير الزواج بين الأخوة و الأخوات، بين أولاد الأخوة و بين أولاد الأخوات حسب خط الأم، لأنهم ينتمون إلى طبقة واحدة، أما أولاد الأخت و الأخ، ففي مستطاعهم، على العكس، أن يتزاوجوا فيما بينهم. و نجد خطوة أخرى لاحقة لمنع سفاح القربى عند قبلية الكاميلاروي في حوض نهر دارلينغ في ويلس الجنوبية الجديدة، حيث انقسمت الطبقتان الأصليتان إلى أربع، و حيث كل من هذه الطبقات الأربع تتزوج بكليتها مع طبقة أخرى معينة. إن الطبقتين الأوليتين هما منذ الولادة متزوجة إحداهما مع الأخرى، و تبعاً لانتماء الأم إلى الطبقة الأولى أو الثانية منهما، ينتقل أولادها إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة. و أولاد الطبقتين الأخيرتين اللتين تربط بينهما أيضاً علاقات الزواج، يدخلون في قوام الطبقتين الأولى و الثانية. و هكذا ينتمي دائماً جيل واحد إلى الطبقة الأولى و الثانية، و ينتمي الجيل التالي إلى الطبقة الثالثة و الرابعة، ثم ينتمي الجيل الثالث من جديد إلى الطبقة الأولى و الثانية. و تبعاً لذلك، لا يستطيع أولاد الأخ و الأخت ( من جهة الأم) أن يكونوا زوجاً و زوجة، و لكن أحفاد الأخ و الأخت يستطيعون ذلك. إن هذا النظام المعقد الأصيل يزداد تعقداً بفعل اندساس العشيرة الأمية (العشيرة حسب خط الأم) فيه، و إن ، على كل حال، في وقت لاحق. و لكنه لا يسعنا هنا أن نستغرق في بحث هذا الأمر. و هكذا نرى ، السعي إلى منع سفاح القربى يتجلى المرة تلو المرة، و لكن بشكل غريزي، عفوي، دون أي إدراك واضح الهدف.
إن الزواج الجماعي الذي لا يزال هنا، في أوستراليا، زواجاً بين طبقتين، زواجاً بالجملة بين طبقة كاملة من الرجال موزعة في كثير من الأحيان في عموم القارة و بين طبقة من النساء موزعة بالقدر نفسه، إن هذا الزواج الجماعي لا يبدو أبداً، حين النظر إليه عن كثب، فظيعاً بالقدر الذي يتصوره خيال التافهين المبتذلين الذي اعتاد على ما يجري في بيوت الدعارة. فلقد مرت، على العكس، سنوات و سنوات قبل أن يخطر في البال مجرد وجوده، فضلاً عن أنهم شرعوا لأمد قريب يجادلون من جديد في وجوده. إن المراقب السطحي يرى فيه زواجاً أحادياً واهي العرى، و يرى في بعض الأنحاء، نظاماً لتعدد الزوجات ترافقه الخيانة الزوجية بين الفينة و الفينة. و كان لا بد من تكريس سنوات كاملة ، كما فعل فايسون و هاويت، لأجل اكتشاف القانون الذي يضبط علاقات الزواج هذه التي يميل الأوروبي العادي إلى أن يرى في ممارستها شيئاً ما يشبه ما يوجد في وطنه، القانون الذي بموجبه يجد الزنجي الأوسترالي الغريب، على بعد آلاف الكيلومترات عن موطنه الأول، بين أناس يتكلمون لغة يجهلها، بل أحياناً كثيرة في كل مقام، في كل قبيلة، نساء على استعداد للاستسلام له بلا مقاومة و بلا استياء، القانون الذي بموجبه يتنازل الرجل الذي عنده عدة نساء، عن واحدة منهن لأجل ضيفه لقضاء الليل معها. و حيث يرى الأوروبي انعدام الأخلاق و القانون، يسود بالفعل قانون صارم. إن هؤلاء النساء ينتمين إلى طبقة الأجنبي الزواجية، و هن بالتالي زوجاته منذ الولادة. إن القانون الأخلاقي نفسه الذي يعدّهم بعضاً لبعض، يمنع، تحت طائلة العقاب المخزي، كل علاقة جنسية خارج الطبقتين الزواجيتين اللتين تخض إحداهما الأخرى. و حتى حيث يخطفون النساء، و هذا أمر يقع في كثير من الأحيان، و هو قاعدة في كثير نم الأنحاء، يطبق قانون الطبقات الزواجية بكل دقة.
و من جهة أخرى، تتبدى في خطف النساء علائم الانتقال إلى الزواج الأحادي، بشكل الزواج الثنائي على الأقل (بين اثنين): فعندما كان الشاب يخطف فتاة بمساعدة أصدقائه بالقوة أو بالإغراء، فإنهم جميعهم يضاجعونها بالدور، و لكنها بعد ذلك تعتبر زوجة ذلك الشاب الذي كان صاحب فكرة الخطف. و بالعكس، إذا هربت المرأة المخطوفة من زوجها و قبض عليها رجل آخر، فإنها تصبح زوجة هذا الأخير، و يفقد الأول حقه المفضل عليها. و إلى جانب و في قلب الزواج الجماعي الذي لا يزال قائماً على العموم، تبرز بالتالي علاقات تستبعد الآخرين، يبرز تزاوج، تجامع شخصين (رجل و امرأة) لفترة من الزمن قد تطول أو تقصر، و إلى جانب ذلك، يقوم تعدد الزوجات، و عليه نرى الزواج الجماعي هنا أيضاً بسبيل الزوال، و تنحصر المسألة كلها في معرفة من ذا الذي سيغادر الحلبة قبل غيره تحت تأثير الأوروبيين، الزواج الجماعي أم أتباعه، الزنوج الأوستراليون.
إن الزواج بين طبقات بكاملها بالشكل الذي يسود به في أوستراليا، هو على كل حال شكل منخفض جداً، بدائي من أشكال الزواج الجماعي، بينما العائلة البونالوانية هي، حسبما نعرف، الدرجة العليا في تطوره. و يبدو أن الأول شكل يناسب مستوى التطور الاجتماعي الذي بلغه المتوحشون الرحل، بينما الثاني يفترض وجود مقامات ثابتة نسبياً لمشاعات شيوعية، و يؤدي مباشرة إلى الدرجة التالية العليا من التطور. و بين هذين الشكلين، نجد أيضاً، بلا ريب، بعض الدرجات الوسطية. و هذا ميدان للبحث انفتح أمامنا للتو و يكاد يكون غير مطروق.
إن مورغان الذي أمضى القسم الأكبر من حياته بين الإيروكوا الذين لا يزالون يعيشون اليوم في ولاية نيويورك، و الذي تبنته إحدى قبائلهم (قبيلة سينيكا)، قد اكتشف عندهم نظاماً للقرابة يتناقض مع علاقاتهم العائلية الفعلية. فقد كان يسود عندهم ذلك الزواج الأحادي، الذي يسهل على كل من الطرفين المعنيين حله، و الذي يسميه مورغان "العائلة الثنائية". و لهذا كانت ذرية هذين الزوجين معروفة و معترف بها من الجميع: فلم يكن من الممكن أن يقوم أي شك فيما يتعلق بالأشخاص الذين ينبغي إطلاق أسماء الأب و الأم و الابن و الابن و الأخ و الأخت عليهم. و لكن استعمال هذه التعابير في الواقع يناقض هذا الأمر. فإن الإيروكوي لا يسمي أولاده بالذات و حسب بأبنائه و بناته، بل أيضاً أولاد أخوته، و هؤلاء يسمونه بوالدهم. أما أولاد أخواته، فيسميهم بأبناء و بنات أخواته، و هؤلاء يسمونه بخالهم. و على العكس تسمي الإيروكوية أولاد أخواتها، مثل أولادها بالذات، بأبنائها و بناتها، و أولاد أخواتها يسمونها بأمهم. أما أولاد أخوتها، فتسميهم بأبناء و بنات أخوتها، و تسمى هي عمة. و أولاد الأخوة يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة و الأخوات، شأنهم شأن أولاد الأخوات. و على العكس، يسمي أولاد المرأة و أولاد أخيها بعضهم بعضاً " بالأخوة و الأخوات من المرتبة الثانية" (أي بأبناء و بنات الخال و العمة) و ليست هذه مجرد أسماء لا معنى لها و لا أهمية، بل تعابير عن النظرات القائمة فعلاً إلى القرابة و البعد، و إلى المساواة وعدم المساواة في قرابة الدم، و هذه النظرات تشكل أساس نظام للقرابة موضوع بصورة كاملة، و بوسعه أن يعكس بضع مئات من مختلف علاقات القربى لدى فرد واحد. و فضلاً عن ذلك، لا يسري مفعول هذا النظام كلياً عند جميع الهنود الحمر الأميركيين و حسب ( و حتى الآن لم يظهر أي استثناء له) بل يسود أيضاً بدون تغيير تقريباً عند أقدم سكان الهند، أي عند قبائل ديكان الدرافيدية و قبائل غاوورا في هندوستان. إن أسماء القرابة عند قبائل تاميل في الهند الجنوبية و عند الإيروكوا من قبيلة سينيكا في ولاية نيويورك لا تزال حتى الآن متماثلة فيما يتعلق بأكثر من مائيتين من مختلف علاقات القرابة. و علاقات القرابة ، الناجمة من شكل العائلة القائم ، تناقض كذلك نظام القرابة سواء عند هذه القبائل الهندية أم عند جميع الهند الحمر الأميركيين.
فكيف نفسر هذا؟ نظراً للدور الحاسم الذي تضطلع به القرابة في النظام الاجتماعي عند جميع الشعوب المتوحشة و البربرية، لا يمكن بمجرد الجمل إزالة أهمية هذا النظام المنتشر هذا الانتشار الواسع. و أن نظاماً يسود في كل مكان من أميركا و يوجد كذلك في آسيا عند شعوب من عرق آخر تماماً، و يقوم بكثرة بأشكال معدلة إلى هذا الحد أو ذاك في كل مكان من إفريقيا و أوستراليا، إن نظاماً كهذا يتطلب تفسيراً تاريخياً، و لا يمكن التهرب منه بالكلمات، كما حاول أن يفعل ذلك، مثلاً، ماك-لينان (15). إن أسماء الأب و الولد و الأخ و الأخت، ليست مجرد ألقاب فخرية، بل تستتبع واجبات متبادلة محددة تماماً، و جدية جداً، يشكل مجموعها قسماً جوهرياً من النظام الاجتماعي عند هذه الشعوب. و قد وجد التفسير. ففي جزر السندويتش (هاواي)، كان لا يزال يوجد في النصف الأول من القرن الحالي، القرن التاسع عشر، شكل للعائلة يقوم فيه آباء و أمهات و أخوة و أخوات و أبناء و بنات و أخوال و خالات و أعمام و عمات و أبناء و بنات أخ أو أخت كالذين يقتضيهم نظام القرابة في أميركا و في الهند القديمة. و لكن، يا للغرابة! فإن نظام القرابة الساري المفعول في جزر هاواي لم يكن يتطابق هو أيضاً مع شكل العائلة الموجودة هناك فعلاً. فالواقع أن جميع أولاد الأخوة و الأخوات بلا استثناء يعتبرون هناك أخوة و أخوات و أولاد مشتركين لا لأمهم و أخواتها و حسب أو لوالدهم و أخوته، بل أيضاً لجميع أخوة و أخوات والديهم بلا تمييز. و لذا، إذا كان نظام القرابة الأميركي يفترض شكلاً للعائلة أكثر بدائية لم يعد له وجود في أميركا و لا نزال نجده بالفعل في جزر هاواي، فإن نظام القرابة الهاوايي يشير، من جهة أخرى، إلى شكل للعائلة أقدم عهداً من ذاك، لم يعد بإمكاننا في الوقت الحاضر، و الحق يقال، أن نجده في أي مكان، و لكنه كان من كل بد موجوداً و إلا لما كان من الممكن أن ينشأ نظام القرابة المناسب.
يقول مورغان:
"إن العائلة عنصر نشيط، فعال. فهي لا تبقى أبداً كما هي عليه بدون أي تغيير، بل تنتقل من شكل أدنى إلى شكل أعلى بقدر ما يتطور المجتمع من درجة دنيا إلى درجة عليا. أما أنظمة القرابة، فهي ، على العكس، خاملة، غير نشيطة. و هي لا تسجل، إلا بعد مرور حقبات طويلة من الزمن، ذلك التقدم الذي تحققه العائلة في خلال هذه الحقبات، و لا تطرأ عليها أي تغيرات جذرية إلا عندما تكون العائلة قد تغيرت بصورة جذرية" (16).
و يضيف ماركس قائلاً:
"كذلك هي الحال بالضبط فيما يتعلق بالأنظمة السياسية و الحقوقية و الدينية الفلسفية على العموم"(17).
فبينا العائلة تواصل تطورها، يتحجر نظام القرابة، و بينا هذا الأخير يظل قائماً بحكم العادة، تتجاوز العائلة حدوده. و لكن بنفس اليقين الذي استطاع كوفيه أن يستنتج به من عظام جرابية الشكل لهيكل حيوان وجدها في ضواحي باريس بأن هذا الهيكل هو هيكل حيوان جرابي و بأنه كانت تعيش هناك فيما مضى حيوانات جرابية انقرضت بعد ذاك،بنفس هذا اليقين نستطيع نحن أن نستنتج من نظام القرابة الذي وصل إلينا عبر التاريخ، أنه كان يوجد شكل للعائلة زال اليوم من الوجود و كان مناسباً له.
إن أنظمة القرابة و أشكال العائلة ، التي ذكرناها آنفاً، تختلف عن الأنظمة و الأشكال السائدة حالاً بوجود عدة آباء و أمهات للولد الواحد. فبموجب نظام القرابة الأميركي الذي تناسبه العائلة الهاوايية، لا يمكن للأخ و الأخت أن يكونا والد و أم الولد نفسه. و لكن نظام القرابة الهاوايي يفترض عائلة كان فيها ذلك، بالعكس، هو القاعدة. و هنا نواجه جملة من أشكال العائلة تناقض مباشرة الأشكال التي كانت تعتبر عادة حتى الآن الأشكال الوحيدة. إن المفهوم التقليدي لا يعرف غير الزواج الأحادي، إلى جانبه تعدد زوجات الرجل، و بالإضافة إليه عند اللزوم، تعدد أزواج المرأة، و لكنه، فضلاً عن ذلك، يلزم الصمت، كما يليق بالتافه الضيق الأفق الواعظ، حول أن الممارسة تتعدى الحدود التي يرسمها المجتمع الرسمي، و تتعداها خلسة، و لكن بدون تكلف. و على العكس، تبين لنا دراسة التاريخ البدائي ظروفاً يعيش فيها الرجال في حالة تعدد الزوجات و تعيش فيها زوجاتهن في الوقت نفسه في حالة تعدد الأزواج، و يعتبر فيها، لهذا السبب، أولاد هؤلاء و أولئك أولاداً مشتركين لهم جميعهم، ظروفاً طرأت عليها بدورها سلسلة كاملة من التغيرات قبل أن تندمج نهائياً في الزواج الأحادي. و هذه التغيرات هي على نحو بحيث أن الحلقة التي تشملها عرى الزواج المشتركة، و التي كانت في البدء واسعة جداً، أخذت تتقلص أكثر فأكثر إلى حد أنه لم يبق، في آخر المطاف، غير الزوج المتميز الذي يهيمن في الوقت الحاضر.
إن مورغان، و قد بعث على هذا النحو تاريخ العائلة بتسلسل معكوس، يخلص إلى القول، بالاتفاق مع غالبية زملائه، بأنه كان يوجد وضع بدائي كانت فيه العلاقات الجنسية غير المحدودة تسود داخل القبيلة بحيث إن كل امرأة كانت تخص كل رجل و بحيث إن كل رجل كان يخص كل امرأة. و منذ القرن الماضي، أخذوا يتحدثون عن هذا الوضع البدائي، و لكنهم كانوا يكتفون بالجمل و التعابير العامة، إلا أن باهوفن وحده- و هنا تقوم إحدى مآثره الكبيرة- نظر إلى هذه المسألة نظرة جدية و شرع يبحث عن آثار هذا الوضع في الحكايات التاريخية و الدينية (18). و نحن نعرف الآن أن هذه الآثار التي وجدها لا تعود بنا البتة إلى طور اجتماعي من علاقات جنسية غير منظمة، بل إلى شكل ظهر بعد ذلك بوقت كبير، إلى الزواج الجماعي. أما الطور الاجتماعي البدائي المنوه به هنا، هذا إذا كان قد وجد فعلاً، فإنه يعود إلى عهد بعيد عنا إلى حد أنه يستحيل علينا تقريباً أن تأمل بأننا سنجد بين الدفائن الاجتماعية، و بين المتوحشين المتخلفين، براهين مباشرة على وجوده فيما مضى. و مأثرة باهوفن تتلخص على وجه الضبط في كونه طرح بحث هذه المسألة في المرتبة الأولى*[1]
و في الآونة الأخيرة، أصبح من الدارج إنكار هذا الأطوار الأولية من حياة الناس الجنسية. فالمقصود إنقاذ البشرية من هذا "العار". و لهذا الغرض، لا يستشهدون بعدم وجود أي برهان مباشر و حسب، بل يركزون أيضاً بوجه خاص على مثال بقية العالم الحيواني، و في هذا الميدان، جمع ليتورنو ("تطور الزواج و العائلة"، 1888) (19) وقائع كثيرة تبين أن العلاقات الجنسية غير المنظمة إطلاقاً تلازم، هنا أيضاً ، درجة دنيا من التطور. و لكن كل ما أستطيع استخلاصه من هذه الوقائع، هو أنها لا تثبت أي شيء على الإطلاق فيما يخص الإنسان و ظروف حياته البدائية. فإن المساكنة الزوجية الطويلة الأمد عند الفقاريات تفسرها بصورة كافية الأسباب الفيزيولوجية: فعند الطيور ، مثلاً، تفسرها حاجة الأنثى إلى المساعدة و الحماية في مرحلة حضانة البيض و الأفراخ، و أن أمثلة على متانة أحادية الزواج عند الطيور لا تثبت شيئاً فيا يتعلق بالناس لأن الناس لا يتحدرون من الطيور. و إذا كانت أحادية الزواج الصرف ذروة كل فضيلة، فإن قصب السبق في هذا لمجال يعود عن حق و استحقاق إلى الدودة الشريطية التي يوجد في كل من عقدها أو مفاصلها الـ 50 إلى 200، جهاز تناسلي كامل للذكر و الأنثى، و التي تقضي حياتها كلها في مضاجعة نفسها بنفسها في كل من عقدها هذه. أما إذا اقتصرنا على الضرعيات، فإننا نجد عندها جميع أشكال الحياة الجنسية: العلاقات غير المنظمة، و أشكالاً مماثلة للزواج الجماعي، و تعدد الزوجات، و الزواج الأحادي، و لا ينقص غير تعدد الأزواج، الذي لم يستطع أن يبلغه غير البشر. و حتى عند أقرب أقربائنا القرود، يظهر تجمع الذكور و الإناث بجميع الأشكال الممكنة، و إذا أخذنا نطاقاً أضيق، و إذا لم نأخذ بالحسبان غير الأنواع الأربعة من القرود الشبيهة بالإنسان، فإن كل ما يستطيع ليتورنو أن يقوله لنا في هذا الصدد، هو أننا نجد عندها أحادية الزواج تارة و طوراً تعدد الزوجات ، في حين أن سوسور يؤكد، بالاستناد إلى جيرو-طولون، أنها أحادية الزواج. ثم أن تأكيدات فسترمارك الحديثة ("تاريخ الزواج البشري"، لندن، 1891)(20) حول أحادية الزواج (21) عند القرود الشبيهة بالإنسان هي أيضاً أبعد من أن تشكل برهاناً و بكلمة ، إن المعطيات المتوفرة لعلى نحو بحيث أن الفاضل و النزيه ليتورنو يعترف بأنه:
"لا توجد أبداً، مع ذلك، عند الضرعيات، مطابقة دقيقة بين درجة التطور العقلي و شكل العلاقات الجنسية"(22).
أما إيسبيناس ("في المجتمعات الحيوانية"، 1877) فيقول صراحة:
"القطيع هو أعلى جماعة اجتماعية يمكننا أن نراقبها عند الحيوانات. و هي تتألف ، على ما يبدو، من عائلات، و لكن العائلة و القطيع في تناحر منذ بادئ بدء، و كل منهما يتطور باتجاه معاكس لتطور الآخر"(23).
و هكذا، كما يتبين مما قيل أعلاه، نحن لا نعرف تقريباً أي شيء دقيق عن الجماعات العائلية و غيرها من المجموعات العائشة معاً من القرود الشبيهة بالإنسان، و المعطيات المتوافرة يناقض بعضها بعضاً تماماً. و لا غرابة. فما أشد التناقض حتى بين المعطيات المتوافرة لنا عن القبائل البشرية في طور الوحشية و ما أكثر ما تحتاج إلى التحليل و الدراسة و الغربلة بعين نقادة! و الحال، أن مراقبة مجتمعات القرود أصعب بكثير من مراقبة المجتمعات البشرية. و لذا ينبغي لنا أن ننبذ كل استنتاج مستخلص من هذه المعطيات المشكوك فيها إطلاقاً ، طالما لم نحصل على معطيات أوضح و أوسع.
أما فكرة إيسبيناس التي استشهدنا بها آنفاً، فإنها، على العكس، تعطينا نقطة ارتكاز أمتن. فإن القطيع و العائلة عند الحيوانات العليا لا يكملان بعضهما بعضاً، بل يناقض بعضهما بعضاً. و يبين إيسبيناس جيداً جداً كيف تضعف غيرة الذكور، أثناء فترة الهيجان، لحمة القطيع أو تقضي عليها مؤقتاً. "حيث العائلة و ثيقة اللحمة، لا يتشكل القطيع إلا بصورة استثنائية جداً. و لكن القطيع يتشكل ، على العكس، من تلقاء نفسه تقريباً حيث تسود إما المجامعة الجنسية الحرة و إما تعدد الأزواج... و لكي يتشكل القطيع، كان لا بد أن تضعف الروابط العائلية و أن يستعيد الفرد حريته. و لهذا نادراً جداً ما نرى أسراباً منظمة عند الطيور ... أما عند الضرعيات، فإننا نجد ، على العكس، مجتمعات منظمة إلى درجة ما، و ذلك على وجه الضبط لأن الفرد هنا لا تبتلعه العائلة ... و لهذا لا يمكن أن يجابه الشعور بجماعية القطيع لدن نشوئه عدواً أكبر من الشعور بجماعية العائلة. و نقول صراحة: إذا كان قد قام و تطور شكل اجتماعي أعلى من العائلة، فإن ذلك لم يحدث إلا لأن هذا الشكل قد أذاب في داخله العائلات التي طرأت عليها تغيرات جذرية، مع العلم أنه ليس من المستبعد أن يكون ذلك على وجه الضبط ما أتاح فيما بعد للعائلات أن تتشكل من جديد في ظروف أكثر ملائمة إلى ما لا حد له". (إيسبيناس. المرجع المذكور. فقرة أوردها جيرو –طولون في مؤلفه "أصل الزواج و العائلة"، عام 1884).
و من هنا نرى أن للمجتمعات الحيوانية قيمة ما بالنسبة للاستنتاجات التي يجب استخلاصها منها بصدد المجتمعات البشرية، و لكن هذه القيمة سلبية فقط. فعند الفقاريات العليا، حسبما نعرف، لا يوجد غير شكلين من العائلة: تعدد الزوجات، و المعايشة أزواجاً منفردة، و كل من الشكلين لا يجيز سوى ذكر راشد واحد، سوى زوج واحد. إن غيرة الذكر التي تشد عرى العائلة الحيوانية و تحدها في آن واحد تجعل العائلة مضادة للقطيع. و إذا القطيع، هو شكل أعلى للمعاشرة، يزول أحياناً بسبب هذه الغيرة و أحياناً يفقد لحمته أو ينحل أثناء فترة اليهجان، أو يتوقف تطوره، في أفضل الأحوال. و هذا وحده يكفي لتقديم البرهان على أن العائلة الحيوانية و المجتمع البشري البدائي شيئان لا يتفقان، و أن الناس البدائيين الذين تخلصوا من الحالة الحيوانية (بفضل العمل)، إما أنهم لم يعرفوا العائلة على الإطلاق و إما أنهم، في أفضل الأحوال، عرفوا عائلة غير موجودة عند الحيوانات. فإن الحيوان غير المسلح، كما كان عليه الإنسان بسبيل التكون، كان بوسعه ، أغلب الظن، أن يبقى بعدد غير كبير حتى في حالة العزلة التي كان أعلى شكل للمعاشرة فيها هو شكل المعايشة أزواجاً كالذي تعيش فيه ، على حد قول فسترمارك بالاستناد إلى حكايات لصيادين، قرود الغوريللا و الشمبانزي. و لكن لأجل الخروج في سياق التطور من الحالة الحيوانية لأجل تحقيق التقدم الأكبر الذي تعرفه الطبيعة، كان لا بد من عنصر آخر: كان ينبغي إحلال قوة القطيع الموحدة و أعماله الجماعية محل نقص قدرة الفرد على الدفاع. و أنه ليستحيل إعطاء تفسير للانتقال من هذه الظروف التي تعيش فيها حالياً القرود الشبيهة بالإنسان إلى الحالة البشرية. فإن هذه القرود تظهر بالأحرى بمظهر خطوط جانبية منحرفة محكوم عليها بالاندثار تدرجياً و بسبيل الانحطاط و الزوال على كل حال. و هذا وحده يكفي للامتناع عن إجراء أي مقارنات بين أشكل العائلة عندها و عند الإنسان البدائي. ذلك أن التساهل المتبادل بين الذكور الراشدين و انعدام الغيرة كانا الشرط الأول لنشوء جماعات أكثر اتساعاً و أطول عمراً لم يكن من الممكن أن يتحقق تحول الحيوان إلى إنسان إلا في وسطها. و بالفعل ، أي شيء نجده بوصفه أقدم و أبكر شكل للعائلة، بوصفه الشكل الذي نقدم الدليل المفحم على وجوده في التاريخ و الذي يمكننا أن ندسه في الوقت الحاضر أيضاً هنا و هناك؟ الزواج جماعات جماعات (الزواج الجماعي) ، شكل الزواج الذي كانت بموجبه جماعات كاملة من الرجال و جماعات كاملة من النساء تخص بعضها بعضاً بصورة متبادلة و الذين كان يترك مجالاً صغيراً جداً للغيرة. و فيما بعد، في درجة لاحقة من التطور، نجد شكلاً استثنائياً كما هو عليه شكل تعدد الأزواج الرجال الذي يناقض، تناقضاً صارخاً، بالتأكيد، كل شعور بالغيرة، و الذي هو بالتالي غير معروف عند الحيوانات. و لكن الأشكال التي نعرفها من الزواج الجماعي تقترن بشروط متشابكة و معقدة إلى حد أنها تشير بالضرورة إلى أشكال للمعاشرة الجنسية أبكر عهداً و أكثر بساطة، و تشير في الوقت نفسه، في آخر المطاف، إلى مرحلة من العلاقات الجنسية غير المنظمة تناسب الانتقال من الحالة الحيوانية إلى الحالة البشرية، و لهذا تعود بنا الاستشهادات بأشكال الزواج عند الحيوانات إلى نفس النقطة التي كان يجب أن تبعدنا عنها مرة واحدة و إلى الأبد.
فماذا يعني تعبير: العلاقات الجنسية غير المنظمة؟ إنه يعني إن القيود المانعة السارية المفعول في زمننا أو في زمن أسبق لم تكن سارية المفعول آنذاك. و قد سبق لنا و رأينا سقوط القيد الذي تشترطه الغيرة. و من الثابت أن الغيرة شعور تطور في مرحلة لاحقة نسبياً. و يمكن قول الشيء نفسه بصدد مفهوم سفاح القربى. فإن الأخ و الأخت كانا في المرحلة البدائية زوجاً و زوجة، و ليس هذا و حسب، بل أن شعوباً كثيرة لا تزال في الوقت الحاضر تجيز العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد. و يشهد بانكروفت ("العروق الأصلية في ساحل المحيط الهادئ من أميركا الشمالية"، عام 1875، المجلد الأول (24)) على وجود مثل هذه العلاقات عند الكافياك المقيمين عند سواحل مضيق بيرينغ و عند سكان جزيرة كادياك في جوار ألاسكا و عند التينّه المقيمين في القسم الداخلي من أميركا الشمالية البريطانية، و يعطي ليتورنو موجزاً لمثل هذه الوقائع عند الهنود الحمر الشيبيوي و عند الكوكوس في التشيلي، و عند الكاراييب و عند الكارين في شبه جزيرة الهند الصينية، هذا بالإضافة إلى حكايات قدماء اليونانيين و الرومانيين عن البارثيين و الفرس و السقيتيين و الهون و غيرهم. و قبل اكتشاف سفاح القربى (و هذا اكتشاف حقاً و فعلاً، بل هو اكتشاف فائق القيمة) ، لم يكن من المكن أن تثير العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد نفوراً أكبر من ذاك الذي تثيره العلاقة الجنسية بين أشخاص آخرين ينتمون إلى أجيال مختلفة، و الحال، لا يزال يحدث هذا الآن في أكثر البلدان تفاهة و ابتذالاً دون أن يثير شديد الاشمئزاز، فحتى "الآنسات" العوانس ممن تجاوزن الستين من العمر يتزوجن أحياناً، إذا كن غنيات، من شبان في الثلاثين من العمر. أما إذا طرحنا عن أبكر أشكال العائلة، التي نعرفها، مفاهيم سفاح القربى المقرونة بها – و هي مفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيمنا، و تناقضها كلياً أحياناً كثيرة- لوجدنا شكلاً من العلاقات الجنسية لا يمكن نعته إلا بأنه غير منظم. غير منظم، لأن القيود التي فرضها العرف و العادة فيما بعد لم تكن قد ظهرت بعد. و لكنه لا ينجم أبداً من هنا أن التشوش التام في ممارسة هذه العلاقات يومياً كان أمراً محتماً. فإن المعايشة المؤقتة بين بعض الأزواج لم تكن أبداً مستبعدة إذ أن حالاتها غدت الآن أغلبية الحالات حتى في ظل الزواج الجماعي. و إذا كان فسترمارك، و هو أحدث البحاثة الذين ينكرون مثل هذا الوضع البدائي، ينعت بالزواج كل حالة يبقى فيها الجنسان (الرجل و المرأة ) متحدين في مساكنة زوجية حتى ولادة نسل منهما، فإنه ينبغي القول أنه كان من الممكن أن يقوم مثل هذا النوع من الزواج في ظل العلاقات الجنسية غير المنظمة، دون أن يناقض أبداً حالة انعدام التنظيم، أي حالة انعدام القيود التي يفرضها العرف و العادة على العلاقات الجنسية. صحيح أن فسترمارك ينطلق من النظرة القائلة أن:
"انعدام التنظيم يفترض خنق الميول الفردية"، و لذلك "كان البغاء (25) أصح أشكاله".
أما أنا، فيخيل إلي، على العكس، أنه يستحيل فهم الظروف البدائية طالما ينظرون إليها حسب مفهوم بيوت الدعارة. و سنعود إلى هذه المسألة عند دراسة الزواج الجماعي.
و إليكم، حسب مورغان، أي تطور طرأ في زمن باكر جداً، حسب كل احتمال، على هذه الحالة البدائية للعلاقات غير المنظمة:
هنا تنقسم الجماعات الزواجية حسب الأجيال: فإن جميع الجدود و الجدات في نطاق العائلة هم أزواج و زوجات فيما بينهم، شأنهم شأن أولادهم، أي الآباء و الأمهات، و على النحو نفسه، يشكل أولاد الأخيرين الحلقة الثالثة من الأزواج المشتركين، و يشكل أولادهم، أي أولاد أحفاد الأولين الحلقة الرابعة. و في هذا الشكل من العائلة، لا تنتفي الحقوق و الواجبات الزوجية المتبادلة (إذا تكلمنا بغلة عصرنا) إلا بين الأسلاف و الأخلاف، بين الآباء و الأولاد. أما الأخوة و الأخوات من الدرجة الأولى و الثانية و الثالثة و ما يليها، فإنهم جميعاً أخوة و أخوات فيما بينهم، و هم لهذا السبب بالذات أزواج و زوجات فيما بينهم. و في هذا الطور من العائلة تشمل علاقة القربى بين الأخ و الأخت العلاقة الجنسية فيما بينهما كشيء بديهي.*[1] ولذا يتألف الشكل المثالي لهذه العائلة من ذرية زوج واحد (رجل و امرأة) يكون الجميع فيها في كل جيل من الأجيال المتعاقبة أخوة و أخوات فيما بينهم، و بالتالي أزواج و زوجات فيما بينهم.
و قد زالت عائلة قربى الدم. و حتى عند أوحش الشعوب التي ذكرها التاريخ، يستحيل إيجاد مثال و احد لا مراء فيه. و لكنه كان لا بد لهذه العائلة أن تكون موجودة، و هذا ما يحملنا على الإقرار به نظام القرابة الهاوايي الذي لا يزال حالياً ساري المفعول في عموم بولينيزيا و الذي يعرب عن درجات من قرابة الدم لا يمكن ان تنشأ إلى في ظل هذا الشكل من العائلة . كذلك يحملنا على الإقرار بذلك كل تطور العائلة اللاحق الذي يفترض وجود هذا الشكل بوصفه درجة أولية لا غنى عنها.
و بصورة بحث في شعر السكالد وضعه في مستهل القرن الثالث عشر الشاعر و المؤرخ سنوري ستورلوسون ("إيدا الصغرى"). صورت أغاني "إيدا" حالة المجتمع السكاندينافي في مرحلة تفسخ النظام العشائري و هجرة الشعوب. و هي تتضمن شخصيات و مواضع من إبداع قدماء الجرمان الشعبي.
"أوغيسدريكا"- إحدى لأغاني "إيدا الكبرى"، و هي تعود إلى نصوص للمجموعة مكتوبة في زمن أكثر تأخراً. و هنا يورد إنجلس مقتطفات من المقطعين 32 و 36 من هذه الأغنية.
"ساغا إينغلينغ" – الساغا الأولى (حكاية، أسطورة) – من كتاب عن الملوك النروجيين (منذ غابر الأزمنة حتى القرن الثاني عشر) للشاعر و المؤرخ الأسلندي سنوري ستورلوسون من القرون الوسطى، "Heimskringla" ("الحلقة الأرضية") موضوع في النصف الأول من القرن الثالث عشر على أساس الأخبار التاريخية عن الملوك و النروجيين و الساغات العشيرية الأسلندية و النروجية. و هنا يورد إنجلس مقتطفاً من الفصل الرابع من هذه الساغا.
[1] أعرب ماركس في رسالة كتبها في ربيع 1882 (26) بأحد التعابير عن رأيه في نص "Nibelungen" ("نيبيلونغ") لفاغنر، الذي يشوه كلياً العصر البدائي. "هل سمع يوماً أن الأخ يعانق أخته كأنها زوجته؟ (27)". و بصدد هذه "الآلهة الشهوانية" الفاغنرية التي تضفي بطريقة عصرية تماماً على مساعيها الغرامية قدراً أكبر من الحرافة و اللذع برشها ببعض من سفاح القربى، لاحظ ماركس قائلاً: في العصر البدائي كانت الأخت زوجة، و كان ذلك أمراً أخلاقياً مشروعاً". (ملاحظة إنجلس لطبعة 1884).
إن واحداً من أصدقاء فاغنر الفرنسيين (بونيه) و من المعجبين به لم يوافق على هذه الملاحظة و أشار إلى أننا نجد في "إيدا الكبرى" التي يستند إليها فاغنر أن لوكي يوجه في "أوغيسدريكا" إلى فريا اللوم التالي: "لقد عانقت أخاك بالذات بحضور الآلهة". فكأنه ينجم من هنا أن الزواج بين الأخ و الأخت كان آنذاك محرماً. و لكن "أوغيسدريكا" تعكس ذلك الزمن الذي كان فيه الإيمان بالأساطير القديمة قد تحطم تماماً، فهي تسخر بالآلهة على طريقة لوقيانوس تماماً. و إذا كان لوكي يوجه هنا، على غرار مفيستو، مثل هذا اللوم إلى فريا، فإن هذا يشكل بالأحرى دليلاً ضد فاغنر. ناهيك بأن لوكي يقول لنيوردر بعد بضعة أبيات: "مع أختك ولدت أنت ابناً (كهذا)" (vidh systur thinni gaztu slikan mö-;-g (28)) صحيح أن نيوردر ليس آساً Ase بل فاناً Vane و أنه يقول في "أونغلينغا ساغا" Junglinga Saga أن الزواج بين الأخوة و الأخوات أمر عادي في بلاد الفان Vanaland، بينا لم يكن كذلك عند الآس Ases (29). قد يدل هذا على أن الفان آلهة أقدم من الآس. و على كل حال، يعيش نيوردر بين الآس على قدم المساواة، و لهذا تثبت "أوغيسدريكا" بالأحرى أن الزواج بين الأخوة و الأخوات، عند الآلهة على الأقل، في عهد ظهور الأساطير النروجية عن الآلهة، لم يكن يستثير بعد أي نفر و اشمئزاز. أما إذا كان المقصود تبرير فاغنر، فلعله من الأفضل الاستشهاد بغوته لا بـ "أيدا"، لأن غوته يقترف في قصيدته عن الإله و الراقصة الهندية خطأ مماثلاً فيما يتعلق بواجب المرأة الديني بالاستسلام و المضاجعة في المعابد، و يقرب هذه العادة كثيراً جداً من الدعارة العصرية". (إضافة إنجلس إلى طبعة 1981).
2/2 العائلة البونالوانية
إذا كانت الخطوة التقدمية الأولى في تنظيم العائلة قد تلخصت في تحريم العلاقة الجنسية بين الآباء و الأولاد، فقد تلخصت الخطوة الثانية في تحريم العلاقة الجنسية بين الأخوة و الأخوات. و قد كانت هذه الخطوة، نظراً للقدر الأكبر من المساواة في العمر بين ذوي العلاقة، أهم من الأولى بما لا حد له، و لكنها كانت أيضاً أصعب منها. فهي لم تتحقق دفعة واحدة، بل تدريجياً، بادئة، حسب كل احتمال، من تحريم العلاقة الجنسية بين الأخوة و الأخوات الأخياف (أي من ناحية الأم فقط)، و قد شمل هذا التحريم أولاً حالات منفردة ثم أصبح تدريجياً قاعدة (و في جزر هاواي، كانت لا تزال هناك شواذات على القاعدة في قرننا)، و انتهى بتحريم الزواج حتى في خطوط القربى المنحرفة، أي، حسب تعابيرنا الحالية، بتحريمه بين أولاد و أحفاد و أولاد أحفاد الأخوة و الأخوات. و هذا التقدم كان، برأي مورغان، "مثالاً بيانياً ممتازاً على الطريقة التي يسري بها مفعول مبدأ الاصطفاء الطبيعي" (30).
و لا ريب في أنه كان لا بد للقبائل التي كان فيها سفاح القربى محدوداً بفضل هذه الخطوة أن تتطور بصورة أسرع و أكمل مما تطورت القبائل التي بقي فيها الزواج نين الأخوة و الأخوات قاعدة و واجباً. أما أي تأثير قوي كان لهذه الخطوة، فتثبته المؤسسة التي نجمت عنها مباشرة و التي تجاوزت كثيراً غايتها الأولية، و هي مؤسسة العشيرة التي تشكل أساس النظام الاجتماعي عند أغلبية الشعوب البربرية في الأرض، إن لم يكن عند جميعها، و التي ننتقل منها مباشرة في اليونان و روما إلى عصر الحضارة.
و كان لا بد أن تنقسم كل عائلة بدائية بعد بضعة أجيال لا أكثر. فإن الاقتصاد المنزلي المشترك الشيوعي البدائي الذي ظل سائداً بلا منازع قبل ازدهار الدرجة المتوسطة من البربرية كان يعين أبعاداً قصوى للمشاعة العائلية تتغير تبعاً للظروف، و لكنها ثابتة إلى هذا القدر أو ذاك في كل مرحلة بعينها. و لكن ما إن ظهرت فكرة عدم جواز العلاقة الجنسية بن أولاد أم واحدة حتى اضطلعت بدورها بالضرورة عند انقسام المشاعات المنزلية القديمة و عند تأسيس مشاعات منزلية جديدة (كانت لا تتطابق حتماً مع الجماعة العائلية). فقد كانت مجموعة أو بضع مجموعات من الأدوات تصبح نواة مشاعية واحدة و كان أخوتهن الأخياف يصبحون نواة مشاعية أخرى. و على هذا النحو أو بنحو مماثل، نجم من عائلة قربى الدم شكل للعائلة أسماه مورغان بالشكل البونالواني. و حسب العادة الهاوايية، كان عدد معين من الأخوات هن أخوات من أم واحدة أو على علاقة قربى أبعد (بنات خالات و أخوال و أعمام و عمات من الدرجة الأولى و الثانية، الخ..) زوجات مشتركات لأزواجهن المشتركين، و لكن باستثناء أخوتهن، و لم يعد هؤلاء الرجال يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة، فضلاً عن أنه لم يعد من الواجب أن يكونوا أخوة، بل "بونالوا" Punalua و كلمة بونالوا تعني رفيقاً قريباً أو associé *[1] إذا جاز القول. و على النحو ذاته، كانت مجموعة من الأخوة، أخوة من أم واحدة أو على علاقة قربى أبعد، تدخل في زواج مشترك مع عدد معين من النساء و لكن من غير أخواتهم، و كانت هؤلاء النساء يسمين بعضن بعضاً بالبونالوا. هكذا كان الشكل الكلاسيكي للتكوينة العائلة، و هذا الشكل طرأت عليه فيما بعد تغيرات و كان سمته المميزة الرئيسة الشراكة المتبادلة للرجال و النساء داخل حلقة عائلية معينة، و لكن هذه الحلقة لم تكن تشمل أخوة الزوجات، الأخوة الأخياف في البدء، ثم أيضاً الأخوة على درجات أبعد من القربى، و كذلك من الناحية المقابلة أخوات الأزواج.
إن شكل العائلة هذا هو الذي يقدم لنا بكامل الدقة درجات القرابة التي يعبر عنها النظام الأميركي. فإن أولاد أخوات أمي لا يزالون أولادها أيضاً، مثلما كان أولاد أخوة والدي لا يزالون أولاده، و جميعهم أخوتي و أخواتي. و لكن أولاد أخوة مي أصبحوا الآن أبناء و بنات أخوتها، و أولاد أخوات والدي أصبحوا أبناء و بنات أخواته، و جميعهم أصبحوا أخوتي و أخواتي من الدرجة الثانية أي أبناء و بنات أخوالي و عماتي. و بالفعل، بينا أزواج أخوات أمي لا يزالون أزواجها، مثلما زوجات أخوة والدي لا يزلن زوجاته، شرعاً إن لم يكن دائماً فعلاً، أدى تنديد المجتمع بالعلاقة الجنسية بين الأخوة و الأخوات من الدرجة الأولى إلى انقسام أولاد الأخوة و الأخوات إلى قسمين، مع إنهم كانوا قبل ذلك يعتبرون بلا تمييز أخوة وأخوات: فإن بعضهم يبقون فيما بينهم كما من قبل أخوة و أخوات (حتى و إن كانا على درجات أبعد من القرابة)، أما البضع الآخر، أي أولاد الأخ من جهة، و أولاد الأخت من جهة أخرى، فلم يبق بوسعهم أن يكونوا أخوة و أخوات، لم يبق بوسعهم أن يكون لهم آباء مشتركون، لا أب مشترك و لا أم مشتركة لا الأب و الأم معاً، و لهذا تظهر هنا للمرة الأولى الحاجة إلى فئة أبناء بنات الأخ و الأخت، و أبناء و بنات العم و الخال و العمة و الخالة (أو الأخوة و الأخوات من الدرجة الثانية)، أي إلى فئة لم يكن لها أي معنى في ظل النظام العائلي السابق. إن نظام القرابة الأميركي الذي يبدو أخرق تماماً في كل شكل للعائلة يرتكز على هذا النوع أو ذاك من الزواج الأحادي، إنما يجد لنفسه تفسيراً معقولاً و تعليلاً طبيعياً، بما في ذلك أقل تفاصيله، في العائلة البونالوانية. و بقدر ما انتشر نظام القرابة هذا، كان لا بد، على الأقل، أن توجد أيضاً العائلة البونالوانية أو شكل ما للعائلة مماثل.
و من المحتمل أننا كنا حصلنا في عموم بولينيزيا على المعلومات عن شكل العائلة هذا الذي أقيم البرهان على وجوده فعلاً في جزر هاواي، لو استطاع المرسلون الأتقياء مثلهم مثل القسس الإسبانيين الطيبي الذكر في أميركا، أن يروا في هذه العلاقات المناقضة للأخلاق المسيحية شيئاً غير "الرذائل"**[2]. و عندما يحكي لنا قيصر عن البريطانيين Bretons الذين كانوا في زمنه في الطور الأوسط من البربرية و يقول أن "عند كل عشرة رجال أو اثني عشر رجلاً زوجات مشتركات، ناهيك بأنهن في أغلب الأحوال مشتركات بين الأخوة أو بين الآباء و الأبناء" (33)، فإن خير تفسير لهذا الوضع إنما هو وجود الزواج الجماعي. ففي مرحلة البربرية، لم يكن لدى كل من الأمهات عشرة أولاد أو اثنا عشر ولداً بسن تتيح لهم أخذ زوجات مشتركات، بينا نظام القرابة الأميركي الذي يناسب العائلة البونالوانية يفترض عدداً كبيراً من الأخوة لأن جميع أبناء العم و الخال الأقربين و الأبعدين لكل رجل هم أخوته. أما فيما يخص "الآباء و الأبناء"، فمن الممكن أن يكون قيصر قد أخطأ. صحيح أنه ليس من المستبعد إطلاقاً في ظل هذا النظام أن ينتسب الأب و الابن أو الأم و الابنة إلى مجموعة زواجية واحدة، و لكنه من المستحيل بالمقابل وجود الأب و الابنة أو الأم و الابن في هذه المجموعة. كذلك بالذات يقدم هذا الشكل من الزواج الجماعي أو شكل مماثل له أسهل تفسير لأخبار هيرودوتس و غيره من قدماء الكتاب عن شراكة النساء عند الشعوب المتوحشة و البربرية. و هذا ما يصح أيضاً على ما يرويه وطسن و كاي ("سكان الهند" (34)) عن التيكور في أوذ (شمال نهر الغانج):
"إنهم يعيشون معاً" (و المقصود بذلك العلاقات الجنسية)"بغير نظام تقريباً، في نطاق جماعات كبيرة، و إذا كان اثنان منهم يعتبران زوجاً و زوجة، فإن علاقة الزواج هذه ليست إلا إسمية".
أغلب الظن أن مؤسسة العشيرة قد نشأت مباشرة من العائلة البونالوانية في معظم الحالات. صحيح أنه من الممكن أن يكون النظام الأوسترالي لطبقات الزواج (35) قد قدم هو أيضاً نقطة انطلاق لهذه المؤسسة: فعند الأوستراليين توجد عشائر و لكنه لا توجد بعد عندهم عائلة بونالوانية، بل شكل أكثر بدائية للزواج الجماعي.
و في جميع أشكال العائلة الجماعية، لا تمكن معرفة والد الطفل بدقة، و لكنه تمكن معرفة أمه بدقة. و إذا كانت تسمي جميع أولاد العائلة المشتركة أولادها، و تتحمل حيالهم واجبات الأمومة، فإنها مع ذلك تميز أولادها بالذات عن الباقين. و من هنا يتضح أنه ما دام الزواج الجماعي قائماً، لا يمكن إثبات الأصل إلا من ناحية الأم، و لا يمكن بالتالي الاعتراف إلا بخط الأم. و هكذا كان الحال فعلاً عند جميع الشعوب المتوحشة و عند جميع الشعوب التي بلغت الدرجة الدنيا من البربرية. و مأثرة باهوفن الثانية الكبرى، أنه كان أول من اكتشف ذلك. و هو يطلق اسم حق الأم على هذا الاعتراف بالأصل بموجب خط الأم بوجه الحصر، و على علاقات الإرث التي نشأت من هنا و تطورت مع مرور الزمن، و إني احتفظ بهذا الاسم لإيجازه، و لكنه غير موفق، لأنه لا يمكن بعد التحدث في هذه المرحلة من تطور المجتمع عن الحق بالمعنى الحقوقي.
و إذا أخذنا الآن من العائلة البونالوانية جماعة من جماعتيها النموذجيتين، و على وجه الضبط جماعة الأخوات من أم واحدة أو من درجات قرابة أبعد (أي متحدرات من أخوات من أم واحدة في الجيل الأول أو الثاني أو ما يليه)- مع أولادهن و أخوتهن- الأخياف أو من درجات قرابة أبعد من ناحية الأم (الذين ليسوا، حسب افتراضنا، أزواجهن) لرأينا على وجه الضبط تلك الحلقة من الأشخاص الذين يبرزون فيما بعد كأعضاء العشيرة بشكلها الأولي. فإن لجميعهم جدة واحدة مشتركة، و جميع ذريتها النسائية في كل جيل هن أخوات فيما بينهن بحكم تحدرهن منها. و لكنه لم يبق بمستطاع أزواج هؤلاء الأخوات أن يكونوا أخوتهن و لا يمكن أن يتحدروا بالتالي من هذه الجدة و لا يمكنهم بالتالي أن يدخلوا في قوام هذه الجماعة التي تربط بين أعضائها قرابة الدم و التي غدت فيما بعد العشيرة. و لكن أولادهم ينتمون إلى هذه الجماعة لأن النسب حسب خط الأم هو وحده الذي يضطلع بالدور الفاصل نظراً لأنه هو وحده ثابت لا ريب فيه. و مع إقرار تحريم العلاقات الجنسية بين الأخوة و الأخوات، و حتى بين أبعد أقرباء خط القرابة المنحرف من جهة الأم، تحولت الجماعة المعنية إلى عشيرة أي أنها تشكلت بوصفها حلقة ثابتة من أقارب بالدم حسب حبل النسل النسائي لا يستطيعون أن يتزاوجوا فيا بينهم، و هذه الحلقة أخذت مذ ذاك تتوطد أكثر فأكثر بفضل مؤسسات مشتركة أخرى، اجتماعية و دينية على السواء، و تتميز أكثر فأكثر عن العشائر الأخرى من القبيلة ذاتها. و سنتحدث عن هذا بمزيد من التفصيل فيما بعد. و لكن إذا وجدنا أن العشيرة تتطور من العائلة البونالوانية، لا بحكم الضرورة و حسب، بل أيضاً بصورة بسيطة بديهية، توفرت لنا الأسباب لكي نعتبر من المؤكد و الثابت تقريباً وجود هذا الشكل من العائلة فيما مضى عند جميع الشعوب التي يمكن إيجاد مؤسسات العشيرة عندها أي تقريباً عند جميع الشعوب البربرية و المتمدنة.
عندما كتب مورغان كتابه، كانت معلوماتنا عن الزواج الجماعي لا تزال محدودة جداً. كنا نعرف بعض التفاصيل عن الزواجات الجماعية عند الأوستراليين المنتظمين في طبقات، ناهيك بأن مورغان كان قد نشر في عام 1871 معطيات وصلت إليه عن العائلة البونالوانية الهاوايية (36). فإن العائلة البونالوانية قد أعطت ، من جهة، تفسيراً كاملاً لنظام القرابة السائد عند الهنود الحمر الأميركيين و الذي كان بالنسبة لمورغان نقطة انطلاق في جميع أبحاثه ، و كانت، من جهة أخرى، نقطة انطلاق جاهزة كان يمكن منها اشتقاق العشيرة المؤسسة على حق الأم، و كانت أخيراً درجة أعلى بكثير في سلم التطور من الطبقات الأوسترالية. و لهذا كان من المفهوم أن يعتبرها مورغان درجة من التطور سبقت بالضرورة الزواج الثنائي و أن ينسب إليها انتشاراً عاماً في الأزمنة السابقة. و مذ ذاك أطلعنا على جملة كاملة من أشكال الزواج الجماعي الأخرى، و نحن نعرف الآن أن مورغان تجاوز الحد هنا كثيراً جداً. و لكن الحظ حالفه مع ذلك و وجد في عائلته البونالوانية الشكل الأعلى، الشكل الكلاسيكي للزواج الجماعي، الشكل الذي يفسر بأبسط نحو، بالانطلاق منه، الانتقال إلى شكل أعلى.
أما الإغناء الجوهري في معلوماتنا عن الزواج الجماعي؟، فنحن مدينون به قبل كل شيء للمرسل البريطاني لوريمير فايسون الذي درس خلال سنوات عديدة هذا الشكل من العائلة في ميدانها الكلاسيكي، أي في أوستراليا (37). فقد اكتشف درجة التطور الدنيا عند الزنوج الأوستراليين في منطقة ماونت غامبير في أوستراليا الجنوبي. فإن القبيلة كلها هنا مقسومة إلى طبقتين كبيرتين، الكروكي و الكوميت. و العلاقات الجنسية في داخل كل من هاتين الطبقتين ممنوعة منعاً باتاً. و كل رجل من إحدى الطبقتين هو، على العكس، منذ الولادة، زوج كل امرأة من الطبقة الأخرى، و هذه المرأة هي زوجته منذ الولادة. فليس الأفراد، بل جماعات كاملة تتزاوج بعضها مع بعض، طبقة مع طبقة. و تجدر الإشارة إلى أن فارق العمر و القرابة بالدم لا يشكلان هنا أبداً عقبة أمام العلاقات الجنسية، و لا يوجد غير القيد الناجم عن الانقسام إلى طبقتين خارجيتي الزواج. إن كل امرأة من الكوميت هي بالنسبة لكل كروكي زوجته حقاً و شرعاً، و لكن بما أن ابنته بالذات بوصفها ابنة امرأة كوميت هي أيضاً من الكوميت بموجب حق الأم، فهي بحكم ذلك منذ الولادة زوجة كل كروكي و بالتالي زوجة والدها. و على كل حال، لا يقيم تنظيم الطبقات في الصورة التي نعرفه بها أي عقبة أمام ذلك. إذن، إما أن هذا التنظيم قد نشأ في حقبة لم ير فيها بعد الناس أي أمر رهيب بخاصة في العلاقات الجنسية بين الآباء و الأولاد، رغم كل سعيهم الغامض إلى الحد من سفاح القربى، في هذه الحال، ظهر نظام الطبقات مباشرة من حالة العلاقات الجنسية غير المنظمة، و إما أن العلاقات الجنسية بين الآباء و الأولاد كانت ممنوعة بحكم العرف و العادة عند نشوء الطبقات الزواجية، و في هذه الحال، يعود الوضع الحالي إلى وجود عائلة القربى بالدم قبل ذلك، و يشكل أول خطوة للخروج منها. إن الافتراض الأخير أكثر احتمالاً. و لا يذكرون، حسبما أعلم، أمثلة عن علاقات زواج بين الآباء و الأولاد في أوستراليا، ناهيك بأن الشكل اللاحق للزواج الخارجي، أي العشيرة القائمة على الحق الأمي، تفترض كذلك ، ضمناً، كقادة، منع مثل هذه العلاقات بوصفه واقعاً كان قائماً عند نشوئها.
و فضلاً عن منطقة ماونت –غامبير في أوستراليا الجنوبية، يقوم نظام الطبقتين أيضاً إلى أبعد في اتجاه الشرق، في حوض نهر دارلينغ، و في الشمال الشرقي، في كوينسلند، و هو بالتالي واسع الانتشار. و هو لا ينفي غير الزواج بين الأخوة و الأخوات، بين أولاد الأخوة و بين أولاد الأخوات حسب خط الأم، لأنهم ينتمون إلى طبقة واحدة، أما أولاد الأخت و الأخ، ففي مستطاعهم، على العكس، أن يتزاوجوا فيما بينهم. و نجد خطوة أخرى لاحقة لمنع سفاح القربى عند قبلية الكاميلاروي في حوض نهر دارلينغ في ويلس الجنوبية الجديدة، حيث انقسمت الطبقتان الأصليتان إلى أربع، و حيث كل من هذه الطبقات الأربع تتزوج بكليتها مع طبقة أخرى معينة. إن الطبقتين الأوليتين هما منذ الولادة متزوجة إحداهما مع الأخرى، و تبعاً لانتماء الأم إلى الطبقة الأولى أو الثانية منهما، ينتقل أولادها إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة. و أولاد الطبقتين الأخيرتين اللتين تربط بينهما أيضاً علاقات الزواج، يدخلون في قوام الطبقتين الأولى و الثانية. و هكذا ينتمي دائماً جيل واحد إلى الطبقة الأولى و الثانية، و ينتمي الجيل التالي إلى الطبقة الثالثة و الرابعة، ثم ينتمي الجيل الثالث من جديد إلى الطبقة الأولى و الثانية. و تبعاً لذلك، لا يستطيع أولاد الأخ و الأخت ( من جهة الأم) أن يكونوا زوجاً و زوجة، و لكن أحفاد الأخ و الأخت يستطيعون ذلك. إن هذا النظام المعقد الأصيل يزداد تعقداً بفعل اندساس العشيرة الأمية (العشيرة حسب خط الأم) فيه، و إن ، على كل حال، في وقت لاحق. و لكنه لا يسعنا هنا أن نستغرق في بحث هذا الأمر. و هكذا نرى ، السعي إلى منع سفاح القربى يتجلى المرة تلو المرة، و لكن بشكل غريزي، عفوي، دون أي إدراك واضح الهدف.
إن الزواج الجماعي الذي لا يزال هنا، في أوستراليا، زواجاً بين طبقتين، زواجاً بالجملة بين طبقة كاملة من الرجال موزعة في كثير من الأحيان في عموم القارة و بين طبقة من النساء موزعة بالقدر نفسه، إن هذا الزواج الجماعي لا يبدو أبداً، حين النظر إليه عن كثب، فظيعاً بالقدر الذي يتصوره خيال التافهين المبتذلين الذي اعتاد على ما يجري في بيوت الدعارة. فلقد مرت، على العكس، سنوات و سنوات قبل أن يخطر في البال مجرد وجوده، فضلاً عن أنهم شرعوا لأمد قريب يجادلون من جديد في وجوده. إن المراقب السطحي يرى فيه زواجاً أحادياً واهي العرى، و يرى في بعض الأنحاء، نظاماً لتعدد الزوجات ترافقه الخيانة الزوجية بين الفينة و الفينة. و كان لا بد من تكريس سنوات كاملة ، كما فعل فايسون و هاويت، لأجل اكتشاف القانون الذي يضبط علاقات الزواج هذه التي يميل الأوروبي العادي إلى أن يرى في ممارستها شيئاً ما يشبه ما يوجد في وطنه، القانون الذي بموجبه يجد الزنجي الأوسترالي الغريب، على بعد آلاف الكيلومترات عن موطنه الأول، بين أناس يتكلمون لغة يجهلها، بل أحياناً كثيرة في كل مقام، في كل قبيلة، نساء على استعداد للاستسلام له بلا مقاومة و بلا استياء، القانون الذي بموجبه يتنازل الرجل الذي عنده عدة نساء، عن واحدة منهن لأجل ضيفه لقضاء الليل معها. و حيث يرى الأوروبي انعدام الأخلاق و القانون، يسود بالفعل قانون صارم. إن هؤلاء النساء ينتمين إلى طبقة الأجنبي الزواجية، و هن بالتالي زوجاته منذ الولادة. إن القانون الأخلاقي نفسه الذي يعدّهم بعضاً لبعض، يمنع، تحت طائلة العقاب المخزي، كل علاقة جنسية خارج الطبقتين الزواجيتين اللتين تخض إحداهما الأخرى. و حتى حيث يخطفون النساء، و هذا أمر يقع في كثير من الأحيان، و هو قاعدة في كثير نم الأنحاء، يطبق قانون الطبقات الزواجية بكل دقة.
و من جهة أخرى، تتبدى في خطف النساء علائم الانتقال إلى الزواج الأحادي، بشكل الزواج الثنائي على الأقل (بين اثنين): فعندما كان الشاب يخطف فتاة بمساعدة أصدقائه بالقوة أو بالإغراء، فإنهم جميعهم يضاجعونها بالدور، و لكنها بعد ذلك تعتبر زوجة ذلك الشاب الذي كان صاحب فكرة الخطف. و بالعكس، إذا هربت المرأة المخطوفة من زوجها و قبض عليها رجل آخر، فإنها تصبح زوجة هذا الأخير، و يفقد الأول حقه المفضل عليها. و إلى جانب و في قلب الزواج الجماعي الذي لا يزال قائماً على العموم، تبرز بالتالي علاقات تستبعد الآخرين، يبرز تزاوج، تجامع شخصين (رجل و امرأة) لفترة من الزمن قد تطول أو تقصر، و إلى جانب ذلك، يقوم تعدد الزوجات، و عليه نرى الزواج الجماعي هنا أيضاً بسبيل الزوال، و تنحصر المسألة كلها في معرفة من ذا الذي سيغادر الحلبة قبل غيره تحت تأثير الأوروبيين، الزواج الجماعي أم أتباعه، الزنوج الأوستراليون.
إن الزواج بين طبقات بكاملها بالشكل الذي يسود به في أوستراليا، هو على كل حال شكل منخفض جداً، بدائي من أشكال الزواج الجماعي، بينما العائلة البونالوانية هي، حسبما نعرف، الدرجة العليا في تطوره. و يبدو أن الأول شكل يناسب مستوى التطور الاجتماعي الذي بلغه المتوحشون الرحل، بينما الثاني يفترض وجود مقامات ثابتة نسبياً لمشاعات شيوعية، و يؤدي مباشرة إلى الدرجة التالية العليا من التطور. و بين هذين الشكلين، نجد أيضاً، بلا ريب، بعض الدرجات الوسطية. و هذا ميدان للبحث انفتح أمامنا للتو و يكاد يكون غير مطروق.
2/3 العائلة الثنائية
آن شكلاً معيناً من التزاوج الثنائي، من التجامع بين شخصين لمدة قد طول أو تقصر، كان موجوداً في ظروف الزواج الجماعي أو حتى قبل ذاك، فقد كانت للرجل زوجة رئيسية (و يكاد يكون من غير الممكن القول أنها الزوجة المفضلة) في عداد زوجات كثيرات، و كان بالنسبة لها الزوج الرئيسي في عداد أزواج كثيرين. و قد أسهم هذا الأمر بقسط كبير في خلق التشوش في رؤوس المرسلين الذين اعتبروا الزواج الجماعي، تارة مشاعية للنساء لا قاعدة لها و لا ضابط، و طوراً حرية مطلقة في انتهاك الإخلاص الزوجي. و لكن هذا الشكل للتجامع الثنائي، بين شخصين، الذي أصبح عادة مألوفة كان لا بد له أن ترسخ أكثر فأكثر بقدر ما كانت العشيرة تتطور و بقدر ما كانت تتزايد جماعات (الأخوة" و "الأخوات" التي غدا الزواج مستحيلاً فيما بينها. إن الدفعة التي بثتها العشيرة في اتجاه منع الزواج بين الأقرباء بالدم قد أدت إلى أبعد من ذلك. و هكذا نجد أن الزواج عند الإيروكوا و عند أغلبية الهنود الحمر الآخرين في الدرجة الدنيا من البربرية ممنوع بين جميع الأقرباء الذين يعددهم نظامهم، و أمثال هذا النظام بضع مئات من كل شاكلة و نوع. ونظراً لهذا التشوش المشتد في موانع الزواج، أخذت الزواجات الجماعية تستحيل أكثر فأكثر، و أخذت العائلة الثنائية تحل محلها. ففي هذا الطور، يعيش الرجل مع امرأة واحدة، و لكن تعدد الزواجات و الخيانة الزوجية بين الفينة والفينة لا يزالان من حق الرجل، رغم أن تعدد الزوجات نادر الوقوع بحكم الأسباب الاقتصادية أيضاً، بيد أن المرأة مطالبة في أغلبية الأحوال بأدق الأمانة طيلة مدة المساكنة، و تعاقب على خيانتها عقاباً قاسياً. و لكنه من السهل على كل من الطرفين أن يحل الرابطة الزوجية، فيعود الأولاد إلى الأم فقط، كما من قبل.
و في هذا الحصر الذي يضيق أكثر فأكثر و يستبعد الأقرباء بالدم من الرابطة الزوجية، يواصل الاختيار الطبيعي فعله. و حسب مورغان:
"كانت الزواجات بين أفراد العشائر التي لا تجمع بينها قرابة الدم تؤدي إلى نشوء سلالة أقوى سواء جسدياً أو عقلياً، و كانت قبيلتان بسبيل التقدم تندمجان في قبيلة واحدة، فتأخذ جماجم و أدمغة الأجيال الجديدة تتسع بصورة طبيعية إلى أن تبلغ مقاييس تناسب مجموعة خصائص القبيلتين"(38).
و عليه كان لا بد للقبائل ذات التنظيم القائم على العشيرة أن تتغلب على القبائل المتأخرة أو أن تجتذبها وراءها بمثالها.
إن تطور العائلة في العصر البدائي يتلخص إذن في استمرار تقلص تلك الحلقة التي كانت في البدء تشمل القبيلة كلها و التي كانت تسود في داخله مشاعية علاقات الزواج بين الجنسين. و بالاستمرار على استبعاد الأنسباء الأكثر قرابة بادئ ذي بدء، ثم الأنسباء الأكثر بعداً، و أخيراً، حتى الأنسباء بالمصاهرة، أخذ كل شكل من أشكال الزواج الجماعي يستحيل عملياً، و لم يبق في آخر المطاف إلا زوج من اثنين تجمع بينهما علاقات زواج غير متينة، لم يبق غير جزيئة يضع انشطارها حداً للزواج. و من هذا وحده يتبين مدى ضآلة ما يجمع بين ظهور الزواج الأحادي و بين الحب الجنسي الفردي بمعناه الحالي. و هذا ما تثبته بمزيد من القوة ممارسة جميع الشعوب التي لا تزال في هذه الدرجة من التطور. فبينا لم يكن الرجال ليشعرون أبداً بأي نقص إلى النساء في ظل الأشكال السابقة للعائلة، بل كان لديهم منهن بالأحرى أكثر من اللزوم، أصبحت النساء الآن أمراً نادراً يجب البحث عنه. و لهذا يبدأ خطف النساء و شراء النساء منذ ظهور الزوج الثنائي، و هما علامتان واسعتا الانتشار ، رغم أنهما ليستا أكثر من علامتي تغير أشد عمقاً بكثير، و من هاتين العلامتين اللتين كانتا لا تتعلقان إلا بأساليب الحصول على النساء، لفق الدعي الاسكتلندي ماك-لينان، مع ذلك، شكلين خاصين للعائلة: "الزواج بالخطف" و "الزواج بالشراء". و من جهة أخرى، ليس عقد الزواج عند الهنود الحمر الأميركيين و عند شعوب أخرى (لا تزال في درجة التطور نفسها) من شأن الذين سيتزوجون و الذين لا يأخذون رأيهم في عالب الأحيان، بل من شأن أمهاتهم. و هكذا لا يندر أن تتم خطبة شخصين لا يعرفان أبداً أحدهما الآخر، ناهيك بأنهم لا يطلعونهما على صفقة الزواج إلا متى اقترب موعد الزواج. و قبل العرس، يقدم الخطيب هدايا إلى أقارب الخطيبة في العشيرة ( أي إلى أقاربها من جهة الأم، لا إلى الأب و الأقارب من جهته)، و تعتبر هذه الهدايا ثمن الفتاة التي سيعطونه إياها. و من الممكن فسخ الزواج بناء على رغبة كل من الزوجين، و لكنه تكون تدريجياً عند كثير من القبائل ، و بينها مثلاً قبيلة الإيروكوا، رأي عام سلبي حيال فسخ الزواج. فحين تنشب الخلافات بين الزوجين، يقوم أقرباء الزوجة و أقرباء الزوج في العشيرة بدور الوساطة، و لا يتم فسخ الزواج إلا إذا أخفت الوساطة، مع العلم أن الأولاد يبقون للزوجة، و إنه يصبح من حق كل من الطرفين أن يتزوج من جديد.
إن العائلة الثنائية، التي هي بحد ذاتها على درجة كبيرة من الضعف و عدم الاستقرار بحيث أنها لا تجعل من الضروري أو حتى من المرغوب فيه قيام اقتصاد بيتي خاص، لا تقضي إطلاقاً على الاقتصاد البيتي الشيوعي الموروث من مرحلة سابقة. و لكن الاقتصاد البيتي الشيوعي يعني سيادة النساء في البيت، كما أن الاعتراف بالأم وحدها، نظراً لاستحالة معرفة الوالد بكل ثقة، يعني رفيع الاحترام للنساء أي للأمهات. و أن الرأي الزاعم أن المرأة كانت عبدة الرجل في بداية تطور المجتمع هو من أسخف الآراء التي تركها لنا عصور الأنوار في اقرن الثامن عشر. فإن المرأة عند جميع المتوحشين و عند جميع القبائل في الطورين الأدنى و الأوسط، و جزئياً في الطور الأعلى من البربرية، لا تتمتع بالحرية و حسب، بل تشغل أيضاً مركزاً مشرفاً جداً. أما ما هو هذا المركز في ظل الزواج الثنائي، فيمكن أن يفيدنا عنه أشير رايت الذي كان خلال سنوات عديدة مرسلاً بين الإيروكوا من قبلة سينيكا. فهو يقول:
"و فيما يخص عائلاتهم، عندما كانت لا تزال تعيش في بيوت طويلة قديمة" (و هي اقتصادات بيتية شيوعية لبضع عائلات)"... كان يهيمن دائماً فيها "كلان" clan ما" (عشيرة) "بحيث أن النساء كن يتزوجن من رجال "كلانات"" (عشائر)" أخرى"."... و عادة كان النصف النسائي يهيمن في البيت، كانت الاحتياطيات مشتركة، و لكن الويل للزوج المنحوس أو العشيق المنحوس الفائق الكسل أو الفائق الخرافة، فلا يسهم بقسطه في الاحتياطي المشترك. فمهما كان عدد أولاده في البيت و مهما كانت ملكيته الشخصية في البيت، فقد كان من الممكن أن يتلقى في كل لحظة أمراً بربط صرته و بالرحيل. و لم يكن ليجرؤ حتى للقيام بمحاولة لمقاومة هذا الأمر، فإن البيت كان يتحول بالنسبة له إلى جهنم، و لم يكن يبقى له غير العودة إلى "كلانه" (عشيرته) السابق، أو غير عقد زواج جديد في "كلان" أخر- الأمر الذي كان يحدث في أغلب الأحيان. و كانت النساء قوة كبيرة في الكلانات" (العشائر)، "و كذلك في كل مكان على العموم. و كن لا يترددن أحياناً عن عزل زعيم ما و إنزاله إلى مرتبة محارب بسيط"(39).
إن الاقتصاد البيتي الشيوعي الذي كانت فيه جميع النساء أو أغلبيتهن ينتمين إلى العشيرة نفسها، بينا الرجال ينتمون إلى عشائر مختلفة، هو الأساس الفعلي لتلك الهيمنة التي كانت تتمتع بها المرأة في الأزمة البدائية في كل مكان، و التي يشكل اكتشافها مأثرة باهوفن الثالثة. و أضيف أيضاً أن أخبار الرحالة و المرسلين حول العمل المرهق الملقى على عاتق النساء عند المتوحشين و البرابرة لا يتناقض أبداً ما قيل أعلاه. فإن تقسيم العمل بين الجنسين لا يشترطه وضع المرأة في المجتمع، بل تشترطه أسباب مختلفة تماماً. فإن الشعوب التي يجب عندها أن تشتغل النساء أكثر بكثير مما يترتب عليهن حسب تصوراتنا، تبدي في غالب الأحيان من الاحترام الحقيقي للنساء أكثر بكثير مما يبديه أوروبيونا. فإن "سيدة" عصر الحضارة، المحاطة بالتقدير و الإجلال الظاهريين، و الغريبة عن كل عمل حقيقي، تشغل وضعاً اجتماعياً أدنى إلى ما لا حد له من وضع المرأة في عصر البربرية، التي كانت تقوم بعمل مرهق و التي كانت تعتبر بنظر شعبها سيدة حقيقية (lady,frowa,Frau= سيدة) و التي كانت كذلك حقاً و فعلاً بحكم وضعها.
أما فيما يتعلق بمسألة معرفة ما إذا كان الزواج الثنائي في أميركا قد حل تماماً محل الزواج الجماعي، فينبغي أن توضحها دراسة أوسع و أعمق للشعوب الشمالية الغربية و لا سيما لشعوب أميركا الجنوبية، التي لا تزال في الطور الأدنى من الوحشية. ففي القصص عن هذه الشعوب الأخيرة، نجد من الأمثلة المتنوعة عن حرية العلاقات الجنسية ما يكاد يجعل من المستحيل هنا القول بزوال الزواج الجماعي القديم زوالاً تاماً. و على كل حال، لم تزل بعد جميع آثاره. فعند أربعين قبيلة في أميركا الشمالية على الأقل، يحق للرجل الذي يتزوج الأخت الكبرى أن يتزوج أيضاً جميع أخواتها ما أن يبلغن السن المقررة، و هذا أثر لمشاعية الرجل بالنسبة لمجموعة كاملة من الأخوات. و يروي بانكروفت عن سكان شبه جزيرة كاليفورنيا (الطور الأعلى من الوحشية) أنهم يقيمون احتفالات تجتمع فيها عدة "قبائل" بقصد المضاجعة غير المنظمة (40). و المقصود هنا، على الأرجح، العشائر التي كانت هذه الاحتفالات بالنسبة لها شكلاً يحتفظ بذكريات غامضة عن ذلك الزمن الذي كان فيه جميع رجال عشيرة واحدة أزواجاً مشتركين لنساء عشيرة أخرى، و العكس بالعكس. و مثل هذه العادة لا تزال سارية المفعول في أوستراليا. و حدث عند بعض الشعوب أن يستغل الشيوخ و الزعماء و الكهنة السحرة في مصلحتهم مشاعية النساء و يحتكروا أغلبية النساء لأنفسهم، و لكنه يتعين عليهم مقابل ذلك في أعياد معينة و في زمن الاجتماعات العشبية الكبيرة أن يجيزوا من جديد مشاعية النساء التي كانت قائمة من قبل و يسمحوا لنسائهم بالترفه مع الشبان. و يورد فسترمارك في الصفحتين 28 و 29 من كتابه جملة كاملة من الأمثلة على هذه "الساتورنالات" (41) الدورية التي كانت تقوم فيها من جديد لفترة قصيرة من الزمن العلاقات الجنسية الحرة السابقة: عند قبائل الهو و السانتال و البانجا و الكوتار في الهند، و عند بعض الشعوب الإفريقية، الخ .. و من المستغرب أن فسترمارك يستخلص من هنا استنتاجاً مفاده أن هذه ليست من بقايا الزواج الجماعي الذي ينكر وجوده، بل بقايا فترة الهيجان، المشتركة بين الإنسان البدائي و الحيوانات الأخرى.
و هنا نصل إلى الاكتشاف الرابع الكبير الذي حققه باهوفن، و هو اكتشاف شكل واسع الانتشار للانتقال من الزواج الجماعي إلى الزواج الثنائي. إن ما يصوره باهوفن بصورة تكفير عن مخالفة وصايا الألهة القديمة، و هو تكفير تشتري المرأة به الحق في العفاف، ليس في الواقع غير تعبير صوفي للتكفير الذي كانت به المرأة تفدي نفسها من مشاعية الرجال القائمة في الأزمنة السابقة و تكسب الحق في أن تكون لرجل واحد فقط. إن هذه الفدية تتلخص في عادة مضاجعة الغير، المحدودة بإطارات معينة: فقد كان ينبغي على النساء البابليات أن يضاجعن الرجال مرة واحدة في السنة في هيكل ميليتا، و كانت شعوب أخرى في آسيا الصغرى ترسل بناتها لسنوات بكاملها إلى هيكل أنايتيس حيث كان ينبغي عليهن ممارسة الحب الحر مع محظيين من اختيارهن قبل أن ينلن الحق في الزواج. و هناك عادات مماثلة مجلببة بجلباب ديني ملازمة لجميع الشعوب الآسيوية تقريباً التي تعيش بين البحر الأبيض المتوسط و نهر الغانج. ثم أن الكفارة التي تضطلع بدور الفدية تغدو أسهل فأسهل مع مر الزمن، كما سبق و لاحظ باهوفن:
"إن الكفارة المقدمة سنوياً تحل محلها الكفارة الواحدة الوحيدة، و هيتيرية السيدات المتزوجات تحل محلها هيتيرية الفتيات: و محل ممارستها أثناء الزواج تحل ممارستها قبل الزواج، و محل الاستسلام للجميع دون أي تمييز ، يحل الاستسلام لأشخاص معينين"("حق الأم").
و لا وجود للجلباب الديني عند شعوب أخرى، فعند بعضها، في الأزمنة القديمة، عند التراقيين و السلت و غيرهم، و في الأزمنة الحاضرة، عند كثيرين من سكان الهند الأصليين، و عند شعوب الملايو، و عند سكان جزر المحيط الهادي، و عند كثيرين من الهنود الحمر الأميركيين، تتمتع الفتيات قبل الزواج بكامل الحرية في العلاقات الجنسية. و هذا الوضع منتشر على الأخص في كل مكان تقريباً من أميركا الجنوبية، الأمر الذي يمكن أن يشهد عليه كل من تغلغل، و إن قليلاً، في أعماق هذه القارة. فإن أغاسيس ("رحلة في البرازيل"، بوسطن و نيويورك، عام 1886(42)) يروي لنا ما يلي عن عائلة غنية من أصل الهنود الحمر. فعندما تعرف على الابنة، سأل عن والدها مفترضاً أنه زوج أمها الذي اشترك آنذاك في الحرب ضد الباراغواي بوصفه ضابطاً، و لكن الأم أجابت بابتسامة:nao tem pai, é filha da fortuna - ليس لها أب ، إنها ابنة الصدفة.
"هكذا تقول دائماً النساء من الهنود الحمر و النساء الهجائن دون حياء و خجل عن أولادهن غير الشرعيين، و ليس هذا استثناء، بل العكس هو بالأحرى استثناء. إن الأولاد .. لا يعرفون في غالب الأحيان غير أمهم لأنها تتحمل كل الهموم و كل المسؤولية، و هم لا يعرفون شيئاً عن والدهم، ناهيك بأنه لا يخطر أبداً في بال المرأة، أغلب الظن، أنه يمكن أن يكون لها أو لأولادها أي حق عليه".
إن ما يبدو هنا غريباً بالنسبة لإنسان متحضر، هو القاعدة بكل بساطة بموجب الحق الأمي و في ظل الزواج الجماعي.
و عند بعض الشعوب، يمارس أصدقاء العريس و أنسباؤه أو الضيوف المدعوون إلى العرس، أثناء العرس بالذات، الحق على العروس الموروث منذ الأزمنة القديمة، مع العلم أن العريس يأتي الأخير في الدور، هكذا كان الحال في الأزمنة القديمة في جزر الباليار و عن الأوجليين الإفريقيين، و هكذا هو الحال في الأزمنة الحاضرة عند الباليار في الحبشة. و عند شعوب أخرى يمثل شخص رسمي –زعيم القبيلة أو العشيرة، الكاسيك أو الشامان أو الكاهن أو الأمير، أو أياً كان لقبه،- الجماعة المعنية و يمارس حق الليلة الأولى على العروس. و رغم جميع جهود الرومانطيقيين الجدد لتبييض صفحة هذا الواقع، لا يزال هذا jus primae noctis*[1] ساري المفعول في الوقت الحاضر، بوصفه أثراً من آثار الزواج الجماعي، عند أغلبية سكان ألاسكا (بانكروفت،"العروق الأصلية"، المجلد الأول) ، و عند التاهو في المكسيك الشمالية (المرجع ذاته)، و عند شعوب أخرى، و كان قائماً في جميع القرون الوسطى، - على الأقل في البلدان التي كانت في البدء سلتية، كما في أراغون مثلاً، و التي نجم فيها مباشرة من الزواج الجماعي. و بينا لم يكن الفلاحون يوماً في قشتالة أقناناً، كانت القنانة تسود بأبشع مظاهرها في أراغون حتى قرار فرديناند الكاثوليكي في عام 1486 (43). و قد جاء في هذه الوثيقة:
"إننا نقرر و نعلن أن السادة المذكورين أعلاه"(البارونات، senyors) "... لا يملكون كذلك الحق في قضاء الليلة الأولى مع المرأة التي يتزوجها الفلاح، و لا الحق في القفز، في ليلة العرس، كدليل على سيادتهم، فوق المرأة أو فوق السرير بعد أن تضطجع المرأة، كذلك لا يملك السادة المذكورون أعلاه الحق في استخدام ابنة الفلاح أو ابنه رغماً عنهما، سواء بأجر أو بدون جر". (النص الأصلي باللغة القطالونية وارد عند زوغنهيم، "القنانة"، بطرسبورغ، عام 1861 (44))
و يقيناً أن باهوفن على حق مرة أخرى حين يؤد بإلحاح أن الانتقال مما يسميه "الهيتيرية" أو "الحمل الأثيم" إلى الزواج الأحادي قد تحقق أساساً بفضل النساء. فبقدر ما كانت العلاقات بين الجنسين المتوارثة من قديم الزمان تفقد طابعها البدائي الساذج مع تطور ظروف الحياة الاقتصادية و بالتالي مع تفسخ و انحلال الشيوعية البدائية و تزايد كثافة السكان، بقدر ما كانت هذه العلاقات تبدو للنساء مذلة و مرهقة، و ما كان لا بد لهن من السعي بإلحاح مشتد أبداً إلى نيل الحق في العفاف أو في الزواج المؤقت أو الدائم من رجل واحد فقط، بوصفه سبيلاً للخلاص. و لم يكن من الممكن أن يحصل هذا التقدم بفضل الرجل، و ذلك لأسباب عديدة، منها أنه لم يخطر لهم قط في البال، حتى في أيامنا هذه أيضاً، التخلي عن ملذات الزواج الجماعي العملي. و بعد أن تحقق الانتقال إلى الزواج الثنائي بفضل النساء، بعد ذاك فقط استطاع الرجال إدخال نظام وحدة الزواج الصارم،- و طبعاً بالنسبة للنساء فقط.
لقد ظهرت العائلة الثنائية على التخوم بين الوحشية و البربرية، و ظهرت على الأغلب في الطور الأعلى من الوحشية، و هنا و هناك في الطور الأدنى من البربرية. و هي شكل العائلة المميز بالنسبة لعصر البربرية، مثلما الزواج الجماعي بالنسبة للوحشية، و أحادية الزواج بالنسبة للحضارة. و لكي تواصل العائلة الثنائية تطورها حتى تبلغ أحادية الزواج المتينة، كان لا بد من أسباب غير التي فعلت فعلها حتى الآن كما سبق و رأينا. في المساكنة الثنائية، جرى تقليص الجماعة حتى وحدتها الأخيرة، حتى جزيئتها من ذرتين، حتى رجل واحد و امرأة واحدة. و أنجز الاصطفاء الطبيعي عمله بتقلص حلقة العلاقات الزوجية بصرامة مشتدة أبداً. و لم يبق له ما يفعله في هذا الاتجاه. و لو لم تدخل الحلبة بالتالي قوى محركة جديدة، اجتماعية، لما كان ثمة أي أساس لنشوء شكل جديد للعائلة من المساكنة الثنائية. و لكن مثل هذه القوى المحركة أخذت تفعل فعلها.
و نغادر الآن أميركا هذه التربة الكلاسيكية للعائلة الثنائية. و ليس ثمة أي علائم تتيح لنا أن نخلص إلى القول بأنه تطور هنا شكل أعلى للعائلة، و بأنه كانت تقوم هنا في مكان ما أحادية زواج متينة قبل الاكتشاف و الفتح. أما الحال في العالم القديم، فآخر.
فهنا أدى تدجين الحيوانات و تربية القطعان إلى خلق مصادر للثروة لم يسمح بمثلها من قبل، و إلى نشوء علاقات اجتماعية جديدة تماماً. فحتى الطور الأدنى من البربرية، كانت الثروة الدائمة لا تتألف تقريباً إلا من المسكن و الألبسة و الحلي الخشنة و الأدوات للحصول على الطعام و تحضيره، أي الزوارق و الأسلحة و الآنية المنزلية البدائية. و كان ينبغي الحصول على الطعام من جديد، يوماً بعد يوم. أما من الآن و صاعداً، فإن شعوب الرعاة آخذت تتقدم أكثر فكثر: فإن الآريين في البنجاب و في وادي نهر الغانج، و كذلك في سهوب حوضي نهري جيحون و سيحون التي كانت آنذاك أغنى بكثير بالماء، و الساميين على ضفاف نهري الفرات و دجلة، قد وجدوا في قطعان الخيل و الجمال و الحمير و البقر و الغنم و الماعز و الخنازير ملكية كانت لا تتطلب غير المراقبة و غير أبسط صنوف العناية لكي تتكاثر بأعداد متنامية أبداً و تقدم طعاماً من الألبان و اللحوم وافراً للغاية. و هكذا تراجعت الآن جميع الأساليب السابقة للحصول على الطعام إلى المرتبة الثانية، و الصيد الذي كان من قبل ضرورة أصبح الآن بذخاً.
و لكن من ذا الذي كانت تخصه هذه الثروة الجديدة؟ في البدء، كانت ، بلا ريب، تخص العشيرة، بيد أنه كان لا بد للملكية الخاصة للقطعان أن تتطور باكراً. و من العسير القول ما إذا كان موسى ، مؤلف ما يسمى بالكتاب الأول، قد اعتبر البطريرك ابراهيم مالكاً لقطعانه بموجب حقه الشخصي بوصفه رئيس مشاعة عائلية، أم بموجب مركزه كرئيس يرث بالفعل عشيرة. هناك أمر واحد لا ريب فيه، هو أنه ينبغي لنا ألا نتصوره مالكاً بمعنى هذه الكلمة الحالي. و لا ريب أيضاً أننا نجد على عتبة التاريخ الذي نملك عنه الوثائق، أن القطعان كانت في كل مكان ملكاً خاصاً لرؤساء العائلات، شأنها تماماً شأن المنتوجات الفنية في عصر البربرية و الأدوات المنزلية المعدنية، و مصنوعات البذخ و الزينة، و أخيراً القطيع البشري، أي العبيد.
لأنه تم الآن اختراع العبودية أيضاً. فلم يكن للعبد قيمة أو نفع بالنسبة لإنسان الطور الأدنى من البربرية. و لهذا كان الهنود الحمر الأميركيون يعاملون الأعداء المغلوبين بغير الطريقة التي شرعوا يعاملونهم بها في درجة أعلى من التطور. فقد كانوا يقتلون الرجال أو يأخذونهم كأخوة لهم في قبيلة المنتصرين. و كانوا يأخذون النساء زوجات لهم أو يضمونهن كذلك بوسيلة أخرى إلى قبيلتهم مع أولادهن السالمين. و في هذه الدرجة من التطور كانت قوة عمل الإنسان لا تعطي بعد أي فائض ما ملحوظ يزيد على نفقات إعالته. و لكن الوضع تغير مع إدخال تربية الماشية و شغل المعادن و الحياكة، ثم الزراعة في آخر المطاف. فقد حدث لقوة العمل، و لا سيما بعد أن أصبحت القطعان نهائياً ملكية عائلية، نفس ما حدث للنساء اللواتي كان الحصول عليهن من قبل سهلاً للغاية اللواتي أصبحت لهن قيمة تبادل و غدون سلعة تباع و تشرى. و لم تكن العائلة تتكاثر بسرعة تكاثر القطيع. كذلك ظهرت الآن الحاجة إلى مزيد من الناس لأجل مراقبة القطيع. و لهذا الغرض، كان من الممكن استخدام العدو الأسير الذي كان بوسعه، فضلاً عن ذلك، أن يتكاثر بسهولة مثل المواشي.
و ما إن أصبحت هذه الثروات ملكية خاصة للعائلات و ما إن تنامت بسرعة، حتى سددت ضربة قوية إلى المجتمع المؤسس على الزواج الثنائي و العشيرة الأمية. لقد أدخل الزواج الثنائي إلى العائلة عنصراً جديداً. فإلى جانب الأم الحقيقية، الفعلية، وضع الأب الحقيقي ، الفعلي، الثابت، الذي كان كذلك، أغلب الظن، أكثر ثبوتاً من بعض "الآباء" الحاليين. و بموجب تقسيم العمل الساري المفعول آنذاك في العائلة، كان على الزوج أن يستحصل على الغذاء و على أدوات العمل الضرورية لهذا الغرض، و كان له بالتالي حق ملكية أدوات العمل هذه، و في حال فسخ الزواج، كان يأخذه معه، بينا كانت الزوجة تحتفظ بالآنية المنزلية. و بموجب العرف و العادة السائدين في المجتمع آنذاك، كان الزوج بالتالي مالكاً أيضاً لمصدر الغذاء الجديد، أي للقطيع، و مالكاً فيما بعد لأداة العمل الجديدة، أي العبيد. و لكن بموجب العرف و العادة السائدين في ذلك المجتمع، لم يكن بوسع أولاده أن يرثوه. ففيما يخص الإرث ، كان الوضع كما يلي:
بموجب الحق الأمي، أي طالما كان النسب لا يحسب إلا تبعاً لحبل النسل النسائي، و كذلك بموجب نظام الوراثة البدائي في العشيرة، كان العضو المتوفى في العشيرة يرثه أنسباؤه في العشيرة. و كان ينبغي أن يبقى الإرث في العشيرة. و بما أن الأشياء التي يتألف منها الإرث كانت زهيدة، فقد كانت ، على الأرجح، تنتقل بالفعل منذ غابر الأزمان إلى أقرب الأنسباء، أي إلى الأقرباء بالدم من ناحية الأم. و لكن أولاد الرجل المتوفى كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، بل إلى عشيرة أمهم، فكانوا يرثون أمهم بادئ ذي بدء مع سائر أقربائها بالدم، و فيما بعد، في المقام الأول أغلب الظن. بيد أنه لم يكن بوسعهم أن يرثوا والدهم لأنهم كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، فكان ينبغي أن يبقى ملك الأب في هذه العشيرة. و لذا بعد وفاة صاحب القطعان ، كان ينبغي أن تنتقل قطعانه في المقام الأول إلى أخوته و أخواته و إلى أولاد أخواته أو حتى إلى ذريات أخوات أمه. أما أولاده بالذات، فكانوا محرومين من إرثه.
و هكذا، بقدر ما كانت الثروات تتنامى ، كانت من جهة تعطي الزوج في العائلة مركزاً أهم من مركز الزوجة ، و كانت من جهة أخرى توالد السعي إلى الاستفادة من هذا المركز المترسخ لأجل تغيير نظام الوراثة التقليدي في مصلحة الأولاد. و لكنه لم يكن من الممكن أن يتحقق هذا طالما كان النسب يحسب تبعاً للحق الأمي. و لهذا كان ينبغي إلغاء هذا الحق ، فألغي. و لم يكن ذلك صعباً بالقدر الذي نتصوره الآن. فإن هذه الثورة، التي كانت من أهم الثورات التي عرفتها البشرية، لم تكن بحاجة إل مس أي من أعضاء العشرة الأحياء. فقد كان في وسعهم جميعهم أن يبقوا كما كانوا بالأمس. كان يكفي اتخاذ قرار بسيط يقضي بأن تبقى ذرية أعضاء العشيرة الرجال في المستقبل ضمن العشيرة و بأن تخرج ذرية أعضاء العشيرة النساء منها و تنتقل إلى عشيرة والدها. و هكذا ألغي الانتساب حسب جبل النسل النسائي و حق الوراثة حسب خط الأم، و أقر الانتساب حسب حبل النسل الرجالي و حق الوراثة حسب خط الوالد. و نحن لا نعرف شيئاً عن كيف و متى تحققت هذه الثورة عند الشعوب المتمدنة. فهي تعود بكليتها إلى عهد ما قبل التاريخ. أما أن هذه الثورة قد تحققت، فهذا ما أعطت عنه وفراً من البراهين و المعلومات التي جمعها باهوفن على الأخص عن آثار الحق الأمي العديدة. و نحن نرى بأي سهولة تتحقق من مثال جملة كاملة من قبائل الهنود الحمر حيث لم تتحقق إلا مؤخراً و حيث لا تزال تتحقق جزئياً من جراء تعاظم الثروة و من جراء التغيرات في نمط الحياة (للانتقال من الغابات إلى المروج)، و جزئياً من جراء تأثير الحضارة و المرسلين الأخلاقي. فإن ست قبائل من أصل ثماني قبائل في حوض نهر ميسوري تحسب النسب و تعترف بالإرث تبعاً لخط الرجال، بينا قبيلتان تحسبان النسب و تعترفان بالإرث تبعاً لخط المرأة. و عند قبائل الشاوني و الميامي و الديلاوار، ترسخت عادة تسمية الأولاد بأحد أسماء عشيرة والدهم لإدخالهم على هذا النحو إلى عشيرة الوالد، لكي يصبح بإمكانهم أن يرثوا والدهم.
"إن تغيير الأشياء بتغيير أسمائها، و السعي إلى إيجاد وسيلة تتيح مخالفة التقاليد مع البقاء في إطار التقاليد، حين تكون المصلحة المباشرة حافزاً كافياً هما سفسطة فطر عليها الإنسان!"(ماركس)(45)
و من هنا نجم تشوش مستعص كان يمكن القضاء عليه، و قد قضي عليه جزئياً، بالانتقال إلى الحق الأبوي.
"إن هذا الانتقال يبدو على العموم طبيعياً للغاية"(ماركس)(46).
أما ما يمكن أن يقوله لنا الحقوقيون ممن يلجأون إلى طريقة المقارنة، عن الشكل الذي تحقق به هذا الانتقال عند الشعوب المتمدنة في العالم القديم، - فإنه يقتصر كله تقريباً على الفرضيات بالطبع،- أنظر م. كوفاليفسكي "عرض موجز عن أصل و تطور العائلة و الملكية"، ستوكهولم، 1890 (47).
إن إسقاط الحق الأمي كان هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي. فقد أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضاً، و حرمت الزوجة من مركزها المشرف، و استذلت، و غدت عبدة رغائب زوجها، و أمست أداة بسيطة لإنتاج الأولاد. إن وضع المرأة المذل هذا، الذي يظهر ببالغ السفور عند يونانيي العصر البطولي و بسفور أشد عند يونانيي العصر الكلاسيكي قد طلي تدريجياً رياء و نفاقاً بالمساحيق، و أضيفت عليه أحياناً أشكال أخف و أرق، و لكن لم يقض عليه إطلاقاً.
و ما إن أقرت سلطة الرجال بوجه الحصر على هذا النحو، حتى أخذ مفعولها الأول يتبدى في شكل انتقالي ظهر آنذاك، هو شكل العائلة البطريركية (الأبوية). إن الميزة الرئيسية التي تتميز بها هذه العائلة ليست تعدد الزوجات، الذي سيتناوله الكلام فيما بعد، بل
"تنظيم عدد معين من الأشخاص، الأحرار و غير الأحرار، في عائلة تخضع للسلطة الأبوية لرئيس العائلة. ففي العائلة السامية، يعيش رئيس العائلة هذا في ظل تعدد الزواجات؟، و للعبيد زوجات و أولاد، و غاية التنظيم كله رعاية القطعان في حدود رقعة معينة من الارض"(48).
إن ضم العبيد إلى هذه العائلة و السلطة الأبوية هما العلامتان الجوهريتان اللتان تميزاه هذه العائلة. و لهذا كانت العائلة الرومانية النموذج النهائي الكامل لهذا الشكل من العائلة. إن كلمة familia لا تعني، في الأصل، المثال الأعلى للبرجوازي الصغير التافه المعاصر الذي يجمع في ذاته بين العاطفية و المشاجرات البيتية، بل إنها لا تعني بادئ ذي بدء عند الرومانيين الزوج و الزوجة و الأولاد، بل تعني العبيد فقط. إن كلمة famulus تعني العبد البيتي، و كلمة familia تعني مجموعة العبيد الذين يخصون رجلاً واحداً. و حتى في زمن غايوس، كانت familia, id est patrimonium (أي الميراث) تورث بالوصية. و قد استنبط الرومانيون هذا التعبير لأجل تعريف الهيئة الاجتماعية الجيدة التي كان رئيسها سيداً على المرأة و الأولاد و عدد معين من العبيد و كان يملك، بحكم السلطة الأبوية الرومانية، حق الحياة و الموت على جميع هؤلاء الأشخاص الخاضعين له.
"و عليه، ليس هذا التعبير أقدم من النظام العائلي المصفح الذي انبثق عند القبائل اللاتينية بعد إدخال الزراعة و العبودية الشرعية، و بعد انفصال الإيطاليين الآريين عن اليونانيين"(49).
و يضيف ماركس قائلاً:
" إن العائلة العصرية لا تنطوي على جنين العبودية (servitus) و حسب، بل أيضاً على جنين القنانة، لأنها مقرونة منذ بادئ بدء بفروض (خدمات) الزراعة. و هي تنطوي بشكل مصغر على جميع التناقضات التي تطورت فيما بعد على نطاق واسع في المجتمع و في دولته"(50).
إن شكل العائلة هذه يعني الانتقال من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج. فلأجل ضمان أمانة المرأة، و بالتالي لأجل ضمان أبوة الأولاد، توضع الزوجة تحت سلطة زوجها المطلقة، فإذا قتلها، فإنه لا يفعل غير أن يمارس حقه.
مع ظهور العائلة البطريركية، ندخل في ميدان التاريخ المكتوب و ندخل في ميدان يستطيع فيه علم القانون المقارن أن يقدم لنا مساعدة كبيرة. و بالفعل، ساعدنا هذا العلم على القيام ها بخطوة كبيرة إلى أمام. فنحن مدينون لمكسيم كوفاليفسكي ("عرض موجز عن أصل و تطور العائلة و الملكية"، ستوكلهم، عام 1890) بالبرهان على أن المشاعة البيتية البطريركية التي نجدها الآن عند الصرب و البلغار باسم زادروغا zàdruga (و تعني تقريباً رابطة تعاونية) أو براتستفو Bratstvo (أخوية) و في شكل آخر عند الشعوب الشرقية قد شكلت الدرجة الانتقالية من العائلة التي انبثقت من الزواج الجماعي و قامت على الحق الأمي، إلى العائلة الفردية في العالم الحالي. و هذا، على ما يبدو، ثابت فعلاً على الأقل فيما يخص الشعوب المتمدنة في العالم القديم، فيما يخص الآريين و الساميين.
إن زادروغا سلافيي الجنوب هي خير مثال لا يزال حياً على هذا النوع من المشاعة العائلية. فهي تضم بضعة أجيال من أخلاف يتحدرون من أب واحد مع زوجاتهم، ناهيك بأنهم يعيشون معاً في بيت واحد و يحرثون حقولهم بصورة مشتركة و يأكلون و يلبسون من الاحتياطيات المشتركة و يملكون معاً الدخل الفائض. و تخضع المشاعة للإدارة العليا لرب البيت (domàcin) الذي يمثلها حيال العالم الخارجي، و يحق له أن يبيع الأشياء الصغيرة، و يدير الصندوق و يتحمل المسؤولية عن الصندوق و عن حسن سير الاستثمارة كلها. و هو ينتخب، و ليس من الضروري حتماً أن يكون أكبر الأعضاء سناً. و النساء يخضعن، مع ما يقمن به من أعمال، لقيادة ربة البيت (domàcica) التي هي عادة زوجة رب البيت. و هي أيضاً تضطلع بدور هام، غالباً ما يكون الدور الحاسم ، عند اختيار الأزواج لأجل فتيات المشاعة. و لكن السلطة العليا تنحصر في المجلس العائلي، في اجتماع جميع أعضاء المشاعة الراشدين، سواء منهم النساء أو الرجال. و أمام هذا الاجتماع يقدم رب البيت حساباً، و الاجتماع يتخذ القرارات النهائية و يحاكم أعضاء المشاعة و يقرر عمليات البيع و الشراء الهامة- و لا سيما عندما تتعلق بالأراضي – و الخ ...
و منذ نحو عشرة أعوام فقط، أقيم الدليل على أن مثل هذه المشاعات العائلية الكبيرة لا تزال قائمة في روسياً أيضاً (51). و من المعترف الآن من الجميع أنها تمد جذورها عميقاً في العادات الشعبية الروسية شأنها شأن المشاعة القروية. و هي ترد في أقدم المجموعات الروسية من القوانين، في "حقيقة" ياروسلاف (52)، تحت الاسم نفسه (Vervj *[2]) الذي ترد به في القوانين الداليماتية (53)، كما توجد أيضاً إشارات إليها في المصادر التاريخية البولونية و التشيكية.
و عند الجرمان كذلك، كما يقول هويسلر ("أسس الحق الجرماني"(54)، ليست الوحدة الاقتصادية ، في الأصل، العائلة الفردية بمعناها الحالي، بل "المشاعة البيتية" التي تتألف من عدة أجيال مع عائلاتها، و تشمل أيضاً العبيد في أحيان كثيرة. إن العائلة الرومانية تنتمي هي أيضاً إلى هذا النموذج، و لهذا كانت سلطة الأب المطلقة و حرمان سائر أعضاء العائلة من الحقوق حياله موضع جدال قوي في الآونة الأخيرة. فقد كانت توجد، على ما يبدو، مشاعات عائلية مماثلة عند السلت من سكان إرلنده. و في فرنسا، دامت هذه المشاعة في مقاطعة نيفرنيه حتى الثورة الفرنسية تحت اسم parçonneries ، بينا لم تزل بعد كلياً في أيامنا في مقاطعة فرانش –كونته. و في ناحية لووان (محافظة سون- أي- لوار)، تقع العين على بيوت فلاحية كبيرة فيها قاعة مركزية عالية بعلو السقف نفسه تحيد بها من كل جانب غرف للنوم يصعدون إليها بسلالم من 6 إلى 8 درجات، و تعيش فيها بضعة أجيال من العائلة ذاتها.
و لقد أشار نيازخ (55) في عصر الإسكندر الكبير إلى وجود مشاعية بيتية في الهند تقوم على أساس المشاركة في حراثة الأرض، و هذه المشاعة لا تزال موجودة الآن في المكان ذاته، أي البنجاب و في عموم القسم الشمالي الغربي من البلد. و استطاع كوفاليفسكي نفسه إثبات وجودها في القفقاس. و في الجزائر لا تزال قائمة في بلاد القبائل. و هي كانت موجودة، على ما يبدو، حتى في أميركا، و يعتقدون أنها موجودة في "calullis" بالمكسيك القديمة التي يصفها سوريتا (56). و بالعكس، أثبت كونوف ("Ausland" العدد 42-44، عام 1890 (57)) بما يكفي من الوضوح أنه كان يوجد في البيرو عند فتحها ، شيء ما يشبه نظام "المارك" (و من المدهش حقاً أن هذه "المارك" كانت تسمى كذلك marca) و يقوم على التقسيم الدوري للأراضي المحروثة، و بالتالي على الحراثة الفردية.
و على كل حال ، تكتسب الآن المشاعة البيتية البطريركية التي تقوم على الشراكة في ملكية الأرض و حراثتها، أهمية تختلف تماماً عن أهميتها السابقة. فلم يعد بوسعنا الآن أن نضع موضع الشك ذلك الدور الكبير الذي اضطلعت به عند الشعوب المتمدنة و بعض الشعوب الأخرى في العالم القديم عند الانتقال من العائلة المؤسسة على الحق الأمي إلى العائلة الفردية. و سنعود مرة أخرى في عرضنا إلى الاستنتاج الآخر الذي خلص إليه كوفاليفسكي و القائل أنها كانت كذلك درجة انتقالية نشأت منها المشاعة القروية أو المشاعة- المارك القائمة على حراثة الأرض بصورة فردية من قبل مختلف العائلات ، و على تقسيم الحقول و المراعي بصورة دورية أولاً ثم بصورة نهائية.
و فيما يخص الحياة العائلية في داخل هذه المشاعات البيتية، تجدر الإشارة إلى أنه من المعروف أن رؤساء العائلات في روسيا على الأقل يسيئون كثيراً استغلال مركزهم حيال النساء الشابات في المشاعة، و لا سيما حيال كناتهم و غالباً ما يشكلون منهن لأنفسهم حريماً ، و الأغاني الشعبية الروسية بليغة الدلالة في هذا الصدد.
و قبل الانتقال إلى أحادية الزواج التي تطورت بسرعة منذ سقوط الحق الأمي، نقول بضع كلمات أخرى عن تعدد الزوجات و تعدد الأزواج. إن شكلي الزواج هذين لا يمكنهما أن يكونا غير استثناء- غير منتوجي بذخ من منتوجات التاريخ، إذا جاز القول،- إذا لم يكونا كلاهما موجودين في البلد نفسه في آن واحد، و ليست الحال هكذا، كما هو معروف. و يما أنه لم يكن بالتالي في مقدور الرجال المفصولين عن شكل تعدد الزوجات أن يجدوا العزاء عند النساء اللواتي صرن زائدات بفعل شكل تعدد الأزواج، و بما أن عدد الرجال و النساء ظل حتى الآن متساوياً تقريباً، بصرف النظر عن المؤسسات الاجتماعية، فلم يكن من الممكن أن يتعمم هذا الشكل أو ذاك من أشكال الزواج من تلقاء نفسه. و بالفعل، كان تعدد الزوجات عند رجل واحد، بكل تأكيد ، نتيجة للعبودية و كان مقصوراً على من يشغلون مركزاً استثنائياً. و في العائلة البطريركية (الأبوية) السامية، كان البطريرك (الأب) وحده، و بعض من أبنائه في أفضل الأحوال، يعيشون في حالة تعدد الزوجات، بينما كان ينبغي للآخرين أن يكتفوا بزوجة واحدة. و لا يزال هذا الوضع قائماً في الوقت الحاضر في الشرق كله. فإن تعدد الزوجات هو امتياز الأغنياء و الأعيان، و يتحقق أساساً بشراء العبدات ، أما سواد الشعب فيعيش في حالة أحادية الزواج، كذلك يشكل تعدد الأزواج استثناء في الهند و التيبت، و لا ريب أن مسألة أصل هذا الشكل من الزواج الذي تجرد من الزواج الجماعي لا تخلو من الطرافة، و لا تزال تتطلب المزيد من الدراسة. و من جهة أخرى ، يبدو تعدد الأزواج، في ممارسته العملية، أكثر تساهلاً بكثير من تنظيم الحريم عند المسلمين القائم على الغيرة. ذلك هو الحال، مثلاً ، عند النايير في الهند على الأقل، رغم أن لكل ثلاثة رجال أو أربعة أو أكثر امرأة واحدة مشتركة، و لكن بمقدور كل منهم أن تكون له أيضاً بالمشاركة مع ثلاثة رجال أو أكثر زوجة ثانية و كذلك زوجة ثالثة و رابعة، الخ... و من المدهش أن ماك- لينان الذي وصف هذه النوادي الزواجية التي يمكن لأعضائها أن يكونوا في الوقت ذاته أعضاء في عدة نواد، لم يكتشف الفئة الجديدة من زواج النوادي. و لكن عادة النوادي الزواجية هذه ليست أبداً بالفعل شكل تعدد الأزواج، بل هي، على العكس كما أشار جيرو-طولون، مجرد شكل خاص من الزواج الجماعي، فالرجال يعيشون في حالة تعدد الزوجات و النساء في حالة تعدد الأزواج.
2/4 العائلة الأحادية
إنها تنشأ، كما سبق و قلنا، من العائلة الثنائية، في المرحلة الواقعة بين الطورين الأوسط و الأعلى من أطوار البربرية. و انتصارها النهائي هو إحدى العلائم على بداية عصر الحضارة. إن هذه العائلة تقوم على سيادة الزواج مع الرغبة الصريحة في ولادة أولاد تكون أبوتهم ثابتة لا جدال فيها، و ثبوت الأبوة هذا ضروري لأن الأولاد سيملكون أموال والدهم ذات يوم بوصفهم ورثته المباشرين. و هي تمتاز عن الزواج الثنائي بكون عرى الزواج أمتن بكثير، و بأنه لم يعد من الممكن فسخ هذه العرى كلما طاب لأحد الزوجين. فالزوج وحده على العموم، هو الذي يسعه الآن أن يفسخ هذه العرى و يطلّق امرأته. ثم أن حق الخيانة الزوجية لا يزال مضموناً له في الوقت الحاضر أيضاً، و أن بحكم العرف و العادة على الأقل،( إن Code Napoléon *[1] تمنح الزوج هذا الحق بكل وضوح، شرط ألا يأتي بعشيقته إلى المنزل العائلي (58))، و هذا الحق يمارس على نطاق أوسع فأوسع بقدر ما يستمر التطور الاجتماعي. أما إذا تذكرت الزوجة الممارسة الجنسية القديمة و أرادت أن تستأنفها، فإنها تتعرض لعقاب أقسى مما في أي وقت مضى.
إن شكل العائلة الجديد يظهر أمامنا بكل صرامته عند الإغريق. فإن دور الآلهات أي الميثولوجيا، كما لاحظ ماركس (59)، يصور لنا عهداً أسبق كانت فيه النساء يشغلن مركزاً أوفر حرية و تقديراً و احتراماً، أما في العهد البطولي، فإننا نجد المرأة منحطة المقام من جراء سيادة الرجل و مزاحمة العبدات. حسبنا أن نقرأ في "الأوذيسة" كيف يقاطع تيليماك أمه و يجبرها على السكوت (60). و في مؤلفات هوميروس، تصبح النساء الشابات الأسيرات عرضة لأهواء المنتصرين الجنسية، فإن القادة العسكريين يختارون لأنفسهم بالدور و تبعاً لمراتبهم أجمل الأسيرات، و جميع أحداث "الإلياذة" تدور، كما هو معروف، حول النزاع بين أخيل و أغممنون على إحدى العبدات. و مع كل بطل هوميري على جانب ما من الأهمية، يرد اسم الفتاة الأسيرة التي يشاطرها خيمته و سريره. و هؤلاء الفتيات يأخذونهن أيضاً إلى الوطن و إلى البيت الزوجي، كما فعل مثلاً، عند إسخيلوس، أغممنون مع كاسندرا (61). و الأولاد الذين يولدون من هذه العبدات ينالون نصيباً صغيراً من إرث الوالد و يعتبرون مواطنين أحراراً. فإن توكر، مثلاً، ابن تيلامون غير الشرعي، يحق له أن يتسمى باسم والده. و المطلوب من الزوجة الشرعية أن تتحمل كل هذا، و أن تتقيد بكل دقة بواجب العفاف و واجب الأمانة الزوجية. صحيح أن المرأة اليونانية من العهد البطولي تتمتع باحترام يفوق احترام المرأة في عصر الحضارة، إلا أنها في آخر المطاف ليست بالنسبة لزوجها أكثر من أم ورثته الشرعيين المولودين في ظل الزواج، و المديرة العليا لبيته و المراقبة العليا لعبداته اللواتي يستطيع أن يجعل منهن، حسبما يطيب له، و يجعل منهن فعلاً، عشيقات له. و أن وجود العبودية إلى جانب أحادية الزواج، و وجود العبدات الجميلات الفتيات الخاضعات لمطلق تصرف الرجل، هو الذي أضفى على أحادية الزواج منذ البدء طابعها الخاص، إذ جعل منها أحادية زواج بالنسبة للمرأة فقط، لا بالنسبة للرجل. و هذا الطابع لا تزال تحتفظ به في أيامنا.
و يجدر التمييز عند اليونانيين من مرحلة لاحقة بين الدوريين و الأيونيين. فعند الأوائل الذين كانت إسبرطة مثالهم الكلاسيكي، كانت علاقات الزواج في العديد من النواحي أكثر بدائية حتى من تلك العلاقات التي صورها هوميروس. و في إسبرطة، يسود الزواج الثنائي معدلاً حسب المفاهيم السبارطية عن الدولة، ناهيك بأنه يشبه الزواج الجماعي في كثير من الجوانب. و الزواج بلا أولاد يُحَلْ: فإن الملك أنكسندريداس (السنة 560 قبل الميلاد) اتخذ لنفسه زوجة ثانية بالإضافة إلى زوجته العاقر، و أسس اقتصادين بيتيين، و في الوقت نفسه تقريباً، اتخذ الملك أريستون، الذي كانت عنده زوجتان عاقران، زوجة ثالثة، و لكنه طلّق بالمقابل إحدى الزوجتين الأوليين. و من جهة أخرى، كان من الممكن أن يكون لبضعة أخوة زوجة واحدة مشتركة. و كان بوسع الرجل الذي تعجبه زوجة صديقه أن يشاطره إياها، و كانوا يعتبرون من اللائق أن يضع الرجل زوجته تحت تصرف "فحل" قوي، كما كان يقول بيسمارك، حتى و إن لم يكن هذا "الفحل" من عداد المواطنين. و عند بلوتارك مقطع ترسل فيه إسبرطية إلى زوجها محباً لها يحاول كسب حبها، و من هذا المقطع يمكن الاستنتاج، على حد قول شومان، أنه كانت تسود في الأخلاق حرية أوسع و أكبر (62). و لهذا كانت المخالفة الفعلية للأمانة الزوجية، أي خيانة الزوجة لزوجها، عملاً غريباً خارقاً. و من جهة أخرى، لم تعرف إسبرطة، في خيرة عهودها على الأقل،العبودية البيتية، و كان الهيلوت الاقنان يعيشون على حدة في العقارات، و لهذا كانت احتمالات إغراء نسائهم أقل عند الإسبرطيين (63). و بحكم جميع هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تحظى النساء في إسبرطة بمركز مشرف أكثر بكثير مما عند اليونانيين الآخرين. و كانت النساء الإسبرطيات و خير قسم من الهيتيرات الآثينيات النساء الوحيدات في اليونان اللواتي كان الأقدمون يتحدثون عنهن باحترام و يعتبرون أقوالهن جديرة بالاستشهاد بها.
و الحال مختلف تماماً عند الأيونيين الذين كانت أثينا نموذجاً لهم. فقد كانت الفتيات لا يتعلمن غير الغزل و الحياكة و الخياطة، و كن في أفضل الأحوال يتعلمن أيضاً قليلاً من القراءة و الكتابة. و كن يعشن في عزلة تامة تقريباً، و لا يعاشرن غير نساء أخريات. و كان مخدع النساء في قسم خاص منعزل من البيت، في الطابق الأعلى أو في مؤخرة البيت، و لم يكن من السهل على الرجال، و لا سيما الغرباء منهم التسرب إلى هذا القسم، و إلى هذا القسم كانت تنسحب النساء عندما يزور الرجال البيت. و كن لا يخرجن بدون مصاحبة العبدات. و في البيت كن يخضعن لرقابة فعلية. و يتحدث أرستوفانس عن كلاب حراسة كانوا يستخدمونها لتخويف مخالفي الأمانة الزوجية (64)، و في المدن الآسيوية على الأقل، كانوا يستخدمون لمراقبة النساء الخصيان الذين كانوا يصنعونهم في زمن هيرودوتس في جزيرة خيوس لأجل المتاجرة بهم و الذين كان يشتريهم كما يقول فاكسموت، البرابرة (65) و غير البرابرة أيضاً. و ينعت أوريبيدس المرأة oikurema (66)، و تعني شيئاً ألأجل تدبير شؤون البيت (و الكلمة من الجنس المحايد**[2])، و علاوة على إنتاج الأولاد، لم تكن بالفعل بالنسبة للأثينيين إلا الخادمة الرئيسية. و كان الزوج يمارس تمارينه الرياضية و يقوم بشؤونه العامة التي كانت المرأة مقصية عنها، و فضلاً عن ذلك كانت عنده في كثير من الأحيان عبدات لتلبية رغائبه، كما كان يستفيد في زمن ازدهار أثينا من بغاء واسع الانتشار و موضوع على كل حال تحت حماية الدولة. و على أساس هذا البغاء بالذات، نشأت و تطورت نماذج ساطعة فريدة من نساء يونانيات كن، بذكائهن و ذوقهن الفني، أعلى من المستوى العام لنساء الأزمنة القديمة، مثلما كانت الإسبرطيات أعلى بطبعهن. و هكذا كان ينبغي للمرأة أن تصبح من الهيتيرات لكي تصبح امرأة حقيقية، و هذا الواقع كان أقسى حكم على العائلة الأثينية.
و مع مرور الزمن غدت هذه العائلة الأثينية نموذجاً أخذ يقلده، لا سائر الأيونيين و حسب، بل أيضاً و أكثر فأكثر، جميع اليونانيين سوءا أفي داخل البلد أم في المستعمرات، و يبنون بموجبه أوضاعهم البيتية. و لكن اليونانيات كن يجدن في أحيان كثيرة جداً، و رغم المراقبة و العزل، الفرصة لخداع أزواجهن و خيانتهم، و كان هؤلاء يخجلون من إبداء أي شعور من الحب لزوجاتهم، و يتلهون بشتى المغامرات الغرامية مع الهيتيرات، و لكن إذلال النساء ثأر لنفسه مع الرجال أنفسهم إلى حد أنه دفعهم إلى ممارسة اللواط مع الغلمان، و إلى الحط من كرامة آلهتهم و كرامتهم بالذات بأسطورة غانيميد.
و هكذا نشأت أحادية الزواج، بقدر ما يمكننا أن نتتبع نشوءها عند أكثر شعوب العالم القديم حضارة و أكثرها تطوراً. فلم تكن أبداً ثمرة الحب الجنسي الفردي، و لم يكن يجمع بينها و بينه أي جامع على الإطلاق، لأن الزواج ظل كما من قبل زواج انتفاع. و قد كانت أول شكل للعائلة لم يرتكز على الشروط الطبيعية، بل ارتكز على الشروط الاقتصادية، و نعني بها انتصار الملكية الخاصة على الملكية المشتركة البدائية و العفوية. سيادة الزوج في العائلة و ولادة أولاد لا يمكن أن يكونوا غير أولاده من دمه و صلبه، و لا بد لهم أن يرثوا ثروته في المستقبل، -ذلك كان الهدف الوحيد من الزواج الأحادي، كما نادى به اليونانيون بلا لبس و لا إبهام. و ما عدا ذلك، كان الزواج الأحادي عبئاً عليهم و واجباً حيال الآلهة و الدولة و أجدادهم بالذات، كان ينبغي أداؤه. و في أثينا كان القانون لا يفرض الزواج و حسب، بل و أداء الزوج الحد الأدنى مما يسمى بالواجبات الزوجية.***[3]
و عليه لا يدخل الزواج الأحادي إطلاقاً في التاريخ بوصفه اتحاداً اختيارياً بين المرأة و الرجل، و لا حتى بوصفه الشكل الأعلى لهذا الاتحاد. بل بالعكس. فهو يظهر كاستعباد جنس من قبل الآخر، كإعلان لتناقض بين الجنسين لم يعرفه التاريخ كله من قبل. و إني أجد في مخطوطة قديمة غير مطبوعة وضعتها أنا و ماركس في عام 1864 ما يلي:
"إن أول تقسيم للعمل كان بين الرجل و المرأة لأجل إنتاج الأولاد"(67).
و بوسعي الآن أن أضيف إلى هذا القول: إن أول تضاد بين الطبقات ظهر في التاريخ يصادف تطور التناحر بين الزوج و الزوجة في ظل الزواج الأحادي، و أول اضطهاد طبقي يصادف استعباد جنس النساء من قبل جنس الرجال. لقد كان الزواج الأحادي تقدماً تاريخياً كبيراً، و لكنه يدشن في الوقت نفسه، إلى جانب العبودية و الثروة الخاصة، تلك المرحلة التي لا تزال مستمرة حتى أيامنا، و التي يعني فيها كل تقدم تراجعاً نسبياً، و التي يتحقق فيها ازدهار و تطور البعض بآلام البعض الآخر و قمعه. إن الزواج الأحادي إنما هو هذه الخلية من المجتمع المتمدن التي تمكننا من دراسة طبيعة التناحرات و التناقضات المتطورة تماماً في قلب هذا المجتمع.
إن الحرية النسبية القديمة في العلاقات الجنسية لم تزل كلياً مع انتصار الزواج الثنائي أو حتى مع انتصار الزواج الأحادي.
"إن نظام الزواج القديم، الذي حُصِرَ ضمن حدود أضيق نتيجة لاندثار الجماعات البونالوانية تدريجياً، كان لا يزال تلك البيئة التي تطورت فيها العائلة، و ظل يعيق تطورها حتى عصر الحضارة الناشئة... و لقد زال في آخر المطاف بتحوله إلى شكل جديد للهيتيرية لا يزال يتبع الناس في عصر الحضارة أيضاً أشبه بظل أسود يخيم على العائلة"(68).
و يقصد مورغان بالهيتيرية العلاقات الجنسية خارج الزواج بين الرجال و النساء غير المتزوجات، القائمة إلى جانب الزواج الأحادي، و قد كانت هذه العلاقات، كما هو معروف، مزدهرة بأكثر الأشكال تبايناً في سياق عصر الحضارة كله و أخذت تتحول أكثر فأكثر إلى بغاء سافر. إن هذه الهيتيرية تنجم مباشرة من الزواج الجماعي، من مجامعة الغرباء التي كانت النساء يشترين بها حقهن في العفاف. لقد كانت المجامعة من أجل المال عملاً دينياً في البدء. و كانت تجري في معبد آلهة الحب، و كان المال يعود في البدء إلى خزينة المعبد. فإن الهييرودول (69)، خادمات أنايتيس في أرمينيا، و خادمات أفروديت في كورنثيا، و كذلك الراقصات الدينيات المحلقات بالمعابد في الهند، اللواتي يسمونهن بـ"البايادير"(و هذه الكلمة تشويه للكلمة البرتغالية bailadeira و تعني راقصة) كن أولى الباغيات. كانت مجامعة الرجال الغرباء في البدء واجب كل امرأة، ثم غدت من نصيب هؤلاء الكاهنات وحدهن، كأنما يقمن بها عوضاً عن جميع النساء الأخريات. و عند شعوب أخرى، تنجم الهيتيرية من الحرية الجنسية الممنوحة للفتيات قبل الزواج، و هي أيضاً بالتالي بقية من الزواج الجماعي، إلا أنها بقية وصلت إلينا بسبيل آخر. و مع ظهور التفاوت في الملكية، أي في الطور الأعلى من البربرية، أخذ العمل المأجور يظهر هنا و هناك إلى جانب عمل العبد، كما أخذ احتراف البغاء من قبل النساء الحرات يظهر في الوقت نفسه إلى جانب إكراه العبدة على مجامعة الرجال، بوصفه مرافقاً لازماً للعمل المأجور. و لهذا كان الإرث الذي تركه الزواج الجماعي للحضارة مزدوجاً، كما هو مزدوج، و ذو وجهين، و ذو حدين و مناقض كل ما تصنعه الحضارة: فمن جهة، أحادية الزواج، و من جهة أخرى الهيتيرية مع شكلها المتطرف، البغاء. إن الهيتيرية إنما هي أيضاً مؤسسة اجتماعية ككل مؤسسة أخرى، و هي تؤمن استمرار وجود الحرية الجنسية القديمة- في صالح الرجال. إنها تتعرض للشجب قولاً، مع إنها في الواقع لا تلقى التساهل و التغاضي و حسب، بل تمارس على نطاق واسع و لا سيما من قبل الطبقات السائدة. و لكن هذا الشجب لا يقصد إطلاقاً الرجال الذين يمارسونها، بل يقصد النساء فقط، فيعاملونهن باحتقار و ينبذونهن من المجتمع لكي ينادوا على هذا النحو مرة أخرى بسيادة الرجال المطلقة على جنس النساء قانوناً أساسياً من قوانين المجتمع.
و لكن تناقضاً ثانياً أخذ إلى جانب هذا يتطور في قلب أحادية الزواج نفسها. فإلى جانب الزوج الذي يرفه حياته بالهيتيرية، تعيش الزوجة المتروكة. إن أحد جانبي التناقض غير ممكن بدون الآخر، كما لا يمكن أن تكون في اليد تفاحة بكاملها بعد أكل نصفها. و لكن الرجال لم يكونوا، على ما يبدو، يرون هذا الرأي طالما لم تحملهم زوجاهم على أن يروه. فمع الزوج الأحادي يظهر على الدوام نموذجان اجتماعيان مميزان لا سابق لهما، هما عشيق الزوجة الدائم و الزوج المخدوع. لقد تغلب الرجال على النساء، و لكن المغلوبات هن اللواتي تسامحن و أخذن على عاتقهن بسخاء و كرامة وضع الأكاليل على رؤوس المنتصرين. فإن الزنى، الممنوع، المعاقب بصرامة، و لكن الذي يستحيل القضاء عليه، قد أصبح، إلى جانب الزواج الأحادي و الهيتيرية، مؤسسة اجتماعية راسخة. و كما من قبل، ظلت صحة الأبوة، صحة تحدر الأولاد من الوالد الشرعي، ترتكز، أكثر ما ترتكز، على القناعة الأخلاقية، المعنوية، و لأجل حل هذا التناقض المستعصي، نصت قوانين نابليون في المادة 312 منها على ما يلي:
"L enfant conçu pendant le mariage a pour père le mari" "الزوج هو والد الولد الذي تحبل به أمه أثناء الزواج".
تلك هي النتيجة الأخيرة لثلاثة آلاف سنة من الزواج الأحادي.
إن العائلة الفردية، -عندما تبقى أمينة لمنشئها التاريخي، و عندما يكتسب التناقض بين الرجل و المرأة فيها طابعاً واضحاً بحكم سيادة الرجل المطلقة،- تعطينا إذن صورة مصغرة عن تلك التناحرات و التناقضات التي يتحرك في داخلها المجتمع المنقسم إلى طبقات منذ بداية عصر الحضارة، و التي لا يستطيع هذا المجتمع لا حلها و لا التغلب عليها. و غني عن البيان أني لا أقصد هنا غير حالات الزواج الأحادي التي تطابق فيها الحياة الزوجية بالفعل الفروض النابعة من طابع هذه المؤسسة الأصلي، الأولي، و التي تثور فيها الزوجة مع ذلك على سيادة الزوج. أما أن الزواجات لا تجر على هذا النحو، فليس ثمة من يعرف هذا خيراً من التافة الضيق الأفق الألماني الذي يعجز عن أن يكون سيداً سواء في عائلته أم في الدولة. و لهذا تستأثر زوجته بكامل الحق بسلطة الزوج التي لا يستحقها. و لكنه بالمقابل يتصور أنه أعلى بكثير من رفيقه الفرنسي في التعاسة الذي يصطدم أكثر منه بكثير بمصاعب و منغصات أشد و أسوأ.
و من جهة أخرى، لم تتخذ العائلة الفردية إطلاقاً في كل مكان و كل زمان الشكل الكلاسيكي الصارم الذي اتخذته عند اليونانيين. فعند الرومان الذين كانوا يتحلون، بوصفهم فاتحي العالم العتيدين، بنظرة إلى الأمور أكثر اتساعاً و إن كانت أقل دقة، من نظرة اليونانيين، كانت الزوجة تتمتع بمزيد من الحرية و مزيد من الاحترام. و كان الروماني يعتقد أن الأمانة الزوجية مؤمنة كفاية بفضل ما يملكه من حق الحياة و الموت على زوجته. و فضلاً عن ذلك، كان بمقدور الزوجة هنا، مثلها مثل الزوج، أن تفسخ الزواج حين يطيب لها. و لكن أكبر تقدم تحقق في تطور الزواج الأحادي إنما تحقق، بلا ريب، مع دخول الجرمان حلبة التاريخ، لأن أحادية الزواج لم تكن بعد، على ما يبدو، قد تطورت في ذلك الوقت من الزواج الثنائي، و ذلك بسبب فقرهم على الأرجح. و نحن نخلص إلى هذا القول استناداً إلى ظروف ثلاثة ذكرها تاقيطس. أولاً، رغم كل قداسة الزواج، "كانوا يكتفون بزوجة واحدة، و كانت النساء يعشن محصنات بعفافهن"(70)،
و مع ذلك، كان تعدد الزوجات منتشراً عندهم بين الأعيان و زعماء القبائل، مثلما كان الحال عند الأميركيين الذين كان يوجد عندهم الزواج الثنائي. ثانياً، لا بد أن الانتقال من الحق الأمي إلى الحق الأبوي كان آنذاك حديث العهد ، لأن أخ الأم، - و هو أقرب نسب لها بين الرجال في العشيرة بموجب الحق الأمي- كان يعتبر تقريباً نسيباً أقرب إليها من والدها بالذات، و هذا ما يطابق كذلك وجهة نظر الهنود الحمر الأميركيين لفهم ماضينا بالذات. ثالثاً، كانت النساء عند الجرمان يتمتعن بقدر كبير من الاحترام و يؤثرن تأثيراً كبيراً في الشؤون العامة، الأمر الذي يناقض تماماً سيادة الرجال الملازمة لأحادية الزواج. و في كل هذا تقريباً، لا يتميز الجرمان عن السبارطيين الذين كان الزواج الثنائي عندهم لم يندثر بعد كلياً، كما سبق و رأينا. و من هذه الناحية أيضاً، أحرز إذن عنصر جديد تماماً، مع الجرمان، سيطرته على العالم. فإن أحادية الزواج الجديدة التي تطورت على أنقاض العالم الروماني في سياق تخالط الشعوب، أضيفت على سلطان الرجال أشكالاً أخف، و منحت النساء، و إن في الظاهر، وضعاً أوفر احتراماً و حرية لم تعرفه يوماً الأزمنة القديمة الكلاسيكية. و بذلك أنشئت للمرة الأولى المقدمة التي استطاع على أساسها أن يتحقق، إطلاقاً من أحادية الزواج، - في داخلها، أو إلى جانبها، أو رغما عنها، حسب الظروف،- أعظم تقدم أخلاقي نحن مدينون به لها، عنيت به الحب الفردي العصري بين الجنسين الذي كان العالم القديم كله يجهله.
و لكن هذا التقدم نجم على وجه الضبط من أن الجرمان كانوا لا يزالون يعيشون في مرحلة العائلة الثنائية و أنهم أدخلوا على أحادية الزواج، بقدر ما كان ذلك ممكناً، وضع المرأة الذي كان يطابق العائلة الثنائية. فإن هذا التقدم لم ينجم أبداً مما نسب إلى الجرمان من فطرة أسطورية عجيبة على نقاوة الأخلاق، تقتصر، من حيث جوهر الأمر، على كون الزواج الثنائي يخلو بالفعل من التناقضات الأخلاقية الحادة الملازمة لأحادية الزواج. بل بالعكس، فإن الجرمان قد انحطوا كثيراً من الناحية الأخلاقية في سياق هجراتهم، و لا سيما في اتجاه الجنوب الشرقي، إلى مستوى رحل سهوب ساحل البحر الأسود، و أخذو عن هؤلاء الرحل، فضلاً عن فن ركون الخيل، عيوبهم الشنيعة المنافية للطبيعة، الأمر الذي يشهد عليه بكل وضوح أميان فيما يتعلق بالتايفال و بروكوبيوس فيما يتعلق بالهيرول (71).
و لكن إذا كانت أحادية الزواج بين جميع لأشكال المعروفة من العائلة الشكل الوحيد الذي أمكن أن ينشأ منه و يتطور الحب الجنسي الحالي، العصري، فإن هذا لا يعني أن هذا الأخير قد تطور في قلب أحادية الزواج بوجه الحصر، أو حتى بصورة رئيسية بوصفه حباً متبادلاً بين الزوج و زوجته، فإن طبيعة الزواج الأحادي المتين ذاتها كانت تستبعد ذلك في ظل سيادة الزوج. و عند جميع الطبقات النشيطة تاريخياً، أي عند جميع الطبقات السائدة، بقي عقد الزواج كما كان عليه منذ الزواج الثنائي، أي صفقة يعقدها الآباء. و عندما ظهر الحب الجنسي للمرة الأولى في التاريخ بشكل عشق، و بوصفه عشقاً في منال كل فرد (من الطبقات السائدة على الأقل)، بوصفه أعلى شكل للغريزة الجنسية،- الأمر الذي يشكل طابعه الخاص المميز،- لم يكن هذا الشكل الأول، الحب الفروسي في القرون الوسطى، حباً زوجياً على الإطلاق. بل بالعكس. فإن الحب الفروسي بشكله الكلاسيكي، عند البروفنساليين، يسعى بكل أشرعته نحو انتهاك الأمانة الزوجية، و شعراؤه ينشدون هذا السعي. إن زهرة الشعر الغزلي (72) البروفنسالي هي أغاني "ألبا" albas، و بالإلمانية Tageliede (أغاني الصباح، التصبيحات). إن هذه التصبيحات تصور بألونا ساطعة كيف ينام الفارس في سرير حسنائه،- و هي امرأة رجل آخر،- بينا يقف في الخارج حارس ينبئه بأولى تباشير الصباح alba لكي يتمكن من التملص دون أن يراه أحد، ثم يلي مشهد الوداع، و هو ذروة الأغنية. إن سكان فرنسا الشمالية، و كذلك الألمان البواسل تبنوا هم أيضاً هذا الضرب من الشعر مع طرائق الحب الفروسية التي تناسبه، و قد ترك صاحبنا العجوز ولفرام فون إيشنباخ حول هذا الموضوع الحساس، ثلاث أغنيات رائعة تعجبني أكثر مما تعجبني قصائده البطولية الطويلة الثلاث.
في أيامنا يجري عقد الزواج في البيئة البرجوازية بطريقتين. ففي البلدان الكاثوليكية، يبحث الوالدان، كما من قبل، عن زوجة تليق بشاب ابن برجوازي، و هذا ما يؤدي بالطبع إلى تطور التناقض الملازم لأحادية الزواج أكمل التطور، أي إلى ازدهار الهيتيرية من جانب الزوج، و إلى ازدهار الخيانة الزوجية من جانب الزوجة. و إذا كانت الكنيسة الكاثوليكية قد حرمت الطلاق، فلسبب واحد فقط، كما ينبغي الظن، هو أنها اقتنعت بأنه لا مفر من الخيانة الزوجية كما لا مفر من الموت. أما في البلدان البروتستانتية، فالأمر بالعكس، فإن ابن البرجوازي يتمتع، على العموم، بحق اختيار زوجة له من بنات طبقته، بهذا القدر أو ذالك من الحرية، و لهذا يمكن أن يكون الحب، بقدر ما، أساساً لعقد الزواج، ناهيك بأنه ينبغي دائماً، بحكم اللياقة، افتراض وجوده تبعاً لروح الرياء البروتستانتي. و هنا يمارس الزوج الهيتيرية بأقل من الحمية، بينا خيانة الزوجة أقل حدوثاً. و لكن بما أن الناس يبقون في ظل الزواج، أياً كان شكله، مثلما كانوا من قبله، و بما أن البرجوازيين في البلدان البروتستانتية هم بمعظمهم تافهون ضيقوا الأفق، فإن أحادية الزواج البروتستانتية هذه، حتى في أفضل الأحوال، لا تؤدي مع ذلك، إلا إلى مساكنة زوجية مملة لا تطاق يسمونها بالسعادة الزوجية. و خير مرآة لهذين النوعين من الزواج هي الرواية، الرواية الفرنسية لآجل الزواج الكاثوليكي و الرواية الألمانية لأجل الزواج البروتستانتي. و في كل من الروايتين، "ينال الرجل نصيبه": في الرواية الألمانية ينال الشاب الفتاة، و في الرواية الفرنسية، ينال الزوج قرنين. ليس من الواضح دائماً في هذه الحال معرفة أي منهما أسوأ نصيباً. و لهذا يثير ملل الرواية الألمانية في نفس البرجوازي الفرنسي من الرعب و الذعر قدر ما تثيره "لا أخلاقية" الرواية الفرنسية في نفس البرجوازي الألماني التافه ضيق الأفق. و لكن في الآونة الأخيرة، أي منذ أن "أخذت برلين تصبح عاصمة عالمية"، طفقت الرواية الألمانية تتطرق بأقل من الارتباك و الوجل إلى ظاهرتي الهيتيرية و الخيانة الزوجية المعروفتين جيداً هناك من زمان بعيد.
و لكن الزواج في هذه الحالة و تلك يقوم على وضع الطرفين الطبقي، و لذا كان دائماً زواج انتفاع. و في كلا الحالين، ينقلب زواج لانتفاع هذا في أحيان كثيرة جداً إلى بغاء في منتهى القذارة و الخساسة من جانب الطرفين أحياناً، و في أحيان أكثر بكثير من جانب الزوجة التي لا تختلف عن البغية العادية إلا بكونها لا تؤجر جسدها بالقطعة كما تؤجر العاملة عملها، بل تبيعه دفعة واحدة و إلى الأبد كالعبدة. و على زواج الانتفاع بجميع مظاهره و أشكاله، تصح كلمة فوريه:
"كما أن نفيين في قواعد اللغة يعنيان تأكيداً، كذلك يعني بغاءان في قواعد الأخلاق فضيلة"(73).
إن الحب الجنسي لا يمكن أن يكون و لا يكون بالفعل قاعدة في العلاقات مع المرأة إلا في بيئة الطبقات المظلومة، أي، في أيامنا، في بيئة البروليتاريا، سواء أكانت هذه العلاقات مسجلة رسمياً أم لا. و لكن جميع أسس أحادية الزواج الكلاسيكية مهدومة هي أيضاً في هذه البيئة. فهنا لا وجود لأي ملكية أنشئت من أجل صيانتها و توريثها على وجه الضبط أحادية الزواج و سيادة الرجال، و لذا، لا وجود هنا لأي وسيلة لأجل تحقيق هذا الغرض: فإن الحق البرجوازي الذي يحمي هذه السيادة لا يوجد إلا من أجل المالكين و من أجل خدمة علاقاتهم مع البروليتاريين، و هو يكلف غالياً ، و لذا لا يصلح أبداً في علاقات العامل مع زوجته نظراً لفقر العامل. هنا تضطلع بالدور الحاسم ظروف خاصة و اجتماعية مختلفة تماماً. و هناك اعتبار آخر. فمنذ أن انتزعت الصناعة الكبيرة المرأة من البيت، و أرسلتها إلى سوق العمل و إلى المعمل و حولتها في كثير من الأحيان إلى معيلة للعائلة، زالت في المسكن البروليتاري كل تربة لآخر بقايا سيادة الرجل، اللهم إلا بعض الفظاظة في معاملة الزوجة متوارث منذ دهور أحادية الزواج. و هكذا لم تبق عائلة البروليتاري أحادية الزواج بمعنى الكلمة الصرف، حتى و إن سادها أحر الحب و أمتن الإخلاص من كلا الطرفين، و رغم جميع البركات الدينية و الدنيوية من كل شاكلة و طراز. و لهذا يضطلع هنا مرافقاً أحادية الزواج الدائمان، الهيتيرية و الخيانة الزوجية، بدور ضئيل و حين لا يبقى بوسع الطرفين أن يعيشا معاً، فإنهما يفضلان الانفصال. و خلاصة القول أن الزواج البروليتاري زواج أحادي بمعنى الكلمة الأصلي لا بمعناها التاريخي.
بيد أن حقوقيينا يعتبرون أن تقدم التشريع ينتزع أكثر فأكثر من النساء كل مبرر للشكوى. إن قوانين البلدان المتمدنة العصرية تعترف أكثر فأكثر، أولاً، بأنه ينبغي للزواج، لكي يكون صحيحاً، أن يكون عبارة عن عقد يعقده الطرفان بملء اختيارهما، و ثانياً، بأنه ينبغي أن يكون للطرفين خلال مدة الزواج كلها نفس الحقوق و الواجبات حيال أحدهما الآخر. فإذا ما تحقق هذان الشرطان بدأت و انسجام، لحصلت النساء على كل ما بوسعهن أن يرغبن فيه.
إن هذه المحاكم الحقوقية الصرف تطابق تماماً المحاكمة التي يلجأ إليها الجمهوري البرجوازي الراديكالي الذي يدعو البروليتاري بين الفينة و الفينة إلى التزام جانب النظام. إن عقد العمل يُعَدّ معقوداً بملء رضا الطرفين. و لكنه يعد معقوداً بملء رضا الطرفين لأن القانون يقرر على الورق المساواة بين الطرفين. أما السلطة التي يخولها اختلاف الوضع الطبقي لأحد الطرفين، و الضغط الذي يمارسه هذا الطرف بفضل ذلك على الطرف الآخر، أي وضع الطرفين الاقتصادي الفعلي، فإن القانون لا يذكرهما بأي كلمة. و أثناء مدة عقد العمل، يظل الطرفان متمتعين، حسب القانون، بالمساواة فيما بينهما طالما أن أحدهما لم يتنازل صراحة عن حقوقه. أما أن الوضع الاقتصادي يجبر العامل على التنازل حتى عن آخر مظهر من مظاهر المساواة في الحقوق، فلا شأن أيضاً للقانون بذلك.
و فيما يخص الزواج، يشعر القانون بأكمل الارتياح، حتى و إن كان أكثر القوانين تقدماً، إذا أعرب الطرفان المعنيان، حسب الأصول، عن موافقتهما طوعاً و اختياراً على الزواج. أما ما يجري ما وراء كواليس القانون حيث تجري الحياة الفعلية، و كيف تتحقق هذه الموافقة الحرة، فإن القانون و رجل القانون لا يأبهان لذلك. و مع ذلك، لا بد لأبسط مقارنة بين قوانين مختلف البلدان من أن تبين للحقوقي ما تعنيه بالفعل هذه الموافقة الحرة. ففي البلدان التي يكفل فيها القانون للأولاد نصيباً إلزامياً من تركة والديهم، و التي لا يمكن فيها بالتالي حرمانهم من التركة،- في ألمانيا و في البلدان التي تتبنى القانون الفرنسي، و في بعض البلدان الأخرى،- ينبغي على الأولاد أن يحصلوا على موافقة الوالدين لأجل عقد الزواج. أما في البلدان التي تتبنى القانون الإنجليزي، و التي لا يفرض فيها القانون موافقة الوالدين لأجل عقد الزواج، فإن الوالدين يتمتعان بكامل الحرية عند التوصية بتركتهما، و بوسعهما، كما يطيب لهما، أن يحرما أولادهما من التركة. و لكنه واضح أن حرية عقد الزواج في إنجلترا و أميركا ليست أبداً بالفعل، رغم هذا، و حتى بسبب هذا على وجه الضبط، عند الطبقات التي يوجد لديها ما تورثه، أكبر مما هي عليه في فرنسا و ألمانيا.
و ليست الحال أفضل فيما يخص المساواة القانونية بين الرجل و المرأة في الزواج. إن التفاوت في الحقوق بين الطرفين، الذي ورثناه من العلاقات الاجتماعية السابقة، ليس سبب اضطهاد المرأة في المضمار الاقتصادي، بل نتيجته. ففي الاقتصاد البيتي الشيوعي القديم الذي كان يشمل عدداً كبيراً من الأزواج مع أولادها، كانت إدارة هذا الاقتصاد المعهود بها إلى النساء ضرباً من النشاط الاجتماعي الضروري للمجتمع، شأنها شأن حصول الرجال على وسائل العيش. و لكن الوضع تغير منذ ظهور العائلة البطريركية، و بالأحرى منذ ظهور العائلة الفردية الأحادية الزواج. فقد فقدت إدارة الاقتصاد البيتي طابعها الاجتماعي. و لم تعد لها علاقة بالمجتمع. و أصبحت خدمة خاصة، و صارت الزوجة الخادمة الرئيسية، و أقصيت عن الاشتراك في الإنتاج الاجتماعي. إن الصناعة الكبيرة في أيامنا هي التي فتحت أمام المرأة –المرأة البروليتارية فقط- السبيل إلى الإنتاج الاجتماعي، و لكنها، إذا ما قامت بواجباتها الخاصة في خدمة العائلة، بقيت خارج الإنتاج الاجتماعي و عجزت عن تحصيل أي أجر مستقل، و إذا ما شاءت أن تشترك في العمل الاجتماعي و أن تحصل على أجر مستقل، عجزت عن أداء واجباتها العائلية. إن حال المرأة واحد في هذا الصدد، سواء في المصنع أم في جميع ميادين النشاط الأخرى، بما فيها ميدانا الطب و المحاماة. إن العائلة الفردية الحالية ترتكز على عبودية النساء السافرة أو المقنعة، و المجتمع الحالي إنما هو كتلة تتألف بوجه الحصر من عائلات فردية هي بمثابة جزيئاتها. و في الوقت الحاضر، يتعين على الزوج في أغلبية الأحوال أن يكون سند العائلة و معيلها، على الأقل في بيئة الطبقات المالكة، و هذا ما يضمن له سيادة لا تحتاج إلى أي امتيازات قانونية خاصة. فالرجل في العائلة هو البرجوازي بينا المرأة تمثل البروليتاريا. و لكن ميزة الاضطهاد الاقتصادي الذي ينيخ بكلكله على البروليتاريا في ميدان الصناعة لا تبرز بكل حدتها إلا بعد القضاء على جميع الامتيازات الخاصة التي يعترف بها القانون لطبقة الرأسماليين و بعد قرار المساواة التامة في الحقوق بين الطبقتين من الناحية القانونية. إن الجمهورية الديمقراطية لا تزيل التضاد بين الطبقتين، و هي، على العكس، لا تفعل غير أن تمهد التربة التي يحتم عليها الصراع من أجل حل هذا التضاد. كذلك ميزة سيادة الزوج على الزوجة في العائلة الحالية و ضرورة و طريقة إقرار المساواة الاجتماعية الفعلية بينهما لن تتجلى بكل سطوع إلا متى أصبح الزوج و الزوجة، من الناحية القانونية، متساويين تماماً في الحقوق. و آنذاك يتبين أن الشرط الأول لتحرر المرأة هو عودة جنس النساء بكليته إلى الإنتاج الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب بدوره زوال العائلة الفردية بوصفها وحدة اقتصادية في المجتمع.
هناك إذن ثلاثة أشكال رئيسية للزواج تناسب بالإجمال المراحل الرئيسية لثلاث من تطور البشرية. فالوحشية يناسبها الزواج الجماعي، و البربرية يناسبها الزواج الثنائي، و الحضارة تناسبها أحادية الزواج المقرون بالخيانة الزوجية و البغاء. و بين الزواج الثنائي و أحادية الزواج، تتسرب في الطور الأعلى من البربرية سيادة الرجال على العبدات و تعدد الزوجات.
إن أصالة التقدم الذي يتجلى في تعاقب الأشكال هذا تقوم، كما يتبين من كل عرضنا السابق، في حرمان النساء، أكثر فأكثر، لا الرجال، من الحرية الجنسية الملازمة للزواج الجماعي. و بالفعل، لا يزال الزواج الجماعي في الواقع قائماً في صالح الرجال في الوقت الحاضر أيضاً. و ما هو جريمة من جانب المرأة و يستتبع عواقب وخيمة، قانونية و اجتماعية، إنما هو بالنسبة للرجل أمر مشرف أو، في أسوأ الأحوال، لطخة أخلاقية طفيفة يحملها بسرور. و لكن بقدر ما تتغير الهيتيرية القديمة في أيامنا تحت تأثير الإنتاج البضاعي الرأسمالي و تتكيف له، و بقدر ما تتحول إلى بغاء سافر، بقدر ما يشتد تأثيرها المفسد. و هي تفسد أخلاق الرجال أكثر بكثير مما تفسد أخلاق النساء. و بين النساء، لا يفسد البغاء غير التعيسات اللواتي يصبحن ضحاياه، و لكنه يفسدهن أقل مما يعتقد عادة. بيد أنه بالمقابل يذل طبع جنس الرجال كله. فإن استطالة زمن العزوبة، مثلاً، هو في تسع حالات من أصل عشر، مدرسة إعدادية حقيقة للخيانة الزوجية.
و لكننا نسير الآن نحو انقلاب اجتماعي ستزول فيه حتماً الأسس الاقتصادية القائمة حتى الآن لأحادية الزواج شأنها شأن أسس مرافقها، البغاء. فقد نشأت أحادية الزواج من تمركز ثروات كبيرة في يد واحدة –هي يد الرجل- و من الرغبة في نقل هذه الثروات بالميراث إلى أولاد هذا الرجل بالذات، لا إلى أولاد رجل آخر ما. و لهذا الغرض، كانت تنبغي أحادية زواج المرأة لا أحادية زواج الرجل، و هكذا لم تكن أحادية زواج المرأة لتعيق أبداً تعدد زوجات الرجل، الظاهر و المستتر. و لكن الانقلاب الاجتماعي العتيد الذي سيحول على الأقل القسم الأعظم من الثروات الدائمة التي يمكن توريثها، أي وسائل الإنتاج- إلى ملكية عامة، اجتماعية، سيقلل إلى الحد الأدنى من جميع هذه الهموم المتعلقة بمعرفة الورثاء و كيفية نقل الإرث. و لكن هل تزول أحادية الزواج التي نشأت من الأسباب الاقتصادية إذا زالت هذه الأسباب؟
قد يمكن الجواب، و ليس دون مبرر، بأنها لن تزول، و ليس هذا و حسب، بل أنها، على العكس، لن تتحقق تماماً إلا آنذاك. لأنه مع تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، اجتماعية، يزول كذلك العمل المأجور و تزول البروليتاريا، و تزول بالتالي الضرورة التي تقضي على عدد يمكن إحصاؤه من النساء ببيع أجسادهن لقاء المال. إن البغاء سيزول، أما أحادية الزواج، فلن تزول، بل تصبح في آخر المطاف واقعاً بالنسبة للرجال أيضاً.
و هكذا سيتغير وضع الرجال، على كل حال، تغيراً عميقاً. و لكن وضع النساء، جميع النساء، سيطرأ عليه هو أيضاً تغير كبير. فمع تحول وسائل النتاج إلى ملكي عامة، اجتماعية، لا تبقى العائلة الفردية وحدة المجتمع الاقتصادية. فإن الاقتصاد البيتي الخاص يصبح فرعاً من فروع النشاط الاجتماعي. و تغدو العناية بالأطفال و تربيتهم من شؤون المجتمع:فإن المجتمع سيعنى بالقدر ذاته بجميع الأطفال، سواء أكانوا شرعيين أم غير شرعيين. و بفضل هذا، يزول همّ "العواقب" الذي يشكل في الوقت الحاضر أكبر سبب اجتماعي، أخلاقي و اقتصادي، يمنع الفتاة من الاستسلام بلا تحفظ للرجل الذي تحبه. ألن يكون هذا سبباً كافياً لكي يقوم تدريجياً مزيد من الحرية في العلاقات الجنسية، و لكي يتكون بالتالي رأي عام أكثر تساهلاً حيال شرف العذارى و حشمة النساء؟ أو لم نر، أخيراً، أن أحادية الزواج و البغاء هما في العالم الحالي متضادان حقاً و فعلاً، و لكنها متضادان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، و قطبا وضع اجتماعي واحد؟ و هل يمكن أن يزول البغاء دون أن يجر معه أحادية الزواج إلى الهاوية؟
هنا يدخل الحلبة عنصر جديد لم يكن موجوداً في أفضل الأحوال إلا بصورة جنين، نواة، في عهد نشوء أحادية الزواج، و هذا العنصر هو الحب الجنسي الفردي.
قبل القرون الوسطى، لم يكن من الممكن حتى الكلام عن الحب الجنسي الفردي. و غني عن البيان أن الجمال البدني، و العلاقات الودية، و الميول المتماثلة، الخ.. ، قد أيقظت على الدوام عند أفراد الجنسين المختلفين الرغبة في الاتصال الجنسي، و أن الرجال و النساء على السواء لم يكونوا أبداً غير مبالين في معرفة أولئك الذين سيقيمون معهم هذه الاتصالات الحميمة. و لكن الشقة بين هذا و بين الحب الجنسي الحالي كبيرة إلى ما لا حد له. ففي سياق الأزمنة القديمة كلها، كان الآباء هم الذين يعقدون زواج المعنيين بالأمر، و كان هؤلاء يتكيفون للأمر بكل هدوء. و ذلك النصيب الطفيف من الحب بين الزوجين الذي عرفته الأزمنة القديمة، ليس ميلاً ذاتياً، بل واجب موضوعي، ليس أساس الزواج، بل تابع له. إن علاقات الحب بمعناها الحالي لا تقوم في الأزمنة القديمة إلا خارج المجتمع الرسمي. فإن الرعاة الذين ينشد لنا ثيوكريتوس و موسخوس و كذلك دفنيس و كلويا عند لونغ (74) مسرات و آلام حبهم، إنما هم بوجه الحصر عبيد لا يشتركون في تصريف شؤون الدولة الذي هو المجال الحيوي للمواطن الحر. و لكن، إلى جانب العلاقات الغرامية بين العبيد، لا نجد هذه العلاقات إلا كنتاج لتفسخ العالم القديم المحتضر، ناهيك بأن هذه العلاقات تقام مع نساء يعشن هن أيضاً خارج المجتمع الرسمي،- أي مع الهيتيرات، أي مع أجنبيات أو مع معتقات، في آثينا عشية سقوطها، وفي روما في عهد الإمبراطورية. و إذا كانت قد قامت بالفعل علاقات غرامية بين مواطنين أحرار و مواطنات حرات، فإن ذلك لم يكن إلا من باب الخيانة الزوجية. بل أن العجوز أناكريونت، الشاعر الغزلي الكلاسيكي في الأزمنة القديمة، كان لا يبالي بالحب الجنسي حسبما نفهمه الآن بقدر ما كان لا يبالي حتى بجنس الكائن المحبوب.
إن الحب الجنسي الحالي يختلف اختلافاً جوهرياً عن مجرد الرغبة الجنسية، عن "إيروس" eros الأقدمين. فهو، أولاً، يفترض عند الكائن المحبوب حباً متبادلاً، و المرأة في هذا الصدد مساوية للرجل، في حين أن موافقتهما لم تكن دائماً مطلوبة في "إيروس" eros القديم. ثانياً، يبلغ الحب الجنسي قوة و مدة تجعلان الطرفين يتصوران الانفصال و استحالة الوصال بلية كبيرة إن لم تكن أفدح البلايا، فيقدمان على مجازفة ضخمة، بل أنهما يعرضان حياتهما للخطر لمجرد أن يملك أحدهما الآخر، الأمر الذي لم يحدث في الأزمنة القديمة إلا في حال الخيانة الزوجية. و أخيراً، يظهر معيار أخلاقي جديد لأجل شجب أو تبرير العلاقة الجنسية، فلا يسألون فقط ما إذا كانت قائمة على الزواج أو خارج الزواج، بل يسألون أيضاً ما إذا كان الحب متبادلاً أم لا. و مفهوم أن هذا المعيار لا يلقى من الاحترام في الممارسة الإقطاعية و البورجوازية أكثر مما تلقاه جميع المعايير الأخلاقية الأخرى، فهو لا يؤخذ بالحسبان. و لكنه لا يعامل أسوأ مما تعامل المعايير الأخرى: فهو معترف به مثله مثل غيره- نظرياً، على الورق. و الآن لا تمكن المطالبة أكثر من ذلك.
و لقد انطلق القرون الوسطي من النقطة التي توقف عندها العالم القديم مع بوارده في مضمار الحب الجنسي، أي من الزنى. و قد وصفنا آنفاً الحب الفروسي الذي خلق أغنية الصباح. و بين هذا الحب الساعي إلى هدم الزواج و بين الحب الذي يجب أن يصبح أساس الزواج، لا تزال تقع طريق طويلة ينبغي قطعها، و لكن عصر الفروسية لم يقطعها قط إلى النهاية.و حتى عندما ننتقل من اللاتين المستهترين إلى الألمان الفاضلين، نجد في "أغنية نيبيلونغ" إن كريمهيلدا التي تحب زيغفريد سراً بقدر ما يحبها زيغفريد، تجيب غونتر بكل بساطة عندما يخبرها أنه خطبها لفارس لا يذكر اسمه:
"لا داعي لك أن ترجوني، كما تأمرني، كذلك سأعمل على الدوام. و من تعطني إياه زوجاً، يا سيدي، أكن خطيبته بكل سرور" (75).
بل أنه لا يخطر في بال كريمهيلدا أنه يمكن هنا على العموم أخذ حبها بعين الاعتبار. إن غونتر يخطب برونهيلدا، و إيتسل يخطب كريمهيلدا، مع أنهما لم يريهما قط، كذلك في "غودرون" Gudrun (76)، يخطب الإرلندي زيغيبانت النروجية أوتا، و يخطب هيتل من هيغلنغن الإرلندية هيلدا، و أخيراً يحاول كل من زيغفريد من مورلند و هارتموت من أورمان و هرفيغ من زيلنده أن يخطب غودرون. و في هذه الحالة الأخيرة وحدها، تقرر غودرون، بكل حرية في صالح هرفيغ. إن والدي الأمير الشاب هما، على العموم، اللذان يختاران خطيبة ابنهما، إذا كانا لا يزالان حيين، و إلا اختار بنفسه خطيبته بعد استشارة كبار أتباعه الذين لرأيهم دائماً وزن كبير في الموضوع. ناهيك بأنه لم يكن من الممكن أن يكون الحال آخر. فإن الخطبة هي بالنسبة للفارس أو البارون، و كذلك بالنسبة للأمير نفسه، عمل سياسي، و فرصة لزيادة بأسه بمساعدة حلفاء جدد. إن مصالح البيت، لا الرغائب الشخصية، هي التي يجب أن تكون لها الكلمة الفاصلة في الموضوع. فكيف يمكن في مثل هذه الأحوال أن تكون الكلمة الأخيرة للحب عند عقد الزواج؟
و كان الحال نفسه عند بورجوازي الحرف في مدن القرون الوسطى. فإن الامتيازات التي كانت تحميه، و الأنظمة الداخلية الحرفية التي كانت تفرض شتى القيود، و الحدود المصطنعة التي كانت تفصله قانوناً، هنا عن الحرف الأخرى، و هناك عن رفاقه بالذات في الحرفة، و هناك أيضاً عن صناعه و أجرائه، كانت تقلص بصورة ملحوظة الحلقة التي كان بوسعه أن يبحث ضمنها عن زوجة مناسبة له. و في هذا النظام المشوش، كانت مصالح العائلة، لا رغائبه الشخصية، هي التي تقرر أي خطيبة تناسبه أكثر من غيرها.
و عليه بقي عقد الزوج في عدد لا يحصى من الأحوال، حتى نهاية القرون الوسطى بالذات، ما كان عليه في البداية بالذات، أي قضية لا يحلها العازمون على الزواج أنفسهم. ففي البداية، كان الناس يولدون متزوجين، متزوجين من جماعة كاملة من أفراد الجنس الآخر. و في آخر أشكال الزواج الجماعي، بقي الوضع نفسه، أغلب الظن، و لكن الجماعة أخذت تتقلص أكثر فأكثر. و في ظل الزواج الثنائي، تتفق الأمهات، على العموم، بصدد زواجات أولادهن، و هنا أيضاً يعود الدور الفاصل إلى اعتبارات بشأن علاقات النسب الجديدة ينبغي لها أن تضمن للزوج و الزوجة الشابين مركزاً أثبت و أقوى في العشيرة و القبيلة. و عندما بدأ عهد سيادة الحق الأبوي و أحادية الزواج مع انتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة و مع ظهور المصلحة في نقل الملكية بالوراثة، أصبح عقد الزواج آنذاك رهناً بكليته باعتبارات اقتصادية. إن شكل الزواج بالشراء يزول، و لكن هذا الزواج يجري، من حيث جوهر الأمر، على نطاق أوسع فأوسع، بحيث أنه صار للرجل أيضاً، علاوة على المرأة، سعر يحدد حسب ثروته لا حسب صفاته الشخصية. إن تغلب ميل الطرفين المتبادل على جميع الاعتبارات الأخرى عند عقد الزواج كان منذ البداية بالذات أمراً لا سابق له في ممارسة الطبقات السائدة. و لم يكن يحدث شيء من هذا القبيل إلا في عالم الروايات أو في أوساط الطبقات المظلومة التي لم يكن يحسب لها أي حساب.
ذلك كان الحال الذي وجده الإنتاج الرأسمالي عندما أخذ يستعد، بعد الاكتشافات الجغرافية، للسيطرة على العالم بفضل تطوير التجارة العالمية و المانيفاكتورة. كان يمكن الظن أن هذا الأسلوب لعقد الزواج سيكون أنسب أسلوب له، و هكذا كان بالفعل. و لكن- و سخرية التاريخ العالمي لا ينضب لها معين- الإنتاج الرأسمالي بالذات هو الذي كان مكتوباً له أن يشق هنا الثغرة الحاسمة. فبتحويله كل شيء إلى بضاعة، قضى على جميع العلاقات القديمة، التقليدية، و أقام الشراء و البيع و العقد "الحر" مقام العادات المتوارثة و الحث التاريخي. و ها هو ذا الحقوقي البريطاني ه.س.ماين يظن أنه حقق اكتشافاً في غاية الأهمية حين قال أن كل تقدمنا بالنسبة للعصور السابقة يتلخص في الانتقال [4]*from status to contract، أي من الشروط المتوارثة إلى الشروط المقررة بموجب عقد حر (77)، الأمر الذي قيل في "البيان الشيوعي"(78) بقدر ما هو صحيح على العموم.
و لكنه ينبغي لأجراء العقد أناس بمقدورهم أن يتصرفوا بحرية بأشخاصهم و أعمالهم و أملاكهم، و متساوون في الحقوق بعضهم حيال بعض. و لقد كان صنع هؤلاء الناس "الأحرار" و "المتساوين" شأناً من أكبر شؤون الإنتاج الرأسمالي. صحيح أن ذلك لم يحدث في البدء إلا بصورة نصف واعية و تجلبب خارجياً بجلباب ديني، و لكنه منذ الإصلاح اللوتري و الكلفيني ثبت المبدأ القائل أن الإنسان لا يتحمل كامل المسؤولية عن أعماله إلا إذا قام بها و هو متمتع بكامل حرية التقرير، و أن مقاومة كل إكراه على القيام بمسعى غير أخلاقي هي واجب أخلاقي. و لكن كيف كان يمكن أن يتوافق هذا المبدأ مع الممارسة السابقة لعقد الزواج؟ لقد كان الزواج، حسب المفهوم البرجوازي، عقداً، صفقة قانونية، له أهم الصفات لأنها كانت تقرر مصير جسد و روح شخصين مدة حياتهما بكاملها. من حيث الشكل، كانت هذه الصفقة تعقد آنذاك، و الحق يقال، طوعاً و اختياراً، فلم تكن تتم بدون موافقة الطرفين. و لكنه كان معلوماً جيداً جداً كيف كان يتم الحصول عل هذه الموافقة و من كان يعقد الزواج في الواقع. و فضلاً عن ذلك، إذا كانت تنبغي حرية التقرير الفعلية لإجراء العقود الأخرى، فلماذا لا تنبغي هذه الحرية في هذه الحالة، لأجراء عقد الزواج؟ ترى، ألم يكن للشاب و الشابة اللذين كان ينبغي الجمع بينها الحق في التصرف بحرية بشخصيهما، بجسدهما و أعضائه؟ ترى، ألم يكن الحب الزوجي حيال الحب الفروسي المقترن بالزنى، شكله البرجوازي الحقيقي؟ و لكن إذا كان واجب الزوجين أن يحب أحدهما الآخر، ترى، ألم يكن بالقدر نفسه واجب المحبين أن يتزوج أحدهما الآخر لا من أي ثالث؟ ترى، ألم يكن حق المحبين هذا يعلو على حق الوالدين و الأقارب و سماسرة و وسطاء الزواج العاديين الآخرين؟ و إذا كان حق الاختيار الشخصي الحر يقتحم بلا تكلف و لا انزعاج ميدان الكنيسة و الدين، فهل كان بوسعه أن يتوقف أمام ادعاءات الجيل الأكبر سناً التي لا تطاق بالتصرف بجسد الجيل الأصغر سناً و روحه و ماله و سعادته و بؤسه؟
و هذه الأسئلة كان لا بد أن تثار في زمن ضعفت فيه جميع عرى المجتمع القديمة و تزعزعت فيه جميع التصورات الموروثة عن الماضي. و قد كبر العالم دفعة واحدة زهاء عشر مرات، فعوضاً عن ربع نصف واحد من الكرة الأرضية، ظهرت الآن الكرة الأرضية كلها، أمام أنظار الأوروبيين الغربيين، فأسرعوا يستولون على الأرباع السبع الباقية. و مع الحواجز القديمة التي تعيق أسلوب التفكير التقليدي في القرون الوسطى منذ آلاف السنين. و أمام عين الإنسان و بصيرته، انفتح أفق أوسع بما لا حد له. فأي أهمية كان يمكن أن تتسم بها السمعة بالاستقامة و الامتيازات الحرفية المشرفة المتوارثة من جيل إلى جيل بالنسبة لشاب كانت تجتذبه و تسحره ثروات الهند و مناجم الذهب و الفضة في المكسيك و بوتوسي؟ كان ذلك، بالنسبة للبرجوازية، عهد الفرسان التائهين. و لقد كانت للبرجوازية أيضاً رومانطيقيتها و أحلامها و تأوهاتها الغرامية، و لكن على الطريقة البرجوازية و بأهداف برجوازية في آخر المطاف.
و هكذا أخذت البرجوازية الصاعدة- و لا سيما في البلدان البروتستانتية حيث تزعزع النظام القائم أكثر مما في البلدان الأخرى- تعترف أكثر فأكثر، بحرية إجراء العقد فيما يتعلق بالزواج أيضاً، و تمارس هذه الحرية بالطريقة الموصوفة أعلاه. لقد ظل الزواج زواجاً طبقياً، و لكن الطرفين المعنيين نالا في حدود طبقتهما حرية معينة في الاختيار. و على الورق، في الأخلاق النظرية و في الوصف الشعري، لم يقرر أي مبدأ بنحو أثبت و أرسخ من المبدأ القائل بلا أخلاقية كل زواج لا يقوم على الحب الجنسي المتبادل و على موافقة الزوجين الحرة حقاً و فعلاً. و بكلمة، نودي بزواج الحب من حق الإنسان، و ليس فقط من [5]** droit de l`homme ، بل أيضاً و على سبيل الاستثناء من ***[6] droit de la femme.
و لكن حق الإنسان هذا كان يختلف من ناحية عن جميع الحقوق الأخرى المسماة بحقوق الإنسان. و بما أن هذه الحقوق لم تشمل أيضاً في الواقع غير الطبقة السائدة،-الطبقة البرجوازية،- و لم تطبق مباشرة أو بصورة غير مباشرة بالنسبة للطبقة المظلومة، -البروليتاريا،- فإن سخرية التاريخ تبرز هنا من جديد. فإن الطبقة السائدة لا تزال خاضغة لسلطان مؤثرات اقتصادية معينة، و لهذا لا تقع في بيئتها زواجات معقودة فعلاً بحرية إلا بصورة استثنائية، بينا هذه الزواجات، كما رأينا، هي القاعدة في بيئة مظلومة.
و عليه، لا يمكن للحرية التامة في عقد الزواج أن تتحقق بصورة تامة و عامة إلا بعد أن يقضي إلغاء الإنتاج الرأسمالي و علاقات الملكية التي خلقها الإنتاج الرأسمالي، على جميع الاعتبارات الثانوية، الاقتصادية، التي لا تزال تؤثر الآن تأثيراً كبيراً في اختيار الزوج و الزوجة. و آنذاك لن يبقى أي دافع غير دافع الميل المتبادل.
و بما أن الحب الجنسي هو بطبيعته حب فردي صرف لا منازع فيه،- مع أنه لا يراعيه الآن بطبيعته هذه غير المرأة،- فإن الزواج القائم على الحب الجنسي هو إذن، بطبيعته، زواج أحادي. و لقد رأينا كم كان باهوفن على حق حينما اعتبر الانتقال من الزواج الجماعي إلى الزواج الأحادي خطوة تقدمية قامت بها النساء أساساً. إلا أن الخطوة التالية من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج كانت هي وحدها من صنع الرجال. و من حيث جوهر الأمر، أدت هذه الخطوة تاريخياً إلى تردي وضع المرأة و إلى تسهيل الخيانة الزوجية من جانب الرجال. و لذا، ما أن تزول الاعتبارات الاقتصادية التي كانت النساء يحتملن بسببها هذه الخيانة العادية الأليفة من جانب الرجل (الاهتمام بمعيشتهن بالذات و لا سيما بمستقبل أولادهن)، حتى تؤدي مساواة المرأة في الحقوق، المحقق بفضل ذلك، إلى الأمر التالي، إذا أخذنا بالحسبان كل الخبرة السابقة، و هو أنها ستيسر حقاً و فعلاً أحادية الزواج عند الرجل أكثر إلى ما لا حد له مما تيسر تعدد الأزواج عند النساء.
و لكنه في هذه الحال ستزول بكل تأكيد من أحادية الزواج تلك السمات المميزة التي طبعها بها نشوؤها من علاقات الملكية، و هذه السمات هي، أولاً، سيادة الرجل، و ثانياً، استحالة فسخ الزواج. إن سيادة الرجل في الزواج هي مجرد نتيجة لسيادته الاقتصادية، و ستزول من تلقاء ذاتها مع هذه الأخيرة. أما استحالة فسخ الزواج، فهي جزئياً عاقبة للظروف الاقتصادية التي نشأت في ظلها أحادية الزواج، و جزئياً تقليد من ذلك الزمن الذي لم تكن قد فهمت فيه بعد الصلة بين هذه الظروف الاقتصادية و أحادية الزواج فهماً صحيحاً و الذي كان فيه الدين يفسر هذه الصلة تفسيراً مشوهاً. إلا أن استحالة فسخ الزواج الاستحالة الظاهرية تنتهك في الوقت الحاضر في آلاف الأحوال. و إذا كان الزواج القائم على الحب هو وحده الزواج الأخلاقي، فإنه وحده يبقى كذلك ما دام الحب قائماً. و لكن مدة شعور الحب الجنسي الفردي تختف كثيراً باختلاف الأفراد، و لا سيما عند الرجال، و حين يستنفد كلياً أو يحل محله حب متأجج جديد، يغدو الطلاق عمل خير سواء بالنسبة للطرفين أم بالنسبة للمجتمع. و لكنه ينبغي فقط تجنيب الناس ضرورة الغوص في وحل دعوى الطلاق.
و لذا، إن ما يمكننا أن نفترضه الآن فيما يتعلق بأشكال العلاقات بين الجنسين بعد القضاء العتيد على الإنتاج الرأسمالي، يتسم على الأغلب بطابع سلبي، و يقتصر في أكثرية الأحوال على ما سيزول. و لكن أي عناصر ستحل محل العناصر الزائلة؟ إن هذا سيتقرر عندما ينمو الجيل الجديد، أي جيل من رجال لن يتأتي لهم أبداً في الحياة أن يشتروا المرأة بالمال أو بوسائل اجتماعية أخرى من وسائل السلطة، و جيل من نساء لن يتأتى لهن أبداً في الحياة أن يستسلمن لرجل بدوافع غير دافع الحب الحقيقي، و أن يمتنعن عن معاشرة الرجل المحبوب، خوفاً من العواقب الاقتصادية. و حين يظهر هؤلاء الناس، فإنهم لن يأبهوا أبداً لما ينبغي عليهم أن يفعلوا حسب الاعتبارات الحالية، فإنهم سيعرفون بأنفسهم ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، و سيرسمون وفقاً لذلك رأيهم العام في سلوك كل فرد بمفرده، و هذا كل ما في الأمر.
و لكن لنعد إلى مورغان الذي ابتعدنا عنه كثيراً. إن دراسة المؤسسات الاجتماعية التي تطورت في مرحلة الحضارة دراسة تاريخية تتجاوز نطاق كتابه. و لهذا لا يتناول إلا بإيجاز مصير أحادية الزواج في سياق هذه المرحلة. و هو يرى كذلك في تطور العائلة الأحادية الزواج تقدماً، خطوة نحو المساواة التامة في الحقوق بين الجنسين، بيد أنه لا يعتبر أنه تم بلوغ هذا الهدف. و لكن، كما يقول،-
"إذا اعترفنا بأن العائلة قد مرت على التوالي بأربعة أشكال و بأنها الآن تمر بالشكل الخامس، واجهنا السؤال التالي:هل يمكن لهذا الشكل أن يدوم زمناً طويلاً في المستقبل؟ الجواب الممكن واحد وحيد، هو أنه لا بد لهذا لشكل أن يتطور بقدر ما يتطور المجتمع، و يتغير بقدر ما يتغير المجتمع، مثلما كان الحال فيما مضى. و بما أنه نتاج نظام اجتماعي معين، فنه سيعكس حالة تطوره. و بما أن العائلة الأحادية الزواج قد ترقت منذ بداية عصر الحضارة و لا سيما في العصر الحديث، ففي الوسع الافتراض، على الأقل، أن بمقدورها أن تترقى مستقبلاً، إلى أن تتحقق المساواة بين الجنسين. أما إذا تبين في مستقبل بعيد أن العائلة الأحادية الزواج غير قادرة على تلبية حاجات المجتمع، فمن المستحيل التنبؤ سلفاً بطابع العائلة التي ستليها" (79).
3 ـ عشيرة الإيروكوا
ننتقل الآن إلى اكتشاف آخر لمورغان يتسم على الأقل بنفس القدر من الأهمية الذي يتسم به بعث الشكل البدائي للعائلة على أساس أنظمة القرابة. فقد أثبت مورغان أن جماعات الأقرباء بالدم، المسماة بأسماء الحيوانات، في داخل قبيلة من الهنود الحمر الأميركيين، مماثلة من حيث الجوهر لـ genea اليونانيين و لـ gentes الرومانيين، و أن الشكل الأميركي هو الشكل الأولي، و أن الشكل اليوناني الروماني هو الشكل اللاحق، المشتق، و أن لتنظيم اليونانيين و الرومانيين الاجتماعي كله في الأزمنة البدائية في عشيرة و "فراترية" phratria و قبيلة، مقابلاً دقيقاً في تنظيم الهنود الحمر الأميركيين، و أن العشيرة هي (بقدر ما تسمح لنا مصادرنا الحالية بالحكم عليها) مؤسسة مشتركة بين جميع الشعوب حتى دخولها في عهد الحضارة بله في مرحلة لاحقة.إن هذا البرهان قد أوضح على الفور أصعب أقسام التاريخ اليوناني و الروماني و أعطانا في الوقت نفسه تفسيراً غير متوقع للسمات الأساسية للنظام الاجتماعي في الأزمنة البدائية، قبل نشوء الدولة. و مهما بدا هذا لاكتشاف بسيطاً بعد الاطلاع عليه و معرفته، فإن مورغان لم يكتشفه مع ذلك إلا في الآونة الأخيرة، ففي كتابه السابق الذي صدر في عام 1871 (80)، لم يكن قد تسرب بعد إلى هذا السر الذي أجبر اكتشافه مذ ذاك الخبراء الإنجليز في التاريخ البدائي، الواثقين عادة فائق الثقة بأنفسهم، على لزوم الصمت فترة من الوقت.
إن الكلمة اللاتينية gens ("جنس") التي يستعملها مورغان في كل مكان ليعني بها هذه الجماعة العشيرية، تنحدر مثلها مثل الكلمة اليونانية المناسبة genos، من الأصل الآري الواحد gan (بالألمانية kan، إذ أن الحرف الآري g يتحول حسب القاعدة العامة في الألمانية إلى k) الذي يعني "ولد"، "نسل". إن gens، genos، و dschanas السنسكريتية و kuni الغوطية (بموجب القاعدة المذكورة آنفاً)، و kyn السكاندينافية القديمة و الأنجلو سكسونية، و kin الإنجليزية، و künne بالألمانية- العليا الوسطى، تعني جميعها "نسب"،"أصل". و لكن gens اللاتينية و genos اليونانية تستعملان خصيصاً لتسمية جماعة عشيرية تعتز بأصلها المشترك (و هنا، من جد واحد مشترك) و تشكل بحكم مؤسسات اجتماعية و دينية معينة، جماعة خاصة متميزة لا يزال أصلها و طبيعتها مع ذلك غير واضحين حتى الآن بالنسبة لجميع مؤرخينا.
و قد سبق و رأينا، عند دراسة العائلة البونالوانية، تركيب العشيرة بشكلها الأولي، البدائي، فهي تتألف من جميع الأشخاص الذين يشكلون، عن طرق الزواج البونالواني و بموجب التصورات السائدة حتماً في ظل هذا الزواج، الذرية المعترف بها لجدة واحدة معينة، هي مؤسسة العشيرة. و بما أنه لا تمكن في ظل هذا الشكل للعائلة معرفة الأب بدقة و ثبوت، فلا يؤخذ بالحسبان إلا خط المرأة، حبل النسل النسائي. و بما أنه لا يحق للأخوة أن يتزوجوا أخواتهم، و بما أنه لا يحق لهم أن يتزوجوا إلا من نساء من أصل آخر، من خط آخر، فإن الأولاد الذين تلدهم هؤلاء النساء الغريبات عنهم يكونون، بحكم الحق الأمي، خارج العشيرة المعنية. و لذا لا يبقى داخل الجماعة العشيرية غير أخلاف بنات كل جيل، أما أخلاف الأبناء فإنهم ينتقلون إلى عشائر أمهاتهم. و ماذا يحدث لهذه الجماعة من أقرباء الدم بعد أن تتشكل في جماعة خاصة، متميزة، بالنسبة للجماعات المماثلة الأخرى في داخل القبيلة.؟
و يأخذ مورغان العشيرة عند الإيروكوا، و على الأخص عند قبيلة "سينيكا" كشكل كلاسيكي لهذه العشيرة البدائية. ففي هذه القبيلة توجد ثماني عشائر مسماة بأسماء حيوانات: 1- الذئب، 2- الدب، 3- السلحفاة، 4- القندس، 5- الأيل، 6- دجاجة الأرض، 7- مالك الحزين، 8- الصقر.
و لكل عشيرة العادات التالية:
1.تنتخب العشيرة "ساخماً" sachem (شيخاً في زمن السلم) و زعيماً (قائداً عسكرياً). و كان ينبغي انتخاب "الساخم" من قوام العشيرة بالذات، و كانت وظيفته تنتقل بالوراثة داخل العشيرة، لأنه كان ينبغي، في حال فراغها، إملاؤها من جديد على الفور. و كان يمكن انتخاب القائد العسكري من غير أعضاء العشيرة أيضاً، و كان يمكن أحياناً الاستغناء عنه تماماً. و كان ابن "الساخم"السابق لا ينتخب أبداً "ساخما"، لأن الحق الأمي كان السائد عند الإيروكوا، و لأن الابن كان بالتالي ينتسب إلى عشيرة أخرى، و لكن أخ "الساخم" السابق أو ابن أخته هو الذي كان ينتخب في أحيان كثيرة. و كان الجميع، رجالاً و نساء، يشتركون في الانتخابات. و لكن الاختيار كان يخضع لمصادقة العشائر السبع الأخرى، و بعد هذا فقط كان المختار ينصّب باحتفال في وظيفته من قبل المجلس المشترك لاتحاد الإيروكوا العام. و فيما يلي من البحث، ستتضح أهمية هذا الواقع. فقد كانت سلطة "الساخم" داخل العشيرة سلطة أبوية، ذات طابع معنوي صرف، و لم تكن لديه أي وسائل للإكراه. و فضلاً عن ذلك كان بحكم وظيفته عضواً في مجلس قبيلة "سينيكا" و عضواً في المجلس المشترك لاتحاد الإيروكوا العام. و لم يكن بوسع الزعيم العسكري أن يصدر الأوامر إلا في زمن الحملات الحربية.
2.تقيل العشيرة بملء إرادتها "الساخم" و الزعيم العسكري. و هذا الأمر أيضاً يقرره الرجال و النساء معاً. و بعد الإقالة، يصبح المقالون محاربين عاديين، أفراداً عاديين، مثلهم مثل الآخرين. و من جهة أخرى، يستطيع مجلس القبيلة أيضاً أن يقيل "الساخم" حتى رغم إرادة العشيرة.
3.لا يحق لأي من أعضاء العشيرة أن يتزوج في داخل العشيرة. و هذه هي القاعدة الأساسية في العشيرة، و العروة التي تشد لحمتها، و هي تعبير سلبي عن تلك القرابة بالدم المحددة تماماً و التي هي وحدها تجعل من الأفراد الذين تشملهم عشيرة. و باكتشاف هذا الواقع البسيط، اكتشف مورغان للمرة الأولى جوهر العشيرة. أما ما أقل ما كانوا يفهمون قبل ذاك هذا الجوهر، فتبينه القصص السابقة عن المتوحشين و البرابرة حيث المجموعات التي تشكل عناصر العشيرة تختلط بدون تفهمن و تمييز تحت أسماء: قبيلة و "كلان" و "توم" thum، الخ.، و حيث يقال أحياناً كثيرة أن الزواج ممنوع داخل هذه أو تلك من هذه المجموعات. و هذا ما خلق ذلك التشوش المستعصي الذي استطاع السيد ماك-لينان أن يقوم فيه بدور نابليون لكي يبسط النظام بحكم مبرم: جميع القبائل تنقسم إلى قبائل الزواج ممنوع في داخلها (القبائل الخارجية الزواج) و إلى قبائل الزواج مسموح في داخلها (القبائل الداخلية الزواج). و بعد تشويش المسألة على هذا النحو انصرف إلى أبحاث في منتهى العمق ليعرف أياً من هاتين المقولتين السخيفتين أقدم عهداً، مقولة الزواج الخارجي أم مقولة الزواج الداخلي. و قد تبددت هذه السخافة من تلقاء ذاتها عند اكتشاف العشيرة القائمة على قرابة الدم و عند اكتشاف استحالة الزواج بين أعضاء العشيرة بسبب هذه القرابة- و بديهي أن تحريم الزواج داخل العشيرة في الطور الذي نجد فيه الإيروكوا لا يزال ساري المفعول بكل صرامة.
4.كانت أموال الموتى تنتقل إلى أعضاء العشيرة الباقين، و كان ينبغي أن تبقى داخل العشيرة. و بما أن الأشياء التي كان يمكن أن يخلفها الإيروكي بعد موته زهيدة جداً، فإن أقرب أقربائه كانوا يتقاسمونها فيما بينهم، فإذا توفي رجل، تقاسم التركة أخوته و أخواته من أمه و خاله، و إذا توفيت امرأة، تقاسم التركة أولادها و أخواتها من أمها، دون أخوتها. و لسبب نفسه، لم يكن بإمكان الزوج و الزوجة أن يرث أحدهما الآخر، و كذلك لم يكن بإمكان الأولاد أن يرثوا أباهم.
5.كان أعضاء العشيرة ملزمين بعضهم حيال بعض بتقديم المساعدة و الحماية و لا سيما بالمساهمة في أخذ الثأر عن أذى ألحقه الغير. و كان كل فرد يتكل على حماية العشيرة فيما يتعلق بضمان أمنه و سلامته، و كان بوسعه الاعتماد عليها، فإن من كان يؤذيه إنما كان يؤذي بالتالي عشيرة بأسرها. و من هنا، من روابط الدم في العشيرة، نشأ واجب أخذ الثأر، الذي كان يعترف به الإيروكوا بلا قيد و لا شرط. فإذا قتل عضو من العشيرة شخصاً من عشيرة أخرى، فإن كل عشيرة القتيل كانت ملزمة بأخذ الثأر. في البدء كانت تجري محاولة للصلح. فإن مجلس عشيرة القاتل كان يجتمع و يعرض على مجلس عشيرة القتيل إنهاء المشكلة حبياً، معرباً في معظم الأحيان عن أسفه و مقدما هدية كبيرة. فإذا قبل العرض، اعتبر الخلاف مفضوضاً، و إلا، فإن العشيرة المتضررة كانت تعين شخصاً أو عدة أشخاص من أجل الانتقام، و كان هؤلاء ملزمين بأن يتتبعوا القاتل و يقتلوه. و إذا تم ذلك، فلم يكن يحق لعشيرة هذا الأخير أن تتشكى و تطالب، و كان الخلاف يعتبر مفضوضاً.
6.تملك العشيرة أسماء معينة أو مجموعات من الأسماء لا يحق لغيرها في القبيلة كلها أن يستعملها، و هكذا كان اسم كل فرد بمفرده يبين كذلك العشيرة التي ينتسب إليها. و كان كل اسم مقروناً بالضرورة بحقوق العشيرة التي يخصها هذا الإسم.
7.وسع العشيرة أن تتبنى أغراباً، و أن تقبلهم بالتالي كأعضاء في القبيلة بأسرها. و عليه كان أسرى الحرب الذين لا يقتلونهم يصبحون، بحكم تبنيهم في عشيرة ما، أعضاء في قبيلة سينيكا و ينالون بالتالي جميع حقوق العشيرة و القبيلة. و كان التبني يجري باقتراح من مختلف أعضاء العشيرة، باقتراح النساء اللواتي يأخذن الغريب كإبن، و للمصادقة على التبني، كان ينبغي إقامة احتفال خاص بالقبول في العشيرة. و في كثير من الأحيان، كانت بعض العشائر المستضعفة لأسباب قاهرة تقوى على هذا النحو عدداً بتبني أعضاء عشيرة أخرى بالجملة، بموافقة هذه العشيرة الأخيرة. و عند الإيروكوا، كان القبول الاحتفالي في العشيرة يجري أثناء جلس علنية لمجلس القبيلة، الأمر الذي كان يحول عملياً هذا الإجراء إلى احتفال ديني.
8.من العسير تقديم البرهان على وجود احتفالات دينية خاصة عند عشائر الهنود الحمر، و لكن احتفالات الهند الحمر الدينية ترتبط إلى هذا الحد أو ذاك بالعشيرة. و في أعياد الإيروكوا الدينية السنوية الستة، كان "الساخمات" و القادة العسكريون في كل عشيرة يعتبرون، بحكم وظائفهم، من عداد "حراس الإيمان" و يقومون بوظائف الكهان.
9.تملك العشيرة مدفناً مشتركاً. و قد زال هذا المدفن الآن عند الإيروكوا بولاية نيويورك الذين يضيق عليه البيض من جميع الجهات، و لكنه كان موجوداً من قبل. و هو لا يزال موجوداً عند الهنود الحمر الآخرين، و منهم مثلاً أقرباء الإيروكوا، التوسكارورا، فعند هؤلاء في المدفن، رغم أنهم مسيحيون، صف خاص بكل عشيرة، بحيث أنهم يدفنون الأم، لا الأب، قرب الأولاد في صف واحد. ناهيك بأن كل عشيرة المتوفى عند الإيروكوا تشترك في الدفن و تعني بالمدفن و كلمات التأبين، الخ..
10.للعشيرة مجلس هو عبارة عن جمعية ديموقراطية لجميع أعضاء العشيرة الراشدين، رجالاً و نساءً، و لجميعهم الحق نفسه في التصويت. كان هذا المجلس ينتخب و يقيل "الساخمات"، و القادة العسكريين، و كذلك "حراس الإيمان" الآخرين. و كان المجلس يتخذ القرارات بشأن فدية (vergeld، ثمن الدم) أو أخذ ثأر القتلى من أعضاء العشيرة، و كان يقبل الأغراب في قوام العشيرة. و بكلمة، كان المجلس السلطة العليا في العشيرة.
هذه هي وظائف العشيرة النموذجية من الهنود الحمر.
"جميع أعضائها أناس أحرار و ملزمون بحماية حرية بعضهم بعضاً، و متساوون في الحقوق الشخصية- فلا "الساخمات" و لا القادة العسكريون يدعون بأي أفضليات. و هم يشكلون أخوية تشد لحمتها روابط الدم. إن الحرية و المساواة و الأخوة كانت المبادئ الأساسية في العشيرة، رغم أنها لم تتبلور يوماً في صيغة معينة، و كانت العشيرة بدورها وحدة نظام اجتماعي كامل و أساس مجتمع الهنود الحمر المنظم. و هذا ما يفسر الشعور الثابت الذي لا يلين بالاستقلال و بالكرامة الشخصية، ذلك الشعور الذي يعترف به كل امرئ للهنود الحمر"(81).
في عهد اكتشاف أمريكا، كان الهنود الحمر في عموم أميركا الشمالية منظمين في عشائر حسب الحق الأمي. إلا في بعض القبائل، كقبيلة داكوتا، مثلاً، كانت العشائر قد زالت، و كانت عند بعضها الآخر، كما عند قبيلتي أودجيبفه و أوماها، منظمة حسب الحق الأبوي.
و عند عدد كبير جداً من قبائل الهنود الحمر التي تضم كل منها خمس أو ست عشائر، نجد ثلاث أو أربع عشائر أو أكثر متجمعة في جماعة خاصة يسميها مورغان فراترية phratria (أخوية fraternité)، مترجماً اسمها الهندي بكل أمانة إلى مقابله اليوناني. فعند قبيلة سينيكا، مثلاً، فراتريتان (أخويتان)، الفراترية الأولى تضم العشائر 1-4 و الفراترية الثانية تضم العشائر 5-8. و قد بين المزيد من البحث و الدراسة أن هاتين الفراتريتين تمثلان في معظم الحالات العشائر الأولية التي انقسمت إليها القبيلة للمرة الأولى. لأنه كان ينبغي بالضرورة على كل قبيلة أن تشمل عشيرتين على الأقل لكي تتمكن من العيش بصورة مستقلة، لأن الزواج كان ممنوعاً داخل العشيرة.و بقدر ما كانت القبيلة تنمو، كانت كل عشيرة تنقسم بدورها إلى عشيرتين أو أكثر كانت كل منها تظهر بأنها عشيرة مستقلة، بينا العشيرة الأولية التي تشمل جميع العشائر البنات تظل قائمة بوصفها فراترية. و عند قبيلة سينيكا و أغلبية الهنود الحمر الآخرين، تعتبر عشائر فراترية واحدة عشائر شقيقة،بينا عشائر الفراترية الأخرى تعتبر بالنسبة لها عشائر شقيقة من الدرجة الثانية، - و هذه تعابير لها في نظام القرابة الأميركي، كما سبق و رأينا، معنى فعلياً جداً و واسع الدلالة. ففي البدء، لم يكن بوسع أي عضو من قبيلة سينيكا أن يتزوج في داخل فراتريته، و لكن هذه العادة زالت من زمان بعيد، و لا يسري مفعولها إلا ضمن العشيرة. و تقول أساطير قبيلة سينيكا أن عشيرتي "الدب" و "الأيل" كانتا العشيرتين الأوليين اللتين تحدرت منهما العشائر الأخرى. و ما أن رسخ هذا التنظيم الجديد، حتى أخذ يتغير حسب الحاجة، فإذا اندثرت عشائر فراترية من الفراتريات، كانت عشائر بكاملها تنتقل إليها، على سبيل التعويض، في كثير من الأحيان، من فراتريات أخرى. و لهاذ نرى عند مختلف القبائل عشائر بالأسماء نفسها، متجمعة بصور مختلفة في فراتريات.
إن وظائف الفراتريات عند الإيروكوا هي اجتماعية جزئياً و دينية جزئياً:
1.تلعب الفراتريات في الكرة إحداها ضد الأخرى. و كل فراترية تنتدب خيرة لاعبيها، بينا الباقون يشاهدون اللعب، كل فراترية في مكان خاص بها، و يراهنون بعضهم بعضاً على انتصار لاعبيهم.
2.في مجلس القبيلة، يجلس ساخمات كل فراترية و قادتها العسكريون معاً، جماعة مقابل جماعة، و كل خطيب يخاطب ممثلي كل فراترية كأنما يخاطب فئة خاصة، متميزة.
3.إذا وقعت في القبيلة جريمة قتل، و إذا كان القاتل و القتيل لا ينتسبان إلى الفراترية ذاتها، فإن العشيرة المنكوبة كانت في كثير من الأحيان تستنجد بالعشائر الشقيقة، و آنذاك كانت تعقد مجلس الفراترية و تطلب من الفراترية الأخرى ككل أن تعقد هذه الأخيرة بدورها مجلسها لأجل تسوية القضية. و هكذا تظهر الفراترية هنا من جديد بوصفها العشيرة الأولية، البدائية،-و على هذا النحو كانت احتمالات النجاح تتوفر للفراترية أكثر مما للعشيرة المنفردة، الضعيفة، المتحدرة منها.
4.في حال وفاة الأشخاص البارزين، كانت الفراترية المقابلة تأخذ على عاتقها أمر الاهتمام بالدفن و مراسم الجنازة، بينا كان أعضاء فراترية المتوفى يشتركون في الدفن بوصفهم أقارب الراحل. و إذا توفي "الساخم"، كانت الفراترية المقابلة تنبئ مجلس الإيروكوا الاتحادي بفراغ المنصب.
5.و عند انتخاب "الساخم" كان مجلس الفراترية يدخل الحلبة أيضاً. فقد كانت مصادقة العشائر الشقيقة على الانتخاب تعتبر بمثابة أمر بديهي، و لكنه كان بوسع عشائر الفراترية الأخرى تقديم اعتراض. و في هذه الحالة، كان مجلس هذه الفراترية ينعقد. فإذا اعتبر الاعتراض صحيحاً، فإن الانتخاب يصبح باطلاً لا مفعول له.
6.من قبل، كان عند الإيروكوا أسرار دينية خاصة سماها البيض médicine- lodges *[1]. و هذه الأسرار الدينية كانت تحتفل بها عند قبيلة سينيكا أخويتان دينيتان تتبعان قواعد خاصة لإشراك الأعضاء الجدد في معرفة هذه الأسرار. و كان لكل فراترية من الاثنتين أخوية واحدة.
7.و إذا كانت الـ lineages (الأسباط) الأربعة التي كانت تسكن أحياء تلاسخالا الأربعة في زمن الفتح (82) أربع فراتريات،- و هذا أمر لا ريب فيه تقريباً،- فإن هذا يثبت أن الفراتريات كانت في الوقت نفسه وحدات عسكرية، شأنها شأن الفراتريات عند اليونانيين و شأن جماعة عشيرية مماثلة عند الجرمان. و هذه الـ lineages الأربعة كانت تدخل المعركة كل منها كفصيلة خاصة متميزة لها لباسها الخاص و رايتها الخاصة، و تحت أمرة زعيمها الخاص.
و كما أن بضع عشائر تؤلف فراترية، كذلك تؤلف بضع فراتريات قبيلة، إذا أخذنا بالحسبان الشكل الكلاسيكي. و في بعض الحالات، لا توجد عند القبائل المستضعفة جداً الحلقة الوسطية، أي الفراترية. فما الذي يميز إذن قبيلة الهنود الحمر في أميركا؟
1.الأرض الخاصة و الاسم الخاص. فكل قبيلة كانت تملك، عدا مكان إقامتها الفعلي، منطقة كبيرة من الأرض لأجل الصيد البري و المائي. و فيما وراء حدود هذه المنطقة كان يقع قطاع حيادي شاسع يمتد حتى حدود أرض أقرب قبيلة، و كان هذا القطاع أضيق بين القبائل التي تتكلم بلغات متقاربة، و أوسع بين القبائل التي تتكلم بلغات مختلفة. إن هذا القطاع هو مثل الغابة- الحد عند الجرمان، و الربع الخالي الذي كان suéves (سويف) القيصر ينشئونه حول أرضهم، و îsarnholt (بالدانماركية jarnved, limes Danicus) بين الدانماركية و الجرمان، و الغاب الساكسوني و branibor (بالسلافية:"الغابة الحامية")- التي جاء منها اسم براندنبورغ- بين الجرمان و السلاف. و كانت المنطقة المحددة على هذا النحو غير واضحة تشكل بلد القبيلة العام المشترك، و كانت القبائل المجاورة تعترف بها بهذه الصفة، و كانت القبيلة المعنية تحميها من الاعتداءات. و في معظم الأحيان ، لم يكن عدم وضوح الحدود يمسي في الواقع أمرً مزعجاً إلا عندما كان عدد السكان ينمو كثيراً جداً. – و يبدو أن أسماء القبائل كانت تنشأ في معظم الأحيان بفعل الصدفة أكثر مما كانت نتيجة اختيار مقصود. و مع مرور الزمن، كان يحدث أحياناً كثيرة أن تطلق القبائل المجاورة على القبيلة اسماً يختلف عن الاسم الذي اختارته هي لنفسها، مثلما أطلق السلت على الألمان اسمهن المشترك الأول في التاريخ، و هو اسم "الجرمان".
2.لهجة dialecte خاصة تتميز بها هذه القبيلة وحدها. و في الواقع تتطابق القبيلة و اللهجة من حيث جوهر الأمر. إن التشكل الجديد للقبائل و اللهجات من جراء الانقسامات كان لا يزال يجري لأمد قريب في أميركا، و من المؤكد أنه لم يتوقف بعد كلياً الآن. و حيث كانت تندمج قبيلتان ضعفتا عددياً في قبيلة واحدة، كان يحدث بصورة استثنائية أن يتكلموا في القبيلة نفسها بلهجتين متقاربتين جداً. إن متوسط عدد أفراد كل من القبائل الأميركية أقل من 2000 شخص، و لكن أفراد قبيلة تشيروكي 26000، و هذا أكبر عدد من الهنود الحمر في أميركا يتكلمون بلهجة واحدة.
3.الحق في الاحتفال بتنصيب "الساخمات" و القادة العسكريين الذين انتخبتهم العشائر.
4.الحق في إقالتهم، حتى رغم إرادة عشيرتهم. و بما أن هؤلاء الساخمات و القادة العسكريين هم أعضاء في مجلس القبيلة، فإن حقوق القبيلة هذه حيالهم تفسر نفسها بنفسها. و حيث كان يتشكل اتحاد من قبائل و حيث كانت جميع القبائل الداخلة فيه تتمثل في مجلس اتحادي، كانت هذه الحقوق تنتقل إلى هذا المجلس.
5.تصورات دينية مشتركة (ميثولوجيا) و طقوس دينية مشتركة.
"كان الهنود الحمر، على طريقتهم البربرية، شعباً دينياً"(83).
إن ميثولوجيا الهنود الحمر لم تكن أبداً حتى الآن موضع دراسة انتقادية، فقد كانوا يضفون على أغراض تصوراتهم الدينية- الأرواح من كل شاكلة و طراز-سيماء بشرية، و لكن الطور الأدنى من البربرية الذي كانوا قد بلغوه لا يعرف بعد التشخيصات الواضحة، الملموسة، المسماة بالأصنام. كانت تلك عبادة الطبيعة و عناصر تتطور نحو تعدد الآلهة. و كانت لمختلف القبائل أعياد منتظمة مرفقة بأشكال معينة من الطقوس، هي الرقصات و الألعاب. و كانت الرقصات على الأخص جزءً جوهرياً لا يتجزأ من جميع الاحتفالات الدينية. و كانت كل قبيلة تحتفل بأعيادها بمفردها.
6.مجلس القبيلة لبحث الشؤون المشتركة، العامة. و كان يتألف من جميع الساخمات و جميع القادة العسكريين لمختلف العشائر، أي من ممثليها الحقيقيين، لأنه كان يمكن دائماً إقالتهم. كان المجلس يعقد جلساته علناً، محاطاً بسائر أعضاء القبيلة، و كان لهؤلاء الحق في الاشتراك في المناقشة و في عرض آرائهم. و كان المجلس هو الذي يقرر. و على العموم، كان في وسع كل حاضر أن يعرب عن رأيه، إذا ما رغب في ذلك. كما كان في وسع النساء أيضاً عرض اعتباراتهن بواسطة الخطيب الذي ينتخبنه. و عند الإيروكوا، كان الإجماع ضرورياً لاتخاذ القرار النهائي، كما كان الحال في الماركات- المشاعات الألمانية لأجل حل بعض القضايا. و كانت صلاحيات مجلس القبيلة تشمل مثلاً تسوية العلاقات مع القبائل الأخرى. و كان مجلس القبيلة يستقبل السفراء و يرسل السفراء، و يعلن الحرب و يعقد الصلح. و إذا نشبت الحرب، فقد كان المتطوعون هم الذي يخوضون غمارها على العموم. و من حيث المبدأ، كانت كل قبيلة تعتبر في حالة حرب مع كل قبيلة أخرى لم تعقد معها معاهدة صلح حسب الأصول. و في معظم الأحوال، كان المحاربون البارزون ينظمون بصورة فردية الحملات الحربية ضد الأعداء من هذا النوع، فكانوا ينظمون الرقص الحربي، و كل من يشترك في هذا الرقص كان يصرح بالتالي بانضمامه إلى الحملة و على الفور كانت الفصيلة تنتظم و تبدأ العمل. كذلك الدفاع عن الأرض التي تخص القبيلة إنما كان يتأمن في معظم الأحوال بتعبئة المتطوعين. و دائماً كان ذهاب هذه الفصائل و عودتها من القتال مناسبة لاحتفالات عامة. و لم تكن ثمة حاجة إلى موافقة مجلس القبيلة على مثل هذه الحملات، و لم تكن هذه الموافقة موضع سؤال و عطاء. و هذا ما يشبه تماماً الحملات الحربية الخاصة التي كانت تقوم بها العصائب الجرمانية، كما وصفها لنا تاقيطس (84)، إلا أن هذه العصائب اكتسبت عند الجرمان طاباً أكثر دواماً، و هي تشكل نواة ثابتة تنتظم في زمن السلم و يلتف حولها في زمن الحرب المتطوعون الآخرون. و نادراً ما كانت هذه الفصائل الحربية تضم عدداً كبيراً من الأفراد، فإن أكبر حملات الهنود الحمر الحربية، حتى على مسافات كبيرة، كانت تقوم بها قوات حربية ضئيلة. و إذا اتحد بعض من هذه الفصائل للقيام بمشروع كبير إلى هذا الحد أو ذاك، فإن كلاً منها كانت لا تخضع إلا لزعيمها بالذات، أما وحدة خطة الحملة، فقد كان يؤمنها، بهذه الدرجة أو تلك، مجلس هؤلاء الزعماء. و بهذه الطريقة أيضاً، كان الألمان في أعالي الرين يخوضون غمار الحرب في القرن الرابع، حسبما جاء في وصف أميان مرسيللان.
7.عند بعض القبائل، نجد زعيماً أعلى، صلاحياته مع ذلك ضئيلة جداً. و هو واحد من "الساخمات" ينبغي عليه، في الأحوال التي تقتضي العمل الفوري، أن يتخذ إجراءات مؤقتة إلى أن يتمكن المجلس من الانعقاد و يتخذ القرار النهائي. و هنا نجد نموذجاً مسبقاً لموظف يتمتع بالسلطة التنفيذية، و لكنه نموذج لا يزال في أوائل عهده و لم يتطور فيما بعد في معظم الأحوال. إلا أن هذا، كما سنرى فيما بعد، قد ظهر في معظم الأحوال، إن لم يكن دائماً، نتيجة لتطور سلطة القائد العسكري الأعلى.
إن الأغلبية الساحقة من الهنود الحمر الأميركيين لم يتجاوزوا درجة الاتحاد في قبيلة. و كانت قبائلهم القليلة، التي تفصلها بعضها عن بعض رقع عريضة جداً من الأراضي، و التي أضعفتها الحروب الدائمة، تشغل، بعدد قليل من الناس، أرحاباً شاسعة. و هنا و هناك كانت القبائل التي تجمع بينها صلات القربى تعقد الاتحادات بحكم ضرورة مؤقتة، و كانت هذه الاتحادات تزول بزوال هذه الضرورة. و لكن القبائل التي كانت تجمع بينها أولاً صلات القربى، و التي تفرقت فيما بعد، تجمعت من جديد في بعض المناطق في اتحادات دائمة، و بذلك خطت الخطوة الأولى نحو تشكل الأمم. و في الولايات المتحدة نجد عند الإيروكوا الشكل الأكثر تطوراً لاتحاد من هذا النوع. فإن الإيروكوا قد نزحوا من مكان إقامتهم في غربي نهر الميسيسيبي حيث كانا يؤلفون، حسب كل احتمال، فرعاً من جماعة الداكوتا الكبيرة، و أقاموا بعد ترحلات طويلة في ولاية نيويورك الحالية، و انقسموا إلى خمس قبائل: سينيكا، كايوغا، أونونداغا، أونيدا، موهاوك. و كانوا يعيشون من صيد السمك و الصيد البري و البستنة البدائية. و كانوا يسكنون في قرى تحميها الأسيجة الوتدية في معظم الأحوال. و لم يبلغ عددهم أبداً أكثر من 20000 شخص، و كانت في جميع قبائلهم الخمس بعض عشائر مشتركة، و كانوا يتكلمون بلهجات متقاربة جداً من لغة واحدة، و يسكنون في رقعة متصلة من الأرض جرى تقاسمها بين القبائل الخمس. و بما أنهم كانوا قد استولوا على هذه لأرض من زمن غير بعيد، فإن الأعمال المشتركة ين هذه القبائل الظافرة ضد القبائل المطرودة أصبحت ظاهرة طبيعية و من حكم العادة. و على هذا النحو، تكون في مستهل القرن الخامس عشر على أبعد حد، "اتحاد أبدي"-اتحاد تعاهدي confédération ، أحس بقواه الجديدة، فاكتسب على الفور طابعاً هجومياً، و استولى في أوج بأسه، حوالي عام 1675، على رقعة كبيرة من الأراضي المحيطة به، طارداً السكان من بعضها و فارضاً الجزية على سكان بعضها لآخر. إن اتحاد الإيروكوا التعاهدي هو أرقى تنظيم اجتماعي توصل إليه الهنود الحمر قبل أن يتجاوزوا الدرجة الدنيا من البربرية (ما عدا، بالتالي، سكان المكسيك و المكسيك الجديدة (85) و البيرو). و فيما يلي سمات الاتحاد الأساسية:
1.الاتحاد الأبدي بين القبائل الخمس التي تجمع بينها قرابة الدم، على أساس المساواة التامة و الاستقلال في جميع الشؤون الداخلية للقبيلة. إن قرابة الدم هذه كانت تشكل الأساس الحقيقي للاتحاد. و كانت ثلاث من القبائل الخمس تسمى بالقبائل الأبوية، و كانت شقيقة فيما بينها. و كانت القبيلتان الباقيتان تسميان بالقبيلتين البنتين، و كانتا شقيقتين فيما بينهما. و كانت ثلاث عشائر- هي أقدمها- لا تزال تتمثل بأشخاص أحياء في جميع القبائل الخمس، و ثلاث عشائر أخرى في ثلاث قبائل. و كان أعضاء كل من هذه العشائر جميعهم أخوة فيما بينهم في جميع القبائل الخمس. و كانت اللغة المشتركة، التي لا تنطوي إلا على فوارق في اللهجات، تعبيراً عن الأصل المشترك و برهاناً عليه.
2.كان المجلس الاتحادي، المؤلف من 50 "ساخماً" متساوين في المنزلة و السلطة، هو هيئة الاتحاد. و كان هذا المجلس يتخذ القرارات النهائية في جميع شؤون الاتحاد.
3.عند تأليف الاتحاد، جرى توزيع مناصب هؤلاء "الساخمات" الـ 50 بين القبائل و العشائر، بوصفهم قائمين بوظائف جديدة أنشئت خصيصاً لأغراض الاتحاد. و في حال شغور المنصب، كانت العشيرة المعنية تملأه من جديد عن طريق الانتخاب. كذلك كان بوسع العشيرة أن تقيل "ساخمها" في أي وقت كان. و لكن تقليد المنصب كان من حق المجلس الاتحادي.
4.كان هؤلاء "الساخمات" الاتحاديون "ساخمات" أيضاً في قبائلهم و كان يحق لهم الاشتراك و التصويت في مجلس القبيلة.
5.جميع قرارات المجلس الاتحادي كان ينبغي اتخاذها بالإجماع.
6.كان التصويت يجري في كل قبيلة بمفردها بحيث أنه كان ينبغي على كل قبيلة و على جميع أعضاء المجلس في كل قبيلة أن يصوتوا بالإجماع لكي يعتبر القرار نافذ المفعول.
7.كان بوسع كل من مجالس القبائل الخمس دعوة المجلس الاتحادي إلى الانعقاد، و لكنه لم يكن بوسع المجلس الاتحادي أن ينعقد من تلقاء ذاته.
8.كانت الجلسات تجري بحضور الشعب المجتمع. و كان بوسع كل إيروكي أن يأخذ الكلام. و لكن المجلس وحده هو الذي كان يتخذ القرارات.
9.لم يكن للاتحاد أي رئيس، لم يكن فيه أي شخص يرأس السلطة التنفيذية.
10.و لكنه كان له زعيمان عسكريان أعليان يتمتعان بصلاحيات متساوية و سلطة متساوية (ملكان عند السبرطيين، قنصلان في روما).
هذا هو النظام الاجتماعي الذي عاش الإيروكوا في ظله أثر من أربعمائة سنة و لا يزالون يعيشون في ظله حتى الآن. و لقد وصفت هذا النظام بالتفصيل، حسبما وصفه مورغان لأنه تسنح لنا الفرصة هنا لدراسة تنظيم مجتمع لم يعرف بعد الدولة. فإن الدولة تفترض سلطة عامة منفصلة عن مجموع الأفراد الذين تتالف منهم. و إن مورير، الذي يرى، بدافع الغريزة الصادقة، أن نظام "المارك" الألماني هو مؤسسة اجتماعية صرف تختلف اختلافاً جوهرياً عن الدولة، رغم أنها كانت بمعظمها فيما بعد أساساً للدولة- إن مورير يدرس في جميع مؤلفاته نشوء السلطة العامة تدريجياً من النظام البدائي لـ "المارك" والقرية و العائلة و المدينة، و إلى جانبه (86). و من مثال الهنود الحمر في أميركا الشمالية نرى كيف أن قبيلة واحدة موحدة في البدء تنتشر تدريجياً في قارة شاسعة، و كيف أن القبائل تنقسم أقساماً و تتحول إلى شعوب، إلى مجموعات كاملة من قبائل، و كيف تتغير اللغات فلا تبقى مفهومة فيما بينها، و ليس هذا و حسب، بل تفقد أيضاً كل أثر تقريباً لوحدتها الأولية، و كيف ينقسم بعض العشائر داخل القبيلة إلى عدة عشائر، و كيف تبقى العشائر الأمية القديمة بصورة "فراتريات" مع العلم أن أسماء هذه العشائر الأولية تبقى مع ذلك هي هي عند قبائل بعيدة بعضها عن بعض من حيث المكان و منفصلة بعضها عن بعض من زمان بعيد،- إن "الذئب" و "الدب" لا يزالان اسمين عشيريين عند أغلبية جميع قبائل الهنود الحمر. و جميع هذه القبائل يلازمها على العموم النظام الموصوف أعلاه، مع فارق وحيد، هو أن عدداً كبيراً منها لم يصل إلى مرحلة الاتحاد بين القبائل التي تجمع بينها صلات القربى.
و لكننا نرى أيضاً أن نظام العشائر و الفراتريات و القبائل كله يتطور بضرورة محتمة لا مناص منها تقريباً ،- لأنها ضرورة طبيعية تماماً- من هذه الخلية الاجتماعية الأساسية التي هي العشيرة. فإن هذه المجموعات الثلاث كلها – العشائر و الفراتريات و القبائل- هي درجات مختلفة من قرابة الدم، مع العلم أن كلاً منها منطوية على نفسها و تصرف شؤونها بنفسها، و لكنها كذلك بمثابة مكملة للأخرى. و إن حلقة الشؤون التابعة لها تشمل مجمل شؤون الإنسان العامة، الاجتماعية، في الطور الأدنى من البربرية. و لهذا عندما نجد عند شعب من الشعوب العشيرة بوصفها الخلية الاجتماعية الأساسية، ينبغي علينا أن نفتش عنده عن تنظيم قبلي يشبه التنظيم الموصوف هنا، و حيث يتوفر ما يكفي من المصادر، كما عند اليونانيين و الرومانيين، لا نجده و حسب، بل نقتنع أيضاً بأن المقارنة مع النظام الاجتماعي الأميركي، حتى و إن كانت المصادر لا تكفي، تساعدنا في تفهم أصعب الشكوك و الألغاز.
و أي تنظيم عجيب هذا النظام العشائري مع كل سذاجته و بساطته! فبدون جنود و درك و شرطة، بدون نبلاء و ملوك و حكام و مدراء و قضاة، بدون سجون، بدون محاكمات، يسير كل شيء حسب النظام المقرر. و جميع المنازعات و المخاصمات يحلها معاً أولئك الذين تمسهم- تحلها العشيرة أو القبيلة، أو بعض العشائر فيما بينها، و لا يظهر التهديد بالثأر إلا بوصفه الوسيلة الأخيرة، الوسيلة التي نادراً ما تطبق، و إن عقوبة الإعدام عندنا ليست غير شكلها المتمدن الذي تلازمه جوانب المدنية، الإيجابية منها و السلبية على السواء. صحيح أن الشؤون العامة كانت أكثر بكثير مما هي عليه اليوم- فإن الاقتصاد البيتي تديره مجموع من العائلات بصورة مشتركة و على الأسس الشيوعية، و الأرض ملك للقبيلة بأسرها، ما عدا قطع صغيرة توضع مؤقتاً تحت تصرف مختلف البيوت – إلا أننا لا نجد أثراً لجهازنا الإداري المضخم و المعقد. و جميع الشؤون يحلها ذوو العلاقة بأنفسهم، و في معظم الأحوال، سوّت العادة المزمنة كل شيء سلفاً. و لا يمكن أن يكون ثمة فقراء و معوزون، لأن الاقتصاد الشيوعي و العشيرة يعرفان واجباتهما حيال الشيوخ و المرضى و مشوهي الحرب. الجميع متساوون و أحرار، بمن فيهم النساء. و لا وجود بعد للعبيد، و لا وجود بعد، على العموم، لاستعباد القبائل الغريبة. و عندما تغلب الإيروكوا حوالي عام 1651 على قبيلة يري و على "الأمة المحايدة"(87)، عرضوا عليهما الانضمام إلى اتحادهم بحقوق متساوية. و عندما رفض المغلوبون هذا العرض ، عند ذاك فقط، طردوهم من أرضهم. أما أي رجال و نساء يلدهم مثل هذا المجتمع، فهذا ما يبرهنه جميع البيض الذين عرفوا هنوداً حمراً غير مفسودين بإعجابهم بما يتصف به هؤلاء البرابرة من شعور بالكرامة الشخصية، و استقامة، و قوة طبع، و بسالة و جرأة.
و منذ وقت غير بعيد رأينا أمثلة على هذه البسالة في إفريقيا. فإن الكفر- الزولو، منذ بضعة أعوام، مثلهم مثل النوبيين، منذ بضعة أشهر- و هم قبيلتان لم تندثرا بعد عندهما المؤسسات العشائرية- قد فعلوا ما لا يستطيع فعله أي جيش أوروبي (88). كانا مسلحين بالرماح و المزاريق فقط، و لا يملكون أي سلاح ناري، و مع ذلك كانوا، تحت وابل من رصاص البنادق السريعة الطلقات لدى المشاة البريطانيين- الذين يعتبرهم الجميع الأوائل في العالم في القتال صفوفاً- يسيرون إلى أمام حتى حراب المشاة البريطانيين، و يزعزعون صفوفهم أكثر من مرة، بل كانوا يدحرونهم، رغم التفاوت الهائل في الأسلحة، و رغم أنهم يجلهون الخدمة العسكرية و لا يعرفون ما هو التدريب العسكري. أما ما يستطيعون احتماله و أداءه، فيشهد عليه الإنجليز أنفسهم حين يتذمرون من أن الكفر-الزولو يقطع في يوم واحد أكثر مما يقطعه الحصان، و بصورة أسرع. إن أصغر عضلاته قوي كالفولاذ، و يبرز مثل سير مجدول، كما قال رسام إنجليزي.
هذا جانب من المسألة. و لكن لا ننس أن هذا التنظيم كان مكتوباً له الزوال. فإنه لم يتخط نطاق القبيلة. إن تشكيل اتحاد القبائل كان يعني بداية تفسخ هذا التنظيم، كما سنرى فيما بعد، و كما رأينا في محاولات الإيروكوا لاستعباد القبائل الأخرى. فكل ما كان خارج القبيلة كان خارج القانون. و حيث لم تكن معاهدة صلح معقودة حسب الأصول، كانت الحرب تسود بين القبائل، و كانت هذه الحرب تخاض بالقساوة التي تميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى و التي لم تخف حدتها إلا فيما بعد بتأثير المصالح المادية. إن النظام العشائري في أوجه، كما رأيناه في أميركا، كان يفترض إنتاجاً بدائياً جداً، و بالتالي، سكاناً قليلين جداً مبعثرين في رقعة شاسعة من الأرض، و من هنا خضوع الإنسان خضوعاً تاماً تقريباً للطبيعة المحيطة به التي تقابله بالعداء و التي لا يفهما، الأمر الذي ينعكس في تصوراته الدينية الساذجة الطفولية. و قد بقيت القبيلة بالنسبة للإنسان حداً سواء حيال ابن قبيلة أخرى، أو حيال نفسه بالذات: كانت العشيرة و القبيلة و مؤسساتهما مقدسة و منيعة لا يجوز المساس بها، و كانت سلطة عليا منحتها الطبيعة و ظل الفرد بمفرده خاضعاً لها بلا قيد و لا شرط في مشاعره و أفكاره و تصرفاته. و مهما بدا أناس ذلك الزمن مهيبين في عيوننا، فإنه لا يمكن تمييز بعضهم عن بعض، و لم ينفصلوا بعد، على حد قول ماركس، عن حبل المشاع البدائية السري. كان نبغي تحطيم سلطة هذه المشاعة البدائية، فحطمت. و لكنها حطمت بتأثيرات تبدو لنا من الوهلة الأولى، بمثابة انحطاط، بمثابة خطيئة أصلية بالمقارنة مع المستوى الأخلاقي العالي الذي بلغه المجتمع العشائري القديم. إن أحط الدوافع –الجشع الخشن، الولع الفظ باللذائذ، البخل القذر، السعي الأناني إلى نهب الملك المشترك- هي التي تدشن المجتمع الجديد المتمدن، المجتمع الطبقي، و أن أخس الوسائل – السرقة، العنف ، الغدر، الخيانة- هي التي تقوض المجتمع العشائري اللاطبقي القديم و تؤدي إلى هلاكه. أما المجتمع الجديد نفسه، فإنه لم يكن خلال الألفين و الخمسمائة سنة كلها من وجوده غير لوحة عن تطور الأقلية الضئيلة على حساب الأغلبية الهائلة من المستثمرين و المظلومين، و هو لا يزال الآن كذلك و لكن بقدر أكبر مما في أي وقت مضى.
4 ـ العشيرة اليونانية
منذ الأزمنة ما قبل التاريخ، كان اليونانيون، شأنهم شأن البلاسج و غيرهم من الشعوب القريبة منهم، قد تشكلوا حسب السلسلة العضوية كما عند الأميركيين: العشيرة ، الفراترية، القبيلة، اتحاد القبائل. إلا أنه كان من الممكن أن تنقص الفراترية، كما عند الدوريين، كما أن اتحاد القبائل لم يتشكل في كل مكان، على كل حال، كانت العشيرة الخلية الأساسية. و عندما ظهر اليونانيون في مسرح التاريخ، كانوا قد بلغوا عتبة الحضارة، و كانت تمتد بينهم و بين القبائل الأميركية التي تناولها الكلام آنفاً مرحلتان كبيرتان كاملتان تقريباً من التطور سبق بهما يونانيو العقد البطولي الإيروكوا. و لهذا لم تكن العشيرة اليونانية أبداً عشيرة الإيروكوا القديمة، ناهيك بأن طابع الزواج الجماعي*[1]. أخذ يمحى بصورة ملحوظة. و أخلى الحق الأمي المكان للحق الأبوي. و بذلك أحدثت الثروة الخاصة الناشئة أول شق في التنظيم العشائري. و جاء الشق الثاني نتيجة طبيعية للشق الأول: فبما أن ملك مورثة غنية كان ينبغي، بعد تطبيق الحق الأبوي، أن يعود بحكم الزواج إلى زوجها، و بالتالي إلى عشيرة أخرى، فقد حطموا أساس كل حق عشائري، و لم يسمحوا و حسب، بل جعلوا من الواجب في هذه الحال أن تتزوج الفتاة داخل عشيرتها لكي تحتفظ بملكها.
إن العشيرة الأثينية، مثلاً، كانت ترتكز، حسب غروت (تاريخ اليونان)(89)، على الأسس التالية:
1.طقوس دينية مشتركة، و حق الكهنة بوجه الحصر في ممارسة الشعائر المقدسة تكريماً لإله معين من المعتقد أنه جد العشيرة المشترك، و يطلق عليه، بحكم هذه الصفة، لقب خاص.
2.مكان مشترك للدفن (راجع "أوبوليدس" لديموستينس (90)).
3.حق الوراثة المتبادلة.
4.الواجب المتبادل في تقديم العون و الحماية و المساندة ضد أعمال العنف.
5.الحق و الواجب المتبادلان في بعض الأحوال في الزواج داخل العشيرة و لا سيما عندما يتعلق الأمر بيتيمات أو بوريثات.
6.امتلاك أموال مشتركة، في بعض الأحوال على الأقل، يشرف عليها "أرخونت" (زعيم) و خازن خاصان.
و فضلاً عن ذلك، كانت بضع عشائر تتحد و تترابط في فراترية، و لكن بعرى أقل وثوقاً، و لكننا نرى هنا أيضاً حقوقاً و واجبات متبادلة كالتي في العشيرة، و لاسيما منها المشاركة في ممارسة بعض الشعائر الدينية و حق الملاحقة في حال قتل عضو من الفراترية. ثم أن مجمل الفراتريات من قبيلة واحدة كانت لها بدورها أعياد مقدسة مشتركة تتكرر بانتظام، و يرأسها "فيلوبازيلوس"("زعيم قبيلة" phylobasileus) ينتخب من بين النبلاء ("الأوباتريد" eupatrids).
هذا ما يقوله غروت، و إلى هذا يضيف ماركس:
"و لكن عبر العشيرة اليونانية، كان يتراءى المتوحش بوضوح (مثلاً، الإيروكي)"(91).
و سيبدو بمزيد من الوضوح إذا ما واصلنا الدراسة بعض الشيء.
و بالفعل، تتميز العشيرة اليونانية بالسمات التالية أيضاً:
7.حساب الأصل وفقاً للحق الأبوي.
8.منع الزواج داخل العشيرة، باستثناء الزواج من الوريثات. إن هذا الاستثناء و إضفاء صفة القانون عليه يؤكدان أن القاعدة القديمة كانت ما تزال سارية المفعول. و هذا ينبع أيضاً من قاعدة إلزامية عامة تقضي بأن تمتنع المرأة بعد زواجها من المشاركة في طقوس عشيرتها الدينية، و تتبنى طقوس زوجها في فراترية زوجها التي كانت هي مسجلة فيها من قبل. و بموجب هذا، و كذلك وفقاً لمقطع معروف من ديكيارخ (92)، كان الزواج خارج العشيرة هو القاعدة، بل أن بيكر يعتبر صراحة في كتابه "خاريكلس" أنه لم يكن يحق لأحد أن يتزوج داخل عشيرته (93).
9.حق العشيرة في التبني. و كان هذا الحق يطبق بالتبني في إحدى العائلات و لكن شرط مراعاة الشكليات العامة، و على سبيل الاستثناء فقط.
10.الحق في انتخاب الزعماء و عزلهم. و نحن نعلم أنه كان لكل عشيرة "أرخونت". و لم يرد في أي مكان أن هذه الوظيفة كانت تنتقل بالوراثة في عائلات معينة. و حتى نهاية عهد البربرية، يجب الظن دائماً أنه لم تكن توجد وراثة صارمة للوظيفة لا تتفق إطلاقاً مع النظام الذي كان في ظله يتمتع الأغنياء و الفقراء داخل العشيرة بالمساواة التامة في الحقوق.
و ليس غروت و حسب، بل أيضاً نيبور و مومزن و جميع المؤرخين الآخرين الذين درسوا الأزمنة القديمة الكلاسيكية، استعصت عليهم مسألة العشيرة حتى الآن. فرغم أنهم رسموا بشكل صحيح كثيراً من علائمها، رأوا دائماً فيها مجموعة عائلات و من جراء ذلك لم يستطيعوا أن يفهموا طبيعة العشيرة و أصلها. ففي ظل النظام العشائري، لم تكن العائلة أبداً و لم يكن بوسعها أن تكون خلية النظام الاجتماعي، لأن الزوج و الزوجة كانا ينتميان بالضرورة إلى عشيرتين مختلفتين. كانت العشيرة تنتمي بكليتها إلى الفراترية، و الفراترية إلى القبيلة، أما العائلة، فكانت تنتمي بنصفها إلى عشيرة الزوج و بنصفها الثاني إلى عشيرة الزوجة. كذلك لا تعترف الدولة بالعائلة في ميدان الحق العام، و لا تقوم العائلة حتى الآن إلا في ميدان الحق الخاص. و مع ذلك، ينطلق كل علم التاريخ حتى الآن من فرضية سخيفة خرقاء أصبحت ثابتة لا تتزعزع، و لا سيما في القرن الثامن عشر، و مفادها أن العائلة الفردية الأحادية الزواج، التي من المشكوك في أن تكون أقدم من عهد الحضارة، كانت النواة التي تبلور المجتمع و الدولة حولها تدريجياً.
و هنا يضيف ماركس:
"يجدر بالسيد غروت أن يشير أيضاً إلى ما يلي: رغم أن اليونانيين كانوا يشتقون عشائرهم من الميثولوجيا، كانت هذه العشائر أقدم من الميثولوجيا التي خلقتها بنفسها، مع آلهتها و أنصاف آلهتها"(94).
و يفضل مورغان الاستشهاد بغروت لأن غروت شاهد له وزنه و مكانته و موثوق به تماماً. فإن غروت يروي يضأ أن كل عشيرة أثينية كانت تحمل اسماً انتقل إليها من مؤسسها المفترض، و أن أعضاء عشيرة (gennêtes) المتوفى كانوا يرثون أمواله قبل سولون على كل حال، و بعد سولون إذا لم تكن هناك وصية، و إن ملاحقة المجرم أمام المحكمة إذا ما وقعت جريمة قتل، كانت في المقام الأول، من حق و واجب أقرباء القتيل، ثم أعضاء عشيرة القتيل و أخيراً أعضاء فراترية القتيل.
"كل ما نعرفه عن أقدم القوانين الأثينية يرتكز على الانقسام إلى عشائر و فراتريات"(95).
إن تحدر العشائر من جدود مشتركين قد تسبب "للعلماء التافهين الضيقي الأفق"(ماركس)(96) المزعجات و المنغصات. فبما أنهم، بالطبع، يتصورون هؤلاء الجدود كائنات ميثولوجية صرف، فإنه لا تبقى لديهم أي إمكانية لكي يفسروا لأنفسهم نشوء العشيرة من عائلات منفردة تعيش بعضها في جوار بعض، و لم تكن تجمع بينها في البدء رابطة القرابة، و مع ذلك ينبغي عليهم أن يفعلوا ذلك لكي يفسروا على الأقل وجود "العشيرة". و هكذا يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة، و يصبون سيولاً من الكلام الفارغ، دون أن يتجاوزوا الزعم بأن شجرة النسب هي، بالطبع، خرافة، بينا العشيرة موجودة في الواقع، و في آخر المطاف، نجد عند غروت ما يلي (الكلمات بين هلالين لماركس):
"نحن لا نسمع عن شجرة النسب هذه إلا نادراً، لأنه لا يشار إليها أمام الملأ إلا في أحوال معينة، احتفالية جداً. و لكن العشائر الأقل شأناً كان لها طقوسها الدينية المشتركة"(ما أغرب ذلك، أيها السيد غروت!)، "و كذلك جد مشترك- سوبرمان و شجرة نسب مشتركة، مثلها تماماً مثل العشائر الأكبر شأناً"( ما أغرب هذا، أيها السيد غروت، عند العشائر الأقل شأناً!)"إن التصميم الرئيسي و الأساس المثالي"(لا المثالي ideal، يا سيدي العزيز، بل اللحمي carnal، أو بلغتنا الألمانية الجسدي!)"كانا مشتركين عند جميع العشائر"(97).
و يوجز ماركس جواب مورغان عن هذا السؤال بما يلي:
"إن نظام قرابة الدم، المناسب للعشيرة في شكلها الأولي- و عند اليونانيين قام هذا الشكل فيما مضى كما قام عند جميع البشر- كان يضمن معرفة علاقات القربى بين جميع أعضاء العشائر. و كانوا منذ سنين الطفولة يستوعبون بالفعل هذه المعلومات الخارقة الأهمية بالنسبة لهم. و مع نشوء العائلة الأحادية الزواج، لف النسيان ذلك. و قد خلق الاسم العشيري شجرة نسب ظهرت إزاءها شجرة نسب العائلة الفردية تافهة لا وزن لها. إن هذا الاسم العشيري هو الذي كان ينبغي له من الآن و صاعداً أن يقدم البرهان على أن حامليه يتحدرون من أصل مشترك. و لكن شجرة نسب العشيرة كانت تمد جذورها في أعماق الزمن إلى حد أنه لم يبق بوسع أعضائها أن يتقبلوا القرابة القائمة فعلاً بينهم، باستثناء حالات قليلة جداً كانوا يعرفون فيها أسلافاً مشتركين أقرب عهداً. و كان الاسم نفسه دليلاً على الأصل المشترك و دليلاً لا جدال فيه، ما عدا حالات التبني. إن إنكار القرابة بين أعضاء العشيرة إنكاراً تاماً، فعلياً، كما يفعل غروت**[2] و نيبور، اللذان جعلا من العشيرة نتاج اختلاق صرف و إبداع شعري، جدير "بالمثاليين" وحدهم، أي بعلماء البرج العاجي. فلأن الصلة بين الأجيال، و خاصة منذ ظهور أحادية الزواج، تبتعد في أعماق الزمن و لأن الواقع الماضي ينعكس في الشخصيات الخيالية الميثولوجية، خلص التافهون الضيقو الأفق الحسنو النية و لا يزالون يخلصون إلى القول أن شجرة النسب الخيالية خلقت العشائر الفعلية"(98).
و كمنا عند الأميركيين، كانت الفراترية عشيرة أماً مقسمة إلى بضع عشائر بنات و تجمع بينها، و تشير أحياناً كثيرة إلى تحدرها جميعها من جد مشترك. و عليه، حسب غروت:
"كان جميع الأتراب، الأعضاء في فراترية "هيكاتية" يعتبرون أن لهم إلهاً واحداً هو جدهم المشترك من الدرجة السادسة عشرة"(99).
و لهذا كانت جميع عشائر هذه الفراترية عشائر شقيقة بمعنى الكلمة الحرفي. و إننا لنجد الفراترية عند هوميروس بوصفها وحدة عسكرية، و ذلك في المقطع المشهور الذي ينصح فيه نسطور أغممنون قائلاً: صف الرجال حسب القبائل و الفراتريات بحيث تساعد الفراترية الفراترية و القبيلة القبيلة (100).- و فضلاً عن ذلك، كان من حق الفراترية و واجبها أن تثأر لاغتيال عضو من أعضائها، و لذا كان يقع على عاتقها، في الأزمنة السابقة، واجب ثأر الدم. و فضلاً عن ذلك، كانت لها مقدسات و أعياد مشتركة، بل أن تكون الميثولوجيا الإغريقية كلها من عبادة الطبيعة التقليدية، الموروثة من دماء الآريين، كان مشروطاً من حيث الجوهر بالعشائر و الفراتريات، و جرى في داخلها. و فضلاً عن ذلك، كان للفراترية زعيم (phratriarchos) و كانت، حسبما يقول دي كولانج، تعقد جمعيات عامة، و تتخذ قرارات إلزامية، و تملك سلطة قضائية و إدارية (101). بل أن الدولة التي ظهرت فيما بعد، و التي كانت تجهل العشيرة، تركت للفراترية بعض الوظائف العامة ذات الطابع الإداري.
تتألف القبيلة من بضع فراتريات تجمع بينها صلات القربى. و في مقاطعة الأتيك، كانت توجد أربع قبائل، كل منا تتألف من ثلاث فراتريات، و كل فراترية من 30 عشيرة. إن تحديد الجماعات بمثل هذه الدقة يفترض تدخلاً واعياً و منهاجياً في وضع الأمور الذي تكوّن بصورة عفوية. أما كيف حدث هذا التدخل و متى و لماذا، فإن التاريخ اليوناني يلزم الصمت حوله، ناهيك بأن اليونانيين أنفسهم لم يتذكروا ماضيهم إلا ابتداء من العصر البطولي.
و عند اليونانيين المزدحمين في رقعة من الأرض غير كبيرة نسبياً، تطورت فوارق اللهجات أقل مما في الغابات الأميركية الشاسعة. و لكننا نرى هنا أيضاً أن القبائل التي تملك لغة أساسية واحدة هي وحدها التي تتجمع في كل أكبر بل أننا نجد في مقاطعة الأتيك الصغيرة لهجة خاصة أصبحت فيما بعد اللهجة السادة بوصفها لغة مشتركة لعموم النثر اليوناني.
و في قصائد هوميروس، نجد القبائل اليونانية متحدة في أغلبية الأحوال في أقوام صغيرة تحتفظ في داخلها العشائر و الفراتريات و القبائل مع ذلك باستقلالها كاملاً. كانت هذه الأقوام تعيش آنذاك في مدن محمية بالأسوار. و كان عدد السكان ينمو مع نمو القطعان و مع انتشار الزراعة و بداية الحرف. و في الوقت نفسه كانت تتعاظم الفوارق في الملكية، و يتعاظم معها العنصر الأريستقراطي داخل الديموقراطية القديمة، البدائية. و كانت مختلف الأقوام الصغيرة تخوض غمار حروب متواصلة من أجل امتلاك خيرة الأراضي، و كذلك، بالطبع، من أجل الظفر بالغنائم الحربية. و آنذاك كان استعباد أسرى الحرب قد أصبح مؤسسة معترفاً بها.
و فيما يلي تنظيم الإدارة عند هذه القبائل و هذه الأقوام الصغيرة:
1.كان المجلس،bulê، الهيئة الدائمة للسلطة، في البدء، كان يتألف، على الأرجح، من الذين يختارونهم، الأمر الذي أتاح الفرصة لتطوير و تعزيز العنصر الأريستقراطي، هكذا بالضبط يروي لنا ذيونيسيوس إن المجلس في العهد البطولي كان يتألف من النبلاء (الأريستقراطيين kratistoi) (102). و في القضايا الهامة، كان المجلس يتخذ القرارات النهائية. فعند إسخيلوس، مثلاً، يتخذ مجلس مدينة ثيبة قراراً حاسماً في الوضع الناشئ يقضي بدفن إيتيوكل بكل مراسم الفخار، و برمي جثة بولينيك إلى الكلاب (103) لتنهشها. و فيما بعد، عندما تأسست الدولة، أصبح هذا المجلس "السينات" sénat (مجلس الشيوخ).
2.الجمعية الشعبية (agora). لقد رأينا عند الإيروكوا أن الشعب، رجالاً و نساءً، يحيط باجتماع المجلس و أنه يشترك حسب الأصول المقرر في المناقشة، و يؤثر بالتالي في قرارات المجلس. و عند اليونانيين في زمن هوميروس، كان هذا "المحيط" (Umstand)، إذا استعملنا هذا التعبير الحقوقي من اللغة الألمانية القديمة، قد تطور و غدا جمعية شعبية حقيقية، كما جرى أيضاً عند الجرمان القدامى. و كانت هذه الجمعية تنعقد بدعوة من المجلس لحل القضايا الهامة. و كان بوسع كل رجل أن يتكلم. و كان القرار يتخذ برفع الأيدي (في "المترجيات" لأسخيلوس) أو بالهتاف. و كانت الجمعية تملك السلطة العليا بوصفها المرجع الأخير، لأنه، كما يقول شومان ("الأزمنة القديمة اليونانية")،
"عندما يدور الكلام حول قضية يتطلب تنفيذها معونة الشعب، لا يبين لنا هوميروس أي وسيلة يمكن بها إرغام الشعب إرغاماً على تقديم معونته"(104).
ففي ذلك الوقت حين كان كل رجل راشد في القبيلة محارباً، لم تكن توجد بعد سلطة عامة منفصلة عن الشعب من الممكن معارضته بها. كانت الديموقراطية البدائية لا تزال بعد في أوج ازدهارها، و من هنا ينبغي لنا أن ننطلق عند البحث في سلطة و مركز المجلس و الباسيليوس على السواء.
3.الرئيس العسكري (Basileus). إليكم ما يلاحظه ماركس في هذا الصدد:
"إن العلماء الأوروبيين، الذين فطروا بمعظمهم على خدمة الملوك و الأمراء، يجعلون من الباسيليوس ملكاً بمعنى الكلمة الحديث. و ضد هذا يحتج الجمهوري اليانكي مورغان و يقول ببالغ السخرية، و لكن بكامل الحق و الصواب، عن المعسول غلادستون و كتابه "شباب العالم""(105):
"إن السيد غلادستون يقدم لنا الزعماء اليونانيين من العقد البطولي بصورة ملوك و أمراء، جاعلاً منهم فوق ذلك جنتلمانات. و لكنه يترتب عليه أن تعترف هو نفسه بأننا نجد عندهم، على العموم، عادة أو قانون البكورية محددة بصورة كافية، و لكن بدون إفراط في الدقة"(106).
ينبغي الظن أن حق البكورية المرفق بمثل هذه التحفظات سيبدو للسيد غلادستون نفسه باطلاً لا قيمة له إطلاقاً، حتى إن لم يكن مفرطاً من حيث حدة التعبير.
و لقد سبق و رأينا ما كانت عليه وراثة وظائف الشيوخ عند الإيروكوا و عند الهنود الحمر الآخرين. كانت جميع الوظائف انتخابية في أغلبية الأحول داخل العشيرة و لذا كانت وراثية ضمن حدود العشيرة. و عند إملاء الوظائف الشاغرة، أخذوا تدريجياً يفضلون النسيب الأقرب- أي الأخ أو ابن الأخت، إذا لم يكن ثمة سبب لاستبعاده. و لهذا، إذا كانت وظيفة الباسيليوس عند اليونانيين تنتقل عادة، في ظل سيادة الحق الأبوي، إلى الابن أو أحد الأبناء، فإن هذا يثبت فقط أنه كان في وسع الأبناء هنا أن يأملوا بالوراثة عن طريق الانتخاب الشعبي، و لكنه لا يدل أبداً على الاعتراف بالوراثة شرعاً و قانوناً بدون الانتخاب الشعبي. و في هذه الحال، لا نجد عند الإيروكوا و اليونانيين غير الجنين الأولي للعائلات النبيلة الخاصة داخل العشيرة فقط و لا نجد أيضاً عند اليونانيين بالإضافة غير الجنين الأولي لسلالة مقبلة من الزعماء الوراثيين، أي الجنين الأولي للملكية. و لهذا ينبغي الظن أنه كان يجب للباسيليوس عند اليونانيين إما أن ينتخبه الشعب و إما أن تصادق عليه هيئات الشعب الرسمية-المجلس أو الأغورا- كما كان يجري ذلك أيضاً بالنسبة "للملك" (rex) الروماني.
و في "الإلياذة"، لا يظهر أغممنون، "سيد الرجال" بصفته ملكاً أعلى لليونانيين، بل بصفه آمراً أعلى لقوات متحالفة أمام مدينة محاصرة. و عندما نشب الشقاق بين اليونانيين، أشار أوذيس إلى هذه الصفة بالذات في المقطع الشهير: لا جدوى من تعدد الآمرين ، فليأمر واحد فقط،الخ. (ثم يرد البيت المشهور الذي يذكر الصولجان، و لكن هذا البيت أضيف فيما بعد)(107).
"إن أوذيس لا يلقي هنا محاضرة حول شكل الحكم، بل يطالب بالخضوع للآمر الأعلى في الحرب. و بالنسبة لليونانيين الذين لم يظهروا أمام طروادة إلا بوصفهم جيشاً محارباً، يسلك الأغورا (المجلس) بما يكفي من الديموقراطية: فإن آخيل، حين يتكلم عن الهدايا، أي عن تقاسم الغنائم، يذكر دائماً أن هذا ليس من شأن أغممنون أو أي باسيليوس آخر، بل من شأن "أبناء الآخيين"، أي من شأن الشعب. إن النعوت: "وليد زفس"، "ربيب زفس"، لا تثبت شيئاً، لأن كل عشيرة تتحدر من إله من الآلهة، و عشيرة رئيس القبيلة تتحدر من إله "أميز"،- و في هذه الحال، من زفس. بل إن الذين لا يتمتعون بالحرية الشخصية كراعي الخنازير إيفميه و غيره، مثلاً، هم "آلهيون" dioi و theioi و هذا في "الأوذيسة"، و بالتالي في زمن أقرب إلينا بكثير من زمن "الإلياذة"، و في "الأوذيسة" أيضاً يرفق اسم "البطل" باسم الرسول موليوس و كذلك باسم المغني الأعمى ديمودوكس***[3]. و بإيجاز نقول أن كلمة basileia التي يستعملها الكتاب اليونانيون للإشارة إلى السلطة الهوميرية المسماة بالسلطة الملكية (لأن قيادة الجيوش هي علامتها المميزة الرئيسية)، و القائمة إلى جانب مجلس الزعماء و الجمعية الشعبية، لا تعني غير الديموقراطية الحربية"(ماركس)(108).
و علاوة على الصلاحيات العسكرية، كان للباسيليوس صلاحيات أخرى، كهنوتية و قضائية. و لم تكن الصلاحيات الأخيرة محددة بدقة، و كان يتمتع بالأولى بوصفه الممثل الأعلى للقبيلة أو لاتحاد القبائل. أما الصلاحيات المدنية، الإدارية، فلم ترد يوماً، و لكن الباسيليوس كان، أغلب الظن، بحكم وظيفته، عضواً في المجلس. و عليه، من الصحيح تماماً من الناحية اللغوية ترجمة كلمة basileia (باسيليوس) بالكلمة الألمانية kö-;-nig (كونيغ) لأن كلمة kö-;-nig (Kuning) مشتقة من كلمة Kuni (كوني)، Künne (كونّه) و تعني زعيم العشيرة. و لكن المعنى الحالي لكلمة kö-;-nig (ملك) لا يناسب إطلاقاً معنى كلمة basileus في اليونان القديمة. فإن ثوقيديدس يصف basileia القديمة بكل صراحة بأنها patrikê (بطريكه) أي متحدرة من العشائر، و يقول أنها كانت مخولة صلاحيات معينة، ثابتة أي محدودة(109). كذلك يشير أرسطو إلى أن basileia العصر البطولي كانت قيادة لرجال أحرار و إن الباسيليوس basileia كان قائداً عسكرياً و قاضياً و رئيس كهنة (110). و لذا لم يكن يتمتع بسلطة الحكم بمعنى الكلمة اللاحق ****[4].
و هكذا نرى في النظام اليوناني من العصر البطولي التنظيم العشائري القديم لا يزال زاخراً بكل قواه، و لكننا نرى أيضاً بداية انحلاله: فإن الحق الأبوي مع توريث الملكية للأولاد ييسر تراكم الثروات في العائلة و يجعل من العائلة قوة في وجه العشيرة، و الفوارق في الملكية تؤثر بدورها في تنظيم الإدارة بخلقها أولى أجنة الأريستقراطية الوراثية و السلطة الملكية، و العبودية، التي كانت لا تشمل في البدء غير أسرى الحرب، تفتح السبيل أمام المستعبد لاستعباد أعضاء قبيلته بالذات و حتى أعضاء عشيرته، و الحرب القديمة بين القبائل تتحول مذ ذاك إلى عملية نهب و سلب في البر و البحر لأجل الاستيلاء على الماشية و العبيد و الكنوز، و تتحول بالتالي إلى مصدر عادي للكسب، إلى حرفة، و بكلمة، تغدو الثروة موضع إطراء و تبجيل و تقدير بوصفها الخير الأعظم، و تمسي القواعد العشائر القديمة موضع تحقير لأجل تبرير نهب الثروات بالعنف و القسر. و لم يكن ينقص غير أمر واحد، و نعني به مؤسسة من شأنها، لا أن تحمي الثروات التي اكتسبها الأفراد حديثاً من تقاليد النظام العشائري الشيوعية و حسب، و لا أن تكرس الملكية الخاصة التي كانت محتقرة بالغ الاحتقار و حسب، و لا أن تعلن هذا التكريس الهدف الأسمى لكل جماعة بشرية و حسب، بل أن تختم أيضاً بخاتم الاعتراف العام من قبل المجتمع على العموم الأشكال الجديدة لتحصيل الملكية، المتطورة الواحدة تلو الآخر، أي لتكديس الثروات بوتيرة متسارعة باستمرار، مؤسسة من شأنها لا أن تثبت و تخلد الانقسام البادئ في المجتمع إلى طبقات و حسب، و بل حق الطبقة المالكة في استثمار الطبقة غير المالكة و سيادة الأولى على الثانية.
و هذه المؤسسة ظهرت. فقد تم اختراع الدولة.
5 ـ ولادة الدولة الأثينية
إننا لا نستطيع أن نتتبع في أي مكان خيراً مما في أثينا القديمة كيف تطورت الدولة، على الأقل في مرحلتها الأولى، بتحويل هيئات التنظيم العشائري أحياناً و بزحزحتها أحياناً أخرى عن طريق إنشاء هيئات جديدة و بالاستعاضة عنها كلياً في آخر المطاف بهيئات حقيقية لسلطة الدولة، و كيف أخذت "سلطة عامة" مسلحة، تخضع لهيئات الدولة هذه و يمكن بالتالي استعمالها ضد الشعب أيضاً، تحل محل "الشعب المسلح" الحقيقي الذي يدافع عن نفسه بنفسه في عشائره و فراترياته و قبائله. و قد وصف مورغان تعاقب الأشكال من حيث الأساس، أما تحيل المضمون الاقتصادي الذي نشأ منه تعاقب الأشكال، فإنه يتعين علي أن أضيفه بمعظمه.
في العهد البطولي، كانت قبائل الأثينيين الأربع لا تزال تشغل في الأتيك قطاعات متميزة، بل أن الفراتريات الاثنتي عشرة التي كانت تتألف منها هذه القبائل كانت لا تزال تملك، على ما يبدو، مقامات متميزة بصورة المدن الاثنتي عشرة في كيكروب. و كان تنظيم الإدارة يطابق ما كان عليه في العصر البطولي: الجمعية العشبية، المجلس الشعبي، الباسيليوس. و في العهد الذي يبدأ منه التاريخ المكتوب، كانت الأراضي مقسمة، و كانت قد انتقلت إلى الملكية الخاصة، الأمر الذي يتلاءم مع الإنتاج البضاعي الذي كان قد تطور نسبياً في أواخر الطور الأعلى من البربرية و مع تجارة البضائع المناسبة له. و فضلاً عن الحبوب، كانوا ينتجون الخمور و الزيت النباتي، و طفق زمام التجارة البحرية على بحر إيجه يفلت أكثر فأكثر من أيدي الفينيقيين و يقع بمعظمه في أيدي سكان الأتيك. و بفضل شراء و بيع الملكية العقارية ، و بفضل تطور تقسيم العمل بين الزراعة و الحرفة، بين التجارة و الملاحة، كان لا بد لأعضاء العشائر و الفراتريات و القبائل أن يتخالطوا خلال وقت قصير جداً، و إذا بقطاعات الفراتريات و القبائل يستوطنها سكان لا ينتسبون إلى هذه الجماعات رغم أنهم مواطنون لها، و كانوا بالتالي غرباء في مكان قامتهم بالذات. ذلك أن كل فراترية و كل قبيلة كانت تدير شؤونها بنفسها في زمن السلم، دون اللجوء إلى المجلس الشعبي أو إلى الباسيليوس في أثينا. و لكن من كانوا يعيشون في أرض الفراترية أو القبيلة دون أن يكونوا منتسبين إليها لم يكن بوسعهم طبعاً أن يشتركوا في هذه الإدارة.
كل هذا شوش العمل العادي لهيئات النظام العشائري إلى حد أن الأمر اقتضى في العهد البطولي اتخاذ التدابير لإزالة التشوش. فجرى تطبيق تنظيم ينسب إلى تيزوس. و كان التغيير يقوم قبل كل شيء في تأسيس إدارة مركزية في أثينا، أي أن قسماً من الشؤون التي كانت القبائل تديرها من قبل بصورة مستقلة قد أعلن من الشؤون العامة و أحيل إلى المجلس المشترك الذي كان مقره في أثينا. و بفضل هذا التنظيم الجديد، سار الأثينيون في تطورهم أكثر مما سار أي من الشعوب الأصلية في أميركا: فعوضاً عن مجرد اتحاد بين قبائل تعيش متجاورة، جرى اندماج القبائل في شعب واحد. و هكذا نشأ الحق الشعبي الأثيني العام الذي كان أعلى من العادات الشرعية لمختلف القبائل و العشائر و نال المواطن الأثيني، بصفته هذه، حقوقاً معينة و حماية قانونية جديدة حتى في الأرض التي كان فيها غريباً عن القبيلة. و لكن ذلك كان في الوقت نفسه بمثابة الخطوة الأولى نحو تدمير النظام العشائري لأنه كان الخطوة الأولى نحو السماح لاحقاً حتى لأولئك الذين كانوا غرباء عن القبائل في عموم الأتيك و كانوا و ظلوا كلياً خارج التنظيم العشائري الأثيني بالانضمام إلى عداد المواطنين. و المؤسسة الثانية المنسوبة إلى تيزوس كانت تتلخص في تقسم الشعب بأسره، بصرف النظر عن العشيرة و الفراترية و القبيلة، إلى ثلاث طبقات: eupatrids (الأوباتريد) أو النبلاء، géomores (الجيومور) أو الزراع، démiurges (ديمييورج) أو الحرفيين و في منح النبلاء بوجه الحصر الحق في ممارسة الوظائف العامة. و لكن هذا التقسيم لم يسفر عن أي نتيجة، باستثناء ممارسة النبلاء للوظائف العامة، لأنه لم يخلق أي فوارق أخرى في الحقوق بين الطبقات. إلا أنه يتسم بأهمية كبيرة، لأنه يكشف أمامنا العناصر الاجتماعية الجديدة التي تطورت بصورة غير ملحوظة. و هو يثبت أن عادة إيلاء الوظائف العشيرية إلى أعضاء بعض العائلات قد تحولت إلى حق لهذه العائلات في ممارسة الوظائف العامة قلما يتعرض للجدال و الإنكار، و إن هذه العائلات، فضلاً عن القوة التي تتمتع بها بفضل ثرواتها، شرعت تتكون خارج عشائرها في طبقة خاصة مميزة، و إن الدولة الناشئة للتو قد كرست إدعاءاتها هذه. و هو يثبت أيضاً أن تقسيم العمل بين الفلاحين و الحرفيين قد اتضح و رسخ إلى حد أنه أخذ يزحزح إلى المرتبة الثانية الأهمية الاجتماعية للتقسيم السابق إلى عشائر و قبائل. و هو يعلن أخيراً التناقض المستعصي بين المجتمع العشائري و الدولة، فإن أول محاولة لتشكيل الدولة تقوم في تحطيم الصلات العشائرية بتقسيم أعضاء كل عشيرة إلى مميزين و غير مميزين و بتقسيم الأخيرين بدورهم إلى طبقتين تبعاً لنوع عملهم، الأمر الذين كان يدفع بعضهم إلى معارضة بعضهم الآخر.
إن تاريخ أثينا السياسي اللاحق حتى سولون ليس معروفاً بصورة كافية. إن وظيفة الباسيليوس فقدت شأنها، و أخذ يرأس الدولة أرخونت منتخبون من عداد النبلاء. و تعاظمت سيادة النبلاء أكثر فأكثر إلى أن أمست عبئاً لا يطاق نحو سنة 600 قبل الميلاد. و كان المال و الربا الوسيلة الأساسية لأجل قمع حرية الشعب. و كان محل إقامة النبلاء الرئيسي في أثينا و ضواحيها، حيث كانت التجارة البحرية، و معها القرصنة البحرية التي كانت تمارس كلما سنحت الفرصة، تغنيان هؤلاء النبلاء و تركزان في أيديهم الثروات النقدية. و من هنا تغلغل الاقتصاد النقدي، خلال تطوره، في المشاعات الريفية مؤثراً مثل حامض يتأكل نمط حياتها التقليدي القائم على الاقتصاد الطبيعي. إن التنظيم العشائري لا يتوافق إطلاقاً مع الاقتصاد النقدي. و قد صادف خراب الفلاحين الصغار في الأتيك اشتداد ضعف روابطهم العشيرية القديمة التي كانت تحميهم. و كان سند الدين و الرهن العقاري (لأن الأثينيين كانوا قد اخترعوا الرهن العقاري أيضاً) لا يحترمان العشيرة و لا الفراترية. و الحال، كان النظام العشائري القديم لا يعرف النقود و لا القروض و لا الديون النقدية. و لهذا أدت أيضاً سيطرة النبلاء النقدية المنتشرة أوسع فأوسع إلى إقرار حق جديد يرتكز على العرف و العادة لأجل حماية الدائن من المدين، لأجل تكريس استثمار الفلاحين الصغار من جانب مالكي النقود. و في جميع حقول الأتيك كانت تنتصب مسلات حجرية رهنية سجل عليها أن القطة المعنية مرهونة لفلان لقاء مبلغ كذا من النقود. أما الحقول التي لم تكون معلمة بهذه العلائم، فكانت قد بيعت بمعظمها بسبب العجز عن تسديد قيمة الرهن العقاري أو عن دفع الفوائد المئوية في الموعد المحدد، و انتقلت إلى ملكية الأريستقراطي المرابي. و كان الفلاح يعتبر نفسه سعيداً إذا ما سمحوا له بالبقاء في قطعة الأرض بصفة مستأجر و بالعيش من سدس منتوج كدحه، إذ يتعين عليه أن يقدم الخمسة أسداس الباقية إلى المالك الجديد كبدل إيجار. و فضلاً عن ذلك، إذا كان المبلغ الذي تباع به قطعة الأرض المرهونة لا يغطي الدين، أو إذا كان الدين لم يؤمن برهن، كان يتعين على المدين أن يبيع أولاده عبيداً في بلدان أخرى لكي يسدد للدائن دينه. بيع الوالد أبناءه- تلك كانت الثمرة الأولى للحق الأبوي و أحادية الزواج! و إذا لم يرتو مصاص الدماء، فقد كان بمقدوره أن يبيع المدين نفسه أيضاً كعبد. هكذا كان فجر الحضارة المشرق عند الشعب الأثيني.
من قبل، عندما كانت ظروف حياة الشعب لا تزال تتوافق مع النظام العشائري، كان هذا الانقلاب مستحيلاً، أما الآن، فقد تحقق، و لكن أحداً لا يعرف كيف تحقق. لنعد لحظة إلى أصحابنا الإيروكوا. لقد كان من المستحيل عندهم قيام وضع كالوضع المفروض الآن على الأثينيين، بدون اشتراكهم، إذا جاز القول، و من المؤكد خلافاً لإرادتهم. و هناك، عند الإيروكوا، لم يكن أبداً بوسع أسلوب إنتاج وسائل العيش، الذي بقي هو هو سنة بعد سنة، أن يؤدي إلى نشوب مثل هذه النزاعات المفروضة كإنما من الخارج، و إلى ظهور مثل هذا التناقض بين الأغنياء و الفقراء، بين المستثمِرين و المستثمَرين. كان الإيروكوا لا يزالون بعيدين جداً عن السيادة على الطبيعة، و لكنهم كانوا ضمن بعض الحدود الطبيعية، الواضحة بالنسبة لهم، أسياد أسلوب إنتاجهم. و إذا طرحنا جانباً سوء المحاصيل في بساتينهم الصغيرة، و نفاد موارد بحيراتهم و أنهرهم من السمك، و شدة انخفاض عدد الطرائد في غاباتهم، فإنهم كانوا يعرفون مسبقاً ما يمكنهم الاعتماد عليه في ظل أسلوبهم لتحصيل وسائل العيش. كان ينبغي لهذا الأسلوب أن يؤمن وسائل العيش سواء كانت ضئيلة أو وفيرة، و لكنه لم يكن بوسعه في حال من الأحوال أن يؤدي إلى انقلابات اجتماعية غير متوقعة، إلى فصم عرى العشيرة، إلى انقسام أعضاء العشيرة و القبيلة إلى طبقات متضادة تحارب بعضها بعضاً. كان الإنتاج يتحرك ضمن أضيق الأطر، و لكن المنتوج كان بكليته في حوزة المنتجين. و تلك كانت أفضلية الإنتاج الهائلة في عصر البربرية، إلا أن هذه الأفضلية ضاعت عند حلول عصر الحضارة. إن مهمة الأجيال اللاحقة ستتلخص في استعادة هذه الأفضلية، و لكن على أساس السيادة القوية التي ظفر بها الإنسان الآن على الطبيعة، و على أساس الترابط الحر الذي أصبح الآن ممكناً.
و كان الحال مختلفاً عند اليونانيين. فإن ظهور الملكية الخاصة للقطيع و سلع البذخ أفضى إلى التبادل بين الأفراد، و إلى تحول المنتوجات إلى بضائع. و ها يكمن جنين الانقلاب اللاحق كله. فما إن كف المنتجون عن استهلاك منتوجهم بأنفسهم بصورة مباشرة، و شرعوا يتخلون عنه بواسطة التبادل حتى فقدوا سلطانهم عليه. و ما عادوا يعرفون ما يحدث له. و غدا من الممكن استعمال المنتوج ضد المنتج، من أجل استثماره و اضطهاده. و لهذا لا يستطيع أي مجتمع أن يحتفظ زمناً طويلاً بسلطانه على إنتاجه بالذات و بالرقابة على العواقب الاجتماعية لعملية إنتاجه، إذا لم يقض على التبادل بين الأفراد.
إن الأثينيين هم الذين عرفوا بتجربتهم الخاصة بأي سرعة يفرض المنتوج سلطانه على المنتج بعد ظهور التبادل بين الأفراد و تحول المنتوج إلى بضاعة. و مع الإنتاج البضاعي ظهرت حراثة الأرض من قبل الأفراد بقواهم الخاصة، و بعدها بفترة وجيزة ظهرت ملكية الأفراد للأرض. ثم ظهرت النقود، أي البضاعة العامة التي كان يمكن بها مبادلة جميع البضائع الأخرى. و لكن الناس، حين اخترعوا النقد، لم يخطر في بالهم أنهم خلقوا في الوقت نفسه قوة اجتماعية جديدة، القوة الوحيدة الشاملة التي سيترتب على المجتمع بأسره أن ينحني أمامها. و هذه القيمة الجديدة التي انبثقت فجأة بدون علم و إرادة صانعيها بالذات، هي التي أجبرت الأثينيين، بكل فظاظة فتوتها، على الشعور بسيطرتها.
فماذا كان ينبغي عمله؟ إن النظام العشائري القديم لم يقدم الدليل على عجزه حيال زحف النقود المظفر و حسب، بل كان أيضاً عاجزاً إطلاقاً عن أن يجد في داخله أي مكان لأجل أشياء مثل النقود و الدائنين و المدينين وتحصيل الدين بالقسر. و لكن القوة الاجتماعية الجديدة كانت قائمة، و لم تستطع التمنيات البريئة و الرغبة الشديدة في عودة الزمن القديم الطيب أن تطرد النقود و المرابين من العالم. و علاوة على ذلك، تم شق عدد من الثغرات الثانوية الأخرى في النظام العشائري. و من جيل إلى جيل، أخذ أعضاء مختلف العشائر الفراتريات يتخالطون أكثر فأكثر في عموم أراضي الأتيك و لا سيما في مدينة أثينا نفسها، رغم أنه كان لا يزال آنذاك بمقدور الأثيني أن يبيع ممن ليسوا أعضاء في عشيرته قطعاً من الأرض فقط، و لكن لم يكن بمقدوره أن يبيع مسكنه. و مع تطور الصناعة و التبادل، تطور أكثر فأكثر تقسيم العمل بين مختلف فروع الإنتاج: الزراعة، الحرفة، و في داخل الحرفة، بين أنواعها التي لا عد لها، و التجارة، و الملاحة، الخ.، و انقسم الناس الآن حسب أعمالهم إلى جماعات ثابتة نسبياً، لكل منها جملة من المصالح المشتركة الجديدة التي لم يكن لها مكان داخل العشيرة أو داخل الفراترية، و التي ظهرت بالتالي من أجل تأمينها الحاجة إلى وظائف جديدة. و نما عدد العبيد نمواً ملحوظاً، و من الأرجح أنه زاد كثيراً في ذلك الوقت على عد الأثينيين الأحرار. إن النظام العشائري لم يعرف أبدأ في البدء العبودية، و لم يعرف بالتالي الوسائل التي يمكن بها السيطرة على هذه الجمهرة من الناس غير الأحرار. و أخيراً اجتذبت التجارة إلى أثينا عدداً كبيراً من الأجانب فكانوا يستقرون فيها نظراً لسهولة الكسب، و لكنهم، بحكم النظم القديمة، ظلوا كذلك بلا حقوق و لا حماية، و ظلوا، رغم التساهل التقليدي، عنصراً مزعجاً و غريباً في الشعب.
و قصارى القول أن النظام العشائري كان يقترب من نهايته. فإن المجتمع كان يتخطى نطاقه يوماً بعد يوم، و لم يستطع أن يحد و لا أن يزيل حتى شر الشرور التي كانت قد ظهرت أمام أنظار الجميع. و لكن الدولة كانت قد تطورت في هذه الأثناء بصورة غير ملحوظة. فإن الجماعات الجديدة، التي تشكلت بفضل تقسم العمل أولاً بين المدينة و الريف، ثم بين مختلف فروع العمل المدينية، قد أنشأت هيئات جديدة لأجل الدفاع عن مصالحها، و أسست الوظائف من كل نوع و شكل. ثم أن الدولة الفتية كانت قبل كل شيء بحاجة إلى قوات مسلحة خاصة بها لأجل خوض غمار الحروب الصغيرة و لأجل حماية السفن التجارية، و هذه القوات لم يكن من الممكن أن تكون في البدء عند الأثينيين الذين يتعاطون الملاحة البحرية غير قوات بحرية. و في مرحلة غير محددة تماماً، و لكن قبل سولون، أنشئت naucraries (النوكراريات)، و هي دوائر إقليمية صغيرة، كان عددها 12 دائرة بكل قبيلة. و كان يتعين على كل نوكرارية أن تقدم سفينة حربية و تسلحها و تجهزها بالنوتية، و كانت تقدم بالإضافة فارسين. و قد قوضت هذه المؤسسة النظام العشائري بصورة مزدوجة، لأنها، أولاً، خلقت سلطة عامة لم تعد تتطابق أبداً بكل بساطة مع مجمل الشعب المسلح، و لأنها، ثانياً، قسمت الشعب، للمرة الأولى، لأجل أغراض عامة، لا حسب الجماعات التي تجمع بينها صلات القربى، بل حسب الإقامة في أرض واحدة. و سنرى فيما بعد أهمية هذه الظاهرة الجديدة.
و بما أن النظام العشائري لم يستطع أن يقدم للشعب المستثمَر أي عون، فلم يبق لهذا الشعب أن يعتمد إلا على الدولة الناشئة. و قد مدت الدولة له فعلاً يد العون بصورة تنظيم الإدارة الذي طبقه سولون، بينا أخذت تقوى أكثر فأكثر في الوقت نفسه على حساب النظام القديم. إن سولون (و قلما يهمنا هنا الأسلوب الذي طبق به إصلاحه نحو عام 594 قبل الميلاد) قد دشن سلسلة مما يسمى بالتورات السياسية، و فعل ذلك بالتدخل في ميدان علاقات الملكية. و إن جميع الثورات التي نشبت مذ ذاك كانت ثورات للدفاع عن نوع من الملكية ضد نوع آخر من الملكية. فلم يكن بوسعها أن تدافع عن نوع من الملكية دون المساس بالآخر. و إبان الثورة الفرنسية الكبرى، ضحي بالملكية الإقطاعية لأجل إنقاذ الملكية البرجوازية. و في الثورة التي قام بها سولون، كان لا بد أن تتضرر ملكية الدائنين في مصلحة ملكية المدينين. فقد ألغيت الديون بكل بساطة. نحن لا نعرف التفاصيل بدقة، و لكن سولون يتباهى في قصائده أنه أزال حجارة الرهونات من قطع أرض المدينين و أعاد الناس الذين بيعوا للخارج أو فروا إلى بلدان أخرى، بسبب ديونهم. و لم يكن من الممكن تحقيق ذلك إلا بانتهاك حقوق الملكية صراحة. و بالفعل، قامت جميع الثورات المسماة بالثورات السياسية، ابتداء من أول ثورة منها حتى آخر ثورة، دفاعاً عن نوع معين من الملكية، و تحققت بمصادرة ، أو، بتعبير آخر، بسرقة نوع آخر من الملكية. و هكذا لا ريب في أنه لم يمكن أن تقوم الملكية الخاصة خلال ألفين و خمسمائة سنة إلا بانتهاك حق الملكية.
و لكنه غدا من الضروري الآن الحؤول دون تكرار تحويل الأثينيين الأحرار إل عبيد. و قد تم ذلك قبل كل شيء بتدابير عامة مثل منع التزامات الدين التي كان شخص المدين بالذات ضمانتها و كفالتها. ثم أقر حد أقصى للملكية العقارية التي كان من الممكن أن يملكها الفرد و ذلك للحد بعض الشيء من طمع النبلاء الذي لا يروي غليله بأراضي الفلاحين. و فيما بعد، طرأت تعديلات على التنظيم نفسه. و إليكم أهمها بنظرنا:
تقرر أن يتألف المجلس من أربعمائة عضو، بنسبة 100 عضو عن كل قبيلة. و على هذا النحو بقيت القبيلة هنا الأساس. و لكن هذا كان الجانب الوحيد الذي أخذته الدولة الجديدة من التنظيم القديم. لأن سولون، فضلاً عن ذلك، قسم المواطنين إلى أربع طبقات تبعاً للملكية العقارية و دخلها، 500 و 300 و 150 مديمناً (المديمن يوازي تقريباً 41 ليتر) من الحبوب، تلك كانت الحدود الدنيا من الدخل لأجل الطبقات الثلاث الأولى، أما الذين كان دخلهم أقل أو كانوا لا يملكون أي قطعة من الأرض، فكانوا يشكلون الطبقة الرابعة. و لم يكن من الممكن أن يشغل جميع الوظائف غير ممثلي الطبقات الثلاث العليا، أما أعلى الوظائف، فلا يمكن أن يشغلها غير ممثلي الطبقة الأولى. و لم يكن للطبقة الرابعة غير الحق في الكلام و التصويت في الاجتماع الشعبي، و لكن هنا بالذات كان يجري انتخاب جميع الموظفين، و هنا كان ينبغي على هؤلاء أن يقدموا حساباً عن نشاطهم، و هنا كانت توضع جميع القوانين، و هنا كانت الطبقة الرابعة تؤلف الأغلبية. و من جديد جرى إثبات الامتيازات الأريستقراطية جزئياً بصورة امتيازات للثروة، و لكن الشعب احتفظ لنفسه بالسلطة الفاصلة. و فضلاً عن ذلك كان التقسيم إلى أربع طبقت أساساً لأجل تنظيم القوات المسلحة تنظيماً جديداً. فإن الطبقتين الأوليين كانتا تقدمان الخيالة، و كان على الثالثة أن تخدم في فصائل المشاة الثقيلة السلاح، و على الرابعة أن تخدم في فصائل المشاة الخفيفة السلاح التي لا ترتدي الدروع أو في الأسطول، مع العلم أنها كانت، على الأرجح، تتقاضى أجراً لقاء خدمتها.
و هكذا أدخل هنا عنصر جديد في نظام الحكم، هو الملكية الخاصة. فإن حقوق مواطني الدولة و واجباتهم أخذت تقاس حسب كبر ملكيتهم العقارية، و بقد ما كان يتعاظم نفوذ الطبقات المالكة، كانت الاتحادات القديمة القائم على قرابة الدم تزاح. و مني النظام العشائري بهزيمة جديدة.
و لكن منح الحقوق السياسية وفقاً للملكية لم يكن أبداً إحدى المؤسسات التي لا يمكن بدونها أن تقوم الدولة. و مع أن هذا المبدأ قد اضطلع بدور كبير في تاريخ تنظيم الدولة، إلا أن عدداً كبيراً جداً من الدول، و على وجه الضبط أكثرها تطوراً، استغنى عنه. بل أنه في أثينا أيضاً لم يضطلع إلا بدور عابر، فمنذ عهد أريستيدس أصبحت جمي الوظائف في منال كل مواطن (111).
و في الثمانين سنة التالية، تطور المجتمع الأثيني تدريجياً في الاتجاه الذي ظل يتطور فيه خلال القرون اللاحقة. فقد وضع حد لتفشي عمليات ديون الربا على الأراضي قبل زمن سولون، و كذلك للإفراط في تمركز الملكية العقارية. و أصبحت التجارة، و كذلك الحرف و الحرف الفنية التي كانت تتنامى أكثر فأكثر بالاستناد إلى عمل العبيد، فروع النشاط السائدة. و غدا الناس أكثر تمدنا و تنوراً. و بدلاً من استثمار مواطنيهم بالذات استثماراً قاسياً كما من قبل، شرعوا الآن يستثمرون على الأغلب العبيد و شراة البضائع الأثينية من خارج أثينا. و أخذت الأموال المنقولة أي الثروة من النقود و العبيد و السفن، تتنامى أكثر فأكثر، و لكنها لم تعد الآن مجرد وسيلة لاكتساب الأراضي، كما كان الحل في زمن الانطواء و المحدودية السابق، بل صارت أيضاً هدفاً بحد ذاته. و من جراء هذا ظهرت، من جهة، في شخص الطبقة الجديدة- طبقة الأغنياء الذين يتعاطون الصناعة و التجارة- منافسة مظفرة لجبروت الأريستقراطية القديم، و فقدت بقايا النظام العشائري القديم، من جهة أخرى، قاعدتها الأخيرة. فإن العشائر و الفراتريات و القبائل التي تشتت أعضاؤها الآن في عموم الأتيك و تخالطوا نهائياً، قد غدت لهذا السبب غير صالحة إطلاقاً لتشكيل اتحادات سياسية، و كان كثيرون من مواطني أثينا لا ينتسبون إلى أي عشيرة، فقد كانوا مهاجرين غرباء نالوا حق المواطنية و لكنهم مع ذلك لم يقبلوا في أي من الاتحادات العشائري القديمة، و فضلاً عن هؤلاء، كان هناك أيضاً عدد متزايد أبداً من المهاجرين الغرباء المتمتعين بالحماية (أو الموالي)(112).
و في هذه الأثناء كان الصراع بين الأحزاب يواصل مجراه، كانت الأريستقراطية تحاول استعادة امتيازاتها السابقة و أحرزت الغلبة لفترة من الوقت، إلى أن جاءت ثورة كليستين ( في عام 509 قبل الميلاد) و أطاحت بها نهائياً، و بأخر بقايا النظام العشائري (113) أيضاً في آن واحد.
إن تنظيم الإدارة الجديدة الذي أدخله كليستين قد تجاهل قسمة القبائل الأربع القديمة المؤسسة على العشائر و الفراتريات. و عوضاً عنها، ظهر تنظيم جديد تماماً يرتكز على تقسيم السكان، الذي جرى اختباره في "النوكراريات" حسب مكان إقامتهم فقط. و هكذا لم يبق الدور الحاسم للانتساب إلى اتحادات قربى الدم، بل صار لمكان الإقامة الدائمة وحده، و لم يقسموا الشعب، بل قسموا الأرض، و تحول السكان، من الناحية السياسية، إلى مجرد ذيل للأرض.
قسمت منطقة الأتيك كلها إلى مئة demos (ديموس) إو دائرة-مشاعة تدير كل منها نفسها بنفسها. و كان المواطنون (الديموسيون) الذين يعيشون في كل ديموس ينتخبون رئيساً (الديمارك) و خازناً، و كذلك ثلاثين قاضياً يحكمون في الخلافات الصغيرة. كذلك كان لكل ديموس معبده و إلهه الحامي أو بطله، و كان يختار لهما الكهان. و كانت السلطة العليا في الديموس لجمعية الديموسيين. و قد كان ذلك، كما يلاحظ مورغان بصواب، النموذج المسبق للمشاعة المدينية الأميركية (114) التي تحكم نفسها بنفسها. إن الوحدة التي انتهت إليها الدولة العصرية في أعلى درجات تطورها كانت نقطة انطلاق الدولة الناشئة في أثينا.
كانت عشر من هذه الوحدات أو الديموسات تؤلف قبيلة، و لكن هذه القبيلة، خلافاً للقبيلة السابقة العشائرية، صارت تسمى الآن بالقبيلة الإقليمية. إن القبيلة الإقليمية لم تكن اتحاداً سياسياً يحكم نفسه بنفسه و حسب، بل كانت أيضاً اتحاداً عسكرياً، و كانت تنتخب الفيلارك phylarque*[1] أي زعيم القبيلة آمر الخيالة، و التاكسييارك taxiarque آمر المشاة، و الستراتيجي stratége آمر جميع القوات المسلحة المجندة في أرض القبيلة. و فضلاً عن ذلك، كانت تجهز خمس سفن حربية بطواقمها و آمريها، و كانت تنال بطلاً من أبطال الأتيك بوصفه حامياً لها و تتسمى باسمه. و أخيراً كانت تنتخب خمسين ممثلاً عنها في مجلس أثينا.
أما ذروة هذا التنظيم فكانتها الدولة الأثينية التي كان يديرها مجلس مؤلف من خمسمائة نائب يمثلون القبائل العشر، و الاجتماع الشعبي –بوصفه المرجع الأعلى و الأخير- الذي كان لكل مواطن أثيني الحق في حضوره و في التصويت فيه. و علاوة على ذلك، كان الأرخونت و سائر الموظفين يسيّرون مختلف فروع الإدارة و القضاء. و لم يكن هناك في أثينا رئيس للسلطة التنفيذية.
و مع تطبيق هذا التنظيم الجديد للحكم، و مع قبول عدد كبير جداً من المتمتعين بالحماية- سواء من المهاجرين الغرباء أو من العبيد المحرّرين- أُقصيت هيئات النظام القائم على قرابة الدم عن تصريف الشؤون العامة، و انحطت إلى مستوى رابطات خاصة و أخويات دينية. و لكن عهد العشائر القديم، بنفوذه المعنوي و نظراته المتوارثة و نمط تفكيره، ظل زمناً طويلاً يعيش في التقاليد، و هذه التقاليد لم تندثر إلا تدريجياً. و قد انعكس هذا في واحدة من آخر مؤسسات الدولة.
لقد رأينا أن إحدى العلائم الجوهرية للدولة تتلخص في سلطة عامة منفصلة عن سواد الشعب. و في ذلك الحين لم يكن لدى أثينا غير الجيش الشعبي، و الأسطول الذي كان الشعب يقدمه مباشرة. و كان الجيش و الأسطول يحميانها من الأعداء الخارجيين و يفرضان الطاعة على العبيد الذين كانوا آنذاك يشكلون أغلبية السكان الملحوظة. و تجاه المواطنين، لم تكن السلطة العامة في البدء قائمة إلا بصفة بوليس، و كان البوليس قديما قدم الدول، و لهذا كان الفرنسيون السذج من القرن الثامن عشر لا يتحدثون عن الأمم المتمدنة بل عن الأمم البوليسية (nations policées). و هكذا أسس الأثينيون، في آن واحد مع دولتهم، بوليساً، دركاً حقيقياً من النبالة المشاة و الخيال، أو اللاندياغر (Landjä-;-ger) كما يسمونهم في ألمانيا الجنوبية و في سويسرا. و لكن هذا الدرك كان يتألف من العبيد. فقد كانت هذه الخدمة البوليسية تبدو للأثيني الحر مذلة إلى حد أنه كان يفضل الاستسلام للعبد المسلح، شرط ألا يمارس هو نفسه هذا العمل المشين. و في هذا كانت لا تزال تنعكس عقلية العشيرة القديمة. فلم يكن بوسع الدولة أن تعيش بدون البوليس، و لكنها كانت لا تزال بعد فتية، و لم تكن تتمتع بعد بما يكفي من النفوذ المعنوي لكي تجعل من مهنة كانت تبدو بالضرورة مشينة و خسيسة لأعضاء العشائر القدامى مهنة محترمة.
إن الازدهار السريع الذي عرفته الثروة و التجارة و الصناعة يدل على مبلغ توافق الدولة التي تكونت سماتها الرئيسية مع وضع الأثينيين الاجتماعي الجديد. فإن التناحر الطبقي الذي ارتكزت عليه المؤسسات الاجتماعية و السياسية لم يكن الآن ذلك التناحر بين الأريستقراطية و الشعب البسيط، بل التناحر بين العبيد و الأحرار، بين الموالي و المواطنين الكاملي الحقوق. و في أوج ازدهار أثينا، كان مجمل عدد المواطنين الأحرار، بمن فيهم النساء و الأطفال، يبلغ زهاء 90000 شخص، بينا كان عدد العبيد ذكوراً و إناثاً يبلغ 365000 شخص، و عدد الموالي- من مهاجرين غرباء و عبيد محرّرين- 45000 شخص. و هكذا كان يوجد مقابل كل مواطن راشد من الذكور 18 عبداً على الأقل و أكثر من اثنين من الموالي. و سبب هذا العدد الكبير من العبيد، أن كثيرين منهم كانا يشتغلون معاً في المانيفاكتورات، في مشاغل كبيرة، تحت رقابة المراقبين. و لكن تطور التجارة و الصناعة أفضى إل تراكم و تمركز الثروات في قلة من الأيدي، و كذلك إلى افتقار سواد المواطنين الأحرار الذين لم يبق لهم إلا الاختيار بين سبيلين لا ثالث لهما: إما أن ينافسوا عمل العبيد بانصرافهم هم أنفسهم إلى ممارسة الحرف، الأمر الذي كان يعتبر مشيناً، مذلاً، منحطاً، ناهيك بأنه لا يبشر بكبير النجاح، و إما أن يتحولوا إلى فقراء. و في الظروف المعنية، ساروا بحكم الضرورة في السبيل الأخير، و بما أنهم كانوا يؤلفون سواد السكان، فقد أدى ذلك إلى هلاك الدولة الأثينية كلها أيضاً. فليست الديموقراطية هي التي أهلكت أثينا، كما يزعم الأدعياء المدرسيون الأوروبيون الذين يتملقون الملوك و الأمراء، بل العبودية التي جعلت عمل المواطن الحر موضع احتقار و ازدراء.
إن ولادة الدولة عند الأثينيين هي مثال نموذجي، و لا أرقى، على تكوّن الدولة بوجه عام، و ذلك من جهة، لأنها تجري بشكل نقي، دون أي تدخل عنيف من الداخل و من الخارج،-إن اغتصاب بيسيستراتس للسلطة خلال فترة وجيزة لم يترك أي أثر (115)،- و من جهة أخرى، لأن شكلاً متطوراً جداً للدولة في الحالة المعنية، هو الجمهورية الديمقراطية، ينبثق مباشرة من المجتمع العشائري، و أخيراً، لأننا نعرف كفاية جميع التفاصيل الأساسية لنشوء هذه الدولة.
6 ـ العشيرة والدولة في روما
يتبين من أسطورة تأسيس روما أن أول مقام كان من صنع عدد من العشائر اللاتينية (مائة، حسب الأسطورة) المتحدة في قبيلة واحدة انضمت إليها بعد فترة وجيزة من الوقت قبيلة سابيلية تتألف هي أيضاً، كما تقول الأسطورة، من مائة عشيرة، ثم قبيلة ثالثة تتألف من عناصر مختلفة، و تضم هي أيضاً، كما تقول الأسطورة، مائة عشيرة. و إن القصة كلها تبين من الوهلة الأولى أنه لم يكن هناك أي شيء تكوّن بصورة طبيعية باستثناء العشيرة، و أن العشيرة لم تكن في بعض الأحول غير فرع من عشيرة أصلية، أولية، ظلت تعيش في موطنها القديم. و على القبائل يبدو خاتم تركيبها المصطنع، و لكن هذا التركيب مصنوع بمعظمه من عناصر متقاربة و حسب نموذج القبيلة القديمة التي تنامت بصورة طبيعية، لا حسب نموذج القبيلة المشكلة بصورة مصطنعة، و مع ذلك، ليس من المستبعد أنه كان من الممكن أن تكون نواة كل من القبائل الثلاث قبيلة قديمة حقيقية. فإن الحلقة الوسيطة، الفراترية، كانت تتألف من عشر عشائر و تسمى curia ("كوريا")، فكان هناك إذن ثلاثون "كوريا".
و من المعترف به عموماً أن العشيرة الرومانية كانت نفس المؤسسة التي كانتها العشيرة اليونانية. و لئن كانت العشيرة اليونانية شكلاً أكثر تطوراً لتلك الخلية الاجتماعية التي نجد شكلها البدائي عند الهنود الحمر الأميركيين، فإن هذا يصح كلياً أيضاً على العشيرة الرومانية. و لذا بوسعنا أن نكون هنا أكثر إيجازاً.
إن العشيرة الرومانية، في الآونة الأولى على الأقل من وجود المدينة، تتسم بالتركيب التالي:
1. حق أعضاء العشيرة في وراثة بعضهم بعضاً، الممتلكات تبقى داخل العشيرة. و بما أن الحق الأبوي كان يسود سواء في العشيرة الرومانية أو في العشيرة اليونانية، فإن الذرية من حبل النسل النسائي كانت مستبعدة عن الإرث. و بموجب قواني الألواح الاثني عشر (116)، و هي أقدم أثر مكتوب نعرفه عن الحق الروماني، كان الأولاد هم الذين يرثون في المقام الأول بوصفهم الورثة المباشرين، و في حال عدم وجودهم "الأغنات" agnats (أي الأقرباء حسب حبل النسل الرجالي)، و في حال عدم وجود هؤلاء، أعضاء العشيرة. و في جميع الأحوال، كانت الممتلكات تبقى داخل العشيرة. و نحن نرى هنا كيف تسربت تدريجياً إلى عادة العشيرة قواعد قانونية جديدة نجمت عن نمو الثروة و عن أحادية الزواج: إن حق الوراثة، المتساوي في الأصل بين جميع أعضاء العشيرة، يقتصر عملياً- و باكراً جداً، كما أشير أعلاه- على "الأغنات" في البدء، و أخيراً على الأولاد و ذريتهم حسب حبل النسل الرجالي. أما في الألواح الاثني عشر، فإن هذا يرد بالطبع في تسلسل معاكس.
2. امتلاك أرض مشتركة للدفن. فعندما انتقلت عشيرة كلوديوس الأريستقراطية من مدينة ريغيل إلى روما، حصلت على رقعة من الأرض، و كذلك على مكان مشترك في المدنية نفسها من أجل الدفن. و حتى في عهد أوغسطوس، دفن رأس فار (117)، الذي قتل في غاب توتوبورغ و جيء به إلى روما، في gentilitius tumulus *[1] و هكذا إذن كانت العشيرة (Quintilia-كوينتيليا) لا تزال تملك جثوة خاصة للدفن.
3. أعياد دينية مشتركة. و هذه sacra gentilitia**[2] معروفة.
4. واجب عدم الزواج داخل العشيرة. و يبدو أن هذا لم يتحول يوماً في روما إلى قانون مكتوب. و لكنه بقي عادة. و بين العدد الهائل من الأزواج التي وصلت أسماؤها إلينا، ليس لأي زوج اسم عشيري واحد لكلا الرجل و المرأة . ثم أن حق الوراثة يؤكد هذه القاعدة. فإن المرأة تفقد حقوقها "الأغناتية" عندما تتزوج، و تخرج من عشيرتها. و ليس في وسعها و لا في وسع أولادها وراثة والدها أو أخوة والدها، و إلا فقدت عشيرة الوالد حصة من الميراث. و ليس لهذا معنى إلا إذا افتراضنا أن المرأة لا تستطيع أن تتزوج من أي عضو من عشيرتها.
5. ملكية عقارية مشتركة. كانت هذه موجودة على الدوام في الأزمنة البدائية، منذ أن شرعت القبائل تتقاسم الأرض. و بين القبائل اللاتينية، نجد الأرض جزئياً ملك القبيلة، جزئياً ملك العشيرة، و جزئياً ملك الاقتصادات المنزلية التي لم يكن من الممكن أبداً أن تكون آنذاك عائلات منفردة. و ينسب إلى رومولوس أنه قام بأول تقسيم للأرض بين الأفراد، مانحاً كلاً منهم قرابة هكتار (يوغران jugerum). و لكننا نجد فيما بعد أيضاً ملكيات عقارية تخص العشيرة، ناهيك عن أراضي الدولة التي يدور حولها كل تاريخ الجمهورية الداخلي.
6. واجب أعضاء العشيرة أن يساعدوا و يحموا بعضهم بعضاً. إن التاريخ المكتوب لا يبين لنا غير حطام هذه العادة. فإن الدولة الرومانية قد دخلت الحلبة دفعة واحدة بوصفها قوة على درجة من التفوق بحيث أن حق الحماية من المظالم انتقل إليها. فعندما اعتقل إبيوس كلوديوس، ارتدى جميع أعضاء عشيرته ثياب الحداد، بمن فيهم أولئك الين كانوا أعداءه الشخصيين (118). و إبان الحرب البونيكية الثانية (119)، اتحدت العشائر لأجل افتداء أعضائها الأسرى، و لكن "السينات"( مجلس الشيوخ) منعها من ذلك.
7. الحق في اتخاذ اسم العشرة. و قد بقي حتى زمن الإمبراطورية، و قد سمح للمحررين اتخاذ اسم عشيرة أسيادهم السابقين، و لكن دون اكتساب حقوق أعضاء العشيرة.
8. الحق في قبول الغرباء في العشيرة. و كان يطبق بتبني إحدى العائلات (كما عند الهنود الحمر) للغريب المعني، الأمر الذي كان يستتبع قبوله في العشيرة.
9. لم يرد أي ذكر لحق انتخاب و إقالة الرئيس. و لكن بما أن جميع الوظائف، ابتداء من وظيفة الملك، كانت تولّى بالانتخاب أو بالتعيين في المرحلة الأولى من تاريخ روما، و بما أن كهان "الكوريا" أيضاً كانت تنتخبهم "الكوريا" ذاتها، ففي وسعنا أن نفترض الوضع نفسه فيما يتعلق برؤساء (principes) العشائر، حتى و إن كان من الممكن أن يكون انتخابهم من العائلة نفسها في العشيرة قد أصبح قاعدة.
تلك كانت وظائف العشيرة الرومانية. و هي تشبه تماماً حقوق و واجبات العشيرة الإيروكية، باستثناء الانتقال الناجز إلى الحق الأبوي، و هنا أيضاً "يتراءى الإيروكوا بوضوح"(120).
و لن نسوق غير مثال واحد لكي نبين أي تشوش في مسألة النظام العشائري الروماني لا يزال سائداً في الوقت الحاضر حتى بين أشهر مؤرخينا. فقد جاء في مؤلف مومزن بصدد أسماء العلم الرومانية في زمن الجمهورية و في عهد أوغسطوس ("دراسات في تاريخ روما"، برلين، 1864، المجلد الأول (121)) ما يلي:
"فضلاً عن جميع أعضاء العشيرة من الذكور، باستثناء العبيد، بالطبع، و لكن بمن فيهم المقبولون بالتبني في العشيرة و الموالي، كان اسم العشيرة يمنح أيضاً للنساء ... إن القبيلة"(هكذا يترجم مومزن هنا كلمة gens ("جنس")) "إنما هي... جماعة ظهرت على أساس أصل مشترك- فعلي أو محتمل أو حتى ملفق – و توحدها عرى المشاركة في الأعياد و المدافن و الوراثة، جماعة يجب و يمكن أن ينتسب إليها جميع الأفراد الأحرار شخصياً، و بالتالي النساء أيضاً. و لكن ما يصعب الأمر، إنما هو تحديد اسم عشيرة النساء المتزوجات. إن هذه الصعوبة لم تكن قائمة بالطبع طالما لم يكن بمقدور المرأة أن تتزوج إلا من عضو من أعضاء "جنسها"، و خلال زمن طويل، كما يمكن إثبات ذلك، كان من الأصعب على المرأة أن تتزوج خارج عشيرتها مما داخل عشيرتها، لأن حق الزواج خارج العشيرة- gentis enuptio- كان لا يزال يمنح حتى في القرن السادس على سبيل المكافأة بوصفه امتيازاً شخصياً ... و لكن، حيثما كانت تنعقد الزواجات خارج العشيرة، كان ينبغي على المرأة، في الأزمنة الأولى، أن تنتقل إلى قبيلة زوجها. و لا سبيل أبداً إلى الريب في أن المرأة كانت ، بموجب الزواج الديني القديم، تدخل كلياً في جماعة زوجها الشرعية و الدينية و تخرج من جماعتها. و من ذا الذي لا يعرف أن المرأة المتزوجة تفقد، حيال أعضاء عشيرتها، الحق في الحصول على الإرث في توريث أموالها، و أنها تدخل بالمقابل في الرابطة التي تملك حقوقاً مشتركة في الإرث و التي تشمل زوجها و أولادها و أعضاء عشيرتهم على العموم. و إذا كانت كأنما يتبناها زوجها و إذا كانت تدخل في عائلته، فكيف يمكن إذن أن تبقى غريبة عن عشيرته؟"
و عليه يزعم مومزن أن النساء الرومانيات اللواتي ينتسبن إلى عشيرة من العشائر لم يكن بوسعهن الزواج في البدء إلا داخل عشيرتهن، و إن العشيرة الرومانية كانت بالتالي داخلية الزواج لا خارجية الزواج. إن هذه النظرة التي تناقض كل ما نعرفه عن الشعوب الأخرى، ترتكز بصورة رئيسية، إن لم يكن بوجه الحصر، على مقطع واحد وحيد عند تيطس ليفيوس، أثار الكثير من النقاش و الجدال (الكتاب 39، الفصل 19 (122)) و ورد فيه أن مجلس الشيوخ قرر في العام 568 من تأسيس روما، أي في عام 186 قبل الميلاد:
-"لكي يحق لفيتسينيا هيسبالا، أن تتصرف بمالها و تنفق منه، و تتزوج خارج العشيرة و تختار وصياً عليها، كأنما زوجها"(المتوفي)"منحها هذا الحق بالوصية، و لكي يحق لها أن تتزوج من مواطن حر، دون أن يتهم الرجل الذي يتزوج منها بأنه تصرف تصرفاً غبياً أو مخزياً".
فلا ريب إذن أنهم يمنحون هنا فيتسينيا، المعتقة، الحق في الزواج خارج عشيرتها. و من المؤكد كذلك أنه ينجم من هنا أنه كان يحق للزوج أن يمنح زوجته بالوصية الحق في الزواج خارج العشيرة بعد وفاته. و لكن خارج أي عشيرة؟
لئن كان يتعين على المرأة بأن تتزوج داخل عشيرتها كما يعتقد مومزن، لبقيت بعد الزواج أيضاً في هذه العشيرة. و لكن هذا القول بالزواج الداخلي هو الذي ينبغي تقديم البرهان على صحته. هذا أولاً. و ثانياً، لئن كان يتعين على المرأة أن تتزوج داخل عشيرتها، فقد كان ذلك يتعين على الرجل يضأ بالطبع، و إلا لما كان بوسعه أن يجد زوجة له. و هذا يعني أنه كان في مقدور الزوج أن يمنح زوجته بالوصية حقاً كان لا يملكه هو نفسه و كان لا يستطيع الاستفادة منه في مصلحته بالذات. و هذا محال من الناحية القانونية. و هذا ما يشعر به مومزن أيضاً، و لهذا يورد الفرضية التالية:
"لأجل الزواج خارج العشيرة، كان ينبغي قانونياً، أغلب الظن، لا موافقة ذي السلطة و حسب، بل أيضاً موافقة جميع أعضاء العشيرة"
أولاً، هذه فرضية جريئة جداً، و هي، ثانياً تناقض النص الصريح في المقطع المذكور آنفاً، فإن مجلس الشيوخ يمنحها هذا الحق بالنيابة عن الزوج، و هو يمنحها صراحة ما كان بوسع زوجها أن يمنحها إياه، لا أكثر و لا أقل، و لكن ما يمنحها إياه، إنما هو حق مطلق، لا يحده أي شرط أو قيد. و عليه، إذا استخدمت هذه الحق، فإن زوجها الجديد، هو أيضاً، لن يتضرر، بل أن مجلس الشيوخ يكلف القناصل و البريتوريين الحاليين و المقبلين بالحرص على ألا يلحق بها أي إجحاف و ضرر. و هكذا تبدو فرضية مومزن غير مقبولة أبداً.
أو لنفترض أيضاً أن المرأة تزوجت رجلاً من عشيرة أخرى، و لكنها بقيت في عشيرتها الأصلية. ففي هذه الحال، حسبما جاء في النص المذكور آنفاً، كان يحق للزوج أن يسمح للزوجة بالزواج خارج عشيرتها. و هذا يعني أنه كان يحق له التصرف في شؤون عشيرة لا ينتسب إليها إطلاقاً. و هذا هراء لا يجدر أن نضيف بصدده أي كلمة.
فلا يبقى إذاً غير أن نفترض أن المرأة تزوجت للمرة الأولى رجلاً من عشيرة أخرى، و إنها انتقلت على الفور إلى عشيرة زوجها بحكم هذا الزواج، حسبما يقر فعلاً بذلك مومزن أيضاً في مثل هذه الأحوال. آنذاك تتضح دفعة واحدة جميع العلاقات المتبادلة. فإن الزوجة التي انفصلت أثر الزواج عن عشيرتها السابقة و قبلت في عشيرة جديدة هي عشيرة زوجها، تشغل هنا وضعاً خاصاً تماماً. فهي حقاً عضو في العشيرة، و لكنه لا تجمعها بها قرابة الدم، إن طابع قبولها يحررها سلفاً من كل منع عن الزواج داخل العشيرة التي انضمت إليها عن طريق الزواج. و هي، فضلاً عن ذلك، مقبولة في الرابطة العشيرية التي تملك حقوق الوراثة العامة، و لذا ترث أموال زوجها في حال وفاته، أي أنها ترث أموال عضو من العشيرة. أوليس من الطبيعي تماماً أن تقوم قاعدة تلزم الزوجة، رغبة في الحفاظ على الأموال في العشيرة، بالزواج من عضو من عشيرة زوجها الأول لا من رجل من عشيرة أخرى؟ و إذا كان لا بد من إجازة استثناء، فمن ذا الذي يملك ما يكفي من الحقوق و الصلاحيات لمنحها مثل هذا الحق إن لم يكن زوجها الأول الذي أوصى لها بهذه الأموال؟ و عندما يوصي لها بقسم من أمواله و يسمح لها في آن واحد بنقل هذا القسم إلى عشيرة غريبة عن طريق الزواج أو بنتيجة الزواج، فإن هذه الأموال لا تزال تخصه، و بالتالي لا يتصرف حقاً و فعلاً إلا بملكه. أما فيما يتعلق بالزوجة نفسها و بعلاقتها بعشيرة زوجها، فإن الزوج هو الذي أدخلها إلى هذه العشيرة بفعل من أرادته الحرة، بالزواج. و لذا كان من الطبيعي أيضاً أن يكون هو على وجه الضبط الشخص الذي يستطيع أن يمنحها الحق في الخروج من هذه العشيرة بواسطة الزواج الثاني. و بكلمة، تبدو المسألة بسيطة و بديهية ما أن نطرح جانباً الفكرة الغريبة القائلة بالزواج الداخلي في العشيرة الرومانية، و ما أن نقر مع مورغان بأن هذه العشيرة كانت في الأصل خارجية الزواج.
تبقى فرضية أخرى و أخيرة وجدت هي أيضاً أنصاراً لها، و لربما أكبر عدد من الأنصار: إن المقطع المذكور من تيطس ليفيوس يعني فقط:
"إن الخادمات المعتقات (libertae) لا يستطعن، بدون إذن خاص، e gente enbere"، (الزواج خارج العشيرة)"أو القيام بأي عمل آخر من شأنه، لارتباطه مع capitis diminutio minima ***[3] أن يستتبع خروج liberta من الرابطة العشيرية"(لانغه. "الأزمنة القديمة الرومانية"، برلين، 1856، المجلد الأول، ص 195 حيث يستشهد بهوشكه (123) فيما يخص مقطع تيطس ليفيوس الذي أوردناه).
إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فإن المقطع المذكور آنفاً لا يثبت شيئاً على الإطلاق فيما يتعلق بوضع الرومانيات الحرات، و في هذه الحال لا يمكن أبداً أن يدور الكلام حول واجب هؤلاء النساء بالزواج داخل العشيرة.
إن تعبير enuptio gentis لا يرد إلا في هذا المقطع وحده، و لا يظهر بعد ذاك أبداً في الأدب الروماني كله، و كلمة enubere- الزواج خارجاً- لا ترد إلا ثلاث مرات، و عند تيطس ليفيوس أيضاً، ناهيك بأنها لا ترد بصدد العشيرة. إن الفكرة الخيالية الغريبة الزاعمة أنه لم يكون بمستطاع الرومانيات أن يتزوج إلا داخل العشيرة مدينة بظهورها لهذا المقطع وحده. و لكنها لا تصمد إطلاقاً للنقد. و بالفعل، إما أن هذا المقطع يتعلق بقيود خاصة بالنسبة للمعتقات، و هو في هذه الحال لا يثبت شيئاً فيما يتعلق بالحرات ingenuae ، و إما أنه يصح على الحرات أيضاً، و هو في هذه الحال يثبت بالأحرى أن المرأة كانت ، على العموم، تتزوج خارج عشيرتها، و لكنها كانت تنتقل بحكم الزواج إلى عشيرة زوجها، و هو بالتالي برهان ضد مومزن و في صالح مورغان.
بعد تأسيس روما بنحو ثلاثمائة سنة، كانت العرى العشيرية لا تزال قوية إلى حد أن إحدى عشائر الخواص، و هي عشيرة فابيوس، استطاعت بإذن من مجلس الشيوخ، أن تقوم بقواها الخاصة بزحف حربي على مدينة فييه المجاورة. و يقال أن 306 من فابيوس قد اشتركوا في هذا الزحف و أنهم قتلوا جميعهم في كمين نصب لهم، و أن صبياً صغيراً بقي على قي الحياة، فواصل العشيرة.
كانت عشر عشائر، كما قيل أعلاه، تؤلف فراترية، و كانت الفراترية تسمى هنا "كوريا" و كانت لها وظائف عامة أهم من التي كانت للفراترية اليونانية. و كانت لكل كوريا طقوسها الدينية و مقدساتها و كهانها. و كان هؤلاء الكهان يشكلون بمجملهم إحدى الهيئات الكهنوتية الرومانية. و كانت عشر كوريات تشكل قبيلة، و كان للقبيلة في البدء، أغلب الظن، شأنها شأن سائر القبائل اللاتينية، رئيس منتخب هو القائد العسكري و الكاهن الأكبر. و كانت القبائل الثلاث تؤلف بمجملها الشعب الروماني، populus romanus.
فلم يكن من الممكن إذن أن ينتسب إلى الشعب الروماني إلا من كان عضواً في عشيرة، و بواسطتها عضواً في كوريا و قبيلة. و فيما يلي التنظيم الأولي للحكم عند هذا الشعب. في البدء، كان السينات (مجلس الشيوخ) هو الذي يصرف الشؤون العامة، و كان مجلس الشيوخ، كما لاحظ نيبور عن حق و صواب للمرة الأولى، يتألف من شيوخ ثلاثمائة عشيرة (124)، و لهذا بالذات كانوا يسمون، بوصفهم شيوخ العشائر، بالآباء patres، و كان مجموعهم يسمى السينات (مجلس الشيوخ، من كلمة senex أي شيخ). و قد أصبح انتخاب الشيوخ على الدوام من العائلة ذاتها عادة متبعة، الأمر الذي أدى هنا أيضاً على نشوء أول أريستقراطية عشيرية. و كانت هذه العائلات تسمى بالباتريسية (عائلات الخواص) و تدعي بأن لها وحدها دون عيرها الحق في دخول مجلس الشيوخ و شغل جميع الوظائف الأخرى. إن واقع أن شعب خضع مع مرور الزمن لهذا الإدعاءات، فتحولت إلى حق فعلي، قد وجد تعبيراً عنه في الأسطورة القائلة أن رومولوس منح الشيوخ الأوائل و خلفائهم رتبة العائلات الباتريسية و امتيازاتها. و قد كان لمجلس الشيوخ، مثله مثل bulê الأثيني، الحق في اتخاذ القرارات النهائية في كثير من القضايا، و في بحث أهمها مسبقاً، و لا سيما منها القوانين الجديدة. و هذه القوانين كانت تقرها نهائياً الجمعية الشعبية التي كانت تسمى comitia curiata (جمعية الكوريات). فقد كان الشعب يجتمع كوريات كوريات، و في كل كوريا، عشائر أغلب الظن، و عند اتخذا القرار كان لكل من الكوريات الثلاثين صوت واحد. و كانت جمعية الكوريا تقر أو ترفض جميع القوانين، و تنتخب جميع كبار الموظفين بمن فيهم rex ("الركس" أي ما يسمى بالملك)، و تعلن الحرب (و لكن مجلس الشيوخ هو الذي كان يعقد الصلح) و تصدر الأحكام المبرمة، بوصفها الهيئة القضائية العليا، بعد استئناف الأطراف في جميع القضايا التي تتعلق بإصدار حكم بالإعدام على مواطن روماني. و إلى جانب مجلس الشيوخ و الجمعية الشعبية، كان هناك أخيراً rex ("ركس") يطابق تماماً basileus الباسيليوس اليوناني، و لم يكن إطلاقاً، كما يصوره مومزن (125)، ملكاً غير مقيد تقريباً ****[4]. و كان هو أيضاً قائداً حربياً، كاهناً أكبر، و كان يرأس بعض المحاكم. و لم يكن يملك إطلاقاً أي صلاحيات في ميدان الإدارة المدنية، و كذلك أي سلطة على حياة المواطنين و حريتهم و ملكيتهم، اللهم إن لم تكن تنجم عن السلطة الانضباطية التي يملكها القائد الحربي أو عن سلطة رئيس الهيئة القضائية فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام. و لم تكن وظيفة "الركس" وراثية، بل بالعكس. ففي البدء، كان يُنتخب، على الأرجح، بناء على اقتراح سابقه في الوظيفة، من قبل جمعية الكوريات، ثم كان يجري تنصيبه في الوظيفة باحتفال في اجتماع ثان لجمعية الكوريات. و كان من الممكن كذلك إقالته، الأمر الذي يبرهن عليه مصير تركوينوس المتكبر.
كان الرومانيون في عهد من كانوا يسمونهم بـ "الملوك"، يعيشون، شأنهم شأن اليونانيين في العهد البطولي، في ظل ديموقراطية عسكرية منبثقة من العشائر و الفراتريات و القبائل، و مرتكزة عليها. صحيح أن الكوريات و القبائل كانت مؤلفة جزئياً بصورة اصطناعية، و لكنها كانت منظمة حسب نموذج الأشكال المسبقة الحقيقة و الطبيعية لذلك المجتمع الذي انبثقت منه والذي كان لا يزال يحيط بها من جميع الجوانب. و مع أن الأريستقراطية الباتريسية التي تطورت بصورة عفوية كانت قد كسبت آنذاك تربة راسخة تحت قدميها، و مع أن "الركسات" حاولوا أن يوسعوا صلاحياتهم شيئاً فشيئاً، إلا أن كل هذا لا يغير صفة النظام الأساسية الأولية، و الحال، هنا بيت القصيد.
و في هذه الأثناء، كان عدد سكان مدينة روما و المقاطعة الرومانية التي كانت تتسع رقعتها بفضل الفتوحات، ينمو جزئياً بالهجرة إليها و جزئياً فضل سكان المناطق المفتوحة، اللاتينية بأغلبيتها. إن جميع رعايا الدولة الجدد هؤلاء (و نحن هنا لا نتناول مسألة clients الأتباع) كانوا خارج العشائر و الكوريات و القبائل القديمة و لذا لم يكونوا جزءً لا يتجرأ من populus romanus، من الشعب الروماني بالذات. كانوا أناساً أحراراً شخصياً، و كان بوسعهم حيازة الأرض على سبيل الملكية، و كان عليهم أن يدفعوا الضرائب و يؤدوا الخدمة العسكرية. و لكنه لم يكن بمقدورهم أن يشغلوا أي وظيفة من الوظائف، و لم يكن بمقدورهم أن يشتركوا لا في اجتماعات الكوريات و لا في قسمة الأراضي التي استولت عليها الدولة. كانوا يشكلون طبقة plébs (البليبس) أي العوام، المحرومة من جميع الحقوق السياسية. و بفضل عددهم المتنامي باستمرار، و تدريبهم العسكري و أسلحتهم، أصبحوا قوة رهيبة بوجه populus (الشعب) القديم الذي أمسى مغلقاً تماماً دون أي نمو من الخارج. أضف إلى ذلك أن الملكية العقارية كانت، على الأرجح، قد وزعت بالتساوي تقريباً بين plébs و populus، بينا الثروة التجارية و الصناعية، التي لم تكن قد تطورت بعد بقوة، كانت في أيدي plébs (العوام) على الأخص.
و بسبب الظلام الكثيف الذي يلف تاريخ روما الأسطوري البدائي- و هو ظلام شدده كثيراً ما بذله علماء القانون المتأخرون الذين تشكل مؤلفاتهم مصادرنا من محاولات لتفسير التاريخ بطريقة براغماتية عقلانية و ما قدموه من أوصاف و عروض بالطريقة ذاتها – يستحيل قول أي شيء دقيق سواء فيما يتعلق بزمن أو مجرى أو ظروف نشوب تلك الثورة التي وضعت حداً للنظام العشائري القديم. و لكنه يمكن التأكيد فقط أن سببها يكمن في الصراع بين plébs و populus.
و بموجب نظام الإدارة الجديد، المنسوب إلى الركس سرفيوس توليوس، و المستند إلى النماذج اليونانية و لا سيما إلى سولون، أنشأت جمعية شعبية جديدة كان يشترك فيها populus و plébs أو يقصون عنها دون أي تمييز، تبعاً لقيامهم أو عدم قيامهم بواجباتهم العسكرية. و قد جرت قسمة جميع الرجال الملزمين بالخدمة العسكرية إلى ست طبقات حسب ملكيتهم. و كان الحد الأدنى من الملكية في كل من الطبقات الخمس الأولى: 100000 أس للطبقة الأولى، 75000 للثانية، 50000 أس للثالثة، 25000 أس للرابعة، 11000 أس للخامسة، أي ما يوازي على التوالي، كما يقول دورو دي لامال، زهاء 140000 و 10500 و 7000 و 3600 و 1570 ماركاً (126). أما الطبقة السادسة، و هي طبقة البروليتاريا، فكانت تتألف من قليلي الملكية المعفيين من الخدمة العسكرية و الضرائب. و في الجمعية الشعبية الجديدة من السنتوريات Centuties (comitia centuriata)، كان المواطنون يوزعون على النمط العسكري، سرايا سرايا، إذا جاز القول، سنتوريات سنتوريات، كل سنتورية من 100 شخص، مع العلم أنه كان لكل سنتورية صوت واحد. و لكن الطبقة الأولى كانت تقدم 80 سنتورية و الثانية 22 و الثالثة 20 و الرابعة 22 و الخامسة 30 السادسة سنتورية واحدة فقط، إرضاء للمظاهر. و علاوة على ذلك، كان الفرسان، المجندون من بين أغنى المواطنين، يؤلفون 18 سنتورية. فكان هناك بالإجمال 193 سنتورية. و لنيل أغلبية الأصوات، كان يكفي الحصول على 97 صوتاً. و الحال، كان للفرسان و الطبقة الأولى معاً 98 صوتاً، أي الأغلبية. فإذا ما اتفقوا، كان يصرف النظر كلياً عن استشارة لآخرين، و كان القرار النهائي يعتبر مأخوذاً.
و إلى جمعية السنتوريات الجديدة، انتقلت الآن جميع الحقوق السياسية التي كانت تتمتع بها جمعية الكوريات السابقة (باستثناء بعض الحقوق الاسمية)، فانحطت الكوريات و العشائر التي تؤلفها، كما في أثينا، إلى مستوى أخويات خاصة و دينية بسيطة، و ظلت زمناً طويلاً تعيش عيشة حقيرة بهذه الصفة، بينا غابت جمعية الكوريات نهائياً عن المسرح بعد فترة وجيزة. و لأجل إقصاء القبائل العشيرية الثلاث القديمة أيضاً من الدولة، أنشأت أربع قبائل إقليمية، كل منها تسكن حياً خاصاً من المدينة، و خولت جملة من الحقوق السياسية.
و هكذا، في روما أيضاً، جرى قبل إلقاء ما أسمي بالسلطة الملكية، تحطيم النظام الاجتماعي القديم، المرتكز على صلات قربى الدم الشخصية، و أنشئ عوضاً عنه نظام جديد، نظام دولة حقاً و فعلاً، يرتكز على التقسيم الإقليمي و على فوارق الثورة. و هنا انحصرت السلطة العامة في أيدي المواطنين الملزمين بأداء الخدمة العسكرية، و كانت موجهة لا ضد العبيد و حسب، بل أيضاً ضد من كانوا يسمون بالبروليتاريين، المبعدين عن الخدمة العسكرية و المحرومين من السلاح.
و في نطاق هذا النظام الجديد الذي لم يتطور إلا بعد طرد "الركس" الأخير تركوينوس المتكبر، الذي اغتصب سلطة ملكية حقيقية، و بعد الاستعاضة عن "الركس" بقائدين عسكريين (قنصلين) يتمتعان بنفس السلطة( كما عند الإيروكوا)،- في نطاق هذا النظام، سار تاريخ الجمهورية الرومانية كله: الصراعات بين الخواص و العوام من أجل شغل الوظائف العامة و من أجل استغلال أراضي الدولة، انحلال الأريستقراطية الباتريسية نهائياً في الطبقة الجديدة من كبار ملاكي الأراضي و النقود الذين ابتلعوا تدريجياً كل الملكي العقارية للفلاحين ممن حل بهم الخراب بسبب الخدمة العسكرية، و الذين كانوا يحرثون بواسطة العبيد العقارات الشاسعة المتكونة على هذا النحو، و أخلوا إيطاليا من السكان، و بذلك مهدوا الطريق، لا أمام الإمبراطور و حسب، بل أيضاً أمام الذين خلفوها، البرابرة الجرمان.
كذلك لا يمكن أن يحدث انقسام القبيلة أو العشيرة إلى طبقات مختلفة. و هذا ما يسوقنا إلى بحث الأساس الاقتصادي لهذا النظام.
السكان قليلون للغاية، و نسبتهم أكثف في مكان إقامة القبيلة فقط. و حول هذا المكان، يمتد حزام عريض من الأراضي لأجل الصيد أولاً، ثم حزام حيادي واق من العابات يفصل القبيلة عن القبائل الأخرى. و تقسم العمل عفوي صرف. و هو لا يقوم إلا بين الذكور و الإناث. الرجال يحاربون و يمضون إلى الصيد البري و إلى صيد السمك، و يستحصلون على المادة الأولية لأجل الطعام و يصنعون لهذا الغرض الأدوات الضرورية. و المرأة تشتغل في البيت و تهيئ الطعام و الألبسة، إنها تطبخ و تحيك و تخيط. و كل من الرجل و المرأة سيد في ميدانه، الرجل في الغاب و المرأة في البيت. و كل منهما مالك للأدوات التي يصنعها و يستعملها: الرجل مالك للأسلحة و لوازم الصيد البري و صيد السمك، و المرأة مالكة للأدوات البيتية. و الاقتصاد البيتي تديره على أسس شيوعية بضع عائلات و أحياناً كثيرة عدد كبير من العائلات*[1]. و ما يجري إعداده و استعماله بصورة مشتركة هو ملكية عامة، مشتركة: البيت، البستان، الزورق. فهنا إذن، و هنا فقط، توجد بالفعل "الملكية، ثمرة العمل الشخصي" التي اختلقها الحقوقيون و الاقتصاديون في المجتمع المتحضر، و التي هي آخر مبرر حقوقي باطل لا تزال ترتكز عليه الملكية الرأسمالية المعاصرة.
و لكن الناس لم يتوقفوا في كل مكان عند هذه الدرجة. ففي آسيا وجدوا حيوانات يمكن تدجينها و من ثم تربيتها بعد تدجينها. كان ينبغي اصطياد أنثى الجاموس البري، أما المدجنة، فقد كانت تلد كل سنة عجلاً ناهيك بأنها كانت تدر حليباً. إن بعضاً من أكثر القبائل تقدماً،-الآريين و الساميين، و لربما أيضاً الطورانيين- قد جعلوا من تدجين المواشي أولاً، و من تربيتها و رعايتها فيما بعد، الفرع الرئيسي من نشاطهم. و انفصلت قبائل الرعاة عن بقية البرابرة. و كان ذلك أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل. كانت قبائل الرعاة لا تنتج أكثر من سائر البرابرة و حسب، بل كانت وسائل العيش التي تنتجها مختلفة أيضاً. فلم يكن يتوفر لها الحليب و الألبان و اللحوم بكميات أكبر بكثير و حسب، بل كانت تتوفر لها أيضاً الجلود و الصوف و شعر الماعز، و كذلك الخيوط و الأقمشة التي كان إنتاجها يزداد مع تزايد المواد الأولية. و على هذا النحو أصبح التبادل المنتظم ممكناً للمرة الأولى. أما في الأطوار السابقة من التطور، فلم يكن من الممكن أن يحدث التبادل إلا من قبيل الصدفة. إن المهارة الخاصة في صنع الأسلحة و الأدوات قد تؤول إلى تقسيم العمل لفترة من الوقت. فقد وجدت، مثلاً، في كثير من الأنحاء، بقايا ثابتة أكيدة لمشاغل كانت تصنع الأدوات الحجرية في العصر الحجري المتأخر. و كان الحرفيون الذين يرقون مهارتهم فيها يشتغلون، أغلب الظن، على حساب و في صالح الجماعة كلها، كما لا يزال يفعل ذلك الآن الحرفيون الدائمون في المشاعات العشيرية في الهند. في هذه المرحلة من التطور، لم يكن من الممكن أن يقوم التبادل إلا في قلب القبيلة، ناهيك بأنه بقي هنا أيضاً ظاهرة استثنائية. أما الآن، بعد انفصال قبائل الرعاة و تميزها، فإننا نجد، على العكس، جميع الشروط و الظروف جاهزة لأجل اللتبادل بين أعضاء مختلف القبائل، لأجل تطوره و توطده بوصفه مؤسسة دائمة. في البدء كان التبادل يجري بين قبيلة و قبيلة بوساطة شيوخ العشائر في كل قبيلة. أما عندما أخذت القطعان تصبح ملكية شخصية، فقد أخذ التبادل بين الأفراد يهيمن أكثر فأكثر، إلى أن صار أخيراً الشكل الوحيد للتبادل. و لكن الماشية كانت السلعة الرئيسية التي تتبادلها قبائل الرعاة مع جيرانها. و قد غدت الماشية بضاعة تُقَّدر بها جميع البضائع الأخرى و تُقْبَل في كل مكان بطيبة خاطر مقابل البضائع الأخرى، و بكلمة، اكتسبت الماشية وظيفة النقد و قامت بدور النقد في هذا الطور. ذلك أن الحاجة إلى بضاعة خاصة هي النقد كانت ماسة و ملحة للغاية منذ بداية تبادل البضائع بالذات.
أغلب الظن أن سكان آسيا لم يعرفوا البستنة في الطور الأدنى من البربرية، و لكنها ظهرت عندهم في الطور الأوسط، لا بعده، كسابقة للزراعة. فإن المناخ في السهول الطورانية لا يسمح بالحياة الراعية بدون احتياطيات من العلف للشتاء الطويل و القاسي، و لذا كانت العناية بالمروج و زراعة الحبوب أمراً ضرورياً لا غنى عنه هنا. و الشيء نفسه يجب قوله بصدد السهوب الواقعة شمالي البحر الأسود. و لكن ما أن بدأ إنتاج الحبوب لأجل المواشي حتى أصبحت بعد فترة وجيزة طعاماً للإنسان أيضاً. و بقيت الأراضي المحروثة ملكاً للقبيلة، و كان يعهد باستغلالها إلى العشيرة في البدء، و فيما بعد، من قبل العشيرة ذاتها إلى المشاعات البيتية، و أخيراً، إلى الأفراد. و لربما كان للأفراد بعض حقوق وضع اليد عليها، و لكن لا أكثر.
بين منجزات هذا الطور في حقل النشاط الصناعي، تتسم اثنتان بأهمية كبيرة جداً هي، أولاً، أداة الحياكة و ثانياً، صب الفلزات المعدنية و معالجة المعادن. و كان النحاس و القصدير، و كذلك البرونز المصبوب منهما أهم المعادن، فالبرونز أعطى أدوات نافعة و أسلحة فعالة، و لكنه لم يكن بوسعه أن يحل محل الأدوات الحجرية، فلم يكن من الممكن أن يقوم بهذه المهمة غير الحديد، و الحال، كانوا لا يعرفون بعد كيف يستخرجونه. و قد شرعوا يستعملون الذهب و الفضة لأجل الزين و الحلى، لأنهما كانا، على ما يبدو، قد كسبا قيمة أكبر من قيمة النحاس و البرونز.
إن نمو الإنتاج في جميع الفروع-تربية الماواشي، الزراعة، الحرف المنزلية- قد منح قوة عمل الإنسان القدرة على إنتاج كمية من المنتوجات تزيد عما يحتاج إليه للعيش و البقاء. و زاد في الوقت نفسه كمية العمل الذي يترتب على كل من أعضاء العشيرة أو المشاعة البيتية أو العائلة المنفردة أن يبذله يومياً. و ظهرت الحاجة إلى استعمال قوة عمل جديدة. فقدمت الحرب هذه القوة: فقد طفقوا يحولون أسى الحرب إلى عبيد. و بإنماء إنتاجية العمل و بالتالي الثرو، و بتوسيع ميدان النشاط الإنتاجي، أدى أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل، في مجمل الظروف التاريخية المعنية، إلى نشوء العبودية بصورة محتمة. و من أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل نجم أول انقسام كبير للمجتمع إلى طبقتين، الأسياد و العبيد، المستثمِرين و المستثمَرين.
كيف و متى انتقلت القطعان من ملكية القبيلة أو العشيرة إلى ملكية رؤساء العائلات؟ نحن لا نعرف حتى الآن أي شيء عن هذا. و لكنه لا بدّ أن هذا الانتقال قد وقع أساساً في هذا الطور. و مع اقتناء القطعان و غير ذلك من الثروات الجديدة، حدثت ثورة في العائلة. إن تحصيل أسباب المعيشة كان دائماً من شؤون الرجل، و كان هو الذي يصنع الوسائل اللازمة لهذا الغرض و كان هو مالكها. و كانت القطعان وسائل جديدة لتحصيل أسباب المعيشة. و كان من شأن الرجل تدجينها أولاً ثم حراستها و رعايتها ثانياً. و لهذا كانت الماشية تخصه، و كانت تخصه أيضاً البضائع و العبيد التي يحصل عليها مقابل رؤوس الماشية. و أخذت الفوائض التي توفرها الآن تربية الماشية تعود إلى الرجل. كانت المرأة تشارك في استهلاك هذه الفوائض، و لكن لم تكن لها حصة في ملكيتها. لقد كان "المتوحش"، المحارب و الصياد، يكتفي في البيت بالمرتبة الثانية بعد المرأة، أما الراعي "الوديع" فقد أحتل المرتبة الأولى متبجحاً بثورته، و أزاح المرأة إلى المرتبة الثانية. و لم يكن بوسعها أن تتذمر و تتشكى. فإن تقسيم العمل في العائلة كان قد حدد و اشترط تقسيم الملكية بين الرجل و المرأة. و قد بقي تقسيم العمل كما كان عليه، و لكنه قلب الآن كلياً العلاقات البيتية السابقة، و ذلك لسبب واحد هو أن تقسيم العمل خارج العائلة قد تغير. إن السبب نفسه الذي كان ضمن من قبل للمرأة السيادة في البيت،-أي قيامها بالأعمال المنزلية فقط-إن هذا السبب نفسه قد ضمن الآن للرجل بصورة محتمة السيادة في البيت. لقد فقد الآن عمل المرأة البيتي أهميته بالقياس إلى عمل الرجل المنتج، إن عمله كان كل شيء، بينما عملها مجرد ملحق تافه. و هنا أخذ يتبين أن تحرر المرأة، مساواتها في الحقوق مع الرجل، أمر غير ممكن، لا الآن و لا في المستقبل، ما دامت المرأة مقصية عن العمل المنتج الاجتماعي و مضطرة إلى الاكتفاء بالعمل البيتي الخاص. و لن يصبح تحرر المرأة أمراً ممكناً إلا متى استطاعت أن تشارك، على نطاق اجتماعي كبير، في الإنتاج و متى أصبح العمل البيتي لا يأخذ من وقتها إلا قدراً ضئيلاً. و هذا ما لم يصبح ممكناً إلا بفضل الصناعة الكبيرة العصرية التي لا تتيح عمل النساء على نطاق كبير و حسب، بل تتطلبه صراحة و تحاول أكثر فأكثر أن تجعل من العمل البيتي الخاص جزءً لا يتجزأ من الإنتاج الاجتماعي.
و مع توطد سيادة الرجل الفعلية في البيت، سقطت آخر الحواجز أمام سلطته المطلقة. و هذه السلطة المطلقة وطدها و خلدها سقوط الحق الأمي، و تطبيق الحق الأبي، و الانتقال التدريجي من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج. و لكن هذا أحدث في الوقت نفسه ثغرة في النظام العشائري القديم: فقد غدت العائلة الفردية قوة انتصبت في وجه العشيرة مهددة.
إن الخطوة التالية تقودنا إلى الطور الأعلى من البربرية، إلى مرحلة تعيش فيها جميع الشعوب المتمدنة عصرها البطولي، عصر السيف الحديدي، و كذلك عصر المحراث الحديدي و الفأس الحديدية. فقد شرع الحديد يخدم الإنسان، و هو آخر و أهم جميع أصناف المواد الأولية التي اضطلعت بدور ثوري في التاريخ و الصنف الأخير-حتى ظهور البطاطا. و قد أتاح الحديد حراثة الحقول على مساحات أكبر و استئصال رقع شاسعة من الغابات لأجل حراثة تربتها، و أعطى الحرفي أدوات تتميز بصلابة وحدة ما كان من الممكن أن يقاومهما أي حجر أو أي من المعادن المعروفة آنذاك. كل هذا لم يحدث دفعة واحدة. فأحياناً كثيرة، كان الحديد الأول لا يزال أقل صلابة من البرونز. و لهذا لم ينقرض السلاح الحجري إلا ببطء، و ليس في "نشيد هيلديبراند" و حسب، بل أيضاً في معركة هاستينغس، عام 1066، استخدمت الفؤوس الحجرية أثناء القتال (159). و لكن التقدم استمر الآن بلا مردّ، بمزيد من السرعة، و أقل من الانقطاعات. و إذا المدينة التي تضم بين أسوارها و أبراجها و شرفاتها المسننة الحجرية بيوتاً من الحجر أو الآجر، تغدو مركز القبيلة أو اتحاد القبائل، و كان ذلك تقدما هائلاً في فن البناء و لكنه كان أيضاً دليل خطر متفاقم و حاجة متعاظمة إلى الحماية. و تنامت الثروة بسرعة، و لكن بوصفها ثروة أفراد. و أخذت الحياكة و معالجة المعادن و الحرف الأخرى تنفصل و تنعزل أكثر فأكثر بعضها عن بعض، و أخذ الإنتاج يزداد تنوعاً و إتقاناً أكثر فأكثر. و علاوة على الحبوب و البقول و الفواكه، بدأت الزراعة تعطي الآن الزيت النباتي و الخمور بعد أن تعلم الناس صنعها. و هذا النشاط المتنوع الوجوه لم يبق من الممكن أن يمارسه شخص واحد بمفرده، فحدث التقسيم الكبير الثاني للعمل: فقد انفصلت الحرفة عن الزراعة. إن نمو الإنتاج و معه إنتاجية العمل بلا انقطاع قد رفع قيمة قوة عمل الإنسان، و إذا العبودية التي كانت في الطور السابق قد ظهرت للتو و حسب و كانت تتسم بطابع عرضي، تصبح الآن جزءاً مكوناً جوهرياً من النظام الاجتماعي. و لم يبق العبيد مجرد معاونين، بل شرعوا يسوقونهم بالعشرات إلى العمل في الحقول و في المشاغل. و مع انقسام الإنتاج إلى فرعين رئيسيين كبيرين، هما الزراعة و الحرفة، يظهر الإنتاج من أجل التبادل مباشرة، أي الإنتاج البضاعي، و معه تظهر التجارة، لا داخل القبيلة و على حدودها و حسب، بل أيضاً مع البلدان الواقعة ما وراء البحار، و لكن كل هذا بشكل لا يزل بعد بدائياً. و أخذت المعادن الثمينة تصبح البضاعة المهيمنة و الشاملة أي النقود، و لكنهم لم يشرعوا بعد بسك هذه النقود، بل كانوا يكتفون بتبادلها حسب وزنها.
و إلى جانب الفرق بين الأحرار و العبيد، يظهر الفرق بين الأغنياء و الفقراء، فالتقسيم الجديد للعمل يرافقه انقسام جديد للمجتمع إلى طبقات. و فوارق الملكية بين مختلف رؤساء العائلات تفجر المشاعة البيتية الشيوعية القديمة حيثما ظلت قائمة، و مع هذه المشاعة تزول حراثة الأرض بصورة مشتركة بوسائلها. و توضع الأراضي الصالحة للزراعة تحت تصرف العائلات الفردية لكي تستغلها، أولا لفترة من الوقت، و فيما بعد إلى الأبد. إن انتقال هذه الأراضي إلى الملكية الخاصة الكاملة يتحقق تدريجياً و في آن واحد مع الانتقال من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج. و تصبح العائلة الفردية الوحدة الاقتصادية في المجتمع.
إن تزايد كثافة السكان يجبر على المزيد من التلاحم سواء في الداخل أو في وجه العالم الخارجي. و في كل مكان، يغدو اتحاد القبائل التي تجمع بينها رابطة القربى أمراً ضرورياً لا غنى عنه، و سرعان ما يغدو من الضروري أيضاً اندماجها فيما بينها و بالتالي دمج مختلف أراضيها القبلية في أرض واحدة مشتركة للشعب بأسره. و يغدو زعيم الشعب العسكري-rex,basileus,thiudans (الركس، الباسيليوس، الثيودانس) موظفاً ضرورياً، دائماً. و تظهر الجمعية الشعبية حيث لم يكن لها وجود بعد. القائد العسكري، المجلس، الجمعية الشعبية،-تلك هي هيئات المجتمع العشائري الذي تطور و صار ديموقرايطة عسكرية. عسكرية لأن الحرب و التنظيم لأجل الحرب أصبحا الآن وظيفتين دائمتين منتظمتين في حياة الشعب. و ثروات الجيران تثير الجشع و الطمع عند الشعوب التي يبدو أن الحصول على الثروات غدا واحداً من أهم أهدافها في الحياة. إنها بربرية: فالنهب يبدو لها أسهل و حتى أشرف من العمل البنّاء. و الحرب التي كانوا لا يخوضون غمارها من قبل إلا لأجل الثار من الاعتداءات، أو لأجل توسيع رقعة الأراضي التي لم تعد تكفي، إنما يخوضون غمارها الآن مع أجل النهب و حسب، و تصبح حرفة دائمة. و ليس عبثاً ترتفع الأسوار الرهيبة حول المدن المحصنة الجديدة، ففي خنادقها يفتح مدفن النظام العشائري شدقيه، و أبراجها تتطاول نحو الحضارة. و الأمر نفسه يحدث في داخل المجتمع. فإن حروب النهب تعزز سلطة القائد العسكري الأعلى و كذلك سلطة القادة العسكريين الخاضعين له. و انتخاب أسلافهم بحكم العادة من العائلات ذاتها يغدو شيئاً فشيئاً، و لا سيما منذ توطد الحق الأبوي، سلطة وراثية و توضع أسس السلطة الملكية الوراثية و أسس الأريستقراطية الوراثية. و هكذا تنفصل هيئات النظام العشائري تدريجياً عن جذورها في الشعب، في العشيرة، في الفراترية، في القبيلة، و يتحول النظام العشاري كله إلى نقيضه: فمن تنظيم للقبائل لأجل تصريف شؤونها بحرية يتحول إلى تنظيم لأجل نهب الجيران و اضطهادهم، و تبعاً لذلك تتحول هيئاته من أدوات لإدارة الشعب إلى هيئات مستقلة للسيطرة و الاستبداد موجهة ضد شعبها بالذات. و لكنه لم يكن من الممكن أن يحدث هذا يوماً لو لم يفرق الطمع الشديد بالثروة أعضاء العشيرة إلى أغنياء و فقراء، لو "لم تحول فوارق الملكية داخل العشيرة الواحدة وحدة المصالح إلى تناحر بين أعضاء العشيرة"(ماركس)(160)، و لو لم يكن قد بدأ انتشار العبودية يحمل على اعتبار تحصيل أسباب العيش بالعمل الشخصي أمراً جديراً بالعبد و حسب، و أشد خزياً من النهب.
***
وصلنا الآن إلى عتبة الحضارة. و هي تنفتح بخطوة جديدة إلى الأمام في تقسيم العمل. ففي الطور الأدنى، كان الناس لا ينتجون إلا من أجل تلبية حاجاتهم الشخصية مباشرة. و كانت عمليات التبادل نادرة جداً، و لم تكن تشمل غير الفوائض المتبقية صدفة. و في الطور الأوسط من البربرية، نجد أن الماشية صارت، عند شعوب الرعاة، ملكية تعطي بانتظام فائضاً على الحاجات الشخصية إذا ما كبر القطيع نوعاً، و في الوقت نفسه نجد كذلك تقسيم العمل بين شعوب الرعاة و القبائل المتخلفة التي لا تملك قطيعاً، و نجد بالتالي طورين مختلفين من الإنتاج جنباً إلى جنب، و هذا يعني توفر الظروف و الشروط لأجل التبادل المنتظم. و في الطور الأعلى من البربرية، يجري تقسيم جديد للعمل بين الزراعة و الحرفة، و يجري بالتالي إنتاج قسم متزايد أبداً من منتوجات العمل لأجل التبادل مباشرة، و يحدث بالتالي أيضاً تحويل التبادل بين مختلف المنتجين إلى ضرورة حيوية بالنسبة للمجتمع. و توطد الحضارة و تعزز جميع أشكال تقسيم العمل هذه التي نشأت قبلها، و لا سيما بتشديد حدة التضاد بين المدينة و القرية (مع العلم أن من الممكن أن تسود المدينة اقتصادياً على القرية، كما كان الحال في الأزمنة القديمة، أو أن تسود القرية على المدنية، كما كان الحال في القرون الوسطى)، و تضيف عليها تقسيماً ثالثاً للعمل تختص به وحدها و يتسم بأهمية حاسمة: فهي تخلق طبقة لا تتعاطى الإنتاج، بل مبادلة البضائع فقط، هي طبقة التجار. حتى ذاك، كانت أسباب نشوء الطبقات ترتبط بوجه الحصر بالإنتاج، و قد أدت إلى تقسيم الناس المشتركين في الإنتاج إلى قادة و منفذين، أو أيضاً إلى منتجين على نطاق كبير و صغير. و هنا تبرز للمرة الأولى طبقة لا تشترك بأي قسط في الإنتاج و لكنها تأخذ في يدها كلياً أمر قيادته و تخضع لنفسها اقتصادياً المنتجين، و تصبح وسيطاً لا غنى عنه بين كل اثنين من المنتجين و تستثمر الاثنين معاً. و بذريعة تجنيب المنتجين ما يلازم التبادل من جهد و مجازفة، و بذريعة توسيع تصريف منتوجاتهم في أبعد الأسواق، و إنشاء طبقة بالتالي يزعم أنها أنفع طبقات السكان، تتكون طبقة من الطفيليين، طبقة من الكسالى الاجتماعيين الحقيقيين تأخذ القشطة من الإنتاج الوطني و الأجنبي على السواء، مكافأة على خدماتها التافهة جداً في الواقع، و تجني بسرعة الثروات الطائلة و ما يرافقها من نفوذ في المجتمع، و لهذا على وجه الضبط تحتل في عصر الحضارة مركزاً مشرفاً يتعاظم شأنه باستمرار و تخضع لنفسها أكثر فأكثر الإنتاج، إلى أن تصنع بنفسها في آخر المطاف منتوجاً خاصاً بها، و نعني به الأزمات التجارية الدورية.
صحيح أن طبقة التجار الناشئة في درجة التطور التي نتناولها بالبحث لا تخطر في بالها بعد أي فكرة عن القضايا الكبيرة التي ستقوم بها. و لكنها تتكون و تغدو ضرورية، و هذا يكفي. و معها تظهر النقود المعدنية، النقود المسكوكة، و مع النقود المعدنية وسيلة جديدة لسيطرة غير المنتجين على المنتجين و إنتاجهم. لقد اكتشفت بضاعة البائع، البضاعة التي تنطوي سراً و خفية على جميع البضائع الأخرى، الطلسم الذي يستطيع حسب الطلب أن يتحول إلى أي شيء كان، مرغوب بيه و تمكن الرغبة فيه. و من يملكه، ساد على عالم الإنتاج. و من ذا الذي كان يملكه أكثر من أي آخر؟ التاجر. و في يده، كانت عبادة النقود في حرز حريز. و قد أخذ على عاتقه أن يبين أمام الملأ أنه ينبغي على جميع البضائع و كذلك على جميع منتجيها أن تخر ساجدة في التراب أمام النقود. و قدم البرهان في الواقع على أن جميع الأشكال الأخرى للثروة ليست غير ظلال تجاه هذا التجسيد للثروة بوصفها ثروة. إن سلطان النقود لم يتجل يوماً فيما بعد بمثل هذا الشكل البدائي من الخشونة و الفظاظة و القساوة الذي تجلى به في عهد شبابها. و بعد شراء البضائع مقابل النقود، ظهر قرض النقود و ظهرت معه الفائدة المئوية و الربا. و ما من تشريع من العهود اللاحقة قذف بالمدين أمام أقدام الدائن المرابي بمثل القساوة و الفظاعة اللتين نص عليهما التشريع في أثينا القديمة و روما القديمة، و الحال، نشأ هذا التشريع في أثينا و في روما بصورة عفوية، من باب العرف و العادة، و بحكم الضرورة الاقتصادية بوجه الحصر.
و إلى جانب الثروة من البضائع و العبيد، و إلى جانب الثروة النقدية، ظهرت كذلك الثروة العقارية. فإن حق الأفراد في امتلاك قطع الأرض التي وضعتها العشيرة أو القبيلة في البدء تحت تصرفهم قد ترسخ الآن إلى حد أن هذه القطع أخذت تخصهم كملك وراثي. ذلك أنهم في الآونة الأخيرة بذلوا قصارى جهدهم لأجل تحرير قطع الأرض من الحقوق التي كانت للمشاعة العشيرية عليها و التي أمست عوائق بالنسبة لهم. و قد تحرروا من هذه العوائق و لكنهم سرعان ما تحرروا أيضاً من ملكيتهم العقارية الجديدة. فإن الملكية الكاملة و الحرة للأرض لا تعني إمكانية امتلاكها بلا عائق و بلا قيد و حسب، بل تعني أيضاً إمكانية التنازل عنها. و عندما كانت الأرض ملك العشيرة، فإن هذه الإمكانية لم تكن متوفرة. و لكن عندما خلع مالك الأرض الجديد نهائياً عوائق الملكية العليا للعشيرة و القبيلة، فإنه فصم أيضاً العرى التي كانت تربطه بالأرض ربطاً محكماً. أما ما كان يعنيه ذلك، فقد أوضحته له النقود التي تم اختراعها في آن واحد مع الملكية الخاصة للأرض. فمن الآن و صاعداً، صار من الممكن أن تغدو الأرض بضاعة تباع و ترهن. و ما كادت تقوم ملكية الأرض حتى تم اختراع الرهن العقاري أيضاً (انظروا إلى أثينا). و كما أن الهيتيرية و البغاء يقتفيان أثر أحادية الزواج، كذلك يقتفي الرهن العقاري من الآن و صاعداً أثر الملكية العقارية بدأب و مثابرة. لقد أردتم ملكية الأرض حرة كاملة، يمكن التنازل عنها، فخذوها إذن، إنها أمامكم و لكم: tu l`as voulu, George Dandin!*[2].
و هكذا إذن، مع توسع التجارة، و مع النقود و الربا، و مع الملكية العقارية و الرهن العقاري، حدث بسرعة انحصار و تمركز الثروات في أيدي طبقة فليلة العدد، كما اشتد في الوقت نفسه إملاق الجماهير و تزايد عدد الفقراء. و لقد أزاحت الأريستقراطية الجديدة، أريستقراطية الثروة، إلى المؤخرة نهائاً الأريستقراطية العشيرية القديمة (في أثينا، و في روما، و عند الجرمان)، هذا إذا كان لم توافقها منذ البدء. و إلى جانب تقسيم الأحرار هذا إلى طبقات وفقاً للثروة، ازداد عدد العبيد زيادة هائلة*[3]، و لا سيما في اليونان، إذ كان عملهم القسري يشكل الأساس الذي انتصب عليه البناء الفوقي للمجتمع بأسره.
لنر الآن ما حدث للنظام العشائري في سياق هذا الانقلاب الاجتماعي. فقد كان عاجزاً تجاه العناصر الجديدة التي نشأت و تطورت بدون مشاركته. فقد كان الشرط الأولي لوجوده، أن يعيش أعضاء عشيرة واحدة أو حتى قبيلة واحدة معاً في ارض واحدة، أن يسكنوها وحدهم بوجه الحصر. و قد زال هذا الوضع من زمان بعيد. ففي كل مكان تخالطت العشائر و القبائل، و في كل مكان كان العبيد و الموالي و الأجانب يعيشون بين الأحرار. إن ثبات الإقامة الذي لم يتحقق إلا في أواخر الطور الأوسط من البربرية، كانت تنتهكه أحياناً كثيرة التغيرات التي تطرأ في تركيب السكان و في محلات السكن بسبب النشاط التجاري، و تغيير وجوه العمل، و التنازل عن ملكية الأرض. و لم يعد بمقدور أعضاء العشيرة أن يجتمعوا لبحث شؤونهم المشتركة بالذات، إلا بعض الشؤون التافهة، مثل الطقوس الدينية، ظلت تُدبَّر بصورة مشتركة، كيفما اتفق. و إلى جانب الحاجات و المصالح التي كانت الوحدات العشيرية مدعوة إلى تأمينها و مكيفة لهذا الغرض، أدى الانقلاب في شروط الإنتاج و التغييرات التي استتبعها في التركيب الاجتماعي إلى نشوء حاجات و مصالح جديدة ليست غريبة عن النظام العشائري القديم و حسب، بل أيضاً مضادة له ف٪-;- جميع الميادين. إن مصالح الجماعات الحرفية التي نشأت بفضل تقسيم العمل، و الحاجات الخاصة بالمدينة على نقيض القرية، كانت تقتضي هيئات جديدة، و لكن كلاً من هذه الجماعات كانت تتألف من أعضاء من مختلف العشائر و الفراتريات و القبائل، بل أنها كانت تضم أجانب أيضاً. و لهذا كان لا بدّ لهذه الهيئات أن تنبثق خارج النظام العشائري، إلى جانبه، و كذلك ضده.- وفي كل وحدة عشيرية، كان هذا الاصطدام بين المصالح يبرز بدوره، و قد بلغ ذروة حدته حيث كان ينبغي أن يكون الأغنياء و الفقراء، الدائنون و المدينون متحدين في العشيرة نفسها و في القبيلة نفسها.-أضف إلى ذلك جمهرة السكان الجدد، الغرباء عن الوحدات العشيرية، و قد كان بوسع هذه الجمهرة أن تصبح قوة في البلد كما كان الحل في روما، ناهيك بأنها كانت كثيرة العدد بحيث أنه لم يكن بمقدورها أن تندمج شيئاً فشيئاً في العشائر و القبائل القائمة على أساس قرابة الدم. و تجاه هذه الجمهرة، انتصبت الوحدات العشيرية كهيئات مغلقة ذات امتيازات. فإن الديموقراطية البدائية و العفوية كانت قد تحولت إلى أريستقراطية مكروهة.- و أخيراً كان النظام العشائري قد انبثق من مجتمع لا يعرف أي متضادات داخلية، و كان مكيفاً، لهذا المجتمع وحده. و لم يكن لديه أي وسيلة للقسر غير الرأي العام. أما هنا، فقد انبثق مجتمع كان لا بدّ له ، بحكم جميع ظروف حياته الاقتصادية، أن ينقسم إلى أحرار و عبيد، إلى مستثمِرين أغنياء و مستثمَرين فقراء،-مجتمع لم يكن بوسعه أن يوفق من جديد بين هذه المتضادات، و ليس هذا و حسب، بل كان لا بدّ له أيضاً أن يؤزمها أكثر فأكثر. و هذا المجتمع لم يكن من الممكن أن يعيش إلا في غمرة صراع سافر لا انقطاع فيه بين هذه الطبقات، أو تحت سيطرة قوة ثالثة تقف في الظاهر فوق الطبقات المتصارعة و تقمع اصطداماتها السافرة و تجيز الصراع الطبقي، إذا جازته في الميدان الاقتصادي وحده، و بصورة يقال بأنها شرعية. لقد عاش النظام العشيري دهره. فقد حطمه تقسيم العمل و نتيجته، انقسام المجتمع إلى طبقات. و محله حلت الدولة.
***
لقد درسنا أعلاه بالتفصيل الأشكال الرئيسية الثلاثة التي تنتصب بها الدولة على أنقاض النظام العشيري. إن أثينا هي الشكل الأنقى، الكلاسيكي الصرف: فالدولة هنا تنبثق مباشرة و على الأغلب من المتضادات الطبقية المتطورة داخل المجتمع العشيري نفسه. و في روما يتحول المجتمع العشيري إلى أريستقراطية مغلقة تحيط بها طبقة plébs العوام الكثيرة العدد، القائمة خارج هذا المجتمع، المحرومة من الحقوق، و لكن المحمَّلة بالواجبات، و انتصار طبقة العوام يقوض النظام العشيري القديم، و على أنقاضه يشيد الدولة التي سرعان ما تذوب فيها تماماً الأريستقراطية العشيرية و طبقة العوام على السواء. و أخيراً تنبثق الدولة عند الجرمان الذين انتصروا على الإمبراطورية الرومانية، كنتيجة مباشرة لفتح مناطق شاسعة من أراضي الغير، لا يوفر النظام العشيري أي وسيلة للسيطرة عليها. و لكن بما أن هذا الفتح لا يرتبط بأي نضال جدي ضد السكان السابقين و لا بتقسيم للعمل أكثر رقياً، و بما أن مستوى التطور الاقتصادي واحداً تقريباً عند الشعوب المغلوبة و الغالبة، و بما أن الأساس الاقتصادي للمجتمع يبقى بالتالي هو هو، فإن النظام العشيري السابق يستطيع أن يبقى و يستمر خلال قرون بكاملها، بشكل معدل، إقليمي، في نظام العشائر النبيلة و العائلات الباتريسية (الأريستقراطية) اللاحقة، و حتى في العشائر الفلاحية، كما كان الحال مثلاً في ديتمارشن*[4].
و هكذا، ليست الدولة بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. و الدولة ليست كذلك "واقع الفكرة الأخلاقية"، "صورة و واقع العقل"، كما يدعي هيغل (162). الدولة هي نتاج المجمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. و لكي لا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً و المجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام و تبقيه ضمن حدود "النظام". إن هذه القوة المنبثقة من المجتمع و التي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه و تنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة.
و بالمقارنة مع التنظيم العشائري القديم، تتميز الدولة أولاً بتقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي. فإن الوحدات العشائرية القديمة، التي انبثقت و استمرت بفضل روابط الدم، لم تعد تكفي، كما سبق و رأينا، و ذلك بدرجة كبيرة لأن شرط وجودها، و هو ارتباط أعضاء العشيرة برقعة معينة من الأرض، قد زال من زمان بعيد. لقد بقيت رقعة الأرض، و لكن الناس صاروا يتنقلون. و لهذا اتخذ تقسيم الأراضي أي التقسيم الإقليمي، نقطة انطلاق، و أتيح المجال أمام المواطنين لممارسة حقوقهم و واجباتهم العامة حيث يقيمون بصرف النظر عن العشيرة و القبيلة. إن تنظيم المواطنين هذا حسب مكان الإقامة معمول به في جميع الدول. و لهذا يبدو لنا طبيعياً. و لكننا رأينا أي نضال عنيد و مديد تطلب قبل أن يتمكن من الحلول في أثينا و روما محل التنظيم القديم حسب العشائر.
و السمة المميزة الثانية هي تأسيس السلطة العامة التي لم تعد تنسجم مباشرة مع السكان المنظمين أنفسهم بأنفسم في قوة مسلحة. و هذه السلطة العامة المميزة ضرورية لأن منظمة السكان المسلحة العاملة من نفسها قد غدت أمراً مستحيلاً منذ انقسام المجتمع إلى طبقات. إن العبيد يشكلون هم أيضاً جزءً من السكان. و تجاه 365000 عبد، لا يؤلف مواطنوا أثينا الـ 90000 غير طبقة ذات امتيازات. و الجيش الشعبي في الديموقراطية الأثينية كان سلطة عامة أريستقراطية موجهة ضد العبيد، و كان يعمل على ضمان طاعتهم و خضوعهم. و لكنه تبين، كما سبق و قلنا أعلاه، أنه لا بدّ من درك لأجل ضمان طاعة و خضوع المواطنين أيضاً. و توجد هذه السلطة العامة في كل دولة. و هي لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون و مختلف مؤسسات القسر التي كانت مجهولة في المجتمع المنظم على أساس العشائر. و قد تكون هذه السلطة العامة تافهة جداً، و غير ملحوظة تقريباً في المجتمعات التي لم تتطور فيها بعد المتضادات الطبقية و في المناطق النائية، كما يلاحظ ذلك أحياناً هنا و هناك في الولايات المتحدة الأميركية. و تتقوى السلطة العامة بمقدار ما تتفاقم التناقضات الطبقية في داخل الدولة و بمقدار ما تزداد الدول المتلاصقة مساحةً و سكاناً. انظروا على الأقل إلى أوروبا الراهنة حيث رفع النضال الطبقي و التنافس على الفتوحات السلطة العامة إلى مستوى غدت معه تهدد بابتلاع المجتمع برمته بما فيه الدولة نفسها.
و لأجل تمويل هذه السلطة العامة، لا بد من مساهمة المواطنين، أي لا بدّ من الضرائب. لقد كان المجتمع العشائري يجهل كلياً الضرائب. و لكننا نعرفها الآن جيداً جداً. بل أنها لم تعد تكفي، نظراً لتطور الحضارة. فإن الدولة تصدر السندات على المستقبل، و تعقد القروض، أي ديون الدولة. و في هذا المجال، تعرف أوروبا العجوز الكثير.
إن الموظفين، إذ يتمتعون بالسلطة العامة و بحق جباية الضرائب باعتبارهم هيئات المجتمع، يصبحون فوق المجتمع. فالاحترام الطوعي الاختياري الذي كان يمحض لهيئات مجتمع العشائر لم يعد يكفيهم حتى فيما لو كان باستطاعتهم اكتسابه. فهم إذ يملكون سلطة تغدو غريبة عن المجتمع، إنما يتعين عليهم أن يسعوا إلى نيل الاحترام لأنفسهم بقوانين استثنائية يتمتعون بفضلها بقداسة خاصة و حصانة خاصة. فلأحقر شرطي في الدولة المتمدنة "سلطان" يفوق سلطان جميع هيئات المجمع العشائري معاً، و لكن بوسع أقوى ملك و أكبر رجل دولة أو قائد عسكري من عصر الحضارة أن يغبطوا أبسط شيخ عشيرة على ما يلقاه من احترام أكيد لم يفرض بالعصا. فإن شيخ العشيرة هو في قلب المجتمع بينا الأولون مضطرون إلى بذل الجهود لكي يمثلوا شيئاً خارجه و فوقه.
و بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات، و بما أنها قد نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات يبن هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصادياً و التي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسياً أيضاً و تكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة و استثمارها. فإن الدولة القديمة كانت، قبل كل شيء، دولة مالكي العبيد لقمع العبيد، الدولة الإقطاعية هيئة النبلاء لقمع الفلاحين التابعين و الأقنان، كذلك الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. و مع ذلك فثمة، كحالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات المتناضلة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعاً من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما. هكذا كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع و الثامن عشر، إذ كان يحافظ على التوازن بين النبلاء و البرجوازية في النضال القائم بينهما، و هكذا كانت البونابرتية في الإمبراطورية الأولى و لا سيما في الإمبراطورية الثانية في فرنسا، إذ كانت تحرض البروليتاري على البرجوازية و البرجوازية على البروليتاريا. و احدث إنجاز في هذا المضمار يبدو معه الحاكمون و المحكومون بشكل مضحك بالقدر نفسه، إنما هو الإمبراطورية الألمانية الجديدة ذات الأمة البسماركية: فهنا يحافظ على التوازن بين الرأسماليين و العمال، المتضادين فيا بينهم، و جميعهم يتعرضون بالقدر نفسه للغش و الخداع لما فيه مصلحة اليونكر (الإقطاعيين) البروسيين النائين المفتقرين.
و علاوة على ذلك، تقاس الحقوق الممنوحة للمواطنين في أغلبية الدول المعروفة في التاريخ بما يملكونه، و هذا ما يبين صراحة أن الدولة إنما هي منظمة الطبقة المالكة لأجل حمايتها من الطبقة غير المالكة. هكذا كان الحال في أثينا و روما حيث كان السكان مقسمين فئات فئات تبعاً لما يملكونه. و هكذا كان الحال في الدولة الإقطاعية في القرون الوسطى حيث كانت درجة النفوذ السياسي تقاس بمقاييس ملكية الأرض. و هذا ما يجد كذلك تعبيراً عنه في النصاب الانتخابي في الدول التمثيلية الحديثة. و لكن هذا الاعتراف السياسي بفوارق الملكية ليس جوهرياً على الإطلاق. بل بالعكس. فهو يميز الدرجة الدنيا من تطور الدولة. إن الشكل الأعلى للدولة، الجمهورية الديمقراطية، التي تصبح في ظروفنا الاجتماعية الراهنة ضرورة محتمة أكثر فأكثر و التي تمثل شكلاً للدولة لا يمكن إلا في ظله السير بالنضال الحاسم الأخير بين البروليتاريا و البورجوازية إلى النهاية،-إن هذه الجمهورية الديموقراطية لا تعرف رسمياً أي شيء عن الفوارق من حيث الثروة. ففيها تمارس الثروة سلطتها بصورة غير مباشرة و لكن بالشكل الأضمن: من جهة، عن طريق الرشوه المباشرة للموظفين، (و أميركا مثال كلاسيكي في هذا المجال)، و من جهة أخرى عن طريق التآلف بين الحكومة و البورصة الذي يتحقق بسهولة تزداد بقدر ما تتعاظم ديون الدولة و بقدر ما تركز الشركات المساهمة في أيديها، لا النقليات و حسب، بل أيضاً الإنتاج نفسه، و تجعل من البورصة ذاتها مركزاً لها. و عدا أميركا، تقدم الجمهورية الفرنسية الجديدة مثالاً ساطعاً على ذلك، بل أن سويسرا المتأدبة أسهمت بقسطها في هذا المجال. أما أن الجمهورية الديموقراطية ليست ضرورية أبداً لمثل هذا الاتحاد الأخوي بين الحكومة و البورصة، فهذا ما تثبته، فضلاً عن إنجلترا، الإمبراطورية الألمانية الجديدة حيث لا يمكن القول أياً من بيسمارك و بليخرودر رفعه حق الانتخاب العام أعلى من الآخر. و أخيراً، تسيطر الطبقة المالكة مباشرة بواسطة حق الانتخاب العام. و ما دامت الطبقة المظلومة،- و هي هنا بالتالي البروليتاريا،- لم تنضج لأجل تحرير نفسها بنفسها، فإنها ستعترف بأغلبيتها بالنظام الاجتماعي القائم، النظام الممكن الوحيد و تسير سياسياً في ذيل طبقة الرأسماليين و تشكل جناحها اليساري المتطرف. و لكنها بقدر ما تنضج لأجل تحرير نفسها بنفسها، تنتظم في حزب خاص بها و تنتخب ممثلين عنها بالذات، لا ممثلي الرأسماليين. إن حق الانتخاب العام هو دليل نضج الطبقة العاملة. و لا يمكنه قط أن يكون و لن يكون أكثر من ذلك في الدولة الراهنة. و لكن هذا يكفي. و يوم يشير ميزان حرارة حق الانتخاب العام إلى درجة الغليان عند العمال، فإنهم، مثلهم مثل الرأسماليين، سيعرفون ما يفعلونه.
و هكذا فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة و لم يكن لديها أية فكرة عن الدولة و سلطة الدولة. و عندما بلغ التطور الاقتصادي درجة معينة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمراً ضرورياً. و نحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الإنتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة و حسب، بل و يصبح عائقاً مباشراً للإنتاج. و ستزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة. و مع زوال الطبقات ستزول الدولة بالضرورة: و المجتمع الذي ينظم الإنتاج تنظيماً جديداً على أساس اتحاد المنتجين بحرية و على قدم المساواة، سيرسل آلة الدولة بأكملها حيث ينبغي أن تكون حينذاك: إلى متحف العاديات بجانب المغزل البدائي و الفأس البرونزية.
***
إن الحضارة، حسبما عرضناه آنفاً، هي إذن تلك الدرجة من تطور المجتمع التي يبلغ فيها تقسيم العمل، و التبادل الناجم عنه بين الأفراد، و الإنتاج البضاعي الذي يجمع هاتين الظاهرتين، الازدهار التام، و تؤدي فيها هذه العوامل الثلاثة إلى انقلاب في عموم المجتمع السابق.
في جميع درجات تطور المجتمع السابقة، كان الإنتاج، من حيث الجوهر، جماعياً، كما أن الاستهلاك كان يقتصر على توزيع المنتجات مباشرة داخل الجماعات الشيوعية، المتفاوتة الحجم. و كانت جماعية الإنتاج هذه تقوم ضمن أضيق الإطارات، و لكنها استتبعت سيادة المنتجين على عملية الإنتاج و على حاصل الإنتاج. و هم يعرفون ما يحدث للمنتوج: إنهم يستهلكونه، و هو لا يخرج من أيديهم، و ما دام الإنتاج يجري على هذا الأساس، فلا يسعه أن يتخطى رقابة المنتجين، لا يسعه أن يولِّد قوى سرية، غريبة عنهم، كما هو الحال دائماً و بلا مرد في عصر الحضارة.
و لكن تقسيم العمل يتغلغل ببطء في عملية الإنتاج هذه، و ينسف جماعية الإنتاج و الامتلاك، و يجعل من امتلاك الأفراد قاعدة مهيمنة، و يولّد بالتالي التبادل بين الأفراد،-و لقد درسنا أعلاه كيف يحدث هذا. إن الإنتاج البضاعي يغدو تدريجياً الشكل السائد.
و في ظل الإنتاج البضاعي، أي الإنتاج من أجل التبادل لا من أجل الاستهلاك الشخصي كما من قبل، تنتقل المنتوجات بالضرورة من يد إلى يد. و عند التبادل، يتنازل المنتج عن منتوجه. و هو لا يعرف ماذا سيحل بمنتوجه. و ما أن تظهر النقود و تقوم بدور الوسيط بين المنتجين، و ما أن يظهر الأجر مع ظهور النقود، حتى تغدو عملية التبادل أكثر تشوشاً، و يمسي مصير المنتوجات النهائي أشد غموضاً. فالتجار كثيرون، و ما من أحد منهم يعرف ما يفعله الآخرون. و من الآن و صاعداً تنتقل البضائع، لا من يد إلى يد و حسب، بل أيضاً من سوق إلى سوق. لقد فقد المنتجون سلطانهم على كل إنتاج ظروف حياتهم بالذات، و لكن هذا السلطان لم ينتقل إلى التجار. إن المنتوجات و الإنتاج تخضع لسلطان الصدفة.
و لكن الصدفة ليست غير أحد قطبي كل واحد يسمى قطبه الثاني يسمي قطبه الثاني الضرورة. و في الطبيعة حث يبدو أيضاً كأن الصدفة هي السائدة، أثبتنا من زمان بعيد، في كل ميدان بمفرده، وجود ضرورة داخلية و قانون ملازم يشقان لنفسيهما طريقاً في إطار هذه الصدفة. و لكن ما يسري مفعوله بالنسبة للطبيعة، يسري كذلك مفعوله بالنسبة للمجتمع. و بقدر ما يفلت نشاط اجتماعي ما، عدد كامل من الوقائع الاجتماعية من مراقبة الناس الواعية و يخرج من تحت سلطانهم، و بقدر ما يبدو هذا النشاط متروكاً للصدفة الصرف، بقدر ما تشق القوانين الداخلية الملازمة له لنفسها طريقاً في إطار هذه الصدفة بحكم الضرورة الطبيعية. و أمثال هذه القوانين تسيطر أيضاً على المصادفات في إنتاج البضائع و تبادل البضائع: فهي تنتصب في وجه المنتج الفرد و المشترك الفرد في التبادل أشبه بقوى غريبة غير مفهومة في البدء، و لا يزال ينبغي تمحيص و معرفة طبيعتها. إن قوانين الإنتاج البضاعي الاقتصادية هذه تتغير في مختلف درجات تطور هذا الشكل من أشكال الإنتاج، و لكن مرحلة الحضارة تجري كلها بالإجمال تحت سيطرتها. و في أيامنا أيضاً، يسيطر المنتوج على المنتج، و في أيامنا أيضاً، يضبط الإنتاج الاجتماعي كله، لا حسب خطة موضوعة بصورة مشتركة، بل بفعل قوانين عمياء تفرض نفسها كقوة عفوية، في آخر المطاف، و ذلك في عواصف الأزمات التجارية الدورية.
لقد رأينا أن قوة عمل الإنسان في درجة باكرة نسبياً من تطور الإنتاج تغدو قادرة على إعطاء كمية من المنتوجات تزيد بصورة ملحوظة عما هو ضروري لعيش المنتج، و إن هذه الدرجة من التطور إنما هي أساساً نفس الدرجة التي يظهر فيها تقسيم العمل و التبادل بين الأفراد. و قد تطلب الأمر الآن القليل من الوقت لاكتشاف هذه "الحقيقة" الكبرى القائلة إن الإنسان أيضاً يمكن أن يكون بضاعة، و أنه يمكن مبادلة و استهلاك قوة الإنسان، إذا تم تحويل الإنسان إلى عبد. و ما كاد الناس يشرعون في ممارسة التبادل حتى غدوا هم بالذات سلعة للتبادل. لقد تحول المعلوم إلى مجهول، سواء شاء الناس أم أبوا.
و مع ظهور العبودية التي بلغت في عصر الحضارة أعلى درجات تطورها، حدث أول انقسام كبير في المجتمع إلى طبقة مستثمِرة و طبقة مستثمَرة. و قد دام هذا الانقسام خلال كل مرحلة الحضارة. إن العبودية هي الشكل الأول للاستثمار، الشكل الملازم للعالم القديم، و أثرها جاءت: القنانة في القرون الوسطى، و العمل المأجور في الأزمنة الحديثة. هذه هي أشكال الاستعباد الكبرى الثلاثة التي تتميز بها عهود الحضارة الكبرى الثلاثة، إن العبودية السافرة في البدء، و المموهة منذ أمد قصير، ترافق دائماً الحضارة.
إن درجة الإنتاج البضاعي التي تبدأ منها الحضارة تتصف اقتصادياً بظهور:
1. النقود المعدنية، و معها الرأسمال النقدي و الفائدة المئوية و الربا.
2. التجار كطبقة وسيطة بين المنتجين.
3. الملكية الخاصة للأرض والرهن العقاري.
4. عمل العبيد بوصفه الشكل السائد بين أشكال الإنتاج.
إن شكل العائلة الجديد الذي يناسب الحضارة و الذي يؤكد سيادته معها نهائياً هو الزواج الأحادي، سيادة الرجل على المرأة، و العائلة الفردية بوصفها وحدة اقتصادية في المجتمع. إن قوة الوصل في المجتمع المتحضر إنما هي الدولة التي هي في جميع المراحل النموذجية دولة الطبقة السائدة وحدها دون غيرها، و التي تبقى في جميع الأحوال، من حيث جوهر الأمر، آلة لقمع الطبقة المستثمَرة، المظلومة. كذلك تتميز الحضارة بما يلي: من جهة، توطيد التضاد بين المدينة و القرية، بوصفه أساس كل التقسيم الاجتماعي للعمل، و من جهة أخرى، إدخال الوصية التي يستطيع بها المالك أن يتصرف بملكيته حتى بعد موته. إن هذه المؤسسة التي تناقض النظام العشائري القديم كانت مجهولة في أثينا قبل سولون. أما في روما، فقد أصبحت سارية المفعول في طور أبكر، و لكننا لا نعرف بالضبط متى*[5]. و عند الجرمان، طبقها الكهنة لكي يستطيع الألماني الصالح أن يوصي بلا عائق بتركته للكنيسة.
إن الحضارة القائمة على هذه الدعائم قد حققت أموراً كان المجتمع العشيري القديم عاجزاً كلياً عن القيام بها. و لكنها حققتها بتحريك أحط غرائز الناس و شهواتهم، و إنمائها بما فيه ضر مؤهلاتهم الأخرى. فإن الجشع السافل كان القوة المحركة للحضارة منذ أول يوما حتى الآن، الثروة، و الثروة أيضاً، و الثروة دائماً، و لكن لا ثروة المجتمع، بل ثروة هذا الفرد الحقير المنفرد، و هدفه الوحيد، الحاسم. و إذا كان العلم قد تطور أكثر فأكثر في أحشاء هذا المجتمع و تكررت المراحل التي بلغ فيها الفن ذروة الازدهار، فذلك لسبب واحد فقط، هو أنه لولاهما لاستحالت جميع منجزات زمننا في ميدان تراكم الثروة.
و بما أن استثمار طبقة لطبقة أخرى هو أساس الحضارة، فإن كل تطورها يجري في غمار تناقض دائم. فإن كل خطوة إلى الأمام في مضمار الإنتاج تعني في الوقت نفسه خطوة إلى الوراء فيما يتعلق بأوضاع الطبقة المظلومة، أي الأغلبية الهائلة. و كل خير لبعضهم هو بالضرورة شر لبعضهم الآخر، و كل تحرر جديد لطبقة يعني اضطهاداً جديداً لطبقة أخرى. و أسطع مثال على هذا إنما هو استعمال الآلات الذي يعرف الجميع الآن عواقبه. و لئن كان من المتعذر أو يكاد عند البرابرة التمييز بين الحقوق و الواجبات، كما سبق و رأينا، فإن الحضارة تبين بوضوح، حتى للغبي المطلق، الفرق و التضاد بين الحقوق و الواجبات و ذلك بمنحها طبقة جميع الحقوق تقريباً و بإلقائها جميع الواجبات تقريباً على الطبقة الأخرى.
و لكنه لا ينبغي أن يكون ذلك. فما هو صالح للطبقة السائدة، إنما ينبغي أن يكون صالحاً أيضاً للمجتمع كله الذي تعتبر الطبقة السائدة أنه صورتها و مثالها. و لهذا، بقدر ما تسير الحضارة إلى أمام، بقدر ما تضطر إلى أن تغطي بأردية الحب الظاهرات السلبية التي تولدها بصورة محتمة لا مناص منها، و أن تطليها بالمساحيق أو أن تنكرها بصفاقة،- و بكلمة، أن تضع موضع التطبيق نفاقاً عاماً لم تعرفه لا أشكال المجتمع السابقة، و لا حتى الطوران الأولان من الحضارة، نفاقاً يبلغ في آخر المطاف ذروته في الزعم القائل أن الطبقة المستثمِرة لا تستثمر الطبقة المظلومة إلا في مصلحة الطبقة المستثمَرة وحدها، و إذا كانت هذه الأخيرة لا تفهم ذلك، و إذا ذهبت إلى حد التمرد، فإن سلوكها هذا أسوأ من جزاء سِنِّمار تجاه المحسنين إليها أي تجاه مستثمِريها*[6].
و ختاماً، إليكم رأي مورغان في الحضارة:
"منذ ظهور الحضارة، غدا نمو الثروة على درجة من الضخامة، و أشكالها على درجة من التنوع، و استعمالها على درجة من الاتساع، و إدارتها في مصلحة المالكين على درجة من المهارة، بحث أن هذه الثروة أصبحت قوة لا تقهر، تجاه الشعب. إن العقل البشري يقف حائراً قلقاً أمام صنيعته بالذات. و لكنه سيأتي مع ذلك زمن يبلغ فيه العقل البشري من القوة و القدرة ما يمكنه من السيطرة على الثروة، و يقرر فيه على السواء موقف الدولة من الملكية التي تحميها الدولة، و حدود حقوق المالكين. لا ريب أن مصالح المجتمع تعلو على مصالح الأفراد، و ينبغي إقامة علاقات عادلة و متناسقة بين هذه و تلك. إن مجرد السعي وراء الثروة ليس هدف البشرية النهائي إذا ظل التقدم قانون المستقبل كما كان قانون الماضي. إن الزمن الذي تصرم منذ فجر الحضارة إنما هو جزء تافه من الزمن الذي عاشته البشرية، جزء تافه من الزمن الذي ستعيشه. إن هلاك المجتمع ينتصب إمامنا مهدداً بوصفه خاتمة مرحلة تاريخية تشكل الثروة هدفها النهائي الوحيد، لأنه هذه المرحلة تنطوي على عناصر دمارها بالذات. إن الديموقراطية في الإدارة، و الإخاء في المجتمع، و المساواة في الحقوق، و التعليم العام، كل هذا سيقدس المرحلة التالية العليا من المجتمع التي يسعى إليها الاختبار و العقل و العلم على الدوام. و ستكون بمثابة انبعاث- و لكن بشكل أرقى- للحرية و المساواة و الإخاء في العشائر القديمة"(مورغان "المجتمع القديم")(164).
كتب بين أواخر آذار (مارس) و 26 أيار (مايو) عام 1884.
صدر في كتاب على حدة في زوريخ، عام 1884.
يصدر حسب نص الطبعة الألمانية الرابعة لعام 1891.
التوقيع: فريدريك إنجلس
الهوامش:
(159) "نشيد هيلديبراند". راجعوا الملاحظة رقم 139. في عام 1066 درات في هاستينغس رحى معركة بين قوات غليوم دوق نورمنديا التي اقتحمت انجلترا، و بين الأنجلو – ساكسونيين. كانت القوات الأنجلو-ساكسونية لا تزال تحتفظ في تنظيمها العسكري برواسب النظام المشاعي و كانت أسلحتها بدائية، فمنيت بالهزيمة، و قتل ملكها هارولد في المعركة. و أصبح غليوم ملك إنجلترا باسم غليوم الأول الفاتح.
(160) كارل ماركس. "ملخص كتاب لويس هـ. مورغان "المجتمع القديم"".
(161) ديتمارشن، مقاطعة في القسم الجنوبي الغربي من شليسفيغ – غولشتين الحالية. فيما مضى، سكنها الساكسون، في القرن الثامن استولى عليها شارلمان الكبير، فيما بعد، صارت في ملكية مختلف الإقطاعيين الدينيين و الدنيويين. منذ أواسط القرن الثاني عشر، أخذ سكان ديتمارشن الذين كانت الهيمنة بينهم للفلاحين الأحرار، ينالون الاستقلال تدريجياً، ثم تمتعوا عملياً بالاستقلال منذ مستهل القرن الثالث عشر حتى أواسط القرن السادس عشر صادين بنجاح المحاولات التي قام بها ملوك الدانمارك و دوقات غولشتين غير مرة لإخضاح هذه المنطقة. و سار التطور الاجتماعي في ديتمارشن بنحو أصيل جداً: فإن طبقة النبلاء المحلية القديمة قد زالت عملياً نحو القرن الثالث عشر، و في مرحلة الاستقلال، كانت ديتمارشن عبارة عن مجموع من المشاعات الفلاحية ذات الحكم الذاتي أساسها في كثير من الحالات العشائر الفلاحية القديمة. حتى القرن الرابع عشر، كانت السلطة العليا في ديتمارشن تعود إلى جمعية جميع ملاكي الأراضي الأحرار ، ثم انتقلت إلى ثلاث هيئات منتخبة. في عام 1559، حطمت قوات الملك الدانماركي فردريك الثاني و الدوقين الغولشتنيين يوهان و أدولف مقامة سكان ديتمارشن، و تقاسم المنتصرون المقاطعة. و لكن نظام المشاعات و الحكم الذاتي الجزئي ظلا قائمين في ديتمارشن حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
(162) G.W.F. Hegel. " Grundlinien der Philosophie des Rechts" (هيغل "أسس فلسفة الحق" ). صدرت الطبعة الأولى من هذا المؤلف في برلين عام 1821.
(163) F. Lassalle. "Das System der erworbenen Rechte" Th II. "Das Wesen des Rö-;-mischen und Germanischen Erbrechts in historisch-philosophischer Entwickelung" (فردينان لاسال. "نظام الحقوق المكتسبة" القسم الثاني. "كنه الحق الوراثي الروماني و الجرماني في التطور الفلسفي التاريخي")، صدرت الطبعة الأولى من هذا المؤلف في ليبزيغ عام 1861.
(164) المقطع المذكور يورده ماركس جزئياً في مؤلفه "ملخص كتاب لويس هـ. مورغان "المجتمع القديم"".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] و لا سيما على الساحل الشمالي الغربي من أميركا (راجع بانكروفت). و عند قبيلة الهايدا في جزر الملكة شارلوت، توجد اقتصادات بيتية تضم تحت سقف واحد حتى 700 شخص. و عند النوتكا، كانت قبائل بكاملها تعيش تحت سقف واحد.
[2] أنت أردت هذا، يا جورج داندن!(موليير."جورج داندن"، الفصل الأول، المشهد التاسع). الناشر.
[3] عدد العبيد في أثينا راجع أعلاه. و قد بلغ عدد العبيد في مدينة كورنثية، في زمن ازدهارها، نحو 460000، و في مدينة إيجين نحو 470000، و في كلا الحالين كان يوازي عشرة أمثال عدد الموطنين الأحرار.
[4] كان نيبور أول مؤرخ كانت عنده فكرة، و إن تقريبية، عن جوهر العشيرة. و هو مدين بذلك لمعرفته عشائر ديتمارشن (161) كما هو مدين لها بأخطائه المأخوذة مباشرة منها.
[5] "نظام الحقوق المكتسبة" الذي وضعه لاسال (163) يدور في قسمه الثاني بصورة رئيسية حول الموضوعة القائلة إن الوصية الرومانية قديمة بقدم روما نفسها و أنه لا يوجد أبداً في تاريخ روما "زمن بلا وصية" و أن الوصية ظهرت من عبادة الموتى، حتى قبل ظهور روما. إن لاسال بوصفه هيغيلياً قديما قويماً، لا يستخلص الأحكام القانونية الرومانية من علاقات الرومانيين الاجتماعية، بل من "مفهوم تأملي" عن الإدارة، و هذا ما يؤدي به إلى الزعم المذكور أعلاه الذي يناقض التاريخ كلياً. و لا غرابة أن نجد هذا في كتاب يخلص مؤلفه، استناداً إلى المفهوم التأملي ذاته، إلى استنتاج مفاده أن نقل الاموال في حال الوراثة كان عند الرومانيين أمراً ثانوياً تماماً. إن لاسال لا يصدق أوهام الحقوقيين الرومان و حسب، و لا سيما منهم من جاؤوا في المراحل الأولى من روما، بل يبالغ أيضاً في هذه الأوهام.
[6] كنت أنوي في البدء أن أورد نقد الحضارة الباهر الذي عرضه شارل فوريه بصورة متفرقة في مؤلفاته إلى جانب نقد مورغان و نقدي أنا. و لكن، مع الأسف، لا وقت عندي لذلك. إنما أكتفي بالإشارة إلى أن أحادية الزواج و ملكية الأرض هما، بنظر فوريه، علامتا الحضارة المميزتان، و أن فوريه ينعت الحضارة بحرب الأغنياء ضد الفقراء. كذلك نجد عنده فهماً عميقاً لكون العائلات الفردية les familles incohérentes (العائلات غير المترابطة) هي الوحدات الاقتصادية في جميع المجتمعات العائبة التي تمزقها التناقضات.
دليل الأسماء
إبيوس كلوديوس (توفي والي 448 ق.م) – رجل دولة روماني، قنصل (عام 471، عام 451) أحد أعضاء لجنة القضاء العشر (451-450) التي أصدرت قوانين الألواح الإثني عشر، سعى وراء السلطة الديكتاتورية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire