الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
الفصل الاول
الاحتكارات وتمركز الإنتاج
أثناء السنوات الخمس عشر أو العشرين الأخيرة، ولاسيما بعد الحرب الاسبانية-الأمريكية 1898 والحرب الانجليزية-البويرية (1899-1902) أخذ الآداب الاقتصادية وكذلك السياسية في العالمين القديم والجديد يتطرق أكثر فأكثر إلى مفهوم «الإمبريالية» لوصف العصر الذي نجتازه. ففي سنة 1902 صدر في لندن ونيويورك مؤلف اقتصادي إنجليزي هوبسون عنوانه: «الإمبريالية». والمؤلف، المتمسك بوجهة نظر النزعة البرجوازية للاشتراكية الإصلاحية والمسالمة، وهي وجهة نظر لا تختلف، في الجوهر، عن الموقف الذي يقفه حاليا الماركسي السابق كاوتسكي، قد أعطى وصفا ممتازا مفصلا لخواص الإمبريالية الاقتصادية والسياسية الأساسية. وفي سنة 1910 صدر في فيينا مؤلف الماركسي النمساوي رودولف هيلفردينغ عنوانه: «الرأسمال المالي» (الترجمة الروسية: موسكو، سنة 1912). إن هذا الكتاب، رغم غلطة المؤلف في مسألة نظرية النقود وميله بعض الشيء إلى التوفيق بين الماركسية والانتهازية، عبارة عن تحليل نظري قيم للغاية «لأحدث المراحل في تطور الرأسمالية» كما ينص العنوان الثانوي لمؤلف هيلفردينغ. إن ما قيل في السنوات الأخيرة عن الامبريالية، ولاسيما في العدد الكبير من مقالات المجلات والجرائد في هذا الموضوع وكذلك في القرارات، مثلا، مؤتمري خيمنيتز وبال المعقودين في خريف سنة 1912، لم يتعد، في الجوهر، دائرة الأفكار التي عرضها أو، بالأصح، التي لخصها المؤلفان المذكوران…
وسنسعى فيما يأتي لنعرض، بإيجاز وبأبسط شكل ممكن، صلة وتفاعل خواص الإمبريالية الأساسية. ولن نتطرق إلى الناحية غير الاقتصادية في المسألة مهما كانت جديرة بذلك. أمّا أسماء الكتب التي استشهدنا بها والملاحظات الأخرى التي قد لا تهم جميع القراء فنحيلها إلى آخر الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
إن نمو الصناعة الهائل والسرعة الكبرى في سير تمركز الإنتاج في مشاريع تتضخم باستمرار هما خاصة من أخص خصائص الرأسمالية. وتعطي الإحصاءات الصناعية الحديثة عن هذا السير أكمل المعلومات وأضبطها.
ففي ألمانيا، مثلا، كان يوجد بين كل ألف مشروع صناعي في سنة 1882 - 3 وفي سنة 1895 - 6 وفي سنة 1907 - 9 من المشاريع الكبرى، أي التي يعمل فيها أكثر من 50 من العمال الأجراء. وكانت حصتها في كل مئة عامل 22 ، 30 و37. ولكن تمركز الإنتاج أقوى جدا من تمركز العمال، لأن العمل في المشاريع الكبرى ذو إنتاجية أكبر جدا. وهذا ما تبنته الأرقام الخاصة بالماكينات البخارية والمحركات الكهربائية. فإذا أخذنا ما يسمى في ألمانيا الصناعة بمعنى الكلمة الواسع أي بما في ذلك التجارة وطرق المواصلات الخ.، حصلنا على الصورة التالية: المشاريع الكبرى 30588 من 3265623، أي 0.9% فقط. ولديها من العمال.5 ملايين و 700 ألف من 14 مليونا و400ألف أي 39.4%؛ ولديها 6ملايين و 600ألف حصان بخاري من 8 ملايين و 800ألف ، أي 75.3%؛ و1.2 مليون كيلواط من الطاقة الكهربائية من 1.5 مليون أي 77.2%.
في حوزة أقل من 1% من المشاريع أكثر من 75% من مجموع كمية الطاقة البخارية والكهربائية! وثمة 297 ألف من المشاريع الصناعية الصغيرة (حتى 5 من العمال الأجراء) تؤلف 91% من مجموع المشاريع لا تزيد حصتها عن 7% من مجموع الطاقة البخارية والكهربائية! عشرات الألوف من المشاريع الكبرى – كل شيء؛ والملايين من المشاريع الصغرى – لاشيء.
في سنة 1907 كان في ألمانيا 576 من المشاريع يشتغل في كل منها ألف عامل وما فوق. وكان لديها نحو عُشر مجموع عدد العمال (1370000) ونحو ثلث (32%) من مجموع الطاقة البخارية والكهربائية(1). وسنرى أن الرأسمال النقدي والبنوك تجعل تفوق هذه الحفنة من المشاريع الكبرى ساحقا لدرجة أكبر، ساحقا بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أن الملايين من «أصحاب الأعمال» الصغار والمتوسطين وحتى قسما من الكبار يجدون أنفسهم في الواقع مستعبدين بصورة تامة لبضع مئات من الماليين أصحاب الملايين.
ونمو تمركز الإنتاج أشد في بلد متقدم آخر من بلدان الرأسمالية الحديثة، في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية. في هذه البلاد تتعمد الإحصاءات إبراز الصناعة بمعنى الكلمة الضيق وتصنيف المشاريع حسب مقادير قيمة الإنتاج السنوي. ففي سنة 1904 وجد من المشاريع الضخمة التي يبلغ إنتاج كل منها مليون دولار وما فوق 1900 (من 216180، أي 0.9%) لدينا 1.4 مليون من العمال (من 5.5 مليون، أي 25.6%) وقيمة إنتاجها 5.6 مليارات (من 14.8 مليار، أي 38%). وبعد مضي خمس سنوات، في سنة 1909، كانت الأرقام على النحو التالي: 3060 مشروعا (من 278491، أي 1.1%) لديها من العمال مليونان (من 6.6 مليون، أي 30.5%) وقيمة إنتاجها 9 مليارات (من 20.7 مليار، أي 43.8%)(2).
إن نحو نصف مجموع ما تنتجه جميع المشاريع في البلاد في أيدي جزء من مئة جزء من مجموع عدد المشاريع! وهذه المشاريع العملاقة الثلاثة آلاف تشمل 258 من فروع الصناعة. ويتضح من ذلك أن التمركز، عند درجة معينة من تطوره، يوصل بحد ذاته إلى الاحتكار، ويمكن القول، إلى الاحتكار عن كثب. لأن من السهل على بضع عشرات من المشاريع العملاقة أن تتفق فيما بينها: ومن الجهة الأخرى، أن إعاقة المزاحمة والميل إلى الاحتكار ينشآن بالضبط عن ضخامة حجم المشاريع. وصيرورة المزاحمة والميل إلى الاحتكار هي ظاهرة من أهم الظواهر – إن لم تكن الأهم – في اقتصاد الرأسمالية الحديثة، وينبغي علينا أن نتناولها بمزيد من التفصيل. ولكن ينبغي علينا في بادئ الأمر أن نزيل ما قد يمكن من سوء الفهم.
تقول الإحصاءات الأمريكية: 3000 من المشاريع العملاقة في 250 من الفروع الصناعية. وقد يتبادر إلى الذهن كأن هناك 12 من المشاريع العملاقة فقطفي كل فرع.
ولكن الأمر ليس كذلك، فالمشاريع الكبيرة لا توجد في كل فرع من فروع الصناعة؛ ومن الجهة الأخرى، أن من أهم خواص الرأسمالية التي بلغت أعلى مراحل تطورها ما يسمى بالتركيب، أي تجمع في مشروع واحد لفروع صناعية مختلفة تؤلف إمّا درجات متوالية من تلييف الخدمات (مثلا: صهر معدن الحديد وتحويل الزهر إلى فولاذ أو ربما كذلك إنتاج هذه أو تلك من المصنوعات الجاهزة من الفولاذ)، وأمّا أن يقوم احدها بدور مساعد للآخر (مثلا: الاستفادة من الفضلات أو من المنتوجات الثانوية؛ إنتاج مواد التعبئة، الخ.).
وقد كتب هيلفردينغ: «التركيب يسوي اختلافات الأحوال في الأسواق، لذلك يضمن للمشاريع المركبة معدلا من الربح أكثر ثباتا، والتركيب يفضي، ثانيا، إلى إزاحة التجارة. وهو، ثالثا، يجعل من الامكان الرقي التكنيكي، وبالتالي الحصول على ربح إضافي بالمقارنة مع المشاريع «الساده» (أي غير المركبة). وهو، رابعا، يعزز موقف المشروع المركب بالمقارنة مع «الساده»، إذ يقويه في صراع المزاحمة في حالة انحطاط قوي (ركود في الأعمال، أزمة)، عندما يكون انخفاض أسعار الخدمات أقل من انخفاض أسعار المنتوجات الجاهزة»(3).
إن الاقتصاد البرجوازي الألماني هيمان الذي كرس مؤلفا خاصا لوصف المشاريع «المختلطة» أي المركبة – في صناعة التعدين الألمانية يقول: «تهلك المشاريع الساده مسحوقة بين ارتفاع أسعار الخدمات وانخفاض أسعار المنتوجات الجاهزة». ويكون الحاصل الصورة التالية:
«لقد بقيت، من جهة، كبريات شركات الفحم الحجري التي تستخرج من الفحم عدة ملايين من الأطنان والمتراصة التنظيم في سينديكات الفحم الحجري؛ ثم معامل صهر الفولاذ الضخمة المرتبطة بها ارتباطا وثيقا والتي تنظم في سنديكات الفولاذ. إن هذه المشاريع الهائلة التي تنتج 400 ألف طن من الفولاذ في العام والتي تستخرج كميات هائلة من المعادن والفحم الحجري وتنتج المصنوعات الجاهزة من الفولاذ وتستخدم 10 ألف عامل يعيشون في ثكنات بلدات المعامل والتي تملك في بعض الأحيان سككها الحديدية وموانئها هي الممثل النموذجي لصناعة التعدين الألمانية. ويسير التمركز أبدا إلى الأمام. يتضخم بعض المشاريع: يتراص عدد متزايد من المشاريع فرع صناعي بعينه أو فروع صناعية مختلفة ضمن مشاريع ضخمة تجد سندا لها ومرشدا في نصف دزينة من البنود البرلينية الكبرى. وفيما يخص صناعة الاستخراج الألمانية أقيم البرهان بصورة دقيقة على صحة تعاليم كارل ماركس بصدد التمركز؛ صحيح أن هذا يتعلق ببلاد تحمي صناعتها الرسوم الجمركية الوقائية وتعريفات النقل. إن صناعة الاستخراج الألمانية قد نضجت للمصادرة»(4).
هذا هو الاستنتاج الذي كان لا بد من أن يخلص إليه اقتصادي برجوازي، سليم النية كأمر استثنائي. تجدر الإشارة إلى أنه كأنما يبرز كحالة خاصة، نظرا لأن التعريفات الجمركية المرتفعة تحمي صناعتها. بيد أن كل ما تستطيعه هذا الظرف هو تعجيل التمركز وتشكيل اتحادات أصحاب العمل الاحتكارية، الكارتيلات والسنديكات والخ.. وما هو في منتهى الأهمية واقع أن التمركز في بلاد التجارة الحرة، انجلترا، يفضي كذلك إلى الاحتكار، وإن يكن بصورة أبطأ وربما بشكل آخر. وإليكم ما يقوله البروفيسور هرمن ليفي في مبحث خاص تناول فيه «الاحتكارات والكارتيلات والتروستات» على أساس معلومات عن التطور الاقتصادي في بريطانيا العظمى:
«إن الميل إلى الاحتكار في بريطانيا العظمى، بالضبط، في ضخامة حجم المشاريع وعلو مستواها التكنيكي. فالتمركز قد أفضى، من جهة، إلى أن المشاريع غدت تقتضي إنفاق الرساميل بمبالغ طائلة، ولذا تجد المشاريع الجديدة نفسها إزاء طلبات متزايدة فيما يخص مقدار الرأسمال الضروري، وهذا ما يعيق ظهورها. ومن الجهة الأخرى (ونعتبر هذا الأمر أكبر أهمية) ينبغي على كل مشروع جديد يريد أن يضارع المشاريع الهائلة التي أنشأها التمركز أن ينتج كمية هائلة من المنتوجات الفائضة بحيث لا يمكن بيعها بصورة مفيدة إلاّ في حالة ازدياد الطلب وازديادا خارقا، وفي الحالة المعاكسة يخفض من المنتوجات الأسعار إلى مستوى ليس في مصلحة المعمل الجديد ولا في مصلحة الاتحادات الاحتكارية». وخلافا للبلدان الأخرى التي تسهل فيها التعريفات الجمركية الوقائية تشكل الكارتيلات، لا تنشأ في انجلترا، في أكثرية الحالات، اتحادات أصحاب الأعمال الاحتكارية، الكارتيلات والتروستات، الا عندما ينحصر عدد المشاريع الرئيسية المتنافسة «في دزينتين فقط». «إن تأثير التمركز على نشوء الاحتكارات في الصناعة الضخمة يظهر هنا بصفاء البلور»(5).
لنصف قرن مضى، عندما كتب ماركس مؤلفه «رأس المال» كانت المزاحمة الحرة تبدو «قانونا طبيعيا» في نظر الأكثرية الكبرى من الاقتصاديين. وقد حاول العلم الرسمي أن يقتل عن طريق مؤامرة الصمت مؤلف ماركس الذي برهن بتحليله النظري والتاريخي للرأسمالية على أن المزاحمة الحرة تولد تمركز الإنتاج وعلى أن هذا التمركز يفضي، عند درجة معينة من تطوره، إلى الاحتكار. وقد غدا الاحتكار الآن أمرا واقعا. والاقتصاديون يكتبون أكواما من الكتب واصفين فيها هذه الظاهرة أو تلك من مظاهر الاحتكار ومواصلين الصراخ بنغم واحد: «لقد دحضت الماركسية». ولكن الوقائع أشياء عنيدة كما يقول المثل الانجليزي ولابد للمرء من أن يحسب لها الحساب شاء أم أبى. والوقائع تظهر أن التباين بين مختلف البلدان الرأسمالية من حيث الحماية أو التجارة الحرة مثلا لا ينشأ عنه إلاّ تباين لا شأن له في شكل الاحتكارات أو في زمن نشوئها، في حين أن نشوء الاحتكارات عن تمركز الإنتاج هو القانون العام والأساسي في المرحلة الحديثة من تطور الرأسمالية.
ومن الممكن، بالنسبة لأوروبا، أن يحدد بدقة كبيرة زمن حلول الرأسمالية الحديثة نهائيا محل القديمة. إنه، بالضبط، أوائل القرن العشرين. ونقرأ في مؤلف من أحدث المؤلفات التلخيصية في تاريخ «تشكل الاحتكارات»:
«إن المرحلة السابقة لسنة 1860 تعطي بعض الأمثلة عن الاحتكارات الرأسمالية؛ ومن الممكن أن تكتشف فيها الصور الجنينية للأشكال التي غدت الآن مألوفة تماما، ولكن لا ريب في أن كل ذلك هو بالنسبة للكارتيلات عهد ما قبل التاريخ. إن البداية الحقيقية للإحتكارات الحديثة تقع على أبعد حد في سنوات العقد السابع من القرن التاسع عشر. فالمرحلة الهامة الأولى لتطور الاحتكارات تبتدئ من الانحطاط الصناعي العالمي في العقد الثامن من القرن الماضي وتمتد إلى بداية العقد العاشر». «وإذا بحثنا الأمر على النطاق الأوروبي، وجدنا تطور المزاحمة الحرة قد بلغ أوجه في سنوات العقدين السابع والثامن. ففي ذلك الحين أنجزت انجلترا تنظيمها الرأسمالي على النمط القديم. وفي ألمانيا دخل هذا التنظيم في صراع فاصل مع الصناعتين الحرفية والمنزلية وبدأ ينشئ لنفسه أشكال وجوده».
«لقد بدأ انقلاب كبير منذ أزمة سنة 1873، أو بالأصح، منذ الركود الذي تبعها والذي يملأ 22 سنة من التاريخ الاقتصادي الأوروبي باستثناء انقطاع لا يكاد يلاحظ في مستهل العقد التاسع ونهوض خارق القوة إلاّ أنه قصير وقع سنة 1889». «وفي أثناء مرحلة النهوض القصيرة في سنتي 1889-1890 استخدمت الكارتلات بصورة واسعة للاستفادة من أحوال السوق. إن سياسة غير بصيرة جعلت الأسعار تقفز أسرع وأعلى مما كان حدث في حالة عدم وجود الكارتيلات، وقد هلك معظم هذه الكارتيلات بصورة مزرية في «قبر الانهيار». لقد تلت ذلك خمس سنوات أخرى من الأحوال السيئة والأسعار المنخفضة، بيد أن الحالة النفسية لم تعد ذاتها في الصناعة. فالركود لم يعد ليعتبر أمرا بديهيا، إذ لم يعودوا يرون فيه إلاّ وقفة قبل أحوال جديدة ملائمة.
وها قد دخلت حركة تشكيل الكارتيلات عهدها الثاني. فبعد أن كانت الكارتيلات ظاهرة عرضية، أخذت تصبح أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكملها. وهي تكتسب فرعا من فروع الصناعة بعد آخر وفي الدرجة الأولى فرع تكييف المواد الخام. وفي مستهل سنوات العقد العاشر وضعت الكارتيلات، بتنظيمها لسينديكا الكوك التي نظمت على طرازها فيما بعد سينديكا الفحم، آلية لتنظيم الكارتيلات لم تمض أبعد منها في الجوهر. أن النهضة الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر وأزمة سنوات 1900-1903 قد جرتا لأول مرة وبصورة تامة تحت شارة الكارتيلات، على الأقل في صناعتي الاستخراج والتعدين. وإذا كان قد غدا الآن في نظر الرأي العام الواسع أمرا بديهيا أن رفعت أهم أقسام الحياة الاقتصادية، كقاعدة عامة، من المزاحمة الحرة فإن ذلك قد بدا آنئذ كشيء جديد»(6).
إن النتائج الأساسية لتاريخ الاحتكارات هي، إذن، الآتية: 1) سنوات العقد السابع والثامن من القرن الماضي هي قمة، ذروة تطور المزاحمة الحرة. لم تكن الاحتكارات غير أجنة بالكاد تلاحظ. 2) بعد أزمة سنة 1873 جاءت مرحلة نادرة ولم تكن وطيدة بعد. إنها ما تزال ظاهرة عرضية. 3) نهضة أواخر القرن التاسع عشر وأزمة سنوات 1900-1903: تصبح الكارتيلات أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكلها. تحولت الرأسمالية إلى إمبريالية.
تتفق الكارتيلات فيما بينها على شروط المبيع وآجال الدفع وغير ذلك. وهي تقتسم مناطق التصريف، وهي تحدد كمية المنتوجات وهي تعين الأسعار، وهي توزع الأرباح بين مختلف المشاريع وهلم جرا.
لقد بلغ عدد الكارتيلات في ألمانيا على وجه التقريب 250 في سنة 1896 و385 في سنة 1905 تضم حوالي 12 ألف مؤسسة(7). ولكن الجميع يعترفون بأن حتى الـ12 ألف من المشاريع الضخمة تملك وحدها، على ما يبدو، أكثر من نصف مجموع كمية الطاقة البخارية والكهربائية. وقدّر عدد التروستات في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية بـ175 في سنة 1900 وبـ250 في سنة 1907. وتقسم الإحصاءات الأمريكية جميع المشاريع الصناعية إلى ملك لأفراد أو لشركات أو لاتحادات. وكانت هذه الأخيرة تملك في سنة 1904 70.6% وفي سنة 1909 25.9%، أي أكثر من ربع مجموع عدد المشاريع. وكانت تستخدم من العمال في سنة 1904 70.6% وفي سنة 1909 75.6%، أي ثلاثة أرباع المجموع؛ وكانت قيمة إنتاجها في السنتين المذكورتين 10.9 مليار دولار و16.3 مليار دولار، أي 73.7 % و79.0% من المبلغ الإجمالي.
وغالبا ما تتركز في أيدي الكارتيلات والتروستات سبعة أو ثمانية أعشار مجموع الإنتاج في فرع من فروع الصناعة. فسينديكا فحم إقليم الرين-فيستفاليا كانت، عندما تشكلت في سنة 1893، تركز في يدها 86.7% من مجموع إنتاج الفحم في الإقليم، أما في سنة 1910 فقد غدت تركز 95.4%(8). والاحتكار الذي يتكون على هذه الصورة يؤمن المداخيل الطائلة ويؤدي إلى تشكيل وحدات إنتاجية تكنيكية هائلة الحجم. إن تروست النفط الشهير (Standad Oil Company) في الولايات المتحدة قد تأسس في سنة 1900. «وقد بلغ رأسماله 150 مليون دولار. وأصدرت الأسهم العادية بمبلغ 100 مليون والأسهم الممتازة بمبلغ 106 مليون. ودفع لهذه الأخيرة من العائدات في سنوات 1900-1907: 48%، 48%، 45%، 44%، 36%، 40%، 40%، 40%، أي ما مجموعه 367 مليون دولار. ومن سنة 1882 إلى سنة 1907 بلغ الربح الصافي 889 مليون دولار وزع منها على حملة الأسهم 7.7 ملايين وسجل الباقي رأسمالا احتياطيا»(9). «وفي سنة 1907 كان في جميع معامل تروست الفولاذ (United Stats Steel Corporation) ما لا يقل عن 210180 من العمال والمستخدمين. وفي سنة 1908 كان أكبر مشروع في صناعة الاستخراج الألمانية، شركة مناجم غيلسنكيرخين يستخدم 46048 من العمال والمستخدمين»(10). وفي سنة 1902، كان تروست الفولاذ ينتج 9 ملايين طن من الفولاذ(11). وبلغ ما أنتجه من الفولاذ 66.3% في سنة 1901 و56.1% في سنة 1908 من مجموع إنتاج الفولاذ في الولايات المتحدة(12)، وما استخرجه من المعادن في السنتين المذكورتين 43.9% و46.3%.
لقد جاء في تقرير اللجنة الحكومية الأمريكية عن التروستات: «إن تفوقها على المزاحمين يستند إلى ضخامة حجم مشاريعها وإلى تجهيزها التكنيكي الممتاز. فتروست التبغ قد بذل كل جهوده منذ تأسيسه ليحل العمل الآلي محل العمل اليدوي في نطاق واسع وفي جميع الميادين. وقد اشترى لهذا الغرض جميع براءات اختراع التي لها أية علاقة بتحضير التبغ وأنفق على ذلك مبالغ طائلة. وتبين أن الكثير من هذه الاختراعات كان في بادئ الأمر غير صالح وتأتى على المهندسين المستخدمين في التروست ضبطها. وفي أواخر سنة 1906 أنشئت شركتان فرعيتان هدفهما الوحيد شراء براءات الاختراع. وللعرض ذاته أنشأ التروست مصانع الصهر ومصانع الماكينات وورشات التصليح. وإحدى هذه المؤسسات، في بروكلين، تستخدم 300 عامل بالمتوسط، وفيها تجري تجربة الاختراعات وتحسينها لصنع السجائر والنوع الصغير من السيكار والنشوق وأوراق القصدير للف والعلب وغير ذلك(13)». «والتروستات الأخرى تستخدم كذلك ما يسمى (المهندس لتطوير التكنيك)؛ ومهمتهم إيجاد أساليب جديدة للإنتاج وتجربة التحسينات التكنيكية. ويدفع تروست الفولاذ لمهندسيه وعماله جوائز عالية لقاء كل اختراع يحسن التكنيك أو يخفض التكاليف»(14).
وعلى النمط نفسه نظمت قضية التحسينات التكنيكية في الصناعة الألمانية الكبيرة، مثلا في الصناعة الكيميائية التي تطورت بصورة هائلة خلال عشرات السنين الأخيرة. فإن تمركز الإنتاج قد أنشأ في هذه الصناعة نحو سنة 1908 «فريقين» رئيسيين جنحا كذلك، على طريقتهما، إلى الاحتكار. ففي بادئ الأمر، كان هذان الفريقان «تحالفين مزدوجين» بين زوجين من أضخم المعامل رأسمال كل منهما من 20-21 مليون مارك: من جهة معامل مايستر السابق في هوخست وكاسيله في فرانكفورت على الماين؛ ومن الجهة الأخرى معمل الأنيلين والصودا في لودفيغسهافن ومعمل باير السابق في إيلبيرفيلد. ثم، في سنة 1905، عقد أحد الفريقين وفي سنة 1908 عقد الفريق الآخر، كل على انفراد، اتفاقا مع معمل كبير آخر. فكانت النتيجة ظهور «تحالفين ثلاثيين» رأسمال كل منهما من 40-50 مليون مارك فبدأ بين هذين «التحالفين» «التقارب» و«التفاهم» حول الأسعار وغير ذلك(15).
المزاحمة تتحول إلى احتكار. وينتج عن ذلك تقدم هائل في اتخاذ الإنتاج صبغة اجتماعية، بما في ذلك أيضا ميدان الاختراعات والتحسينات التكنيكية.
إنه حال يختلف كل الاختلاف عن المزاحمة الحرة القديمة بين أصحاب أعمال مبعثرين لا يعلم أحدهم شيئا عن أحوال الآخر وينتجون للتصريف في سوق مجهولة. لقد بلغ التمركز حدا غدا معه في الإمكان إجراء جرد تقريبي لجميع مصادر الخامات (مثلا مصادر معدن الحديد) في بلاد معينة أو حتى، كما سنرى، في جملة من البلدان وفي العالم بأسره. ولا يقتصر الأمر على إجراء هذا الجرد، بل وتضع اتحادات احتكارية هائلة أيديها على هذه المصادر وتستولي عليها. ويجري حساب تقريبي لاستيعاب الأسواق التي «تقسمها» هذه الاتحادات فيما بينها على أساس العقود. تحتكر الأيدي العاملة المدربة وتستأجر نخبة المهندسين ويستولي على طرق ووسائط المواصلات – السكك الحديدية في أمريكا، شركات البواخر في أوروبا وأمريكا. فالرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية توصل رأسا إلى إعطاء الإنتاج صبغة اجتماعية شاملة، وهي تجر الرأسماليين، إن أمكن القول، رغم إرادتهم وإدراكهم، إلى نظام اجتماعي جديد، انتقالي من حرية المزاحمة التامة إلى الاصطباغ التام بالصبغة الاجتماعية.
يغدو الإنتاج اجتماعيا، ولكن التملك يبقى خاصا. تظل وسائل الإنتاج الاجتماعية ملكا خاصا لعدد ضئيل من الأفراد. يبقى الإطار العام للمزاحمة الحرة المعترف بها شكليا، ويغدو ظلم حفنة الاحتكاريين لبقية السكان أثقل وأشد بمائة مرة.
لقد كرس الاقتصاد الألماني كستنر مؤلفا خاصا لموضوع «الصراع بين الكارتيلات والدخلاء»، أي أصحاب الأعمال غير المنتظمين للكارتلات. وقد أسمى هذا الكتاب «الإجبار على التنظيم»، في حين كان ينبغي الحديث عن الإجبار على الخضوع لاتحادات الإحتكاريين، وذلك طبعا لكيلا تطلى الرأسمالية بالمساحيق. ومن المفيد أن نلقي نظرة ولو على قائمة الوسائل التي تلجأ إليها اتحادات الاحتكاريين في الصراع الراهن، الحديث، المتمدن، من أجل «التنظيم»: 1) الحرمان من المواد الخام («…طريقة من أهم طرق الإجبار على الانضمام إلى الكارتيل»)؛ 2) الحرمان من الأيدي العاملة عن طريق «الائتلافات» (أي العقود بين الرأسماليين ونقابات العمال بشأن عدم قبول هذه الأخيرة العمل إلاّ في المشاريع المنظمة إلى الكارتيلات)؛ 3) الحرمان من وسائط النقل؛ 4) الحرمان من أسواق التصريف؛ 5) عقود مع الشارين بشأن عدم إقامة العلاقات التجارية إلاّ مع الكارتيلات وحدها؛ 6) تخفيض الأسعار بصورة منظمة (ليفلس «الدخلاء»، أي المشاريع غير الخاضعة للاحتكاريين؛ تنفق الملايين للبيع بأقل من التكاليف خلال زمن معين: فقد حدثت فترات خفضت فيها الأسعار في صناعة البنزين من 40 إلى 22 ماركا، أي نحو النصف! 7) الحرمان من التسليف؛ 8) إعلان المقاطعة.
إن ما نراه ليس بصراع بالمزاحمة بين مشاريع صغيرة وكبيرة، متأخرة التكنيك وراقية التكنيك. إن ما نراه هو خنق الاحتكاريين للذين لا يخضعون للاحتكارات ولظلمها وعسفها. وإليكم صورة انعكاس هذه العملية في ذهن اقتصادي برجوازي:
كتب كستنر: «وحتى في ميدان النشاط الاقتصادي الصرف يجري بعض التحول من النشاط التجاري بمعنى الكلمة السابق إلى نشاط المضاربة التنظيمي. ومن يحرز النجاح الأكبر ليس التاجر الذي تتيح له خبرته الفنية والتجارية أن يحرز على خير وجه حاجات المشترين، أن يجد وأن «يكتشف»، إن أمكن القول، الطلب الموجود في حالة خفية، بل العبقري في المضاربة (؟!) القادر على أن يحسب مقدما أو، على الأقل، أن يحس تطور التنظيم والصلات المحتملة بين هذه أو تلك من المشاريع أو البنوك…».
ومعنى ذلك إذا ترجم إلى لغة الناس أن تطور الرأسمالية قد بلغ حدا تقوض فيه الإنتاج البضاعي فعلا وإن كان ما زال «سائدا» كالسابق وما زال يعتبر أساسا للاقتصاد كله، وتصبح فيه الأرباح الرئيسية من نصيب «عباقرة» الملاعيب المالية. وتقوم هذه الملاعيب والاحتيالات على أساس اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية، ولكن تقدم البشرية الهائل التي توصلت بعملها إلى حد اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية يصبح مفيدا… للمضاربين. وسنرى فيما يأتي كيف أن نقاد الإمبريالية الرأسمالية من صغار البرجوازيين الرجعيين يحملون «على هذا الأساس» بالعودة إلى الوراء، إلى المزاحمة «الحرة»، «السلمية»، «الشريفة».
يقول كستنر: «إن ارتفاع الأسعار مدة طويلة كنتيجة لتشكل الكارتيلات لم يلاحظ حتى الآن إلاّ فيما يخص أهم وسائل الإنتاج، ولاسيما الفحم الحجري والحديد والقلى، وبالعكس، لم يلاحظ أبدا فيما يخص المنتوجات الجاهزة. والارتفاع في العائدات الناشئ عن ذلك قد اقتصر أيضا على صناعة وسائل الإنتاج. وينبغي أن نضيف إلى هذه الملاحظة أن صناعة تكييف المواد الخام (لا المصنوعات نصف الجاهزة)، عدا أنها تجني – بفضل تشكل الكارتيلات – الفوائد بشكل أرباح مرتفعة لما فيه خسارة الصناعة المشغولة بإكمال المصنوعات نصف الجاهزة، قد اكتسب حيال هذه الصناعة نوعا من السيطرة لم يكن لها وجود في زمن المزاحمة الحرة»(16).
إن الكلمات التي أشرنا إليها تبين كنه القضية الذي لا يعترف به الاقتصاديون البرجوازيون إلاّ نادرا وبغير رغبة والذي يسعى إلى تجنبه وإهماله جهد طاقتهم المدافعون الحاليون عن الانتهازية وعلى رأسهم كارل كاوتسكي. فعلاقات السيطرة والقسر الناجم عنها هو ما يميز «المرحلة الحديثة في تطور الرأسمالية»، هو ما كان لا بد أن ينتج وما نتج فعلا عن تشكل الاحتكارات الاقتصادية الكلية القدرة.
لنذكر مثلا آخر عن سيطرة الكارتيلات. إن نشوء الكارتيلات وتشكل الاحتكارات هو أمر في غاية السهولة حيث يمكن الاستيلاء على جميع مصادر الخامات أو على القسم الرئيسي من هذه المصادر. ولكن من الخطأ الظن أن الاحتكارات لا تنشأ كذلك في الفروع الصناعية الأخرى التي لا يمكن فيها الاستيلاء على مصادر الخامات. فصناعة الأسمنت تجد الخامات في كل مكان. بيد أن الكارتيلات قد اتحدت المعامل في سينديكات اقليمية: سينديكات جنوب ألمانيا وسينديكات إقليمي الرين-فيستفاليا والخ.. والأسعار هي أسعار الاحتكارات: 230-280 ماركا قيمة عربة القطار في حين أن تكاليفها 180 ماركا! وتعطي المشاريع 12-16% لحملة الأسهم؛ ولكن لا ينبغي أن ننسى أن «عباقرة» المضاربة العصرية يحسنون توجيه مبالغ من الأرباح إلى جيوبهم فضلا عما يوزع على حملة الأسهم. وبغية إزاحة المزاحمة من صناعة تدر مثل هذه الأرباح لا يحجم الاحتكاريون حتى عن الأحابيل: ينشرون إشاعات كاذبة عن سوء الحال في الصناعة، ينشرون في الصحف إعلانات مغفلة: «أيها الرأسماليون! حذار أن توظفوا رؤوس أموالكم في صناعة الأسمنت»، وأخيرا يشترون معامل «الدخلاء» (أي غير المنضمين إلى السينديكات)، ويدفعون لهم «خلوّا» 60-70-150 ألف مارك(17). يشق الاحتكار طريقه في كل مكان وبكل الوسائل، ابتداء من دفع الخلوّ «المتواضع» وانتهاء «بتطبيق» الطريقة الأمريكية لنسف المزاحم بالديناميت.
أمّا قضاء الكارتيلات على الأزمات فهو قصة اختلقها الاقتصاديون البرجوازيون الذين يسعون وراء طلي الرأسمالية بالمساحيق مهما كلف الأمر. بالعكس، إن الاحتكار، عندما ينشأ في بعض الفروع الصناعية، يشدد ويزيد الفوضى التي تلازم الإنتاج الرأسمالي بأكمله. فعدم التناسب بين تطور الزراعة والصناعة، الأمر المميز للرأسمالية بوجه عام، يزداد لدرجة أكبر. إذ أن الوضع الممتاز الذي تجد فيه نفسها الصناعة الأكثر تنظيما في الكارتيلات، ما يسمى بالصناعة الثقيلة، ولاسيما صناعة الفحم والحديد، يفضي، في الفروع الصناعية الأخرى، إلى «انعدام المنهاجية لدرجة أشد» كما يعترف ييدلس الذي وضع كتابا من أحسن الكتب عن «العلاقات بين البنوك الألمانية الكبرى والصناعة»(18).
وقد كتب ليفمن، المدافع عن الرأسمالية دون حياء: «كلما كان الاقتصاد الوطني أكثر تطورا، كلما اتجه نحو المشاريع التي تنطوي على المجازفة أو الموجودة في الخارج، نحو المشاريع التي تحتاج لتطورها زمنا طويلا أو، أخيرا، نحو تلك التي لا يتعدى أهميتها النطاق المحلي»(19). إن ازدياد المجازفة ينشأ في نهاية الأمر عن ازدياد الرأسمال ازديادا هائلا فيفيض، إن أمكن القول، ويتدفق إلى الخارج والخ.. ثم إن تنامي التكنيك بسرعة متزايدة يسفر عن مزيد ومزيد من عناصر عدم التناسب بين مختلف نواحي الاقتصاد الوطني، ومن الفوضى والأزمات. وقد اضطر ليفمن ذاته إلى الاعتراف قائلا: «ربما كان على البشرية أن تواجه مرة أخرى في المستقبل القريب انقلابات كبيرة في حقل التكنيك سيكون لها تأثيرها كذلك على التنظيم الاقتصادي الوطني»… الكهرباء، الطيران…«وفي المعتاد وكقاعدة عامة تشتد المضاربة بقوة في أزمنة التغيرات الاقتصادية الجذرية…»(20).
والأزمات بأنواعها – الاقتصادية في الأغلب، ولكن ليست اقتصادية وحدها – تشدد بدورها، في نطاق واسع، الميل إلى التمركز وإلى الاحتكار. وهاكم أراء ييدلس بليغة الدلالة عن أهمية أزمة سنة 1900، الأزمة التي كانت، كما نعلم، نقطة تحول في تاريخ الاحتكارات الحديثة:
«وحين تفجرت أزمة 1900 كان هناك، إلى جانب المشاريع الهائلة في الفروع الصناعية الرئيسية، عدد كبير من المشاريع ذات التنظيم المتأخر حسب المفهوم الحالي، مشاريع «ساده»» (أي غير المركبة) «رفعتها إلى أعلى موجة النهضة الصناعية. فهبوط الأسعار وانخفاض الطلب قد ساقا هذه المشاريع «الساده» إلى حال من الشدة لم تمس المشاريع الهائلة المركبة بتاتا أو مستها لفترة قصيرة جدا. وبنتيجة ذلك أدت أزمة سنة1900 إلى التمركز الصناعي بمقاييس أكبر جدا من أجمة سنة 1873: فهذه الأخيرة قامت أيضا بنوع من الاصطفاء لأحسن المشاريع، ولكن هذا الاصطفاء لم يمكنه، مع مستوى التكنيك في ذلك العهد، ان يسفر عن احتكار تلك المشاريع التي خرجت من الأزمة ظافرة، وهذا الاحتكار المديد والمتطور جدا هو بالضبط ما تملكه – بفضل تكنيكها المعقد منتهى التعقيد وتنظيمها الدقيق للغاية وقوة رأسمالها – المشاريع الهائلة في صناعتي الحديد والكهرباء الراهنتين ثم، لدرجة أقل، مشاريع صناعة بناء الماكينات وبعض فروع صناعة التعدين وطرق المواصلات وغير ذلك»(21).
الاحتكار هو آخر كلمة لـ«أحدث المراحل في تطور الرأسمالية». ولكن تصورنا لمدى قوة وأهمية الاحتكارات الحديثة يكون غير واف أبدا وغير تام، ومنقوصا إن لم نأخذ بعين الاعتبار دور البنوك..
الفصل الثاني
البنوك ودورها الجديد
إن وظيفة البنوك الأساسية وأولى هي الوساطة في الدفع. وأثناء ذلك تحول البنوك الرأسمال النقدي غير العامل إلى رأسمال عامل، أي إلى رأسمال يدر الأرباح، وتجمع العائدات النقدية بشتى أنواعها وتضعها تحت تصرف طبقة الرأسماليين.
ومع تطور الشؤون البنكية وتمركزها في مؤسسات قليلة العدد، تتحول البنوك من وسطاء متواضعين إلى احتكارات شديدة الحول والطول تتصرف بمعظم الرأسمال النقدي العائد لمجموع الرأسماليين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الأكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معينة أو في جملة من البلدان. وتحول الوسطاء الكثيرين المتواضعين إلى حفنة من الاحتكاريين هو وجه أساسي من وجوه صيرورة الرأسمالية إلى امبريالية رأسمالية، ولذا ينبغي لنا أن نتناول في المقام الأول تمركز البنوك.
وفي سنة 1907-1908 كانت الودائع في جميع البنوك الألمانية المساهمة التي يزيد رأسمال كل منها من 1 مليون مارك تبلغ 7 مليارات مارك؛ وفي سنة 1912-1913 بلغت الودائع 9.8 مليار مارك. لقد بلغت الزيادة خلال خمس سنوات 2.8 مليار، أي 40%؛ منها 2.75 مليار مودعة في 57 بنكا رأسمال كل منها 10 ملايين مارك. وكان توزيع الودائع بين البنوك الكبيرة والصغيرة على الصورة الآتية(1):
الودائع بالنسبة المئوية
في البنوك البرلينية التسعة الكبرى في البنوك الـ 48 الأخرى التي يزيد رأسمال كل منها على 10 ملايين مارك في 115 بنكا يبلغ رأسمال كل منها من 1 مليون و10 ملايين مارك في البنوك الصغيرة (رأسمال كل منها أقل من 1 مليون مارك)
سنة 1907-1908
47 32.5 16.5 4
سنة 1912-1913
39 36 12 3
البنوك الصغيرة أزيحت من قبل البنوك الكبرى التي تركز تسعة منها فقط نحو نصف مجموع الودائع. ولكن أشياء كثيرة لم تؤخذ هنا بعين الاعتبار، منها مثلا تحول حملة من البنوك الصغيرة في الواقع إلى فروع للبنوك الكبرى وغير ذلك، الأمر الذي سنتحدث عنه فيما يأتي:
في أواخر سنة 1913 قدر شولتزه-غيفيرنيتز الودائع في البنوك البرلينية التسعة الكبرى بـ 5.1 مليار مارك من مجموع مبلغ من 10 مليارات. وقد كتب المؤلف نفسه آخذا بعين الاعتبار مجموع الرأسمال البنكي، لا الودائع وحدها: «في أواخر سنة 1909، كانت البنوك البرلينية التسعة الكبرى، مع البنوك المرتبطة بها، تدير 11.3 مليار مارك، أي نحو 83% من مجموع ملاغ الرأسمال البنكي في ألمانيا. «فالبنك الألماني» («Deutche Bank») الذي يدير مع البنوك المرتبطة به مبلغا يقرب من 3 مليارات مارك هو، إلى جانب الإدارة البروسية لسكك حديد الدولة، عبارة عن التراكم الأكبر والأقل مركزية للرأسمال في العالم القديم(2).
لقد أشرنا إلى كلمة البنوك «المرتبطة»، لان ذلك يتعلق بخاصة من أهم الخواص المميزة للتمركز الرأسمالي الحديث. فالمشاريع الكبرى، ولاسيما البنوك، لا تبتلع الصغيرة بصورة مباشرة وحسب، بل «تربط»ـها بنفسها وتخضعها وتضمها إلى «مجموعتـ»ـها، إلى «كونسرنـ»ـها حسب التعبير الفني، وذلك عن طريق «الاشتراك» في رأسمالها، عن طريق شراء أو تبادل الأسهم، عن طريق نظام القروض وهلم جرا وغير ذلك. لقد كرس البروفيسور ليفمن «مؤلفا» ضخما بلغ خمسمائة صفحة لوصف «شركات الاشتراك والتمويل» الحديثة(3)، ولكنه، للأسف، يضيف محاججات «نظرية» هزيلة إلى مواد لم يحسن تدبيرها في الأغلب. ومؤلف «البنكير» ريسر عن البنوك الألمانية الكبرى يبين أحسن من أي مؤلف آخر النتيجة التي تسفر عنها طريقة «الإشتراك» هذه من وجهة نظر التمركز. ولكن قبل أن ننتقل لبحث معطياته نذكر مثلا عمليا عن طريقة «الاشتراك».
«مجموعة» « البنك الألماني» هي من أكبر مجموعات البنوك الكبرى إن لم تكن أكبرها. ولكيما نتبين الخيوط الرئيسية التي تربط جميع بنوك هذه المجموعة ينبغي أن نميز «اشتراك» الدرجات الأولى والثانية والثالثة أو، وهو الأمر نفسه، التبعية (البنوك الأصغر «للبنك الألماني») من الدرجات الأولى والثانية والثالثة. ونحصل على الصورة التالية(4):
تبعية الدرجة الأولى تبعية الدرجة الثانية تبعية الدرجة الثالثة
«البنك الألماني» يشترك بصورة دائمة في 17 بنكا منها 9 تشترك في 34 بنكا آخر منها 4 تشترك في 8 بنوك أخرى
بصورة مؤقتة في 5 بنوك - -
من وقت لآخر في 8 بنوك منها 5 تشترك في 14 بنكا آخر منها 2 تشترك في 2 بنكا آخر
المجموع في 30 بنكا منها 14 تشترك في 48 بنكا آخر منها 6 تشترك في 9 بنكا آخر
في العدد الـ8 بنوك «من تبعية الدرجة الأولى» التي تخضع «للبنك الألماني» «من وقت لآخر» ثلاثة بنوك أجنبية: إحدها نمساوي («الاتحاد البنكي» في فيينا «Bankverein») وإثنان روسيان (البنك التجاري السيبيري والبنك الروسي للتجارة الخارجية). ومجموعة «البنك الألماني» تضم مباشرة وغير مباشرة، كليا وجزئيا 17 بنكا؛ ومجمل الرأسمال الذي تتصرف به مجموعة «البنك الألماني» – رأسمالها الخاص والودائع – يقدر بـ 2-3 مليارات مارك.
ومن الواضح أن بنكا يرأس مجموعة كهذه ويعقد اتفاقات مع نصف دزينة من البنوك الأخرى، لا تقل عنه في قوتها إلاّ قليلا، من أجل العمليات المالية الكبيرة جدا والمفيدة للغاية كمنح القروض للدولة، قد شب عن دور «الوسيط» وغدا اتحادا لحفنة من الاحتكاريين.
إن الأرقام التالية التي ننقلها باختصار عن ريسر تظهر بأية سرعة جرى تمركز البنوك في ألمانيا بالضبط في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20:
لدى ستة من البنوك البرلينية الكبرى
سنوات فروع في ألمانيا صناديق ودائع ومكاتب صرفية اشتراك دائم في البنوك المساهمة الألمانية مجموع المستندات
1895 16 14 1 42
1900 21 40 8 80
1911 104 276 63 450
وهكذا نرى كيف تتسع بسرعة شبكة القنوات الكثيفة شاملة البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومركزة جميع الرساميل والمداخيل النقدية وجاعلة من الألوف المؤلفة من المشاريع المبعثرة اقتصادا رأسماليا وطنيا موحدا ثم اقتصادا رأسماليا عالميا. أمّا «عدم التمركز» الذي تحدث عنه باسم الاقتصاد السياسي البرجوازي في أيامنا شولتزه-غيفيرنيتز في الفقرة المثبتة أعلاه فهو يتلخص في الواقع بأنه يخضع لمركز واحد عدد متزايد من الوحدات الاقتصادية التي كانت فيما مضى «مستقلة» نسبيا أو، بالأصح، ذات طابع محلي بحت. ومعنى ذلك في الواقع أن هنالك تمركزا وارتفاعا لشأن الاحتكارات العملاقة ولأهميتها وبأسها.
و«شبكة البنوك» هذه هي أكثر كثافة أيضا في البلدان الرأسمالية الأقدم. ففي إنجلترا مع ارلنده بلغت فروع جميع البنوك في سنة 1910- 7151. وكان لدى كل بنك من البنوك الأربعة الكبرى أكثر من 400 فرع (من 447 إلى 689)، وكانت هناك 4 بنوك أخرى لدى كل منها أكثر من 300، و 11 بنكا لدى كل منها أكثر من 100 فرع.
وفي فرنسا طورت البنوك الكبرى الثلاثة، «Crédit Lyonnais» («كريدي ليونيه»)، «Comptoir National» («كونتوار ناسيونال») و«Société Générale» («سوسييتي جينرال»)(5) عملياتها وشبكة فروعها على الشكل التالي(6):
أعوام عدد الفروع والصناديق الرأسمال
في المقاطعات في باريس المجموع الخاص الودائع
(بملايين الفرنكات)
1870 48 17 64 200 427
1890 192 66 258 200 427
1909 1033 196 1229 260 1245
ولوصف «روابط» البنك الكبير الحديث يذكر ريسر أرقاما عن عدد الرسائل التي وجهتها وتلقتها «شركة الخصم» («Disconto-gesellschaft») وهي بنك من أكبر البنوك في ألمانيا وفي العالم كله (لقد بلغ رأسمالها في سنة 1914- 300 مليون مارك):
عدد الرسائل
أعوام الواردة الصادرة
1852 6130 6292
1870 85800 87513
1900 533102 626043
وفي البنك الباريسي الكبير «كريدي ليونيه» ارتفع عدد الحسابات الجارية من 28535 في سنة 1875 إلى 633539 في سنة 1912 (7).
نحسب أن هذه الأرقام البسيطة تظهر بصورة أوضح من الشروح المسهبة كيف تتبدل أهمية البنوك بشكل جذري مع تمركز الرأسمال وتزايد عملياتها. فمن الرأسماليين المبعثرين يتكون رأسمالي واحد مشترك. وإذ يقوم البنك بالحسابات الجارية لعدد من الرأسماليين يبدو وكأنه يقوم بعملية تكنيكية بحتة، بعملية مساعدة لا غير. ولكن عندما تبلغ هذه العملية مقاييس هائلة تكون النتيجة أن حفنة من الاحتكاريين تخضع لنفسها العمليات التجارية والصناعية في المجتمع الرأسمالي كله، إذ تتوفر لها – بفضل الصلات بين البنوك وعن طريق الحسابات الجارية والعمليات المالية الأخرى – الإمكانية لتعرف في أي بادئ الأمر على وجه الدقة حالة الأعمال لدى كل رأسمالي على حدة ثم للإشراف عليهم والتأثير عليهم عن طريق توسيع أو تضييق، تسهيل أو تصعيب التسليف، وأخيرا لتقرر بصورة تامة مصائرهم، لتحدد مداخليهم، لتحرمهم من الرأسمال أو لتمكنهم من تضخيم رساميلهم بسرعة وبمقادير هائلة، الخ.
ذكرنا الآن أن رأسمال «شركة الخصم» في برلين يبلغ 300 مليون مارك. وهذا الإزدياد لرأسمال «شركة الخصم» كان حادثا من حوادث الصراع من أجل السيطرة بين بنكين من أكبر البنوك البرلينية هما «البنك الألماني» و«شركة الخصم». ففي سنة 1870 كان الأول مبتدئا لم يزد رأسماله عن 15 مليونا وبلغ رأسمال الثاني 30 مليونا. وفي سنة 1908 بلغ رأسمال الأول 200 مليون ورأسمال الثاني 170 مليونا. وفي سنة 1914 رفع الأول رأسماله إلى 250 مليونا ورفع الثاني رأسماله عن طريق الإندماج ببنك كبير آخر من الدرجة الأولى «بنك شافهاوزن الاتحادي» إلى 300 مليون. وغني عن البيان أن هذا الصراع من أجل السيطرة يجري بمحاداة «الاتفاقات» المتوافرة المتوطدة بين البنكين. وهاكم الاستنتاجات التي يوحيها مجرى هذا التطور للاختصاصيين في الشؤون البنكية الذين يعالجون الأمور الاقتصادية من وجهة نظر لا تتعدى بحال حدود الإصلاحية البرجوازية الأكثر اعتدالا والأكثر كياسة:
كتبت المجلة الألمانية «البنك» بشأن ازدياد رأسمال «شركة الخصم» إلى 300 مليون قائلة: «ستنخرط البنوك الأخرى في الطريق نفسه، ومن الـ300 شخص الذين يديرون ألمانيا اقتصاديا في الوقت الحاضر لن يبقى مع مر الزمن إلاّ 50 أو 25 أو أقل من ذلك. ولا يصح أن ننتظر أن تقتصر حركة التمركز الجديدة على ميدان البنوك وحده. فالروابط الوثيقة القائمة بين بعض البنوك تؤدي بطبيعة الحال إلى التقارب بين سينديكات الصناعيين التي تتمتع بحماية هذه البنوك… سنستيقظ في صباح ما فيدهشنا أن لا نرى أمام عيوننا إلاّ التروستات وحدها؛ وسنرى أنفسنا أمام ضرورة الاستعاضة عن الاحتكارات الخاصة باحتكار حكومة. ومع ذلك فليس هنالك في الجوهر ما نلون أنفسنا عليه، اللهم إلاّ تركنا الحبل على الغارب أمام مجريات الأمور، التي زادت الأسهم قليلا من سرعتها»(8).
إنه مثل على عجز الصحافة البرجوازية التي لا يمتاز عنها العلم البرجوازي إلاّ بكونه أقل إخلاصا وبنوعيه إلى طمس جوهر الأمر وإلى تغطية الغابة ببعض شجرات. «استغراب» نتائج التمركز؛ «لوم» حكومة ألمانيا الرأسمالية أو «المجتمع» الرأسمالي («نحن»)؛ الخوف من أن «يعجل» إدخال الأسهم التمركز، كما يخاف أحد الألمان الاختصاصيين بـ«الكارتيلات»، تشيرشكي، من التروستات الأمريكية و«يفضل» الكارتيلات الألمانية لأنها لا تستطيع على ما يزعم، «أن تعجل لهذا الحد الخارق، كالتروستات، سير التقدم التكنيكي والاقتصادي»(9)، – أفليس هذا هو العجز؟
بيد أن الأمر الواقع هو الأمر الواقع. ليس في ألمانيا تروستات، ففيها الكارتيلات «فقط»؛ ولكن ألمانيا يديرها ما لا يزيد عن 300 من طواغيت الرأسمال. ويتضاءل عدد هؤلاء باستمرار. أمّا البنوك فهي، في جميع الحالات وفي جميع البلدان الرأسمالية ومهما تنوع التشريع البنكي الذي تخضع له، تقوي وتعجل لحد كبير سير تمركز الرأسمال وتشكل الاحتكارات.
لقد كتب ماركس منذ نصف قرن في مؤلفه «رأس المال» أن «البنوك تنشئ على النطاق الاجتماعي شكلا، وشكلا فقط، لا غير، للمحاسبة العامة والتوزيع العام لوسائل الإنتاج» (الترجمة الروسية، المجلد 3، الجزء2، ص 144). إن ما ذكرناه من معطيات عن تزايد الرأسمال البنكي وعن تزايد عدد مكاتب وفروع البنوك الكبرى وعدد حساباتها الجارية وغير ذلك يبين لنا بصورة جلية هذه «المحاسبة العامة» لطبقة الرأسماليين جميعها، وحتى غير الرأسماليين لأن البنوك تجمع، ولو لوقت ما، مختلف أنواع المداخيل النقدية العائدة لصغار أصحاب الأعمال والموظفين والمرتبة العليا الضئيلة من العمال. «التوزيع العام لوسائل الإنتاج» هو ما ينجم، من ناحية الأمر الشكلية، عن البنوك الحديثة التي تتصرف، في شخص ثلاثة أو ستة بنوك ضخمة في فرنسا وستة أو ثمانية في ألمانيا، بالمليارات العديدة. ولكن هذا التوزيع لوسائل الانتاج ليس/ من حيث مضمونه، «بعام» فقط، بل هو خاص، أي أنه يتم وفق مصالح الرأسمال الضخم، وفي الدرجة الأولى الرأسمال الأضخم، الإحتكاري، الذي يعمل في ظروف يقاسي فيها جمهور السكان شظف العيش ويتأخر فيها تطور الزراعة برمته تأخرا يدعو للقنوط عن تطور الصناعة، بينما يتقاضى فرع واحد منها، «الصناعة الثقيلة»، الجزية من سائر فروعها الأخرى.
وفي أمر صبغ الاقتصاد الرأسمالي بالصبغة الاجتماعية بدات تنافس البنوك صناديق التوفير ودوائر البريد، وهو «أبعد عن المركزية»، أي أنها تشمل في دائرة نفوذها عددا أكبر من المناطق، عددا أكبر من الزوايا النائية، وفئات أوسع من السكان. إن لجنة أمريكية قد جمعت الأرقام التالية التي تظهر بالمقارنة مجرى تزايد الودائع في البنوك وفي صناديق التوفير(10):
الودائع (بمليارات الماركات)
إنجلترا فرنسا ألمانيا
في البنوك في صناديق التوفير في البنوك في صناديق التوفير في البنوك في شركات التسليف في صناديق التوفير
1880 8.4 1.6 ؟ 0.9 0.5 0.4 2.6
1888 12.4 2.0 1.5 2.1 1.1 0.4 4.5
1908 23.2 4.2 3.7 4.2 8.1 2.2 13.9
إن صناديق التوفير التي تدفع للودائع 4% أو 4.25% مضطرة للبحث عن فرص لتوظيف رأسمالها بصورة «رابحة» وللاندفاع إلى عمليات شراء وبيع الكمبيلات والرهون وغير ذلك. «تمحى شيئا فشيئا» الحدود بين البنوك وصناديق التوفير. وتطلب الغرف التجارية في بوخوم وارفورت مثلا «منع» صناديق التوفير من مزاولة العمليات البنكية «الصرف» كخصم الكمبيلات، وتطلب تقييد النشاط «البنكي» لدوائر البريد(11). ويبدو أن ملوك البنوك يخشون من أن يترصد لهم احتكار الدولة حيث لا ينظرونه. ولكن من البديهي أن هذا الخوف لا يتعدى، إن أمكن القول، حدود المنافسة بين مديري قسمين من أقسام مؤسسة بعينها. ذلك لأن طواغيت الرأسمال البنكي هم في الواقع الذين يتصرفون في نهاية الأمر بالمليارات من الرساميل المودعة في صناديق التوفير، هذا من جهة؛ ولأن احتكار الدولة في المجتمع الرأسمالي ليس، من الجهة الأخرى، إلاّ وسيلة لزيادة وتوطيد مداخيل أصحاب الملايين الموشكين على الإفلاس في هذا أو ذاك من الفروع الصناعية.
إن حلول الرأسمالية الجديدة التي يسيطر فيها الاحتكار محل القديمة التي تسيطر فيها المزاحمة الحرة يتجلى فيما يتجلى في انحطاط أهمية البورصة. فقد كتبت مجلة «البنك»: «إن البورصة قد كفت من أمد بعيد عن أن تكون الوسيط الذي لا يستغني عنه في التداول كما كانت فيما مضى، قبل أن يصبح بإمكان البنوك أن توزع بين زبائنها القسم الأكبر من الأوراق المالية الصادرة»(12).
««كل بنك - بورصة». إن هذه العبارة التي جرت مجرى الأمثال في الزمن الحديث تتضمن من الحقيقة قدرا يغدو أكبر بمقدار تضخم البنك وبمقدار ما يحوز التمركز نجاحات أكبر في ميدان النشاط البنكي»(13). «وإذا كانت البورصة فيما مضى، في السبعينات، مع ما كانت تتصف به من نزق الشباب» (تلميح «ناعم» إلى إفلاس البورصة في سنة 1873 وإلى فضائح غروندير وغير ذلك) «قد فتحت عهد تصنيع ألمانيا، فقد إذا بإمكان البنوك والصناعة في الوقت الحاضر أن «تنهض بالأمر وحدها». فسيطرة بنوكنا الكبرى على البورصة… ليس إلاّ تعبيرا عن الدولة الصناعية الألمانية المنظمة أكمل تنظيم. وإذا كان نطاق تأثير القوانين الاقتصادية النافذة أوتوماتيكيا يتقلص بهذا الشكل ويتسع، لحد خارق، نطاق الضبط الواعي من خلال البنوك، فبنتيجة ذلك تزداد لدرجة كبرى مسؤولية العدد القليل من القواد على الإقتصاد الوطني» – هذا ما كتبه البروفيسور الألماني شولتزه –غيفيرنيتز(14) المدافع عن الإمبريالية الألمانية والذي يعتبر شخصا نافذ الكلمة عند الامبرياليين في جميع البلدان ويسعى إلى طمس «أمر تافه» هو أن هذا «الضبط الواعي» من خلال البنوك يتلخص في نهب الجمهور من قبل حفنة من الاحتكاريين «المنظمين أكمل تنظيم». فإن مهمة البروفيسور البرجوازي ليست في كشف أحابيل الاحتكاريين أصحاب البنوك ولا فضح احتيالاتهم، بل في تجميلها.
وكذلك ريسر، الاقتصادي و«البنكير» الأبعد صيتا، يكتفي بعبارات فارغة بصدد وقائع يستحيل انكارها: «تفقد البورصة أكثر فأكثر خاصيتها التي لا غنى عنها مطلقا للاقتصاد كله ولتداول الأوراق المالية، وهي كونها المقياس الأكثر دقة، وكذلك ضابطا للحركات الاقتصادية المتجهة نحوها، يعمل بصورة أوتوماتيكية تقريبا»(15).
وبعبارة أخرى: إن الرأسمالية القديمة، رأسمالية المزاحمة الحرة مع ضابطها الذي لا يمكنها الاستغناء عنه، البورصة، تغيب في طيات الماضي. تحل محلها رأسمالية جديدة تتسم بسمات انتقالية بينة، بسمات مزيج من المزاحمة الحرة والاحتكار. وهنا يخطر عفوا على البال السؤال التالي: ألامَ «تنتقل» هذه الرأسمالية الحديثة؟ ولكن العلماء البرجوازيين يخافون من طرح هذا السؤال.
«منذ ثلاثين سنة كان أصحاب الأعمال المتزاحمون بحرية يقومون بتسعة أعشار الجهد الاقتصادي الخارج عن نطاق عمل «العمال» الجسدي. وفي الوقت الحاضر يقوم الموظفون بتسعة أعشار هذا الجهد الفكري في الاقتصاد. والنشاط البنكي يتقدم هذا التطور»(16) إن هذا الإعتراف من شولتزه-غيفيرنيتز يسوقنا مرة أخرى إلى السؤال عمَّا تنتقل إليه الرأسمالية الحديثة، الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية.
بين العدد الضئيل من البنوك التي تبقى في رأس الاقتصاد الرأسمالي بأكمله بحكم سير التمركز يظهر بصورة طبيعية ويشتد أكثر فأكثر الميل إلى الاتفاق الاحتكاري، إلى تروست بين البنوك. ليس في أمريكا تسعة بنوك، بل بنكان من أكبر البنوك عائدان لصاحبي المليارات روكفلر ومورغان، يسيطرون على رأسمال مقداره 11 مليار مارك(17). لقد أشرنا فيما تقدم إلى ابتلاع «شركة الخصم» «لبنك شافهاوزن الإتحادي» في ألمانيا. وقد أعطت جريدة «فرانكفورت زايتونغ» المعبرة عن مصالح البورصة لهذا الأمر التقدير التالي:
«مع اشتداد تمركز البنوك تتقلص دائرة المؤسسات التي يمكن بوجه عام أن تطلب منها القروض، وبحكم ذلك تشتد تبعية الصناعة الكبيرة لعدد ضئيل من المجموعات البنوك. وفي ظل الصلة الوثقى القائمة بين الصناعة وعالم رجال المال تقيد حرية حركة الشركات الصناعية المحتاجة لرأسمال البنوك. ولهذا تنظر الصناعة الكبيرة إلى اشتداد تكتل البنوك في التروستات (انضمام أو تحول إلى تروستات) بمشاعر مختلطة؛ الواقع أنه قد لوحظت مرارا بوادر إتفاقات معينة بين هذه أو تلك من اتحادات البنوك الكبرى، اتفاقات هدفها تقييد المزاحمة»(18).
وها نحن نرى مرة أخرى أن الكلمة الأخيرة في تطور النشاط البنكي هي الاحتكار.
أمّا بخصوص الصلة الوثقى القائمة بين البنوك والصناعة، ففي هذا الميدان بالضبط يبدو دور البنوك الجديدة ربما بأجلى شكل. فإذا كان البنك يقوم بخصم كمبيلات هذا الصناعي أو ذاك ويفتح له حسابا جاريا الخ.، فإن هذه العمليات مأخوذة على حدة لا تحد من استقلال هذا الصناعي قيد أنملة ولا يتعدى البنك دوره كوسيط متواضع. ولكن عندما تكثر هذه العمليات وتتوطد، وعندما «يجمع» البنك بين يديه مقادير هائلة من الرساميل وعندما يكون القيام بعمليات الحساب الجاري لهذا المشروع يمكن البنك من أن يعرف – وهذا ما يحدث في المعتاد – بصورة أدق وأكمل حالة الزبون الاقتصادية، تكون النتيجة خضوع الرأسمالي الصناعي للبنك خضوعا أكثر فأكثر.
وإلى جانب ذلك يتطور، إن أمكن القول، الاتحاد الشخصي بين البنوك والمشاريع الصناعية والتجارية الكبرى واندماج هذه وتلك عن طريق تملك الأسهم، عن طريق دخول مدراء البنوك في عضوية مجالس مراقبة (أو مجالس إدارة) المشاريع الصناعية والتجارية، وبالعكس. لقد جمع الاقتصادي الألماني ييدلس معلومات مفصلة عن هذا الشكل من تمركز المشاريع. فثمة ستة بنوك برلينين كبرى كانت ممثلة بواسطة مدرائها في 344 شركة صناعية وبواسطة أعضاء مجالس إدارتها في 407 شركات أخرى، أي في 751 شركة بالمجموع. وكان لها في 289 من هذه الشركات إمّا عضوان في مجالس المراقبة أو منصب الرئاسة في هذه المجالس. وبين هذه الشركات الصناعية التجارية نصادف مختلف فروع الصناعة والتأمين وطرق المواصلات والمطاعم والمسارح وصناعة المنتوجات الفنية وغير ذلك. ومن الجهة الأخرى وجد (في سنة 1910) في مجلس مراقبة هذه البنوك الستة نفسها 51 من كبار الصناعيين منهم مدير شركة كروب، ومدير شركة البواخر الهائلة «Hapag» (Hamburg-Amerika) (19) وهلم جرا والخ.. ومن سنة 1895 إلى سنة 1910 اشترك كل من هذه البنوك الستة في اصدار الأسهم والسندات لمئات عديدة من الشركات الصناعية، أي من 281 إلى 419 شركة(20).
«الإتحاد الشخصي» بين البنوك والصناعة يكتمل بـ«الاتحاد الشخصي» بين هذه وتلك والحكومة. فقد كتب ييدلس: «يقدمون المقاعد في مجالس المراقبة عن طيبة خاطر للشخصيات ذات الأسماء الطنانة وكذلك للموظفين سابقا في جهاز الدولة الذين يمكنهم أن يسهلوا (!!) لدرجة كبيرة العلاقات مع السلطات»… «ففي مجلس مراقبة بنك كبير نجد في المعتاد أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس بلدية برلين».
إن رسم وتكوين الاحتكارات الكبيرة الرساميل، إذا أمكن القول، يجريان اذن على قدم وساق وبكل الطرق «الطبيعية» و«الخارقة». ويتم بصروة منتظمة نوع من تقسيم للعمل بين عدة مئات من ملوك المال في المجتمع الرأسمالي الحديث:
«إلى جانب هذا الاتساع لميدان نشاط البعض من كبار الصناعيين» (الذين يدخلون في مجالس إدارة البنوك وغير ذلك) «ووضع منطقة صناعية معينة واحدة فقط تحت إشراف مدراء فروع البنوك في المناطق يحدث شيئا فشيئا التخصص بين مدراء البنوك الكبرى. وهذا التخصص أمر غير ممكن إلاّ في حالة ضخامة المؤسسة البنكية على العموم وسعة نطاق علاقاتها بالصناعة على الخصوص. ويجري تقسيم العمل هذا في اتجاهين: من جهة تعهد جميع العلاقات بالصناعة لأحد المدراء لتكون ميدانه الخاص، ومن الجهة الأخرى يأخذ كل مدير على نفسه مراقبة هذا المشروع أو ذاك أم مجموعة من المشاريع المتشابهة من حيث المهنة أو المصلحة»… (لقد بلغت الرأسمالية درجة المراقبة المنظمة على مختلف المشاريع)… «اختصاص هذا المدير هو الصناعة الألمانية وأحيانا صناعة ألمانيا الغربية وحدها» (ألمانيا الغربية هي من وجهة نظر الصناعة القسم الأكثر تطورا في ألمانيا)، «ويتخصص الآخرون بالعلاقات مع الدول الصناعية الأجنبية وبجمع المعلومات عن شخصيات الصناعيين والخ.، وبقضايا البورصة وهلم جرا. وفضلا عن ذلك غالبا ما يكلف كل مدير من مدراء البنك بشؤون منطقة معينة أو فرع صناعي معين؛ فيعمل أحدهم بصورة رئيسية في مجالس مراقبة شركات الكهرباء وآخر في المعامل الكيميائية، أو في معامل الجعة أو معامل السكر، ويعمل ثالث في المشاريع القليلة المنعزلة وإلى جانب ذلك في مجالس مراقبة شركات التأمين… وباختصار، لا ريب في أنه بمقدار اتساع العمليات وتنوعها يتسع في البنوك الكبرى تقسيم العمل بين المدراء بقصد (وعلى أن تكون النتيجة) رفعهم قليلا ما، إن أمكن القول، إلى ما فوق مستوى الشؤون البنكية الصرف، بقصد جعلهم أهلا لتفهم مجريات الأمور وأكثر تضلعا في المسائل الصناعية العامة وفي المسائل الخاصة بكل فرع من فروع الصناعة ولأعدادهم للعمل في منطقة نفوذ البنك الصناعية. نظام البنوك هذا يكتمل بميلها إلى أن ينتخب لمجلس مراقبتها أناس ذوو خبرة واسعة في الشؤون الصناعية وصناعيون وموظفون سابقون ولاسيما أولئك الذين خدموا في إدارات السكك الحديدية والمناجم» وهلم جرا(21).
ونجد في الميدان البنكي في فرنسا مؤسسات من ذات النوع مع اختلاف جد يسير. «فالكريدي ليونيه»، مثلا، أحد البنوك الفرنسية الثلاثة الكبرى، قد نظم لديه «إدارة خاصة لجمع المعلومات المالية» (service des études financières) ويعمل في هذه الإدارة بصورة دائمة أكثر من خمسين شخصا من المهندسين والخبراء في الاحصاء والاقتصاديين والحقوقيين الخ.. وتكلف هذه الإدارة من 600 إلى 700 ألف فرنك في السنة. وتنقسم هذه الإدارة بدورها إلى ثمانية أقسام: قسم مختص بجمع المعلومات عن المشاريع الصناعية ويدرس القسم الآخر الاحصاءات العامة ويدرس القسم الثالث شركات السكك الحديدية والبواخر والرابع الأرصدة والخامس التقارير المالية والخ(22).
وتكون النتيجة، من جهة، اندماج متزايد، أو كما أحسن التعبير بوخارين، اقتران الرأسمال البنكي والصناعي؛ ومن الجهة الأخرى، صيرورة البنوك إلى مؤسسات ذات «طابع شامل» حقا. ونرى من الضروري أن نورد بالنص عبارات ييدلس حول هذه المسألة، وهو الكاتب الذي درس المسألة أحسن من الآخرين:
«بنتيجة دراسة العلاقات الصناعية بمجموعها نقرر أن المؤسسات المالية التي تعمل للصناعة هي ذات طابع شامل. فعلى نقيض الأشكال الأخرى للبنوك، على نقيض المطالب التي تصاغ أحيانا في المطبوعات والقائلة بأنه ينبغي على البنوك أن تتخصص في ميدان معين أو فرع صناعي معين لكيلا تفقد الأرض تحت قدميها، – تسعى البنوك الكبرى وراء جعل علاقاتها مع المشاريع الصناعية متنوعة إلى أقصى حد ممكن من حيث الأماكن والإنتاج، تسعى وراء إزالة عدم التناسب في توزيع الرساميل بين مختلف المناطق أو الفروع الصناعية، عدم التناسب الذي يجد تفسيره في تاريخ مختلف المشاريع». «هناك اتجاه يتلخص في جعل هذه العلاقات بالصناعة ظاهرة عامة؛ واتجاه آخر يتلخص في جعل هذه العلاقات وطيدة وفعالة؛ وقد طبق الاتجاهان في البنوك الستة الكبرى، إن لم يكن بصورة كاملة، ففي نطاق واسع وبدرجة واحدة».
غالبا ما تشكو الأوساط الصناعية والتجارية من «إرهاب» البنوك. وهل من مجال لاستغراب هذه الشكاوى إذا كانت البنوك الكبرى «تتحكم» كما يظهر المثال التالي: في 19 نوفمبر سنة 1901 وجه أحد البنوك البرلينية المسمات «د» (أسماء البنوك الأربعة الكبرى تبدأ بحرف د) إلى مجلس إدارة سينديكا الأسمنت في وسط وشمال غرب ألمانيا الرسالة التالية: «يتضح من النبأ الذي نشر تموه في الثامن عشر من الشهر الجاري في الجريدة الفلانية أن علينا أن نأخذ بالحسبان أنه يحتمل أنكم ستتخذون في الجمعية العمومية التي ستعقدها سينديكاتكم في الثلاثين من الشهر الجاري قرارات يمكنها أن تحدث في مشروعكم تغييرات لا يسعنا قبولها. ولذلك فنحن، مع مزيد أسفنا، مضطرون إلى قطع الاعتماد الذي فتحناه لكم… ولكن إذا لم تتخذ في هذه الجمعية العمومية قرارات لا يسعنا قبولهل وإذا قدمت لنا الضمانات المناسبة حول هذا الشأن فيما يخص المستقبل فنحن نعرب عن استعدادنا للشروع في مداولات بقصد فتح اعتماد جديد لكم»(23).
إنها في جوهر الأمر عين شكاوى الرأسمال الصغير من ظلم الرأسمال الكبير، ولكن في هذه الحالة وقع في فئة «الصغار» سينديكا برمته! إن الصراع القديم بين الرأسمال الصغير والرأسمال الكبير يستأنف في درجة من التطور جديدة، أعلى جدا. ومن المفهوم أن مؤسسات البنوك الكبرى التي تتصرف بالمليارات يمكنها كذلك أن تدفع إلى الأمام تقدم التكنيك بوسائل لا يمكن أن تقارن بوجه مع الوسائل السابقة. فالبنوك تؤسس، مثلا، جمعيات خاصة للأبحاث التكنيكية لا تنتفع بنتائج دراساتها إلاّ المشاريع الصناعية «الصديقة» طبعا. ومن هذه الجمعيات «جمعية دراسة مسألة السكك الحديدية الكهربائية» و«المكتب المركزي للأبحاث العلمية والتكنيكية» وهلم جرا.
ولا ريب في أن المشرفين على البنوك الكبرى أنفسهم يرون أن ظروفا جديدة للاقتصاد الوطني آخذة في التكوين؛ ولكنهم عاجزون إزاءها.
يقول ييدلس: «إن من تتبع أثناء السنوات الأخيرة تبدل الأشخاص في مناصب المدراء وأعضاء مجالس المراقبة في البنوك الكبرى لا يمكنه ألاّ يرى انتقال السلطة بالتدريج إلى أيدي أشخاص يعتبرون التدخل النشيط في التطور الصناعي العام مهمة الزامية من مهام البنوك الكبرى تغدو ملحة أكثر فأكثر، علما بأن ذلك هو مبعث التباعد بين هؤلاء الأشخاص ومدراء البنوك القدماء على الصعيد العملي وغالبا على الصعيد الشخصي أيضا. والقضية هي، في الجوهر، قضية ما إذا كانت البنوك، بوصفها مؤسسات تسليف، لا تتضرر من تدخل البنوك هذا في مجرى الإنتاج الصناعي، وما إذا كانت لا تضحي بالمبادئ الوطيدةوالأرباح الأكيدة من أجل نشاط لا يجمعه جامع بدورها كوسيط في التسليف ويدفع البنوك إلى صعيد تكون فيه أكثر من السابق خاضعة لتقلبات الأحوال الصناعية العمياء. هذا ما يقوله الكثيرون من مدراء البنوك القدماء؛ أمّا أكثر المدراء الشباب فيعتبرون التدخل النشيط في المسائل الصناعية لا يختلف عن الضرورة التي نشأت عنها البنوك الكبرى والمشاريع الصناعية البنكية الحديثة في وقت واحد مع الصناعة الضخمة الحديثة. ويتحقق الجانبان حول نقطة واحدة هي عدم وجود أية مبادئ وطيدة أو هدف معين لنشاط البنوك الكبرى الجديد»(24).
انقضى عهد الرأسمالية القديمة. والجديدة هي انتقال إلى جديد ما. أمّا البحث عن «مبادئ وطيدة وهدف معين» «للتوفيق» بين الاحتكارات والمزاحمة الحرة فهو باطل طبعا. فاعترافات أصحاب الخبرة لا تشبه بوجه المديح الذي يكيله لفضائل الرأسمالية «المنظمة» المدافعون الرسميون عنها من أمثال شولتزه-غيفيرنيتز وليفمن ومن لف لفهم من «النظريين».
في أي زمن بالضبط توطد بصورة نهائية «النشاط الجديد» للبنوك الكبرى؟ نجد لدى ييدلس الجواب الدقيق لحد ما على هذا السؤال الهام:
«العلاقات بين المشاريع الصناعية بمضمونها الجديد وأشكالها الجديدة وهيئاتها الجديدة أي البنوك الكبرى المنظمة في وقت معاً على الطريقة المركزية واللامركزية، لم تتكون قطعا كظاهرة مميزة للاقتصاد الوطني قبل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي، وبالإمكان بمعنى معين تأخير نقطة البدء هذه إلى سنة 1897 لما حدث فيها من «اندماجات» كبرى بين المشاريع ادخلت لأول مرة الشكل الجديد للتنظيم اللامركزي لأسباب تتعلق بالسياسة الصناعية التي تمارسها البنوك. ولعل الانضباط أن ندفع نقطة البدء هذه إلى تاريخ أقرب، لأن أزمة سنة 1900 قد زادت بصورة هائلة من سير التمركز ووطدت هذا السير سواء في الصناعة أو في البنوك محولة لأول مرة الصلات بالصناعة إلى احتكار حقيقي للبنوك الكبرى وجاعلة هذه الصلات أوثق وأقوى جدا»(25).
إذن، إن القرن العشرين هو نقطة التحول من الرأسمالية القديمة إلى الحديثة، من سيطرة الرأسمال بوجه عام إلى سيطرة الرأسمال المالي.
الفصل الثالث
الرأسمال المالي والطغمة المالية
كتب هيلفردينغ: «إن قسما متزايدا من الرأسمال الصناعي لا يعود إلى الصناعيين الذين يستخدمونه. وهم لا يستطيعون الحصول على امكانية التصرف به إلاّ عن طريق البنك الذي يمثل ازاءهم مالك الرأسمال. ومن الجهة الأخرى يتأتى على البنك أن يوظف في الصناعة قسما متزايدا من رأسماله. وبسبب ذلك يصبح أكثر فأكثر رأسماليا صناعيا. وهذا الرأسمال البنكي – أي الرأسمال النقدي – الذي تم تحويله بهذه الطريقة إلى رأسمال صناعي في الواقع، أسميه «الرأسمال المالي». «فالرأسمال المالي هو إذن الرأسمال الموجود تحت تصرف البنوك والذي يستخدمه الصناعيون»(1).
وهذا التعريف غير كامل لأنه لا يشير إلى ظروف في منتهى الأهميةـ نعني به نمو تمركز الإنتاج والرأسمالي إلى درجة يفضي معها التمركز وقد أفضى إلى الاحتكار. بيد أن مبحث هيلفردينغ بوجه عام ولا سيما الفصلين السابقين للفصل الذي اقتبسنا منه هذا التعريف يؤكد دور الاحتكارات الرأسمالية.
تمركز الإنتاج؛ الاحتكارات الناشئة عن هذا التمركز؛ اندماج أو اقتران البنوك والصناعة – هذا هو تاريخ نشوء الرأسمال المالي وفحوى هذا المفهوم.
ينبغي علينا أن نبين الآن أن «تحكم» الاحتكارات الرأسمالية في الوضع العام للإنتاج البضاعي وللملكية الخاصة يصير بصورة محتومة إلى سيطرة الطغمة المالية. ولنلاحظ أن ممثلي العلم البرجوازي الألماني – وغير الألماني – أمثال ريسر و شولتزه-غيفيرنيتز وليفمن وأضرابهم هم جميعا من مداحي الإمبريالية والرأسمال المالي. فهم لا يكشفون، بل يطمسون ويطلون بالأصباغ «آلية» نشوء الطغمة المالية وأحابيلها ومقادير مداخيلها «الحلال والحرام» وصلاتها بالبرلمانات وغير ذلك والخ.. وهم يتخلصون من «المسائل اللعينة» بالعبارات الطنانة الرنانة المبهمة وبنداءات لإيقاظ «شعور المسؤولية» لدى مدراء البنوك وبكيل المديح لـ«شعور الواجب» لدى الموظفين البروسيين وبتحليل جدي لتفاصيل مشروعات قوانين لا قيمة لها على الإطلاق بصدد «المراقبة» و«التحديد» وبلغو نظري من نوع، مثلاً، التعريف «العملي» المزعوم الذي سجله البروفسور ليفمن: «… التجارة هي نشاط عملي هدفه جمع الخيرات وحفظها ووضعها تحت التصرف»(2). (حرف التأكيد في المؤلف للبروفيسور نفسه… يستنتج إذن أن التجارة كان يمارسها الإنسان البدائي أيضا الذي كان يجهل التبادل وأنها ستبقى كذلك في المجتمع الاشتراكي!
بيد أن الوقائع الفظيعة التي تتعلق بسيطرة الطغمة المالية الفظيعة تفقأ العين، ولذا نشأ في جميع البلدان الرأسمالية، في أمريكا وفي فرنسا وفي ألمانيا، أدب يتمسك بوجهة النظر البرجوازية ولكنه يعطي مع ذلك عن الطغمة المالية صورة صادقة تقريبا وينتقدها، وإن انتقادا مبتذلا طبعاً.
ينبغي أن نجعل حجر الزاوية «نظام الاشتراك» الذي سبق لنا أن تناولناه ببضع كلمات. وهاكم كيف يصف كنه القضية الاقتصادي الألماني هيمان الذي كان بين الأولين الذين أعاروه اهتمامهم إن لم يكن الأول:
«المدير يشرف على الشركة الأساسية («الشركة الأم») بالحرف)، وهي بدورها تسيطر على الشركات التابعة لها («الشركات البنات») التي تسيطر بدورها على «الشركات الحفيدات» وهلم جرا. وهكذا يغدو بإمكان المرء، دون أن يملك رأسمالا كبيرا جدا، أن يسيطر على ميادين هائلة من ميادين الانتاج. وفي الواقع، إذا كانت حيازة 50% من الرأسمال كافية على الدوام للإشراف على الشركة المساهمة، فحسب القائد أن يملك مليونا واحدا ليحصل على امكانية الإشراف على ثمانية ملايين من الرأسمال لدى «الشركات الحفيدات». وإذا اتسع هذا «التشابك» يصبح بإمكان صاحب المليون أن يشرف على ستة عشر مليونا، إثنين وثلاثون مليونا والخ.»(3).
وفي الواقع تبين الخبرة أن تملك 40% من الأسهم كاف للتحكم بشؤون الشركة المساهمة(4)، لأن قسما معينا من المساهمين الصغار المبعثرين لا يمكنهم في الواقع الاشتراك في الجمعيات العمومية، الخ.. إن صبغ تملك الأسهم بالصبغة «الديموقراطية»، إن هذه العملية التي ينتظر منها السفسطائيون البرجوازيون والانتهازيون «الإشتراكيون-الديموقراطيون هم أيضا» (أو يؤكدون أنهم ينتظرون منها) «اصطباغ الرأسمال بالصبغة الديموقراطية» وتعاظم دور وأهمية الانتاج الصغير وغير ذلك ليست في الواقع إلاّ وسيلة من وسائل زيادة بأس الطغمة المالية. ولهذا السبب، مع أسباب أخرى، يسمح التشريع في البلدان الرأسمالية الأرقى أو الأقدم و«الأكثر خبرة» بإصدار أسهم أصغر. في ألمانيا لا يسمح التشريع بإصدار أسهم بمبلغ أقل من ألف مارك؛ ولذا ينظر طواغيت المال الألمان بعين الحسد إلى إنجلترا التي يسمح فيها القانون بإصدار أسهم بقيمة جنيه سترليني واحد (يعادل عشرون ماركا أو نحو عشرة روبلات). في السابع من يونيو سنة 1900 صرح سيمنس، أحد كبار الصناعيين و«ملوك المال» الألمان قائلا في الريستاخ أن «السهم من فئة الجنيه الستيرليني الواحد هو أساس الإمبريالية البريطانية»(5) لدى هذا التاجر مفهوم عن كنه الإمبريالية أعمق جدا وأكثر «ماركسية» من مفهوم كاتب ماجن يعتبر مؤسس الماركسية الروسية ويحسب الإمبريالية خصلة غير حميدة فطر عليها شعب من الشعوب…
ولكن «نظام الاشتراك» لا يقتصر على رفع سلطان الاحتكاريين لدرجة هائلة؛ فهو، عدا ذلك، يمكن من ارتكاب شر الموبيقات والمنكرات ومن تشليح الجمهور دون عقاب: لأن المشرفين على «الشركة الأم» هم رسميا، بموجب القانون، غير مسؤولين عن «الشركة البنت» التي تعتبر «مستقلة» والتي يمكن عن طريق «تمشيه» كل شيء. وهاكم مثلا اقتبسناه عن عدد ماي سنة 1914 من المجلة الألمانية «البنك»:
««الشركة المساهمة لفولاذ اللوالب» في كاسل كانت لعدة سنوات مضت تعتبر مشروعا من المشاريع الألمانية التي تعود بأكبر المداخيل. وسوء الإدارة قد بلغ بالأمور حدا هبطت معه الأرباح التي توزع على حملة الأسهم من 15% إلى 0%. وقد اتضح أن مجلس الادارة قد قدم، بدون علم المساهمين، لاحدى «شركات البنات» «هاسيا» التي لا يتجاوز رأسمالها الاسمي عدة مئات من ألوف الماركات سلفة بمبلغ 6 ملايين مارك. وفي حسابات «الشركة الأم» لم يرد ذكر لهذه السلفة التي تبلغ نحو ثلاثة أضعاف الرأسمال المساهم «للشركة الأم». وقد كان هذا الاغفال مشروعا تماما من الناحية الحقوقية وكان بإمكانه أن يستمر سنتين كاملتين، لأن ذلك لا يخرق أي مادة من مواد التشريع التجاري. ورئيس مجلس المراقبة الذي وقع، بوصفه الشخص المسؤول، على الميزانيات المزورة قد كان ولا يزال رئيسا للغرفة التجارية في كاسل. ولم يعرف المساهمون بهذه السلفة المقدمة لشركة «هاسيا» إلاّ بعد مرور وقت طويل عندما اتضح أنها غلطة…» (لقد كان على الكاتب أن يضع هذه الكلمة بين قوسين)…«وعندما هبطت قيمة أسهم «فولاذ اللولب» 100% تقريبا بسبب عرضها للبيع من قبل المطلعين على خفايا الأمور…
إن هذا المثال النموذجي لتلفيق الميزانيات والمألوف تماما في الشركات المساهمة بين لنا السبب الذي يجعل مجالس إدارتها تجازف في القضايا الخطرة بجرأة أكبر من جرأة أصحاب الأعمال الفرديين. فالطريقة الحديثة لوضع الميزانيات، عدا أنها تسهل اخفاء المجازفات عن المساهم المتوسط، تمكن أصحاب المصلحة الرئيسيين من النجاة بجلودهم عن طريق بيع الأسهم في الوقت المناسب في حالة عدم نجاح التجربة، في حين أن صاحب العمل المنفرد يدفع من جيبه مسؤولية كل ما يفعل…
إن ميزانيات الكثير من الشركات المساهمة تشبه اطراس القرون الوسطى التي ينبغي على المرء أن يمحو في بادئ الأمر النص المكتوب ليكشف تحته الرموز التي تعطي معنى المخطوطة الصحيح» (الأطراس هي رقوق غطيت نصوصها الأولى لتكتب في مكانها نصوص جديدة).
«إن أسهل وسيلة لجعل الميزانيات غير مفهومة وبالتالي الوسيلة الأكثر انتشارا هي تقسيم المشروع الموحد إلى عدة أقسام عن طريق تأسيس «الشركات البنات» أو عن طريق ضمها. وفائدة هذه الطريقة، من وجهة نظر مختلف الأهداف – من مشروعة وغير مشروعة – هي بينة لحد غدت معه من النوادر اليوم الشركات الكبرى التي لم تتبع هذه الطريقة»(6).
وكمثل على تطبيق هذه الطريقة بأوسع شكل يذكر الكاتب الشركة الاحتكارية الكبرى الذائعة الصيت «الشركة العامة للكهرباء» (AEG، وسنتحدث عنها فيما بعد). لقد اعتقد في سنة 1912 أن هذه الشركة تشترك في 175-200 شركة/ مسيطرة عليها طبعا وشاملة بالمجموع رأسمالا يقدر بـ 1.5 مليار مارك(7).
إن كل قواعد المراقبة والتفتيش ونشر الميزانيات ووضع تصاميم معينة لها وإقامة المراقبة وغير ذلك من الأمور التي يلهي بها انتباه الجمهور الأساتذة والموظفون ذوو النية الحسنة، أي الذين ينوون عن حسن قصد الدفاع عن الرأسمالية وتجميل وجهها، هي أشياء لا قيمة لها في هذا الأمر، لأن الملكية الخاصة مقدسة فلا يمكن منع أحد من شراء الأسهم وبيعها وتبديلها ورهنها والخ..
ونستطيع أن نتبين النطاق الذي بلغه «نظام الاشتراك» في البنوك الروسية الكبرى من الأرقام التي ذكرها ي. آغاد الذي خدم 15 سنة موظفا في البنك الروسي الصيني ونشر في ماي سنة 1914 مؤلفا عنوانه غير دقيق بعض الشيء : «البنوك الكبرى والسوق العالمية»(8). يقسم المؤلف البنوك الروسية الكبرى إلى فريقين أساسيين: أ) التي تعمل على أساس «نظام الاشتراك» وب) «المستقلة» معطيا مع ذلك بصورة كيفية لمفهوم «الاستقلال» معنى الاستقلال عن البنوك الأجنبية؛ والمؤلف يقسم الفريق الأول إلى ثلاث فرق ثانوية: 1) الاشتراك الألماني؛ 2) الاشتراك الإنجليزي؛ 3) الإشتراك الفرنسي، قاصدا هنا «اشتراك» وسيطرة البنوك الأجنبية الكبرى العائدة للأمم المذكورة. ويقسم المؤلف رساميل البنوك إلى «رساميل» موظفة «بصورة منتجة» (في التجارة والصناعة) و«بصورة مضاربة» (في البورصة والعمليات المالية) حاسبا بما فطر عليه هو البرجوازي الصغير من تفكير اصلاحي برجوازي صغير أن بالإمكان، مع بقاء الرأسمالية، فصل نوع التوظيف الأول عن الثاني وإزالة الثاني.
وها هي أرقام المؤلف:
موجودات البنوك (حسب حسابات أكتوبر – توفمبر 1913) بملايين الروبلات
فرق البنوك الروسية الرساميل الموظفة
بصورة منتجة بصورة مضاربة المجموع
أ 1) أربعة بنوك: السيبيري التجاري، الروسي، الدولي، بنك الخصم 413.7 859.1 1282.8
أ 2) بنكان: التجاري الصناعي والروسي الإنجليزي 239.3 169.1 408.4
أ 3) خمسة بنوك: الروسي الآسوي، الخاص في سانت بطرسبورغ، الازوف-الدون، الاتحاد في موسكو، الروسي الفرنسي التجاري 811.8 661.2 1383.0
(11 بنكا) المجموع..أ)= 1364.8 1789.4 3054.2
ب) ثمانية بنوك: التجاري بموسكو، الفولغا-كاما، يونكر وشركاه، التجاري بسانت بطرسبورغ فافالبرغ السابق، بنك موسكو ريابوشينسكي السايق، الخصم بموسكو، التجاري بموسكو، الخاص بموسكو 504.2 391.1 895.3
(19 بنكا) المجموع ...
1869.0 2080.5 3949.5
يتضح من هذه الأرقام أن أكثر من ¾ ، أي أكثر من ثلاثة مليارات، من نحو أربعة مليارات روبل تؤلف الرأسمال «العامل» للبنوك الكبرى تعود لبنوك ليست في الجوهر إلاّ «شركات بنات» للبنوك الأجنبية وفي الدرجة الأولى للبنوك الباريسية (للبنوك الثلاثة المشهورة: «الاتحاد الباريسي» و«بنك باريس والأراضي المنخفضة» و«الشركة العامة») وللبنوك البرلينية (ولا سيما «البنك الألماني» و«شركة الخصم»). وثمة بنكان من أكبر البنوك الروسية، «البنك الروسي» («البنك الروسي للتجارة الخارجية») و«البنك الدولي» («بنك سانت بطرسبورغ الدولي للتجارة») قد رفعا رأسمالهما من سنة 1906 إلى سنة 1912 من 44 إلى 98 مليون روبل واحتياطهما من 15 إلى 39 مليون روبل «قائمين بثلاثة أرباع أعمالهما برساميل ألمانية»؛ والبنك الأول تابع لـ«كونسرن» «البنك الألماني» في برلين والثاني تابع لـ«شركة الخصم» في برلين. إن أغاد الطيب ساخط أشد السخط لأن البنوك البرلينية تملك أكثرية الأسهم، الأمر الذي يجعل المساهمين الروس في حالة عجز. وغني عن القول أن البلاد التي تصدر رساميلها تنال «الزهرة»: فـ«البنك الألماني» في برلين مثلاً قد أصدر في برلين أسهم البنك التجاري السيبيري وأبقاها في محفظته سنة كاملة ثم باعها بسعر 193 مقابل 100، أي بضعفي سعرها تقريبا و«جنى» زهاء 6 ملايين روبل ربحا يسميه هيلفردينغ «الربح التأسيسي».
يقدر المؤلف كامل «قوة» كبريات بنوك بطرسبورغ بـ 8235 مليون روبل، أي بنحو 8.25 مليارات روبل؛ أمّا «اشتراك» أو، بالأصح، سيطرة البنوك الأجنبية فهو يحددها بالنسب التالية: البنوك الفرنسية – 55%؛ البنوك الإنجليزية – 10%؛ البنوك الألمانية – 35%. ومن مجموع الرأسمال العامل هذا الذي يبلغ 8235 مليون روبل ثمة 3687 مليون روبل، أي أكثر من 40% تعود وفق حسابات المؤلف للسينديكات: برودأوغول، بروداميت، ولسنديكات صناعة البترول والتعدين والأسمنت. وعلى هذا فإن اندماج الرأسمال البنكي والصناعي قد خطا كذلك في روسيا خطوات هائلة إلى الأمام بسبب تشكيل الاحتكارات الرأسمالية.
إن الرأسمال المالي المتركز في أيد قليلة والذي يمارس الاحتكار فعلا يبتز أرباحا طائلة تتزايد باستمرار من تأسيس الشركات وإصدار الأوراق المالية ومنح القروض للدولة الخ.، موطدا بذلك سيطرة الطغمة المالية وفارضا على المجتمع بأكمله جزية لمصلحة المحتكرين. وهاكم مثلا من أمثلة لا تحصى، ذكره هيلفردينغ عن «تحكم» التروستات الأمريكية: في سنة 1887 أسس هافيميير تروستا للسكر عن طريق دمج 15 شركة صغيرة بلغ مجموع رأسمالها – 6.5 ملايين دولار. أمّا رأسمال التروست فقد تم «تمييعه بالماء» حسب التعبير الأمريكي وقدر بـ 50 مليون دولار. و«مضاعفة الرأسمال» هذه تأخذ بالحسبان الأرباح الاحتكارية المقبلة، كما أن تروست الفولاذ في أمريكا ذاتها يأخذ بالحسبان الأرباح الاحتكارية المقبلة إذ يشتري بصورة متزايدة الأراضي التي تحوي مصادر الحديد. وقد فرض تروست السكر في الواقع أسعاره الاحتكارية وحصل على مداخيل مكنته من أن يدفع لحملة الأسهم 10% ربحا مقابل رأسمال «مميع بالماء» 7 أضعاف، أي نحو 70% مقابل الرأسمال المدفوع فعلا عند تأسيس التروست! وفي 1909 سنة بلغ رأسمال التروست 90 مليون دولار. خلال 22 سنة تضاعف الرأسمال أكثر من 10 أضعاف.
وفي فرنسا اتخذت هيمنة «الطغمة المالية» («ضد الطغمة المالية في فرنسا» – عنوان كتاب مشهور من وضع ليزيس، صدرت طبعته الخامسة في سنة 1908) شكلا لا يكاد يختلف. فثمة أربعة بنوك كبرى تتمتع بـ«الاحتكار» لا النسبي، بل «المطلق» في إصدار الأوراق المالية. وهي، في الواقع، «تروست البنوك الكبرى». والاحتكار يضمن الأرباح الإحتكارية من الإصدار. وفي حالة القروض لا تقبض البلاد المستدينة في المعتاد أكثر من 90% من المبلغ؛ وتبقى الـ 10% حصة للبنوك وغيرها من الوسطاء. وكان ربح البنوك 8% من القرض الروسي الصيني البالغ 400 مليون فرنك و10% من القرض الروسي (سنة 1904) البالغ 800 مليون فرنك و 18.75% من القرض المراكشي (سنة 1904) البالغ 62.5 مليون فرنك. إن الرأسمالية التي بدأت تطورها من الرأسمال المرابي الصغير تنهي تطورها بالرأسمال المرابي الضخم. ويقول ليزيس: «الفرنسيون هم مرابو أوروبا». إن جميع ظروف الحياة الاقتصادية تتغير تغيرا عميقا بحكم تحول الرأسمالية هذا. فـ«البلاد» تستطيع أن تثري من الربا مع بوار السكان والصناعة والتجارة والمواصلات البحرية. «إن خمسين شخصا يمثلون رأسمالا بـ 8 ملايين فرنك يمكنهم أن يتصرفوا بمليارين في أربعة بنوك». ونظام «الإشتراك»، وقد اطلعنا عليه، يفضي إلى نفس النتائج: فثمة بنك من البنوك الكبرى «الشركة العامة» يصدر 64 ألف سند لإحدى «الشركات البنات»، «معامل تكرير السكر بمصر». ولما كان سعر السند 150%، يربح البنك 50 كوبيكا من كل روبل. وقد ظهر أن أرباح هذه الشركة وهمية، فخسر «الجمهور» من 90 إلى 100 مليون فرنك؛ «وكان أحد مدراء «الشركة العامة» عضوا في مجلس إدارة «معامل تكرير السكر»». ولا غرو إذا اضطر المؤلف أن يخلص إلى هذا الاستنتاج: «الجمهورية الفرنسية هي مملكة مالية»؛ «إن سيطرة الطغمة المالية هي سيطرة مطلقة؛ فهي تهيمن على الصحافة وعلى الحكومة»(9).
إن جسامة عائدات إصدار الأوراق المالية، بوصفه احدى عمليات الرأسمال المالي الرئيسية، تلعب دورا هاما للغاية في تطوير وتوطيد الطغمة المالية. وتقول المجلة الألمانية «البنك»: «لا يوجد في داخل البلاد مشروع يعطي، ولو على وجه التقريب، مثل هذه الأرباح العالية التي تعطيها الوساطة في إصدار القروض الأجنبية»(10).
«ليست هناك عملية من عمليات البنوك تعود بأرباح عالية كالاصدار». وبموجب أرقام «الاقتصادي الألماني» بلغ الربح السنوي المتوسط من اصدار الأوراق المالية للشركات الصناعية:
1895 38.6% 1897 66.7% 1899 66.9%
1896 36.1% 1898 67.7% 1900 55.2%
«في غضون عشر سنوات، 1891-1900، «عاد» إصدار الأوراق المالية على الشركات الصناعية الألمانية بأكثر من مليار»(11).
وإذا كانت أرباح الرأسمال المالي في منتهى الضخامة أثناء النهضات الصناعية، ففي أثناء مراحل الانحطاط تهلك المشاريع الصغيرة وغير الوطيدة؛ أما البنوك الكبرى فـ«تشترك» في شرائها بأسعار بخسة أو في «إشفائها» و«إعادة تنظيمها» جانية الفوائد من ذلك. وفي حالة «إشفاء» المشاريع المصابة بالعجز «يخفض الرأسمال المساهم، أي توزع المداخيل على رأسمال أقل وتحسب في المستقبل على أساسه. أو يجري، في حالة هبوط العائدات إلى الصفر، اجتذاب رأسمال جديد يحمل عائدات كافية بدمجه بالرأسمال القديم ذي العائدات القليلة». ويضيف هيلفردينغ قائلا: «ولنلاحظ في سياق الحديث أن جميع عمليات الاشفاء وإعادة التنظيم هذه هي، في نظر البنوك، ذات أهمية مزدوجة/ أولا، باعتبارها عملية رابحة وثانيا، باعتبارها فرصة ملائمة لتجعل الشركات المحتاجة في حالة تبعية لها»(12).
وهاكم المثل: الشركة المساهمة لاستخراج المعادن، «أونيون» («إتحاد») بدورتموند، تأسست سنة 1872 برأسمال مساهم يقرب من 40 مليون مارك وارتفع سعر أسهمها إلى 170% بعد أن دفعت لحملة الأسهم في سنتها الأولى أرباحا بنسبة 12%. وقد سحب الرأسمال المالي القشطة وربح مبالغا «تافها» يوازي 28 مليون مارك «فقط». وعند تأسيس هذه الشركة لعب الدور الرئيسي ذلك البنك الألماني الضخم، «شركة الخصم»، الذي رفع رأسماله سليما معافى إلى 300 مليون مارك. ثم هبط سهم «أونيون» إلى الصفر. فاضطر المساهمون إلى الموافقة على «حذف» الرأسمال، أي على خسارة جزء منه لكيلا يفقدوا كل شيء. وبنتيجة جملة من عمليات «الإشفاء» طار من سجلات شركة «أونيون» خلال ثلاثين سنة مبلغ يزيد على 73 مليون مارك. «وفي الوقت الحاضر لا يملك المساهمون المؤسسون لهذه الشركة أكثر من 5% من القيمة الاسمية لأسهمهم»(13)، ولكن البنوك ما تنفك «تربح» من كل عملية من عمليات «الإشفاء».
ومن عمليات الرأسمال المالي الرابحة للغاية كذلك المضاربة بقطع الأراضي الموجودة في ضواحي المدن الكبرى التي تتسع بسرعة. وفي هذه الحالة يندمج احتكار البنوك باحتكار الريع العقاري وباحتكار طرق المواصلات، لأن ارتفاع أسعار قطع الأراضي وإمكانية بيعها بصورة مفيذة قطعا صغيرة الخ.، يتوقفان بوجه خاص على سهولة المواصلات مع مركز المدينة؛ ووسائط المواصلات هذه هي في أيدي الشركات الكبرى المتصلة بهذه البنوك ذاتها عن طريق نظام الاشتراك واقتسام مناصب المدراء. ويكون الحاصل ما أطلق عليه الكاتب الألماني ايشفيغه، المحرر في مجلة «البنك» والذي انصرف بصورة خاصة إلى دراسة عملية التجارة بقطع الاراضي ورهنها والخ.، اسم «المستنقع»: مضاربة مسعورة بقطع الأراضي في ضواحي المدن، إفلاس شركات البناء كشركة «بوسفاو وكناور» في برلين التي اكتسبت من النقود ما بلغ 100 مليون مارك بواسطة «البنك الألماني» «الضخم المعتبر» الذي كان يعمل بطبيعة الحال بموجب نظام «الإشتراك»، أي سرا، في الخفاء، والذي تخلص من الورطة ولم يخسر سوى 12 مليون مارك؛ ثم خراب صغار الملاكين والعمال الذين لم يقبضوا شيئا من شركات البناء المزيفة؛ وصفقات غير قانونية مع هيئات الادارة والشرطة «النزيهة» في برلين من أجل وضع اليد على معاملات أعطاء شتى المعلومات عن قطع الأراضي ومنح رخص البلدية لتشييد الأبنية وغير ذلك وهلم جرا(14).
إن «العادات الأمريكية» التي طالما رفع الأساتدة الأوروبيون والبرجوازيون الطيبون بشأنها عيون الضراعة نفاقا إلى السماء قد غدت في عصر الرأسمال المالي عادات لكل مدينة كبيرة في أي بلد من البلدان بمعنى الكلمة الحرفي.
ففي أوائل سنة 1914 كانوا يتحدثون في برلين عن تأسيس «تروست للنقل»، أي «وحدة مصالح» بين ثلاثة مشاريع برليني للنقل: سكة الحديد الكهربائية في المدينة وشركة ترام وشركة سيارات الأومينيبوس. وكتبت مجلة «البنك»: «علمنا أنهم عقدوا النية على ذلك منذ تبين أن أكثرية أسهم شركة سيارات الأومينيبوس قد انتقلت إلى أيدي شركتي نقل أخريين… ويمكننا أن نثق كليا بأن الاشخاص الذين يستهدفون ذلك، يأملون أن يبلغوا، عن طريق تنظيم إدارة واحدة لشؤون النقل، الحصول على توفيرات يعود قسم منها في نهاية الأمر إلى الجمهور. ولكن ما يعقد المسألة هو أن البنوك تقف وراء تروست النقل الجاري تشكيله وأنها تستطيع، متى أرادت، أن تخضع لمصالح تجارتها بقطع الأراضي وسائط المواصلات التي تحتكرها. ولكيما نقتنع بأن هذا الافتراض طبيعي حسبنا أن نتذكر أنه منذ تأسيس شركة سكة الحديد الكهربائية في المدينة ارتبطت بها مصالح ذلك البنك الكبير الذي شجع على تأسيسها. نعني أن مصالح النقل هذا قد تشابك بمصالح التجارة بقطاع الأراضي. والقضية هي أن الخط الشرقي لهذه السكة الحديدية كان ينبغي أن يشمل قطع الأراضي التي باعها هذا البنك فيما بعد، عندما أصبح مد هذا الخط أمرا مضمونا، بربح كبير لنفسه ولبعض الشركاء…»(15).
ما أن يتشكل الإحتكار ويتصرف بالمليارات حتى يتخلل بصورة محتومة جميع نواحي الحياة الاجتماعية بصرف النظر عن النظم السياسية وعن كل «التفاصيل» الأخرى. وقد اعتاد الأدب الاقتصادي الألماني أن يمتدح بتزلف نزاهة الموظفين البروسيين ملمحا إلى باناما الفرنسية أو إلى الرشوة السياسية الأمريكية. ولكن الواقع أن حتى الأدب البرجوازي الذي يتناول شؤون البنوك في ألمانيا يرى نفسه على الدوام مضطرا لأن يتخطى لحد بعيد حدود العمليات البنكية الصرف وأن يكتب مثلا عن «الإندفاع نحو البنوك» بمناسبة تكاثر حوادث انتقال الموظفين إلى الخدمة في البنوك: «وأين هي إذن نزاهة الموظف في دوائر الدولة الذي يصبو في أعماق نفسه إلى مكان دافئ في البيرينشتراسه؟»(16) – شارع في برلين يوجد فيه مقر «البنك الألماني». في سنة 1909 كتب صاحب مجلة «البنك» الفرد لانسبورغ مقالا عنوانه «أهمية بيزنطة من الناحية الاقتصادية» تناول فيه في سياق الحديث رحلة غليوم الثاني إلى فلسطين و«نتيجتها المباشرة – مد سكة حديد بغداد، «أكبر أعمال الذهنية التجارية الألمانية»، هذا الأمر المشؤوم المسؤول عن «التطويق» أكثر من جميع ذنوبنا السياسية الأخرى مجتمعة»(17) – (المقصود بالتطويق سياسة ادوارد السابع الذي سعى وراء عزل ألمانيا وتطويقها بطوق من اتحاد أمبريالي معاد لألمانيا). وفي سنة 1911 كتب المحرر عنوانه: «البلوتوقراطية والموظفون» كشف فيه مثلا حادثة الموظف الألماني فولكر الذي كان عضوا في لجنة الكارتيلات واشتهر ببعد همته؛ فما أن مضى بعض الوقت حتى شغل مقعدا وثيرا يدر الربح في أكبر الكارتيلات، سانديكا الفولاذ. إن أمثال هذه الحوادث، وما هي بالعريضة قط، قد أرغمت هذا الكاتب البرجوازي نفسه على الاعتراف بأن «الحرية الاقتصادية التي يضمنها الدستور الألماني قد غدت في كثير من الميادين الحياة الاقتصادية عبارة فارغة»، وبأنه في ظروف سيطرة البلوتوقراطية «تعجز حتى أوسع الحرية السياسية عن انتقادنا من أن نغدو شعبا من أناس غير أحرار»(18).
أمّا فيما يخص روسيا فنكتفي بمثل واحد: منذ عدة سنوات نشرت جميع الجرائد خبرا مؤاده أن دافيدوف، مدير ديوان التسليف، ترك الخدمة في دوائر الدولة ليستلم منصبا في بنك من البنوك الكبرى مقابل راتب يؤلف في بضع سنوات، بموجب العقد، مبلغا يزيد على مليون روبل. وديوان التسليف هو مؤسسة مهمتها «توحيد نشاط جميع مؤسسات التسليف في الدولة» وتقدم لبنوك العاصمة إعانات بمبلغ يتراوح بين 800 و1000 مليون روبل(19).
من خواص الرأسمالية بوجه عام فصل ملكية الرأسمال عن توظيف الرأسمال في الانتاج، فصل الرأسمال النقدي عن الرأسمال الصناعي أو المنتج، فصل صاحب الدخل الذي يعيش فقط من عائد الرأسمال النقدي عن رب العمل وجميع المشتركين مباشرة في التصرف بالرأسمال. والامبريالية أو سيطرة الرأسمال المالي هي مرحلة الرأسمالية العليا التي يبلغ فيها هذا الفصل مقاييس هائلة. وهيمنة الرأسمال المالي على بقية أشكال الرأسمال تعني سيطرة صاحب الدخل والطغمة المالية، تعني بروز عدد ضئيل من الدول التي تملك «البأس» المالي بين سائر الدول الأخرى. ويمكننا أن نتبين مدى نطاق هذا السير من أرقام إحصاءات الإصدار، أي اصدار مختلف أنواع الأوراق المالية.
نشر أ. نيمارك في «نشرة معهد الإحصاء العالمي»(20) أوسع المعلومات المقارنة وأكملها عن اصدار الأوراق المالية في العالم أجمع، أُعيد نشرها فقرات فيما بعد مرارا وتكرارا في الآداب الاقتصادي. وها هي نتائج أربعة عقود من السنين:
مبالغ الاصدارات بمليارات الفرنكات في كل عقد من السنين
1871- 1880 76.1
1881- 1890 64.5
1891- 1900 100.4
1901- 1910 197.8
في سنوات العقد الثامن ارتفع مبلغ الإصدار الإجمالي في العالم كله بالقروض بوجه خاص وهي نتيجة للحرب الفرنسية البروسية ولعهد الغروندير الذي تبعها في ألمانيا. وبوجه الإجمال لم تكن كبيرة نسبيا سرعة ازدياد مبلغ الإصدار في غضون العقود الثلاثة الأخيرة من القرن 19؛ ولكن الزيادة في غضون العقد الأول من القرن 20 كانت كبيرة جدا، نحو الضعف خلال عشر سنوات. وعلى ذلك كان مستهل القرن 20 عهد انعطاف ليس فقط فيما يخص نمو الاحتكارات (الكارتيلات، السنديكات، تروستات) وهو ما سبق لنا الحديث عنه، بل وفيما يخص نمو الرأسمال المالي.
يقدر نيمارك المبلغ الاجمالي للأوراق المالية في العالم بنحو 815 مليار فرنك في سنة 1910. وقد طرح على وجه التقريب المبلغ المكرر وخفض هذا المبلغ إلى 575-600 مليار. إليكم توزيعها على بلدان العالم (باعتبار المبلغ 600 مليار):
مبلغ الأوراق المالية في سنة 1910 (بمليارات الفرنكات):
إنجلترا 142
الولايات المتحدة 132
فرنسا 110
ألمانيا 95
مجموع(4) 479
روسيا 31
النمسا-المجر 24
إيطاليا 14
اليابان 12
هولندا 12.5
بلجيكا 7.5
اسبانيا 7.5
سويسرا 6.25
الدانمارك 3.75
السويد، النروج، رومانيا وغيرها 2.5
المجموع 600
إن هذه الأرقام، ويبدو ذلك لأول وهلة، تبرز بوضوح البلدان الرأسمالية الأربعة الغنية جدا والتي تملك كل واحدة منها على وجه التقريب من 100 إلى 150 مليار مارك من الأوراق المالية. وثمة بلدان في هذه البلدان الأربعة – إنجلترا وفرنسا – هما أقدم البلدان الرأسمالية وأغناها بالمستعمرات كما سنرى ذلك؛ والبلدان الآخران – الولايات المتحدة وألمانيا – هما البلدان الأكثر تقدما من حيث سرعة التطور ومن حيث درجة انتشار الإحتكارات الرأسمالية في الإنتاج. وتملك هذه البلدان الأربعة معا 479 مليار فرنك أي حوالي 80% من الرأسمال المالي العالمي. ومعظم ما تبقى من العالم يقوم، لهذا الحد أو ذاك، بدور المدين ودافع الخراج لهذه البلدان – صيارفة العالم، «دعامات» الرأسمال المالي العالمي الأربع.
وينبغي علينا أن نتناول بوجه خاص ذلك الدور الذي يلعبه تصدير الرأسمال في إنشاء شبكة التبعية والترابط العالمية للرأسمال المالي.
الفصل الرابع
تصدير الرأسمال
كان تصدير البضائع الحالة النموذجية في الرأسمالية القديمة، حيث كانت السيادة التامة للمزاحمة الحرة. وغدا تصدير الرأسمال الحالة النموذجية في الرأسمالية الحديثة التي تسودها الاحتكارات.
الرأسمالية هي الإنتاج البضاعي في مرحلة تطوره العليا التي تغدو فيها قوة العمل بضاعة كذلك. واتساع التبادل في داخل البلاد ولا سيما على الصعيد العالمي هو السمة الخاصة للرأسمالية. إن تطور المشاريع والفروع الصناعية والبلدان بشكل متفاوت وبطفرات هو أمر محتوم في عهد الرأسمالية. في البدء غدت إنجلترا، قبل البلدان الأخرى، بلدا رأسماليا. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أخذت تدعي، وقد أقرت التجارة الحرة، بدور «مصنع العالم»، بدور مصدر المنتوجات الجاهزة إلى جميع بلدان العالم التي كان ينبغي عليها أن تزودها بالخامات بالمقابل. ولكن احتكار إنجلترا هذا قد أخذ يتزعزع منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لأن عددا من البلدان الأخرى قد صارت دولا رأسمالية مستقلة، مدافعة عن نفسها بالرسوم الجمركية «الوقائية». وفي عشية القرن العشرين نرى تشكل نوع آخر من الاحتكارات: أولا، اتحادات رأسماليين احتكارية في جميع بلدان الرأسمالية المتطورة؛ وثانيا، وضع احتكاري لبعض البلدان في منتهى الغنى بلغ فيها تراكم الرأسمال مقاييس هائلة. وقد حدث «فيض من الرساميل» ضخم في البلدان المتقدمة.
وبديهي أن مسألة فيض الرأسمال ما كانت لتطرح لو استطاعت الرأسمالية تطوير الزراعة المتأخرة الآن عن الصناعة تأخرا كبيرا في كل مكان، لو استطاعت الرأسمالية رفع مستوى معيشة جماهير السكان، المستوى الذي يبقى في كل مكان متاخما للجوع والبؤس رغم التقدم التكنولوجي المذهل. ولا يترك نقاد الرأسمالية من صغار البرجوازيين مناسبة إلاّ ويعمدون فيها إلى ذكر هذه «الحجة». ولكن الرأسمالية، في هذه الحالة، ما كان لتكون رأسمالية، لأن التفاوت في التطور وانحطاط معيشة الجماهير إلى مستوى يتاخم الجوع هما شرطان وممهدان أساسيان لا بد منهما لأسلوب الإنتاج هذا. وما ضلت الرأسمالية رأسمالية، لا يوجه فيض الرأسمال إلى رفع مستوى معيشة الجماهير في بلاد معينة، لأن ذلك يسفر عن تخفيض أرباح الرأسماليين، بل يوجه إلى رفع الأرباح عن طريق تصدير الرأسمال إلى الخارج، إلى البلدان المتأخرة. والربح مرتفع في المعتاد في هذه البلدان المتأخرة، لأن الرساميل قليلة وأسعار الأرض منخفضة نسبيا والأجور زهيدة والخامات رخيصة. وما ينشئ إمكانية تصدير الرأسمال هو وجود جملة من البلدان المتأخرة قد انجذبت إلى تيار الرأسمالية أو بدئ بمدها وتهيأت فيها الظروف الأولية لتطور الصناعة والخ.. وتنشأ ضرورة تصدير الرأسمال عن واقع أن الرأسمالية قد «نضجت جدا» في عدد ضئيل من البلدان وأن الرأسمالية (في ظروف تأخر الزراعة وبؤس الجماهير) لا يجد صعيدا «رابحا» للتوظيف.
وها هي الأرقام التقريبية عن مقادير الرساميل التي وظفتها في الخارج ثلاثة بلدان رئيسية:(1)
الرأسمال الموظف في الخارج
(بمليارات الفرنكات).
سنوات إنجلترا فرنسا المانيا
1862 3.6 - -
1872 15 10 (1867) -
1882 22 15 (1880) ؟
1893 42 20 (1890) ؟
1902 62 27-37 12.5
1914 75-100 60 44
نرى من هذا الجدول أن تطور تصدير الرساميل لم يبلغ مقاييسه الهائلة إلاّ في مستهل القرن العشرين. وأن الرأسمال الذي وظفته في الخارج البلدان الرئيسية الثلاثة قد بلغ قبل الحرب مبلغا يتراوح بين 175 و200 مليار فرنك. وعائد هذا المبلغ على أساس معدل متواضع قدره 5% يتكون من 8-10 مليارات فرنك في السنة. وهو أساس مكين لظلم واستثمار أكثرية أمم وبلدان العالم إمبرياليا وللطفيلية الرأسمالية لحفنة من الدول الثرية!
كيف توزع بين مختلف البلدان هذه الرساميل الموظفة في الخارج وأين توظف؟ جواب هذا السؤال لا يمكن أن يكون إلاّ تقريبيا ولكنه يوضح مع ذلك بعض ما للإمبريالية الحديثة من علاقات وصلات عامة:
قارات العالم الموزع بينها (بصورة تقريبية) الرأسمال المصدر (حوالي سنة 1910)
(بمليارات الماركات)
إنجلترا فرنسا ألمانيا المجموع
أوروبا 4 23 18 45
أمريكا 37 4 10 51
آسيا وإفريقيا وأستراليا 29 8 7 44
المجموع 80 35 35 140
بالنسبة لإنجلترا تحتل مستعمراتها المقام الأول، وهي كبيرة في أمريكا أيضا (كندا مثلا) ناهيك عن آسيا وغيرها. وتصدير الرساميل في هذا النطاق الهائل يتصل أوثق اتصال هنا بالمستعمرات الهائلة التي سنتحدث فيما بعد عن أهميتها بالنسبة للإمبريالية. ويختلف الأمر بالنسبة لفرنسا. فإن رأسمالها المصدر موظف في أوروبا بصورة رئيسية وفي روسيا بالدرجة الأولى (ما لا يقل عن 10 مليار فرنك)، وهو في معظمه رأسمال تسليفي، قروض للدولة، لا رأسمال نوظف في المشاريع الصناعية. وخلافا للإمبريالية الإنجليزية القائمة على حيازة المستعمرات يمكن نعت الإمبريالية الفرنسية بالإمبريالية المرابية. وفي ألمانيا نوع ثالث: مستعمراتها ليست كبيرة ورأسمالها الموظف في الخارج موزع بالصورة الأقرب إلى التساوي بين أوروبا وأمريكا.
إن تصدير الرساميل يؤثر على تطور الرأسمالية في البلدان التي يوجه إليها، معجلا هذا التطور لأقصى حد. ولذا فإن هذا التصدير إذا كان بإمكانه أن يفضي لدرجة معينة إلى بعض الركود في تطور البلدان المصدرة فهذا لا يمكن أن يحدث إلاّ مقابل اطراد تطور الرأسمالية سعة وعمقا في العالم بأسره.
والبلدان المصدرة للرأسمال تجد بصورة دائمة تقريبا إمكانية الحصول على «فوائد» معينة ذات طابع يلقي النور على خصائص عهد الرأسمال المالي والاحتكارات. وإليكم مثلا ما كتبه في أكتوبر سنة 1913 مجلة «البنك» الصادرة في برلين:
«إن مهزلة تستحق ريشة اريستوفان تعرض من أمد قريب في السوق المالية العالمية. فثمة عدد كبير من الدول الأجنبية، من إسبانيا حتى البلقان ومن روسيا حتى الأرجنتين والبرازيل والصين تتقدم من الأسواق المالية الكبرى علنا أو من وراء ستار بطلب القروض وأحيانا بإلحاح شديد. والحالة في الأسواق المالية ليست الآن على ما يرام، والآفاق السياسية ليست وضاءة. ولكن ما من سوق مالية تجرؤ على رفض منح القروض خوفا من أن يسبقها الجار ويوافق على منح القروض ويضمن لنفسه في الوقت ذاته خدمات لقاء خدمات. ولدى عقد الصفقات الدولية من هذا النوع، ينال الدائن في معظم الحالات شيئا ما لمصلحته: تنازلا عند عقد معاهدة تجارية، مركزا من مراكز الفحم، بناء ميناء، امتيازا دسما أو توصية على كمية من المدافع»(2).
لقد أنشأ الرأسمال المالي عهد الاحتكار. والاحتكارات تحمل معها في كل مبدأ الاحتكار: استغلال «العلاقات» لعقد الصفقات المفيدة يحل محل المزاحمة في السوق المفتوحة. فمن المألوف جدا أن يشترط عند منح القرض إنفاق قسم منه على شراء منتجات البلاد الدائنة ولاسيما الأسلحة والسفن وما شاكل ذلك. فقد عمدت فرنسا إلى هذه الوسيلة مرارا وتكرارا خلال العقدين الأخيرين من السنين (1890-1910). لقد غدا تصدير الرساميل إلى الخارج وسيلة لتشجيع تصدير البضائع إلى الخارج. وفي هذا الحال تغدو الصفقات بين المشاريع الكبيرة جدا «متاخمة للرشوة» كما قال شيلدر(3) «بحذر». إن كروب في ألمانيا وشنيدر في فرنسا وآرمسترونغ في انجلترا هم نموذج هذه الشركات المتصلة أوثق اتصال بالبنوك الكبرى وبالحكومة التي ليس من السهل «تجنبها» عند عقد قرض.
ففرنسا التي منحت روسيا القروض قد «ضيقت» عليها في المعاهدة التجارية المعقودة في 16 سبتمبر 1905 واشترطت بعض تنازلات حتى سنة 1917؛ وسلكت نفس السلوك في المعاهدة التجارية المعقودة مع اليابان في 19 غشت 1911. وقد كانت المزاحمة بين النمسا وفرنسا في أمر تزويد صربيا بالعتاد الحربي أحد أسباب الحرب الجمركية التي دارت بين النمسا وصربيا من سنة 1906 إلى سنة 1911 باستثناء انقطاع استمر سبعة أشهر. ففي يناير 1912 أعلن بول ديشانيل في مجلس النواب أن الشركات الفرنسية قد قدمت لصربيا من سنة 1908 إلى سنة 1911 عتادا حربيا بمبلغ 45 مليون فرنك.
وجاء في تقرير قنصل النمسا-المجر في سان باولو (البرازيل): «يجري مد السكك الحديدية البرازيلية بمعظمه بالرساميل الفرنسية والبلجيكية والبريطانية والألمانية؛ وهذه البلدان تشترط أثناء العمليات المالية المتصلة بمد السكك الحديدية أن يعهد إليها بتقديم مواد البناء اللازمة لمد السكك الحديدية».
وعلى هذه الصورة، ويمكننا أن نقول ذلك بالمعنى الحرفي للكلمة، يلقي الرأسمال المالي شباكه على جميع بلدان العالم. وتلعب دورا هاما في هذا الأمر البنوك المؤسسة في المستعمرات وكذلك فروعها. إن الامبرياليين الألمان ينظرون بعين الحسد إلى البلدان الاستعمارية «القديمة»، التي ضمنت نفسها من هذه الناحية بصورة «موفقة» جدا: ففي سنة 1904 كان لدى إنجلترا 50 بنكا في المستعمرات لها 2279 فرعا (وفي سنة 1910: 72 بنكا لها 5449 فرعا)؛ وكان لدى فرنسا 20 بنكا لها 136 فرعا؛ ولدى هولنده 16 بنكا لها68 فرعا، في حين لم يكن لدى ألمانيا «سوى» 13 بنكا لها 70 فرعا(4). والرأسماليون الأمريكان يحسدون بدورهم الرأسماليون الانجليز والألمان. فقد رفعوا أصوات الشكوى في سنة 1915: «في أمريكا الجنوبية 5 بنوك ألمانية لها 40 فرعا و5 بنوك انجليزية لها 70 فرعا… وقد وظفت إنجلترا وألمانيا خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة في الأرجنتين والبرازيل والأورغواي نحو 4 بليونات (مليارات) دولار، وهما، بنتيجة ذلك، تتصرفان بـ 46% من مجموع تجارة هذه البلدان الثلاثة»(5).
إن البلدان مصدرة الرساميل قد اقتسمت العالم فيما بينها بمعنى الكلمة المجازي. غير أن الرأسمال المالي قد أفضى إلى اقتسام مباشر للعالم.
الفصل الخامس
اقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين
إن اتحادات الرأسماليين الاحتكارية – الكارتيلات، السنديكات، التروستات – تقتسم فيما بينها بادئ ذي بدء السوق الداخلية، مؤمنة لنفسها السيطرة على الإنتاج في بلاد معينة بصورة مطلقة ما أمكن. ولكن لا مناص للسوق الداخلية في عهد الرأسمالية من أن ترتبط بالسوق الخارجية. وقد أنشأت الرأسمالية السوق العالمية من أمد بعيد. وكلما كان يزداد تصدير الرأسمال وتتسع شتى أنواع العلاقات بالخارج وبالمستعمرات وتتسع «مناطق نفوذ» الاتحادات الاحتكارية الضخمة، كانت الأمور تسير «بصورة طبيعية» في اتجاه الاتفاق العالمي بين هذه الاتحادات، في اتجاه تشكل الكارتيلات العالمية.
وهذه درجة جديدة في تمركز الرأسمال والإنتاج على النطاق العالمي ودرجة أعلى من السابقة إلى ما لا قياس له. فلنر كيف يتشكل هذا الاحتكار الأعلى.
إن الصناعة الكهربائية هي الصناعة الأكثر نموذجية بالنسبة لأحدث نجاحات التكنيك ولرأسمالية نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. وقد تطورت بوجه خاص في أرقى بلدين من البلدان الرأسمالية الجديدة – الولايات المتحدة وألمانيا. فقد كان لأزمة سنة 1900 في ألمانيا تأثير قوي جدا على اشتداد التمركز في هذا الميدان. إن البنوك التي كانت في ذلك الوقت قد التحمت بالصناعة لدرجة كافية قد عجلت وعمقت لأقصى حد أثناء هذه الأزمة خراب المشاريع الصغيرة نسبيا وابتلاعها من قبل الكبيرة. وقد كتب ييدلس أن «البنوك قد كفت بالضبط عن مساعدة المشاريع التي كانت بأمس الحاجة إلى المساعدة مسببة بذلك في بادئ الأمر نهضة عاصفة، ثم الإفلاس الأكيد لتلك الشركات التي لم تكن على صلة وثيقة بها»(1).
وبنتيجة ذلك سار التمركز بعد سنة 1900 بخطوات جبارة إلى الأمام. فقد كان في الصناعة الكهربائية قبل سنة 1900 ثماني أو سبع «جماعات» تتألف كل منها من عدة شركات (مجموعها ثمان وعشرون شركة) وكانت كل جماعة تستند إلى عدد من البنوك من 2 إلى 11 بنكا. وحوالي سنوات 1908-1912 اندمجت جميع هذه الجماعات في جماعتين أو جماعة واحدة. وقد تم هذا السير على النحو التالي:
الجماعات في الصناعة الكهربائية:
إن الشركة الشهيرة (AEG) (الشركة العامة للكهرباء) التي تضخمت على هذا الشكل، تهيمن على 175-200 شركة (على أساس نظام «الإشتراك») وتتصرف برأسمال مجموعة يقرب من 1.5 مليار مارك. في أكثر من 10 دول. ومنذ سنة 1904 كانت الرساميل التي وظفتها الصناعة الكهربائية الألمانية في الخارج تقدر بـ 233 مليون مارك منها 62 مليونا في روسيا. وغني عن القول أن « الشركة العامة للكهرباء» هي عبارة عن مشروع هائل «مركب» – شركاته الصناعية وحدها تبلغ 16 – وتنتج مختلف أصناف المنتوجات من الأسلاك والعازلات حتىالسيارات والطائرات.
ولكن التمركز في أوروبا كان كذلك جزءا لا يتجزأ من مجرى التمركز في أمريكا. وهاكم كيف تم هذا السير:
وهكذا تشكلت «دولتان» كهربائيتان «لا توجد في الأرض شركات كهربائية أخرى مستقلة عنهما بصورة تامة» كما كتب هينيغ في مقاله «طريق تروست الكهرباء». أما فيما يخص مقادير عمليات هذين «التروستين» وحجم مشاريعهما فالأرقام التالية تعطي عن ذلك صورة وان كانت بعيدة عن أن تكون كاملة:
سنوات تداول البضائع (بملايين الماركات) عدد المستخدمين الربح الصافي (بملايير الماركات)
أمريكا «شركة الكهرباء العامة» (G.E.C) 1907 252 28000 35.4
1910 298 32000 45.6
ألمانيا: «الشركة العامة للكهرباء» (A.E.G) 1907 216 30700 14.5
1911 362 60800 21.7
وما أن حلت سنة 1907 حتى عقد التروستان الأمريكي والألماني اتفاقية على تقاسم العالم. المزاحمة تزول. «شركة الكهرباء العامة» (G.E.C.) «تحصل» على الولايات المتحدة وكندا و«تنال» «الشركة العامة للكهرباء» (A.E.G.) ألمانيا والنمسا وروسيا وهولنده والدنمارك وسويسرا وتركيا والبلقان. وقد عقدت اتفاقيات خاصة – سرية طبعا – بشأن «الشركات البنات» التي تتغلغل في فروع صناعية جديدة وفي بلدان «جديدة» لم تقتسم رسميا بعد. وقد تقرر تبادل الاختراعات والتجارب(2).
ويدرك المرء بالبداهة مدى صعوبة مزاحمة هذا التروست الموحد العالمي في الواقع، الذي يتصرف برأسمال يبلغ عدة مليارات والذي له «فروعه» ووكالاته وعملاؤه وعلاقاته وهلم جرا في جميع أصقاع العالم. ولكن اقتسام التروستين القويين للعالم لا ينفي طبعا إعادة التقاسم إذا ما تبدلت نسبة القوى بنتيجة تفاوت التطور والحروب والإفلاسات وغير ذلك.
وصناعة البترول تعطي مثلا بليغ الدلالة على محاولة إعادة التقاسم هذه، على الصراع من أجل إعادة التقاسم.
فقد كتب ييدلس في سنة 1905 أن «سوق البترول العالمية هي الآن مقتسمة بين جماعتين ماليتين كبيرتين: «تروست البترول» الأمريكي (Standard Oil C-y) العائد لروكفلر وصاحبي النفط الروسي في باكو روتشيلد ونوبل. والجماعتان على ترابط وثيق، ولكن احتكارهما مهدد منذ عدة سنوات من قبل خمسة أعداء»(3): 1) نفاد مصادر النفط الأمريكية، 2) مزاحمة شركة مانتاشيف في باكو، 3) مصادر النفط في النمسا، و4) في رومانيا، 5) مصادر النفط فيما وراء المحيطات ولاسيما في المستعمرات الهولندية (شركة صموئيل وشل الغنية جدا والمرتبطة كذلك بالرأسمال الإنجليزي). والفئات الثلاث الأخيرة من المشاريع متصلة بالبنوك الألمانية الكبرى وعلى رأسها «البنك الألماني» الضخم. وقد طورت هذه البنوك بصورة مستقلة ومنتظمة صناعة النفط في رومانيا مثلا لتكون «لها» نقطة ارتكاز. ففي سنة 1907 قدر الرأسمال الأجنبي في صناعة البترول الرومانية بـ 175 مليون فرنك منها 74 مليونا رأسمالا ألمانيا(4).
وقد ابتدأ الصراع الذي يسمونه في الأدب الاقتصادي الصراع من أجل «تقاسم العالم». فمن جهة، «تروست هبترول» روكفلر، طمعا منه في الاستيلاء على كل شيء، قد أسس «شركة بنت» في هولنده نفسها وشرع يشتري مصادر النفط في الهند الهولندية لينزل بهذا الشكل الضربة بعدوه الرئيسي: التروست الهولندي الإنجليزي «شل». ومن الجهة الأخرى، «البنك الألماني» وغيره من البنوك البرلينية سعت لأن «تحتفظ» «لنفسها» برومانيا وتوحدها مع روسيا ضد روكفلر. وكان لهذا الأخير رساميل أكبر بما لا يقاس وتنظيم ممتاز لوسائل نقل البترول وإيصاله إلى المستهلكين، وكان على هذا الصراع أن ينتهي وقد انتهى في سنة 1907 بهزيمة ساحقة مني بها «البنك الألماني» الذي وجد نفسه أمام واحد من أمرين: اما أن يصفي «مصالحه البترولية» بخسارة تبلغ الملايين وأمّا الخضوع. وقد اختار الحل الأخير وعقد مع «تروست البترول» اتفاقية غير مفيذة جدا «للبنك الألماني». وبموجب هذه الاتفاقية تعهد «البنك الألماني» بأن «لا يتخذ أي تدبير يضر بالمصالح الأمريكية»، هذا وقد استدرك بأن الاتفاقية تفقد مفعولها في حالة ما إذا صدر في ألمانيا قانون عن احتكار الدولة للبترول.
وعندئذ بدأت «مهزلة البترول». فقد أخذ أحد ملوك المال الألمان، مدير «البنك الألماني» فون غفينر يشن عن طريق سكرتيره الشخصي شتاوس حملة دعاية من أجل احتكار البترول. وقد تحرك بكل ضخامته جهاز أكبر البنوك البرلينية بما له من «علاقات» واسعة، وبحت حناجر الصحف من الصرخات «الوطنية» ضد «نير» التروست الأمريكي، فاتخذ الريخستاغ في 15 مارس 1911، بالإجماع تقريبا، قرارا يدعو الحكومة إلى وضع مشروع قانون عن احتكار البترول. وقد تشبثت الحكومة بهذه الفكرة «الشعبية»؛ و«البنك الألماني» الذي أراد خداع زميله الأمريكي واصلاح أحواله عن طريق احتكار الدولة للبترول قد بدا كأنما ربح لعبته. وقد أخذ لعاب ملوك البترول الألمان يسيل لتصور الأرباح الفاحشة التي لا تقل عن أرباح أصحاب معامل السكر الروس… ولكن البنوك الألمانية الكبرى قد اختصمت فيما بينها من أجل اقتسام الغنيمة ففضحت «شركة الخصم» مطامع «البنك الألماني» الجشعة، هذا أولا؛ وثانيا، خشيت الحكومة مغبة الصراع مع روكفلر، لأنه كان من المشكوك فيه جدا أن تحصل ألمانيا على البترول عن غير طريقه (ما دامت إنتاجية رومانيا ضعيفة)؛ وثالثا، جاء اعتماد مليار مارك في سنة 1913 لإعداد ألمانيا للحرب. وهكذا أجل مشروع الاحتكار وخرج «تروست بترول» روكفلر من الصراع ظافرا حتى حين.
وقد كتبت المجلة البرلينية «البنك» قائلة بهذا الصدد أن ألمانيا لا تستطيع النضال ضد «تروست البترول» إلاّ إذا أقامت الاحتكار على التيار الكهربائي وحولت طاقة الماء إلى كهرباء رخيصة. واستطردت المجلة قائلة: «ولكن احتكار الكهرباء لا يأتي إلاّ عندما يحتاجه المنتجون. أي بالضبط عندما تقف صناعة الكهرباء على عتبة إفلاس كبير جديد، وعندما تصبح عاجزة عن العمل بصورة رابحة المحطات الكهربائية الهائلة الغالية التي تشيدها الآن في كل مكان «كونسرنات» الصناعة الكهربائية الخاصة والتي تحصل لها هذه «كونسرنات» الآن على بعض حقوق احتكارية من المدن والدويلات والخ.. حينئذ تظهر ضرورة الاستفادة من طاقة المياه؛ ولكن لن يكون من الممكن تحويلها على حساب الدولة إلى كهرباء رخيصة، وسيتأتى مرة أخرى اعطاؤها إلى «احتكار خاص تراقبه الدولة»، لأن الصناعة الخاصة قد عقدت عدة صفقات وضمنت لنفسها تعويضات كبرى… هكذا كان الأمر فيما يخص احتكار القلى؛ وهذا هو حال احتكار البترول، وسيكون كذلك حال احتكار الكهرباء. وقد حان لاشتراكيي الدولة الذين تبهرهم المبادئ الخلابة أن يفهموا أخيرا أن الاحتكارات في ألمانيا لم تهدف ولم تفض في يوم إلى ما يعود بالنفع على المستهلكين أو حتى إلى اعطاء الدولة جزءا من أرباح أصحاب الأعمال، بل كان هدفها على الدوام أن تشفي على حساب الدولة الصناعة الخاصة المطلقة على هاوية الإفلاس»(5).
يضطر الاقتصاديون البرجوازيون الألمان إلى الإدلاء بمثل هذه الاعترافات القيمة. وهي تظهر لنا بوضوح كيف تندمج الاحتكارات الخاصة واحتكارات الدولة في كل واحد في عهد الرأسمال المالي وان هذه وتلك ليست في الواقع إلاّ حلقات في سلسلة الصراع الإمبريالي بين كبار الاحتكارات من أحل اقتسام العالم.
وفي ميدان الملاحة التجارية أفضى اشتداد التمركز الهائل كذلك إلى اقتسام العالم. وقد برزت في ألمانيا شركتان من كبريات الشركات: «هامبورغ-أمريكا» و«لويد المانية الشمالية» ورأسمال كل منها 200 مليون مارك. ومن الجهة الأخرى تأسس في الأول من يناير سنة 1903 في أمريكا ما يسمى تروست مورغان، «الشركة العالمية للملاحة التجارية» التي تضم 9 من شركات الملاحة الأمريكية والانجليزية وتتصرف برأسمال يبلغ 120 مليون دولار (480 مليون مارك). وفي سنة 1903 نفسها عقدت بين العملاقين الألمانيين وهذا التروست الأمريكي الإنجليزي اتفاقية بشأن تقاسم العالم بالاتصال مع تقاسم الأرباح. وقد تنازلت الشركتان الألمانيتان عن المزاحمة في الشحن بين انجلترا وأمريكا. وقد «اقتسمت» الموانئ بدقة وانشئت لجنة مشتركة للمراقبة وغير ذلك. وعقدت الاتفاقية لمدة عشرين سنة وتضمنت تحفظا للحيطة ينص على أنها تفقد مفعولها في حالة الحرب(6).
وبليغ الدلالة كذلك تاريخ تأسيس الكارتيل العالمي لقضبان السكك الحديدية. فقد قامت معامل قضبان السكك الحديدية في إنجلترا وبلجيكا وألمانيا بأول محاولة لإنشاء هذا الكارتيل في سنة 1884، أثناء الانحطاط الصناعي الشديد. وقد اتفقت على عدم المزاحمة في الأسواق الداخلية العائدة للبلدان التي تشملها الاتفاقية وعلى اقتسام الأسواق الخارجية فيما بينها على أساس النسب المئوية التالية: 66% لإنجلترا و27% لألمانيا و7% لبلجيكا. وتركت الهند بأكملها لإنجلترا. وقد شنت ضد شركة انجليزية بقيت خارج الاتفاقية حرب مشتركة سددت تكاليفها من نسب مئوية معينة من مجموع المبيعات. ولكن هذا الحلف قد انهار في سنة 1886 عندما خرجت منه شركتان إنجليزيتان. وجدير بالذكر أن الاتفاقية لم تحصل خلال مراحل النهضة الصناعية التي تلت.
في أوائل سنة 1904 تأسس سينديكا الفولاذ في ألمانيا. وفي نوفمبر سنة 1904 أعيد تأسيس الكارتيل العالمي لقضبان السكك الحديدية بالمعدلات التالية: إنجلترا 53.5%، ألمانيا 28.83%، بلجيكا 17.67%. ثم انضمت إليه فرنسا بمعدلات 4.8% و5.8% و6.4% في السنوات الأولى والثانية والثالثة إضاقة على 100 بالمئة، أي من حاصل 104.8بالمئة وهلم جرا. وفي سنة 1905 انضم إلى الكارتيل «تروست الفولاذ» الأمريكي («الشركة العامة للفولاذ») ثم النمسا واسبانيا. وقد كتب فوغلشتين في سنة 1910: «لقد تم اقتسام الأرض الآن، ولم يبق لكبار المستهلكين، وبالدرجة الأولى سكك حديد الدولة، إلاّ أن يحيوا كالشاعر في سموات المشتري ما دام العالم قد اقتسم دون أن يحسب لمصالحهم أي حساب»(7).
ولنذكر أيضا سينديكا الزنك العالمي المؤسس في سنة 1909 والذي حدد بصورة دقيقة مقاييس الانتاج بين خمسة فرق من المعامل: الألمانية والبلجيكية والفرنسية والاسبانية والإنجليزية؛ ثم تروست البارود العالمي وهو/ حسب تعبير ليفمن، «إتحاد وثيق على احدث طراز بين جميع مصانع المواد المتفجرة في ألمانيا اقتسم العالم فيما بعد، إذا جاز التعبير، بالاتفاق مع معامل الديناميت الفرنسية والأمريكية المنظمة على شاكلته»(8).
وقد حسب ليفمن بالمجموع في سنة 1897 نحو 40 كارتيلا عالميا اشتركت فيها ألمانيا وفي سنة 1910 نحو مائة.
إن بعض الكتاب البرجوازيين (الضين انضم إليهم الآن كاوتسكي الذي ارتد بصورة تامة عن موقفه الماركسي، عن موقف سنة 1909 مثلا) يقولون برأي مفاده أن الكارتيلات العالمية، وهي مظهر من أبرز مظاهر اكتساب الرأسمال للصيغة العالمية، تبعث الأمل باستتباب السلام بين الشعوب في عهد الرأسمالية. وهذا الرأي سخيف تماما من الناحية النظرية، وهو من الناحية العملية عبارة عن سفسطة وطريقة غير شريفة للدفاع عن أرذل الانتهازية. فالكارتلات العالمية تبين الدرجة التي بلغتها الآن الاحتكارات الرأسمالية والغرض الذي تتصارع من أجله اتحادات الرأسماليين. وهذه الناحية الأخيرة هي الأمر الأهم؛ إذ أنها هي وحدها التي تبين لنا مغزى الأحداث التاريخي والاقتصادي، لأن شكل الصراع يمكنه أن يتغير وهو يتغير على الدوام تبعا لأسباب مختلفة طابعها خاص ومؤقت نسبيا، في حين أن كنه الصراع لا يمكن أن يتغيرا بحال ما بقيت الطبقات. ومن المفهوم أن من مصلحة البرجوازية الألمانية مثلا، التي انضم إليها كاوتسكي في جوهر الأمر في محاكماته النظرية (وسنتناول ذلك فيما بعد)، طمس فحوى الصراع الاقتصادي الراهن (اقتسام العالم) وإبرام هذا الشكل من أشكال الصراع تارة وذلك تارة أخرى. ويقترف كاوتسكي الخطأ نفسه. ذلك لأن القضية ليست قضية البرجوازية الألمانية طبعا، بل قضية البرجوازية العالمية. فالرأسماليون يقتسمون العالم لا لأنهم فطروا على شر خاص، بل لأن التمركز قد بلغ درجة ترغب على ولوج هذا الطريق للحصول على الربح؛ هذا وهم يقتسمونه «حسب الرأسمال»، «حسب القوة» – لأنه لا توجد وسيلة أخرى للتقاسم في ظل نظام الانتاج البضاعي والرأسمالية. ولكن نسبة القوى تتغير تبعا للتطور الاقتصادي والسياسي؛ ولفهم الأحداث الجارية ينبغي أن نفهم المسائل التي يحلها تغير نسبة القوى؛ أمّا مسألة ما إذا كان هذا التغير اقتصاديا «صرفا» أو غير اقتصادي (عسكريا مثلا) فهي مسألة ثانوية لا يمكنها أن تغير شيئا في الآراء الأساسية عن العهد الحديث في الرأسمالية. فالاستعاضة عن مسألة فحوى الصراع والصفقات بين اتحادات الرأسماليين بمسألة شكل الصراع والصفقات (وهو اليوم سلمي وغدا سلمي وبعد غد غير سلمي كذلك) يعني الانحطاط إلى حضيض السفسطائيين.
إن عهد الرأسمالية الحديثة يبين لنا أن ثمة علاقات تتكون بين اتحادات الرأسماليين على صعيد اقتسام العالم اقتصاديا وان ثمة علاقات تتكون بمحاذاة ذلك وتبعا لذلك بين الاتحادات السياسية، بين الدول، على صعيد اقتسام العالم إقليميا، على صعيد الصراع من أجل المستعمرات، «الصراع من أجل الرقاع الاقتصادية».
الفصل السادس
اقتسام العالم بين الدول الكبرى
يعطي الجغرافي أ. سوبان في مؤلفه «اتساع أراضي مستعمرات أوروبا»(1) النتيجة المختصرة التالية لهذا السير في نهاية القرن التاسع عشر:
النسبة المئوية للأراضي العائدة للدول الأوروبية صاحبة المستعمرات (بما فيها الولايات المتحدة):
سنة 1876 سنة 1900 الزيادة
في افريقيا 10.8% 90.4% +79.6%
في بولينيزيا 56.8% 98.9% +42.1%
في آسيا 51.5% 56.6% +5.1%
في أوستراليا 110.0% 100.0% -
في أمريكا 27.5% 27.2% -0.3%
ويخلص سوبان إلى النتيجة التالية: «فالسمة المميزة لهذه المرحلة هي إذن اقتسام افريقيا وبولينيزيا». وبما أنه لا توجد في آسيا وفي أمريكا اراض غير مشغولة، أي غير عائدة لدولة من الدول، ينبغي علينا أن نوسع استنتاج سوبان وأن نقول أن السمة المميزة للمرحلة المذكورة هي الإقتسام النهائي للأرض، لا بمعنى استحالة إعادة التقاسم، – فإعادة التقاسم هي بالعكس أمر ممكن ومحتوم – بل بمعنى أن السياسة الاستعمارية التي تمارسها الدول الرأسمالية قد انجزت الإستيلاء على الأراضي غير المشغولة في كوكبنا. ولأول مرة بدا العالم مقتسما بشكل لا يمكن معه في المستقبل إلاّ إعادة التقاسم، أي انتقال الأراضي من «مالك» لآخر، لا إنتقالها من حالة أراض لا مالك لها إلى ذات «مالك».
فنحن نجتاز، إذن، عهدا خاصا من سياسة استعمارية عالمية مرتبطة أوثق ارتباط بـ«احدث درجة في تطور الرأسمالية»، بالرأسمال المالي. ولذا من الضروري أن نتناول قبل كل شيء الوقائع بالتفصيل لكي نتبين بما أمكن من الدقة ما يميز هذا العهد عن العهود السابقة وكذلك وضع الأمور الراهن. ويتبادر إلى الذهن هنا بادئ ذي بدء سؤالان عمليان: هل يلاحظ اشتداد السياسة الاستعمارية وتفاقم الصراع من أجل المستعمرات في عهد الرأسمال المالي بالضبط، وكيف اقتسم العالم من هذه الناحية في الوقت الراهن.
يحاول الكاتب الأمريكي موريس في كتابه عن تاريخ الاستيلاء على المستعمرات(2) تعميم المعلومات عن مساحة مستعمرات إنجلترا وفرنسا وألمانيا في مختلف مراحل القرن التاسع عشر. وها هي، باختصار، النتائج التي توصل إليها:
مساحة المستعمرات
سنوات إنجلترا فرنسا ألمانيا
المساحة (بملايين الأميال المربعة) السكان (بالملايين) المساحة (بملايين الأميال المربعة) السكان (بالملايين) المساحة (بملايين الأميال المربعة) السكان (بالملايين)
1815-1830 ؟ 126.4 0.02 0.5 - -
1860 2.5 145.1 0.2 3.4 - -
1880 7.7 267.9 0.7 7.5 - -
1899 9.3 309.0 3.7 56.4 1.0 14.7
إن مرحلة اشتداد الاستيلاء على المستعمرات اشتدادا هائلا هي بالنسبة لإنجلترا سنوات 1860-1880 واشتداد ملحوظا جدا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر, ومرحلة الاشتداد الهائل بالنسبة لفرنسا وألمانيا هي العقدين الأخيرين بالضبط. وقد رأينا فيما تقدم أن رأسمالية ما قبل عهد الاحتكار، رأسمالية سيادة المزاحمة الحرة قد بلغت أوج تطورها في مرحلة سنوات 1860-1880. وها نحن نرى الآن أنه بعد هذه المرحلة بالضبط تبتدئ «النهضة» الكبرى في الاستيلاء على المستعمرات ويحتدم للغاية وطيس الصراع من أجل اقتسام أراضي العالم. ولا مجال للشك إذن في أن انتقال الرأسمالية إلى درجة الرأسمالية الاحتكارية، إلى الرأسمال المالي، مرتبط باحتدام الصراع من أجل اقتسام العالم.
يشير هوبسون في مؤلفه عن الإمبريالية إلى مرحلة سنوات1883-1900 باعتبارها مرحلة اشتداد «توسع» الدول الأوروبية الرئيسية. وبموجب حساباته، تملكت إنجلترا خلال هذا الوقت 3.7 ملايين ميل مربع يسكنها 57 مليون نسمة؛ وفرنسا 3.6 ملايين ميل مربع يسكنها 36.5 مليون نسمة؛ وألمانيا 1 مليون ميل مربع يسكنها14.8 مليون نسمة، وبلجيكا 900 ألف ميل مربع يسكنها 30 مليون نسمة؛ والبرتغال 800 ألف ميل مربع يسكنها 9 ملايين نسمة. إن ركض جميع الدول الرأسمالية وراء المستعمرات في أواخر القرن التاسع عشر ولاسيما منذ سنوات العقد التاسع هو واقع يعرفه الجميع في تاريخ الديبلوماسية والسياسة الخارجية.
في أوج ازدهار المزاحمة الحرة في إنجلترا، وفي مرحلة سنوات 1840-1860، كان قادتها السياسيون البرجوازيون ضد السياسة الاستعمارية وكانوا يعتبرون المستعمرات وانفصالها التام عن إنجلترا أمرا محتوما ومفيدا. ففي مقالة عن «الامبريالية الإنجليزية الحديثة»(3) ظهرت في سنة 1898 يشير م. بير إلى أن رجلا من رجال الدولة الإنجليزية يميل عموما أشد الميل إلى الإمبريالية وهو ديسرائيلي قد قال في سنة 1852 أن «المستعمرات هي أحجار طاحون في رقبتنا». في أواخر القرن التاسع عشر كان سيسيل رودس وجوزيف تشمبرلين بطلي الساعة في إنجلترا وكانت يبشران بالإمبريالية على المكشوف ويمارسان السياسة الإمبريالية بمنتهى القحة!
وجدير بالذكر أن قادة البرجوازية الإنجليزية السياسيين هؤلاء كانوا في ذلك الحين يرون بوضوح العلاقات بين جذور الإمبريالية الحديثة الاقتصادية الصرف إن أمكن القول والاجتماعية السياسية. فقد كان تشمبرلين يروج بالامبريالية باعتبارها «سياسة أصيلة، حكيمة، مقتصدة» مشيرا بصورة خاصة إلى المزاحمة التي تصادفها إنجلترا الآن في السوق العالمية من جانب ألمانيا وأمريكا وبلجيكا. الخلاص في الإحتكار – هكذا كان يقول الرأسماليون وهم يؤسسون الكارتيلات والسينديكات والتروستات. الخلاص في الإحتكار – كان يردد زعماء البرجوازية السياسيون مسرعين إلى الاستيلاء على أنحاء العالم التي لم تقتسم بعد. وقد روى الصحفي ستيد أن صديقه الحميم سيسل رودس قد حدثه في سنة 1895 عن نظراته الإمبريالية بقوله: «كنت أمس في الايست أند (حي العمال في لندن) وحضرت اجتماعا من اجتماعات العمال العاطلين، وقد سمعت هناك خطابات فظيعة كانت من أولها إلى آخرها صرخات: الخبز! الخبز! وأثناء عودتي إلى البيت كنت أفكر بما رأيت واقتنعت أوضح من السابق بأهمية الإمبريالية… إن الفكرة التي أصبو إليها هي حل المسألة الاجتماعية، أعني: لكيما ننقذ أربعين مليونا من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية فتاكة ينبغي علينا نحن الساسة طلاب المستعمرات أن نستولي على أراض جديدة لنرسل إليها فائض السكان ولنقتني ميادين جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها المصانع والمناجم. فالإمبراطورية، وقد قلت ذلك مرارا وتكرارا، هي مسألة البطون. فإذا كنتم لا تريدون الحرب الأهلية ينبغي عليكم أن تصبحوا امبرياليين»(4).
هذا ما قاله في سنة 1895 سيسيل رودس المليونير وملك المال والمسؤول الرئيسي عن الحرب الإنجليزية-البويرية؛ ولكن دفاعه عن الإمبريالية، وإن كان فظا وقحا، لا يختلف في الجوهر عن «نظرية» السادة ماسلوف، زوديكوم، بوتريسوف، دافيد، ومؤسس الماركسية الروسية ومن على شاكلتهم. فقد كان سيسيل روديس اشتراكيا-شوفينيا أشرف قليلا…
ولكيما نعطي صورة أقرب إلى الدقة ما أمكن عن تقاسم أراضي العالم وعن التغيرات التي حدثت في هذا الحقل خلال العشرات الأخيرة من السنين نستفيد من المعلومات التي أعطاها سوبان في مؤلفه المذكور حول مستعمرات جميع دول العالم. يأخذ سوبان سنتي 1876 و1900؛ ونحن نأخذ سنة 1876، إذ أنها نقطة أحسن اختيارها، لأن تطور رأسمالية أوروبا الغربية في عهد ما قبل الاحتكار يمكن أن يعتبر قد إنتهى بالإجمال وبوجه عام حول هذا التاريخ –ونأخذ سنة 1914 مستعيضين عن أرقام سوبان بأرقام أحدث مأخوذة عن «الجداول الجغرافية والاحصائية» لهوبنز. يكتفي سوبان بالمستعمرات؛ ونحن نعتقد أن من المفيد – لتكتمل في مخيلتنا صورة تقاسم العالم – أن نضيف معلومات مختصرة عن البلدان غير المستعمرة وعن أشباه مستعمرات التي نعتبر ضمنها بلاد فارس والصين وتركيا: فالأولى قد غدت مستعمرة بصورة تامة تقريبا، أمّا الثانية والثالثة فتتدحرجان إلى هذه النهاية.
ويكون الحاصل ما يلي (راجعوا ص 515).
يبين لنا هذا الجدول بجلاء كيف «انتهى» تقاسم العالم على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد تضخمت مستعمرات الدول الست الكبرى لحد هائل بعد سنة 1876: أكثر من النصف، من 40 إلى 65 مليون كيلومتر مربع. والزيادة تبلغ 25 مليون كيلومتر مربع، أي بزيادة النصف عن مساحة البلدان مالكة المستعمرات (16.5 مليون). وفي سنة 1876 لم يكن لدى ثلاث دول أي مستعمرة، أمّا الرابعة، فرنسا، فلم يكن لديها مستعمرات تقريبا. وفي سنة 1914 كان لهذه الدول الأربع مستعمرات تبلغ مساحتها 14.1 مليون كيلومتر مربع، أي مساحة تزيد عن مساحة أوروبا بنسبة تقارب النصف ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة. إن التفاوت في توسيع المستعمرات كبير جدا. فإذا قارنا مثلا فرنسا وألمانيا واليابان التي لا تختلف كثيرا من حيث المساحة وعدد السكان وجدنا أن الأولى في هذه البلدان قد اقتنت من المستعمرات (من حيث المساحة) نحو ثلاثة أضعاف ما اقتنته الثانية والثالثة مجتمعتين. ولكن من حيث مقادير الرأسمال المالي قد تكون فرنسا في بداية المرحلة المذكورة أغنى بعدة أضعاف أيضا من واليابان مجتمعتين . وعدا الظروف الاقتصادية الصرف وعلى أساسها، تؤثر على اتساع مساحات المستعمرات الظروف الجغرافية وغيرها. ورغم سعة الخطوة التي خطتها خلال العقود الأخيرة من السنين تسوية العالم والتقريب بين ظروف الاقتصاد والمعيشة في مختلف البلدان تحت ضغط الصناعة الضخمة والتبادل والرأسمال المالي، ما زال الفرق على كل حال كبير، نلاحظ بين الدول الست المذكورة، من جهة، بلدانا رأسمالية فتية تقدمت بسرعة خارقة (أمريكا، ألمانيا، اليابان)؛ ومن جهة أخرى، بلدي التطور الرأسمالي القديم اللذين كانا تقدمهما في الوقت الأخير أبطأ جدا من تقدم البلدان الآنفة الذكر (فرنسا وإنجلترا)؛ ومن الجهة الثالثة، البلد الأكثر تأخرا من الناحية الاقتصادية (روسيا) الذي احيطت فيه الامبريالبية الرأسمالية الحديثة، إن أمكن القول، بشبكة كثيفة جدا من علاقات عهد ما قبل الرأسمالية
مستعمرات الدول الكبرى: (بملايين الكيلومترات المربعة وملايين السكان)
المستعمرات المتروبولات المجموع
سنة 1876 سنة 1914 سنة 1914 سنة 1914
مليون كيلومتر مليون نسمة مليون كيلومتر مليون نسمة مليون كيلومتر مليون نسمة مليون كيلومتر مليون نسمة
إنجلترا 22.5 251.9 33.5 393.5 0.3 46.5 33.8 440.0
روسيا 17.0 15.9 17.4 33.2 5.4 136.2 22.8 169.4
فرنسا 0.9 6.0 10.6 55.5 0.5 39.6 11.1 95.1
ألمانيا - - 2.9 12.3 0.5 64.9 3.4 77.2
الولايات المتحدة - - 0.3 9.7 9.4 97.0 9.7 106.7
اليابان - - 0.3 19.2 0.4 53.0 0.7 72.2
المجموع لـ 6 دول الكبرى 40.4 273.8 65.0 523.4 16.5 437.2 81.5 960.6
مستعمرات الدول الأخرى (بلجيكا، هولندا وغيرهما) 9.9 45.3
أشباه المستعمرات (بلاد فارس، الصين، تركيا) 14.5 361.2
البلدان الأخرى 28.0 289.9
مجموع الأرض 133.9 1657.0
وإلى جاني مستعمرات الدول الكبرى قد وضعنا المستعمرات غير الواسعة العائدة للدول الصغيرة. وهذه المستعمرات هي، إن أمكن القول الهدف المباشر «لتقاسم جديد» للمستعمرات ممكن ومحتمل. وعلى الأغلب ما كانت هذه الدول الصغيرة لتحتفظ بمستعمراتها لو لم توجد بين الدول الكبرى تناقضات مصالح واحتكارات الخ.، تعيق اتفاقها على تقاسم الغنيمة. أمّا فيما يخص الدول «شبه المستعمرة» فهي مثل الأشكال الانتقالية التي تصادف في جميع ميادين الطبيعة والمجتمع فالرأسمال المالي هو قوة كبرى ويمكننا أن نقول فاصلة في جميع العلاقات الاقتصادية والدولية بحيث أن باستطاعتها أن تخضع لنفسها وهي تخضع في الواقع حتى الدول التي تتمتع باستقلالها السياسي الناجز؛ وسنرى الآن المثل على ذلك. ولكن من البديهي أن ما يعطي الرأسمال المالي الوضع «الأفضل» والنفع الأكبر هو ذلك الخضوع الذي يتبع فقدان البلدان والشعوب المستعبدة لاستقلالها السياسي. والبلدان شبه البلدان والشعوب المستعبدة لاستقلالها السياسي. والبلدان شبه المستعمرة هي نموذجية باعتبارها «بين بين» في هذا المضمار. ومن المفهوم أن الصراع من أجل هذه البلدان شبه التابعة كان لابدّ أن يحتدم بصورة خاصة في عهد الرأسمال المالي ما دامت بقية العالم قد اقتسمت.
لقد وجدت سياسة الاستيلاء على المستعمرات ووجدت الإمبريالية قبل أن تبلغ الرأسمالية مرحلتها الحديثة وحتى قبل الرأسمالية. فروما القائمة على نظام العبودية كانت تمارس سياسة الاستيلاء على المستعمران وتحقق الإمبريالية. ولكن البحث «بصورة عامة» في الإمبريالية، مع نسيان أو استصغار شأن الفرق الجذري بين النظم الاجتماعية الاقتصادية يؤول حتما إلى هذر فارغ أو إلى تبجح من نوع المقارنة بين «روما العظمى وبريطانيا العظمى»(5)، فحتى السياسة الاستعمارية التي مارستها الرأسمالية في مراحلها السابقة تختلف اختلافا جوهريا عن سياسة الرأسمال المالي الاستعمارية.
إن الخاصية الأساسية في الرأسمالية الحديثة هي سيطرة الاتحادات الاحتكارية التي يؤسسها كبار أصحاب الأعمال. وهذه الإحتكارات هي أوطد ما تكون حين تتفرد بوضع يدها على جميع مصادر الخامات؛ وقد رأينا بأي اندفاع توجه اتحادات الرأسماليين العالمية جهودها لكي تنتزع من الخصم كل إمكانية للمزاحمة ولكي تشتري مثلا مطمورات الحديد أو حقول النفط وهلم جرا. وحيازة المستعمرات هي وحدها ما يعطي الاحتكارات الضمانة التامة للنجاح ضد كل طوارئ الصراع مع المنافس –حتى في حالة ما إذا رغب المنافس في الدفاع عن نفسه باستصدار قانون عن إقامة احتكار الدولة. فكلما تقدمت الرأسمالية في تطورها، وكلما بدا بصورة أوضح نقص الخامات وكلما استعرت المزاحمة واشتد الركض وراء مصادر الخامات في العالم كله، احتدام الصراع من أجل حيازة المستعمرات.
وقد كتب شيلدر: «بالإمكان أن نجرؤ على تأكيد قد يبدو للبعض غريبا، وهو أن نمو السكان المدنيين والصناعيين قد يصطدم في مستقبل قريب لحد ما بعقبة نقص خامات الصناعة لحد أكبر جدا من نقص المواد الغذائية». وهكذا يشتد مثلا نقص الخشب الذي ترتفع أسعاره دون انقطاع والجلد والخامات اللازمة لصناعة النسيج. «تحاول اتحادات الصناعيين إيجاد توازن بين الزراعة والصناعة في نطاق الاقتصاد العالمي كله. وعلى سبيل المثال يمكن ذكر الاتحاد العالمي لجمعيات صناعة خيوط القطن الذي وجد من سنة 1904 في جملة من الدول الصناعية الكبرى والاتحاد الأوروبي لجمعيات صناعة خيوط الكتان المؤسس على نفس الطراز في سنة 1901»(6).
يحاول الإصلاحيون البرجوازيون وبينهم بوجه خاص الكاوتسكيون الحاليون أن يقللوا طبعا من أهمية هذا النوع من الوقائع بقولهم أن «بالإمكان» الحصول على الخامات في السوق الحرة بدون السياسة الاستعمارية «ذات التكاليف الكبيرة والخطيرة» وأن «باإمكان» زيادة عرض الخامات زيادة كبيرة «بمجرد» تحسين ظروف الزراعة بوجهه عام. ولكن هذه الأقاويل تغدو دفاعا عن الإمبريالية وتجميلا لوجهها لأنها قائمة على نسيان الخاصية الرئيسية في الرأسمالية الحديثة: الاحتكار. تغيب السوق الحرة شيئا فشيئا في طيات الماضي، فالسينديكات والتروستات الاحتكارية تبترها من يوم لآخر؛ أمّا «مجرد» تحسين ظروف الزراعة فينحصر في تحسين حالة الجماهير ورفع الاجور وتقليل الارباح . ولكن هل توجد في غير مخيلات الاصلاحيين دوي الكلمات المعسولة تروستات يمكنها ان تهتم بحالة الجماهير بدلا من الاستيلاء على المستعمرات؟
لا يقصر الرأسمال المالي اهتمامه على مصادر الخامات المكتشفة وحدها، بل يهتم كذلك بمصادر الخامات المحتملة، لأن التكنيك يتقدم في أيامنا بسرعة لا يتصورها العقل؛ والأراضي غير الصالحة اليوم قد تغدو صالحة غدا إذا أوجدت لذلك طرائق جديدة (ولهذا الغرض يستطيع بنك من البنوك الكبرى تجهير بعثة خاصة من المهندسين والخبراء الزراعيين الخ.) وإذا أنفق رأسمال كبير. والشيء نفسه فيما يخص التنقيب عن الثروات المعدنية والأساليب الجديدة لتحضير هذه الخامات أو تلك والاستفادة منها الخ.، وهلم جرا. ومن هنا لا مفر للرأسمال المالي من أن ينزع إلى توسيع أراضيه الاقتصادية وحتى أراضيه بوجه عام. وعلى غرار التروستات التي تقدر أملاكها برأسمال منفوخ ضعفين أو ثلاث أضعاف، حاسبة الأرباح «المحتملة» في المستقبل (لا الأرباح الراهنة)، حاسبة نتائج الاحتكار المقبلة، يطمح الرأسمال المالي بوجه عام إلى الإستيلاء على أكثر ما يمكن من الأراضي مهما كانت وحيثما كانت وبأية وسيلة كانت، آخذة بعين الإعتبار مصادر الخامات المحتملة وخوفا من التأخر في الصراع المسعور من أجل قطعة من العالم غير المقتسم أو من أجل إعادة تقاسم القطع التي تم تقسيمها.
يبذل الرأسماليون الإنجليز قصارى جهدهم لتطوير انتاج القطن في مستعمرتـهم مصر ففي سنة 1904 زرع القطن في 0.6 مليون هكتار من مجموع 2.3 مليون هكتار من الأراضي المزروعة، أي أكثر من الربع. ويسير الرأسماليون الروس على نفس النمط في مستعمرتـهم تركستان. ذلك لأن هذه الطريق تسهل لهم التغلب على مزاحميهم الأجانب، تسهل لهم الوصول إلى احتكار مصادر الخامات وإنشاء تروست للنسيج أكثر توفيرا وربحا ذي إنتاج «مركب» يركز في يد واحدة جميع مراحل إنتاج ومعالجة القطن.
إن مصالح تصدير الرأسمال تدفع كذلك إلى الاستيلاء على المستعمرات، لأن من الأسهل في أسواق المستعمرات (وأحيانا لا يمكن إلاّ فيها) إزاحة المزاحم بالطرق الاحتكارية وتأمين الطلب وتوطيد «العلاقات» اللازمة وهلم جرا.
إن البناء الفوقي غير الاقتصادي القائم على أساس الرأسمال المالي، سياسة وإيديولوجية هذا الأخير –كل هذا يشدد السعي إلى الاستيلاء على المستعمرات. وقد صدق هيلفردينغ إذ قال: «إن الرأسمال المالي لا يريد الحرية، بل السيطرة». وقد قال كاتب برجوازي فرنسي، وكأنه يطور ويكمل أفكار سيسيل رودس المذكورة أعلاه(7)، أنه ينبغي أن تضاف الأسباب الاجتماعية إلى الأسباب الاقتصادية التي تنشأ عنها السياسة الاستعمارية الراهنة: «ونتيجة لاشتداد تعقد الحياة والصعوبات التي لا تضغط على جماهير العمال وحسب، بل وعلى الطبقات الوسطى، يتراكم في جميع بلدان المدنية القديمة «الضجر والنقمات والأحقاد مهددة الأمن العام؛ وطاقة خارجة عن مجراها الطبقي العادي ينبغي استخدامها، ينبغي تشغيلها في الخارج لكيلا يحدث انفجار في الداخل»(8).
وما دمنا في معرض الحديث عن السياسة الاستعمارية في عهد الإمبريالية الرأسمالية ينبغي أن نشير إلى أن الرأسمال المالي والسياسة الدولية الملازمة له التي تتلخص في الصراع بين الدول الكبرى من أجل اقتسام العالم اقتصاديا وسياسيا يخلقان جملة من أشكال انتقالية من تبعية الدول. فما يميز هذا العهد ليس فقط الفريقان الأساسيات من البلدان: المالكة للمستعمرات والمستعمرات، بل كذلك مختلف أشكال البلدان التابعة، المستقلة رسميا من الناحية السياسية والواقعة عمليا في شباك التبعية المالية والديبلوماسية. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى شكل من هذه الأشكال – البلدان شبه المستعمرة. والأرجنتين مثلا هي نموذج شكل آخر.
فقد كتب شولتزه-غيفيرنيتز في مؤلفه عن الإمبريالية البريطانية: «إن أمريكا الجنوبية ولاسيما الأرجنتين في حالة تبعية مالية للندن لدرجة ينبغي نعتها بأنها تقريبا مستعمرة تجارية بريطانية»(9). واستنادا إلى تقارير قنصل النمسا-المجر في بوينوس آيرس في سنة 1909 قدر شيلدر الرساميل التي وظفتها إنجلترا في الأرجنتين 8.75 مليار فرنك. ومن اليسير على المرء أن يتصور مدى وثوق الصلات التي يكتسبها بحكم ذلك، الرأسمال المالي الإنجليزي – و«صديقته» الحميمة، الديبلوماسية الإنجليزية – مع برجوازية الأرجنتين وأوساطها القائدة لكامل حياتها الاقتصادية والسياسية.
والبرتغال مع استقلالها السياسي تعطينا مثلا لشكل من أشكال التبعية المالية والديبلوماسية يختلف بعض الشيء. البرتغال هي دولة مستقلة ذات سيادة، ولكنها في الواقع تحت الحماية البريطانية منذ أكثر من 200 سنة، من زمن الحرب من أجل العرش الإسباني (1701-1714). فقد دافعت إنجلترا عنها وعن مستعمراتها بقصد توطيد موقعها في الصراع ضد خصميها، اسبانيا وفرنسا. وقد حصلت إنجلترا في المقابل على منافع تجارية وعلى أفضل الشروط لتصدير البضائع ولا سيما الرساميل إلى البرتغال ومستعمراتها وعلى امكانية الاستفادة من موانئ وجزر البرتغال وخطوطها التليغرافية والخ.، وهلم جرا(10). وهذا النوع من العلاقات قد وجد على الدوام بين الدول الكبرى والصغرى، ولكنه في عهد الامبريالية الرأسمالية يغدو نظاما عاما ويكون جزءا من مجموع علاقات «تقاسم العالم»، ويصبح حلقات في سلسلة عمليات الرأسمال المالي العالمي.
ولكي ننتهي من مسألة تقاسم العالم ينبغي علينا أن نشير كذلك إلى ما يلي. إن الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي لم يكونا الوحيدين اللذين طرحا هذه المسألة بكل صراحة ووضوح بعد الحرب الاسبانية الأمريكية والحرب الإنجليزية البويرية في نهاية القرن التاسع عشر. والأدب الألماني الذي كان يراقب «الإمبريالية البريطانية» بكل «غيرة» لم يكن كذلك الوحيد الذي بحث هذا الواقع بصورة مستمرة. فقد طرحت هذه المسألة كذلك في الأدب البرجوازي الفرنسي بشكل جلي واسع بمقدار ما يمكن تصور ذلك من وجهة النظر البرجوازية. فلنستشهد بالمؤرخ دريو الذي كتب في مؤلفه: «القضايا السياسية والاجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر» في فصل «الدول الكبرى وتقاسم العالم»: «في غضون السنوات الأخيرة احتلت دول أوروبا وأمريكا الشمالية جميع البقاع الشاغرة في العالم باستثناء الصين. وقد جرت على هذا الصعيد عدة منزاعات وتبدلات لمناطق النفوذ هي نذير انفجارات أفظع في المستقبل القريب. إذ أنه تنبغي السرعة: فالأمم التي لم تؤمن نفسها من هذه الناحية مهددة بعدم الحصول أبدا على حصتها وبعدم الاشتراك في استثمار الكرة الأرضية، هذا الاستثمار الهائل الذي سيكون واقعا من الوقائع الأساسية في القرن المقبل (أي العشرين). ولهذا السبب استولت على أوروبا وأمريكا جميعهما في الوقت الأخير حمى توسيع المستعمرات، حمى الإمبريالية«، التي هي أبرز السمات المميزة لأواخر القرن التاسع عشر» ويستطرد المؤلف: «في هذا التقاسم للعالم، في هذا الركض المسعور وراء الكنوز وكبريات أسواق الأرض لا يوجد أي تناسب على الإطلاق بين القوة النسبية للإمبراطوريات المؤسسة في هذا القرن، التاسع عشر، وبين المكان الذي تحتله في أوروبا الأمم التي أسستها. فالدول المهيمنة في أوروبا والمتصرفة بمصائرها ليست مهيمنة في العالم بالقدر نفسه. ولما كانت سعة المستعمرات، والأمل بالحصول على ثروات لا تزال مجهولة، سيجدان دون شك تأثيرهما منعكسا على قوة الدول الأوروبية النسبية، فإن مسألة المستعمرات – «الإمبريالية» إن شئتم – التي قد غيرت الظروف السياسية في أوروبا نفسها ستغيرها بحكم ذلك أكثر فأكثر»(11).
الفصل السابع
الإمبريالية مرحلة خاصة في الرأسمالية
ينبغي علينا الآن أن نحاول استخلاص بعض النتائج، تعميم ما قلناه فيما تقدم عن الإمبريالية. لقد نشأت الإمبريالية باعتبارها تطورا واستمرارا مباشرا لما فطرت عليه الرأسمالية بوجه عام من خصائص أساسية. ولكن الرأسمالية لم تصبح إمبريالية رأسمالية إلاّ عندما بلغت في تطورها درجة معينة، عالية جدا، عندما أخذ يتحول إلى نقيضه بعض من أخص خصائص الرأسمالية، عندما تكونت وظهرت على طوال الجبهة كلها سمات مرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى نظام اقتصادي اجتماعي أعلى. والأمر الأساسي في هذا السير هو من الناحية الإقتصادية حلول الاحتكارات الرأسمالية محل المزاحمة الحرة الرأسمالية. فالمزاحمة الحرة هي أخص خصائص الرأسمالية والإنتاج البضاعي بوجه عام؛ والاحتكار هو نقيض المزاحمة الحرة المباشرة، ولكن هذه الأخيرة أخذت تتحول أمام عيوننا إلى احتكار، منشئة الإنتاج الضخم ومزيحة الإنتاج الصغير، مُحِلَّة الأضخم محل الضخم، دافعة تمركز الإنتاج والرأسمال إلى درجة نشأت وتنشأ عنها الاحتكارات: الكارتيلات والسينديكات والتروستات والرأسمال المندمج فيها لنحو عشرة من البنوك التي تتصرف بالمليارات. وفي الوقت نفسه لا تزيل الاحتكارات المزاحمة الحرة التي نشأت عنها، بل تعيش فوقها وإلى جانبها، مولدة لهذا السبب جملة من التناقضات والاحتكارات والنزاعات في منتهى الشدة والقوة. فالاحتكار هو انتقال من الرأسمالية إلى نظام أعلى.
ولئن كانت هنالك ضرورة لتعريف الإمبريالية تعريفا غاية في الإيجاز، ينبغي أن يقال: الامبريالية هي الرأسمالية في مرحلة الاحتكار. ومثل هذا التعريف يضم الأمر الرئيسي، لأن الرأسمال المالي هو رأسمال بضعة من البنوك الاحتكارية الكبرى اندمج في رأسمال اتحادات الصناعيين الاحتكارية، هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى، إن تقاسم العالم هو إنتقال من سياسة استعمارية تشمل دون عائق أقطارا لم تستول عليها بعد أية دولة رأسمالية إلى سياسة استعمارية تقوم على احتكار حيازة بقاع الأرض المقتسمة بأكملها.
ولكن التعاريف الموجزة للغاية وإن كانت ملائمة لأنها تلخص الأمر الرئيسي، لا تكفي مع ذلك ما دامت ثمة حاجة لتستخلص منها سمات في منتهى الأهمية تصف الظاهرة التي ينبغي تعريفها. ولذلك، ودون أن ننسى أن جميع التعاريف بوجه عام هي ذات طابع شرطي نسبي وأنها لا تستطيع أبدا أن تشمل جميع وجوه علاقات ظاهرة في حالة تطورها الكامل، ينبغي إعطاء الإمبريالية تعريفا يشمل علاماتها الخمس الأساسية التالية: 1) تمركز الانتاج والرأسمال تمركزا بلغ في تطوره حدا من العلو أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية؛ 2) إندماج الرأسمال البنكي والرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس «الرأسمال المالي» هذا؛ 3) تصدير الرأسمال، خلافا لتصدير البضائع، يكتسب أهمية في منتهى الخطورة؛ 4) تشكيل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم؛ و5) انتهى تقاسم الأرض إقليميا فيما بين كبريات الدول الرأسمالية. فالإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية وانتهى تقاسم الأرض كلها إقليميا بين كبريات البلدان الرأسمالية.
وسنرى فيما بعد كيف يمكن ويجب تعريف الإمبريالية تعريفا آخر إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار فقط المفاهيم الأساسية، الاقتصادية الصرف (التي يقتصر عليها التعريف المذكور)، بل كذلك المكان الذي تحتله في التاريخ المرحلة الراهنة في الرأسمالية بالنسبة للرأسمالية بوجه عام أو علاقة الامبريالية والاتجاهين الأساسيين في حركة العمال. وينبغي أن نشير الآن إلى أن الإمبريالية بالمفهوم المذكور هي دون شك عبارة عن مرحلة خاصة في تطور الرأسمالية. ولكي نمكن القارئ من تكوين فكرة عن الامبريالية معللة أكثر ما يكون، سعينا قصدا وعمدا إلى إيراد أكثر ما يمكن من آراء الاقتصاديين البرجوازيين المضطرين إلى الاعتراف بوقائع الاقتصاد الرأسمالي الحديث الثابتة التي لا يمكن الشك فيها بحال. وللغرض نفسه ذكرنا إحصاءات مفصلة تمكن من تبين الحد الذي بلغه نمو الرأسمال البنكي الخ.، من تبين الأمر الذي تجلى فيه بالضبط تحول الكمية إلى كيفية، تحول الرأسمالية المتطورة إلى إمبريالية. وغني عن القول طبعا أن جميع الحدود في الطبيعة والمجتمع شريطة ومتحركة وأن من السخافة النقاش مثلا حول تعيين العام أو العقد الذي تم فيه «بصورة نهائية» قيام الإمبريالية.
ولكن النقاش حول تعريف الإمبريالية أمر لا مناص منه بالدرجة الأولى مع كاوتسكي، النظري الماركسي الرئيسي في عهد ما يسمى بالأممية الثانية، أي في السنوات الـ 25 الممتدة من سنة 1889 إلى سنة 1914. لقد عارض كاوتسكي بكل حزم في سنة 1915 وحتى في نوفمبر سنة 1914 الأفكار الأساسية التي تضمنها تعريفنا للإمبريالية، معلنا أنه لا ينبغي أن يفهم من الامبريالية «مرحلة» أو درجة بلغها الإقتصاد، بل سياسة، سياسة معينة «يفضلها» الرأسمال المالي وأنه لا يصح اعتبار الامبريالية و«الرأسمالية الحديثة» «شيئا واحدا»، وأنه إذا فهم المرء أن الامبريالية تعني «جميع ظواهر الرأسمالية الحديثة» – الكارتيلات، الحماية، سيطرة الماليين، السياسة الاستعمارية – عندئذ تؤول مسألة ضرورة الامبريالية بالنسبة للرأسمالية إلى «تكرار ركيك» إذ انه في هذه الحالة «تكون الامبريالية بالبداهة ضرورة حيوية للرأسمالية» والخ.. ونحن نعرب عن فكرة كاوتسكي بأكثر ما يمكن من الدقة إذا ما ذكرنا تعريفه للإمبريالية، التعريف الموجه مباشرة ضد جوهر الأفكار التي لخصناها (لأن الاعتراضات الصادرة عن معسكر الماركسيين الألمان الذين ظلوا يروجون بمثل هذه الأفكار خلال سنوات عديدة معروفة لكاوتسكي من زمن بعيد باعتبارها اعتراضات تيار معين في الماركسية).
وينص تعريف كاوتسكي:
«الإمبريالية هي نتاج الرأسمالية الصناعية العالية التطور. وهي تتلخص بنزوع كل أمة رأسمالية صناعية إلى أن تلحق بنفسها أو أن تخضع لنفسها المزيد والمزيد من البقاع الزراعية (حرف التشديد لكاوتسكي) بصرف النظر عن الأمم التي تقطنها»(1).
وهذا التعريف لا يساوي قلامة ظفر، لأنه يبرز بشكل وحيد الجانب، أي بصورة كيفية، المسألة القومية وحدها (وإن كانت في منتهى الأهمية بحد ذاتها أو في علاقتها بالإمبريالية) ويربطها بصورة كيفية وغير صحيحة بالرأسمال الصناعي وحده في البلدان التي تلحق الأمم الأخرى ولأنه يبرز بنفس الصورة الكيفية وغير الصحيحة إلحاق البقاع الزراعية.
الإمبريالية هي نزوع إلى الإلحاق – هذا ما ينحصر فيه القسم السياسي من تعريف كاوتسكي. وهو صحيح، ولكنه ناقص كل النقص، أن الإمبريالية من الناحية السياسية هي بوجه عام نزوع إلى العنف والرجعية. بيد أن ما يهمنا من الأمر هنا هو ناحيته الاقتصادية التي أدرجها كاوتسكي نفسه في تعريفه هو. إن مواطن الخطأ في تعريف كاوتسكي تفقأ العين. فما يميز الإمبريالية على وجه التحقيق ليس الرأسمال الصناعي، بل الرأسمال المالي. وليس من قبيل الصدف أن أفضت السرعة الكبرى في تطور الرأسمال المالي في فرنسا مع إضعاف الرأسمال الصناعي إلى اشتداد سياسة الإلحاق (الاستعمارية) لأقصى حد في سنوات العقد التاسع من القرن الماضي. وما يميز الإمبريالية على وجه التحقق ليس النزوع إلى إلحاق البقاع الزراعية وحدها، بل حتى الصناعية الأكثر تطورا (مطامع ألمانيا فيما يخص بلجيكا، وفرنسا فيما يخص اللورين) لأن انتهاء تقاسم الأرض يرغم، لدى إعادة التقاسم، على مد اليد إلى أي بقعة، هذا أولا؛ وثانيا، من سمات الإمبريالية الجوهرية تنافس عدد من الدول الكبرى في النزوع إلى السيطرة، أي إلى الاستيلاء على الأراضي لا بقدرما تحتاجها لنفسها مباشرة، بل بقدر ما تحتاجها لإضعاف الخصم وتقويض سيطرتــه (ألمانيا بمسيس الحاجة إلى بلجيكا كنقطة ارتكاز ضد إنجلترا؛ وإنجلترا بمسيس الحاجة إلى بغداد كنقطة ارتكاز ضد ألمانيا وهلم جرا).
يستشهد كاوتسكي بوجه خاص – ومرارا وتكرارا – بالإنجليز الذين أقروا، على ما يزعم، المعنى السياسي الصرف لكلمة «الإمبريالية» كما يفهمها كاوتسكي. فلنأخذ الإنجليزي هوبسون ولنقرأ في كتابه «الإمبريالية» الصادر في سنة 1902:
«تختلف الإمبريالية الحديثة عن القديمة أولا، بأنها تحل محل نزاعات إمبراطورية واحدة متعاظمة نظرية وعمل إمبراطوريات متنافسة تسترشد كل منها بنزعة متماثلة إلى التوسع السياسي وإلى النفع التجاري؛ وثانيا، بأنها تعلي على المصالح التجارية المصالح المالية أو المتعلقة بتوظيف الرأسمال»(2).
ونحن نرى أن كاوتسكي غير محق في الواقع أبدا إذ يستشهد بالإنجليز بوجه عام (إلاّ إذا كان يريد الاستشهاد بالإمبرياليين الإنجليز المبتذلين أو بالذين يكيلون المديح علنا للإمبريالية). ونحن نرى أن كاوتسكي الذي يدعي أنه ما زال يدافع عن الماركسية يخطو في الواقع خطوات إلى الوراء بالمقارنة مع الإشتراكي-الليبرالي هوبسون الذي يأخذ بعين الاعتبار بصورة أصح خاصتين «تاريخيتين ملموستين» (وإن كاوتسكي يسخر في تعريفه من الدقة التاريخية بالضبط!) من خواص الإمبريالية الحديثة: 1) التنافس بين جملة من الدول الإمبريالية و2) تفوق المالي على التاجر. أمّا إذا جرى الكلام، بصورة رئيسية، حول الحاق بلاد زراعية من قبل بلاد صناعية فإن ذلك يعني التأكيد على تفوق دور التاجر.
إن تعريف كاوتسكي، عدا أنه غير صحيح وغير ماركسي، هو أساس لسلسلة كاملة من نظرات تقطع كل صلة مع النظرية الماركسية والعمل الماركسي على حد سواء الأمر الذي سيأتي الحديث عنه فيما بعد. والنقاش الذي أثاره كاوتسكي حول الكلمات هو نقاش غير جدي على الإطلاق: أينبغي أن يطلق على أحدث مراحل الرأسمالية اسم الامبريالية أم درجة الرأسمال المالي. سمها كيف شئت، لا أهمية لذلك. إن كنه القضية في كون كاوتسكي يفصل سياسة الإمبريالية عن اقتصادها، زاعما أن الإلحاقات هي سياسة الرأسمال المالي «المفضلة»، ومعارضا إياها بسياسة برجوازية أخرى يدعي أنها ممكنة على أساس الرأسمال المالي نفسه. يستنتج إذن أن الاحتكارات في الاقتصاد تتلاءم مع طراز سلوك في السياسة غير قائم على الاحتكار والعنف والغضب. يستنتج إذن أن تقاسم أقطار الأرض الذي تم في عهد الرأسمال المالي بالضبط والذي يؤلف أساس السمة المميزة لأشكال التنافس الراهنة بين كبريات الدول الرأسمالية يتلاءم مع السياسة غير الإمبريالية. ويكون الحاصل طمس وثلم حدة أهم تناقضات المرحلة الحديثة في الرأسمالية بدلا من الكشف عن عمقها، ويكون الحاصل إصلاحية برجوازية بدلا من الماركسية.
يناقش كاوتسكي مداح الإمبريالية والإلحاقات الألماني كونوف، ذا التفكير السقيم الوقح: الإمبريالية هي الرأسمالية الحديثة؛ تطور الرأسمالية محتوم وتقدمي، معنى ذلك أن الإمبريالية تقدمية، معنى ذلك أنه ينبغي تملق الإمبريالية والثناء عليها! وكأننا أمام شيء ما من نمط تلك الصورة المشوهة التي رسمها الشعبيون على الماركسيين الروس في سنتي 1894-1895: ما دام الماركسيون يعتبرون الرأسمالية في روسيا أمرا محتوما وتقدميا فينبغي عليهم أن يفتحوا خمارة وينصرفوا إلى غرس الرأسمالية. ويعترض كاوتسكي على كونوف: كلا، الإمبريالية ليست الرأسمالية الحديثة، بل هي شكل من أشكال سياسة الرأسمالية الحديثة لا غير، ويمكننا نحن وينبغي علينا أن نناضل ضد هذه السياسة، أن نناضل ضد الإمبريالية، ضد الإلحاقات وهلم جرا.
يبدو الاعتراض مقبولا تماما من حيث الشكل، ولكنه، في الواقع، عبارة عن تبشير بالإتفاق مع الإمبريالية أكثر نعومة وأحسن تسترا (وهو لذلك أشد خطرا)، لأن «النضال» ضد سياسة التروستات والبنوك، دون مساس بأسس اقتصاد التروستات والبنوك، يؤول إلى الإصلاحية والمسالمة البرجوازية وإلى تمنيات طيبة بريئة. إن نظرية كاوتسكي التي لا يجمعها بالماركسية جامع هي تجنب التناقضات الموجودة ونسيان أهم هذه التناقضات، بدلا من الكشف عن كل عمقها. ومفهوم أن هذه «النظرية» لا تصلح إلاّ للدفاع عن فكرة الوحدة مع كونوف ومن على شاكلته!
وقد كتب كاوتسكي: «من وجهة النظر الاقتصادية الصرف ليس من المستحيل أن تجتاز الرأسمالية مرحلة جديدة أخرى تشمل فيها سياسة الكارتيلات السياسة الخارجية، مرحلة اتحاد الدول الإمبريالية العليا»(3)، أي مرحلة ما فوق الإمبريالية، مرحلة اتحاد الدول الإمبريالية في العالم بأسره، لا الصراع فيما بينها، مرحلة إنهاء الحروب في ظل الرأسمالية، مرحلة «استثمار مشترك للعالم من قبل الرأسمال المالي المتحد على النطاق العالمي»(4).
لابد لنا أن نتناول فيما يأتي «نظرية الإمبريالية العليا» هذه لكي نبين بالتفصيل إلى أية درجة تنفصل هذه النظرية بصورة قاطعة نهائية عن الماركسية. أمّا هنا، فينبغي علينا، وفقا للبرنامج العام الذي نتمشى عليه في هذا المؤلف، أن نلقي نظرة على المعلومات الاقتصادية الدقيقة المتصلة بهذه المسألة. «من وجهة النظر الاقتصادية الصرف» أيمكن وجود «ما فوق الإمبريالية»، أم أننا أمام ما فوق الهذر؟
إذا فهم المرء وجهة النظر الاقتصادية الصرف على أنها التجريد «الصرف»، فكل ما يمكن قوله حينئذ يؤول إلى ما يلي: يسير التطور في اتجاه الاحتكارات، وعلى ذلك في اتجاه احتكار عالمي واحد، تروست عالمي واحد. هذا لا جدال فيه، ولكنه كذلك خال من كل معنى كما لو قال المرء أن «التطور يسير» في اتجاه إنتاج المواد الغذائية في المختبرات. و«نظرية» ما فوق الإمبريالية هي بهذا المعنى لغو لا طائل تحته كما لو قال المرء بـ«نظرية ما فوق الزراعة».
ولكن إذا تناول الكلام الظروف « الاقتصادية الصرف» لمرحلة الرأسمال المالي باعتبارها مرحلة محددة تاريخيا تقع في أوائل القرن العشرين، فإن أحسن رد على الصيغ المجردة الميتة بصدد «ما فوق الإمبريالية» تلك الصيغ التي لا تستهدف إلاّ أمرا رجعيا للغاية: إلهاء الأنظار عن عمق التناقضات القائمة) هو معارضتها بالواقع الاقتصادي الملموس في الإقتصاد العالمي الراهن. إن أقاويل كاوتسكي عما فوق الإمبريالية، هذه الأقاويل الخالية من كل معنى، تشجع، فيما تشجع، الفكرة المغلوطة في عمقها والتي تصب الماء في طاحونة مداحي الإمبريالية، الفكرة القائلة بأن سيطرة الرأسمال المالي تخفف التفاوت والتناقضات في داخل الاقتصاد العالمي في حين أنها تشددها في الواقع.
قام ر. كالفير في كتابه الموجز «توطئة الاقتصاد العالمي»(5) بمحاولة لتلخيص أهم المعطيات الاقتصادية الصرف التي تمكن من تكوين فكرة ملموسة عن العلاقات في داخل الاقتصاد العالمي على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. إنه يقسم العالم بأكمله إلى خمس «مناطق اقتصادية رئيسية»: 1) منطقة أوروبا الوسطى (أوروبا كلها عدا روسيا وإنجلترا)؛ 2) المنطقة البريطانية؛ 3) المنطقة الروسية؛ 4) منطقة آسيا الشرقية؛ 5) المنطقة الأمريكية، ضاما المستعمرات إلى «مناطق» تلك الدول التي تعود إليها و«تاركا جانبا» عددا قليلا من البلدان غير المقسمة حسب المناطق كبلاد فارس وأفغانستان وشبه جزيرة العرب في آسيا ومراكش والحبشة في افريقيا وغيرها.
وها هي بالإيجاز المعطيات الإقتصادية التي ذكرها عن هذه المناطق: (راجعوا الصفحة 533).
نرى ثلاث مناطق بلغت فيها الرأسمالية درجة عالية من التطور (تطورت فيها جدا طرق المواصلات والتجارة و والصناعة): منطقة أوروبا الوسطى والمنطقة البريطانية والمنطقة الأمريكية. بينها ثلاث دول مسيطرة في العالم: ألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة. وتنافسها الإمبريالي وصراعها قد تفاقما غاية التفاقم لأن لدى ألمانيا منطقة صغيرة ومستعمرات قليلة؛ إن تشكيل «أوروبا الوسطى» ما زال مسألة المستقبل وهي تولد في صراع مستميت. فالسمة المميزة لأوروبا بأكملها ما تزال التجزئة السياسية. والتمركز السياسي في المنطقتين البريطانية والأمريكية هو، بالعكس، عال جدا؛ بيد أن الفرق هائل بين سعة مستعمرات الأولى وضآلة مستعمرات الثانية. أمّا في المستعمرات، فالرأسمالية قد أخذت في التطور وحسب ويحتدم الصراع من أجل أمريكا الجنوبية.
وتطور الرأسمالية ضعيف في منطقتين – في المنطقة الروسية ومنطقة آسيا الشرقية. في المنطقة الأولى كثافة السكان في منتهى الضعف، وفي الثانية في منتهى الإرتفاع؛ في الأولى، التمركز السياسي عال جدا، وفي الثانية معدوم. واقتسام الصين لم يكد يبدأ، فالصراع بين اليابان والولايات المتحدة وغيرهما من أجل هذا البلد يستعر باستمرار بين الأهلة مساحة المستعمرات وعدد سكانها
المناطق الإقتصادية الرئيسية في العالم المساحة
ملايين كلم مربع السكان
(بالملايين) طرق المواصلات التجارة الصناعة
السكك الحديدية
(ألوف الكيلومتر) الأسطول التجاري
(ألف طن) الصادرات والواردات معا
(بمليارات الماركات) استخراج عدد المغازل في صناعة القطن (بالملايين)
الفحم الحجري الحديد الزهر
(مليون طن)
1) أوروبا الوسطى 27.6 (23.6) 388 (146) 204 8 41 251 15 26
2) البريطانية 28.9 (28.6) 398 (355) 140 11 25 249 9 51
3) الروسية 22 131 63 1 3 16 3 7
4) آسيا الشرقية 12 389 8 1 2 8 0.02 2
5)الأمريكية 30 148 379 6 14 245 14 19
قارنوا بهذا الواقع – بتنوع الظروف الاقتصادية والسياسية الهائل، بالتفاوت الكبير في سرعة تطور مختلف البلدان وغير ذلك، بالصراع المسعور بين الدول الإمبريالية – أقصوصة كاوتسكي السخيفة عما فوق الإمبريالية «المسالمة». أفليست هذه محاولة رجعية من متعيش مهلوع للاختفاء من الواقع الرهيب؟ والكارتيلات العالمية التي تبدو لكاوتسكي جنينا لـ«ما فوق الإمبريالية» (كما «يمكن» أن يعلن إنتاج الأقراص في المختبر جنينا لما فوق الزراعة)، ألا تعطينا مثلا عن تقاسم العالم وإعادة تقاسمه، عن الانتقال من التقاسم السلمي إلى غير السلمي وبالعكس؟ والرأسمال المالي الأمريكي وغيره الذي اقتسم العالم كله سلميا، حينما اشتركت ألمانيا، ولنقل مثلا، في السينديكا العالمي لقضبان السكك الحديدية أو في التروست العالمي للملاحة التجارية، ألم يأخذ الآن في إعادة تقاسم العالم على أساس النسبة الجديدة بين القوى، التي تتغير بطريقة غير سلمية بتاتا؟
إن الرأسمال المالي والتروستات لا تخفف التفاوت في سرعة تطور مختلف أقسام الاقتصاد العالمي، بل بالعكس، تزيد منه. وإذا ما تغيرت نسبة القوى، فهل يمكن، في ظل الرأسمالية، أن يوجد حل للتناقضات في غير القوة؟ ونجد في إحصاءات السكك الحديدية(6) معلومات في منتهى الدقة عن تباين سرعة نمو الرأسمالية والرأسمال المالي في الاقتصاد العالمي بأكمله. فخلال العقود الأخيرة من سني التطور الإمبريالي تغير طول السكك الحديدية على النحو الآتي:
السكك الحديدية
(بألوف الكيلومترات)
سنة +
1890 1913
(1) أوروبا 224 346 +122
(2) الولايات المتحدة 268 411 +143
(3) جميع المستعمرات 82 210 +128
(3) + (4) 125 347 +222
(4) الدول المستقلة وشبه المستقلة في آسيا وأمريكا 43 137 +94
المجموع 617 1104
لقد تم تطور السكك الحديدية بأكبر سرعة إذن في المستعمرات والدول الآسيوية والأمريكية المستقلة – وشبه المستقلة –. ومن المعروف أن الرأسمال المالي العائد لـ 4 - 5 من كبريات الدول الرأسمالية هو صاحب القول الفصل في هذه الأقطار. فهذه المئتا ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية الجديدة في المستعمرات وغيرها من بلدان آسيا وأمريكا تعني أكثر من 40 مليار مارك من الرساميل الموظفة حديثا بشروط مفيذة للغاية من ضمانات خاصة للعائدات وطلبات تؤمن الأرباح لمعامل صهر الفولاذ وغير ذلك وهلم جرا.
تتطور الرأسمالية بأكبر سرعة في المستعمرات وفي بلدان ما وراء المحيط. وتظهر بينها دول إمبريالية جديدة (اليابان). يتفاقم الصراع بين الدول الإمبريالية العالمية. ويزداد مبلغ الجزية التي يتقاضاها الرأسمال المالي من المشاريع الرابحة جدا في المستعمرات وبلدان ما وراء المحيط. وعند اقتسام هذه «الغنيمة» يقع منها قسم كبير جدا في أيدي بلدان لم تشغل على الدوام المكان الأول في سرعة تطور القوى المنتجة. ففي الدول الكبرى مأخوذة مع مستعمراتها كان طول السكك الحديدية على النحو الآتي:
(ألوف الكيلومترات)
سنة 1890 سنة 1913 +
الولايات المتحدة 268 413 +145
الإمبراطورية البريطانية 107 208 +101
روسيا 32 78 +46
ألمانيا 43 68 +25
فرنسا 41 63 +22
المجموع في 5 دول 491 830 +339
وهكذا نرى أن نحو 80% من مجموع طول السكك الحديدية متمركزة في 5 دول كبرى. ولكن تمركز تملك هذه الخطوط، تمركز الرأسمال المالي، هو أكبر من هذا بما لا يقاس، وذلك لأن أصحاب الملايين الإنجليز والفرنسيين، مثلا، يملكون القسم الأكبر من أسهم وسندات السكك الحديدية الأمريكية والروسية وغيرها.
وزادت إنجلترا بفضل مستعمراتها شبكة سككـ«ـها» الحديدية 100 ألف كيلومتر، أي أربعة أضعاف زيادة ألمانيا. هذا في حين يعرف الجميع أن تطور القوى المنتجة في ألمانيا خلال هذا الوقت ولا سيما تطور إنتاج استخراج الفحم الحجري وصهر الحديد قد سار بسرعة أكبر جدا في إنجلترا، ناهيك عن فرنسا وروسيا. ففي سنة 1892 أنتجت ألمانيا 4.9 ملايين طن من الحديد الزهر مقابل 6.8 ملايين في إنجلترا، بينما أنتجت في سنة 1912- 17.6 مليون طن مقابل 9.0 ملايين طن؛ أي أنها تفوقت على إنجلترا تفوقا هائلا!(7) نتساءل: هل هنالك، في ظل الرأسمالية، وسيلة أخرى غير الحرب لتسوية عدم التناسب بين تطور القوى المنتجة وتراكم الرأسمال من جهة، واقتسام المستعمرات و«مناطق النفوذ» للرأسمال المالي، من الجهة الأخرى؟
الفصل الثامن
طفيلية الرأسمال وتعفنها
ينبغي علينا أن نتناول الآن ناحية أخرى مهمة جدا من نواحي الإمبريالية لا تقدر في معظم الأحيان حق قدرها في أكثر الأبحاث التي تتناول هذا الموضوع. فمن نواقص الماركسي هيلفردينغ أنه خطا خطوة إلى وراء بالمقارنة مع اللاماركسي هوبسون. ونحن نعني الطفيلية التي فطرت عليها الإمبريالية.
لقد سبق ورأينا أن الاحتكار هو أعمق أساس اقتصادي للإمبريالية. وهو احتكار رأسمالي، أي أنه ناشئ عن الرأسمالية وقائم ضمن الظروف العامة للرأسمالية وللإنتاج البضاعي والمزاحمة، ومتناقض مع هذه الظروف العامة تناقضا دائما لا مخرج منه. وهو، مع ذلك، ككل احتكار، يولد حتما الميل إلى الركود والتعفن. فبما أنه يفترض أسعارا احتكارية، ولو لزمن محدود، تزول بالتالي، لدرجة معينة، بواعث التقدم التكنيكي، وتبعا لذلك كل تقدم آخر، كل حركة إلى الأمام؛ ثم تظهر الإمكانية الاقتصادية لإعاقة التقدم التكنيكي بصورة مصطنعة. فلنضرب مثلا: في أمريكا اخترع المدعو أوينس ماكنة للقناني أحدثت ثورة في صنع القناني. فاشترى الكارتيل الألماني لمصانع القناني براءات اختراع أوينس ووضعها في جواريره معيقا استعمالها. وبطبيعة الحال لا يستطيع الاحتكار في ظل الرأسمالية أن يزيل المزاحمة من السوق العالمية بصورة نهائية ولبرهة طويلة (ولنقل في سياق الحديث أن هذا سبب من أسباب سخافة نظرية ما فوق الإمبريالية). ومن الواضح أن إمكانية تخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة الأرباح عن طريق إدخال التحسينات التكنيكية تعمل في صالح التغيرات. ولكن ما فطر عليه الاحتكار من ميل إلى الركود والتعفن يواصل عمله بدوره وهو يتغلب خلال وقت معين في بعض فروع الصناعة وفي بعض البلدان.
واحتكار حيازة المستعمرات الواسعة جدا، الغنية أو ذات الموقع الملائم، يعمل في نفس الإتجاه.
وبعد. إن الإمبريالية هي تراكم هائل للرأسمال النقدي في عدد قليل من البلدان يبلغ كما سبق ورأينا 100-150 مليار فرنك من الأوراق المالية. ومن هنا تنمو بصورة خارقة طبقة أو، بالأصح، فئة أصحاب المداخل، أي الأشخاص الذين يعيشون من «قص الكوبونات»، الأشخاص المنعزلين تماما عن كل اشتراك في أي مشروع، أشخاص مهنتهم التعطل. وتصدير الرأسمال – وهو أساس من أهم أسس الإمبريالية الاقتصادية – يشدد لدرجة أكبر العزلة التامة لفئة أصحاب المداخيل عن الإنتاج، ويسم بطابع الطفيلية كل البلاد التي تعيش من استثمار عمل عدد من بلدان ما وراء المحيطات والمستعمرات.
وقد كتب هوبسون: «في سنة 1893 بلغ الرأسمال البريطاني الموظف في الخارج نحو 15% من كل ثروة المملكة المتحدة»(1). ونذكر بأن هذا الرأسمال قد ازداد، حوالي سنة 1915، 150% على وجه التقريب. ويستطرد هوبسون: «إن الإمبريالية العدوانية التي تكلف دافعي الضرائب ثمنا فادحا والتي تتسم بأهمية ضئيلة بالنسبة للصناعي والتاجر… هي مصدر أرباح فاحشة للرأسمالي الذي يبحث عن مكان لتوظيف رأسماله»… (وقد أعرب عن هذه الفكرة بالإنجليزية بكلمة واحدة «انفيستور» – «موظف»، صاحب دخل)…«ومجموع الدخل السنوي الذي تقبضه بريطانيا العظمى من كامل تجارتها مع الخارج والمستعمرات – صادرات وواردات – قد بلغ في سنة 1899، حسب تقدير الإحصائي جيفان، 18 مليون جنيه سترليني (قرابة 170 مليون روبل) على اعتبار 2.5% من تداول مجموعه 800 مليون جنيه سترليني». وهذا المبلغ على ضخامته لا يستطيع تفسير الإمبريالية البريطانية العدوانية. إن ما يفسره هو مبلغ يتراوح بين 90 و100 مليون جنيه سترليني هو عائد الرأسمال «الموظف»، هو إيرادات فئة أصحاب المداخيل.
إن عائدات أصحاب المداخيل هي خمسة أضعاف عائد التجارة الخارجية في أكبر بلد «تجاري» في العالم! هذا هو كنه الإمبريالية والطفيلية الإمبريالية.
ومفهوم «الدولة صاحبة الدخل» (Rentnerstaat) أو الدولة المرابية يغدو لهذا السبب شائعا في الأدب الاقتصادي عن الإمبريالية. لقد انقسم العالم إلى حفنة من الدول المرابية وإلى أكثرية هائلة من الدول المدينة. وقد كتب شولتزه-غيفيرنيتز: «بين الرأسمال الموظف في الخارج تأتي في المقام الأول المبالغ الموظفة في البلدان التابعة سياسيا أو الحليفة: فإنجلترا تمنح القروض لمصر واليابان والصين وأمريكا الجنوبية. وعند الاقتضاء يلعب أسطولها الحربي دور الشرطي القضائي. وقوة إنجلترا السياسية تقيها من سخط المدينين»(2). ويشير سارتوريس فون فالترسهاوزن في مؤلفه «الاقتصاد الوطني وطريقته لتوظيف الرأسمال في الخارج» إلى هولنده باعتبارها نموذجا «للدولة صاحبة الدخل» ويقول أن إنجلترا وفرنسا تغدوان دولتان من هذا الطراز(3). ويقول شيلدر أن خمس دول صناعية هي «بلدان دائنة واضحة المعالم»: إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، سويسرا. وهو لا يذكر هولنده بينها إلاّ لأنها «ضعيفة التطور الصناعي»(4). والولايات المتحدة دولة دائنة حيال أمريكا فقط.
وقد كتب شولتزه-غيفيرنيتز: «تتحول إنجلترا شيئا فشيئا من دولة صناعية إلى دولة دائنة، ومع أن الإنتاج الصناعي والتصدير الصناعي يزدادان من الناحية المطلقة، يرتفع، بالنسبة للاقتصاد الوطني كله، الوزن النسبي للمداخيل التي تتألف من الفوائد وعائدات الأسهم والإصدار والوساطة والمضاربة. وفي رأيي إن هذا الواقع بالذات هو الأساس الاقتصادي للنهوض الإمبريالي.فصلة الدائن بالمدين أوثق من صلة البائع بالمشتري»(5). وفيما يخص ألمانيا كتب صاحب مجلة «البنك» البرلينية لانسبورغ في سنة 1911 في مقال عنوانه: «ألمانيا دولة صاحبة دخل» ما يلي: «في ألمانيا لا يحجمون عن السخرية من رغبة الفرنسيين في التحول إلى أصحاب دخل. هذا وهم ينسون أنه فيما يخص البرجوازية تغدو الحالة في ألمانيا شيئا فشيئا أشبه بالحالة في فرنسا»(6).
إن الدولة صاحبة الدخل هي دولة الرأسمالية الطفيلية المتقيحة، وهذا الأمر يجد انعكاسه، لا محالة، في مثل هذه البلدان على جميع الظروف الاجتماعية والسياسية بوجه عام وعلى الاتجاهين الأساسيين في حركة العمال بوجه خاص. ولكيما نبين ذلك بأجلى شكل ممكن نترك الكلام لهوبسون باعتباره أفضل شاهد «عدل»، إذ يستحيل اتهامه بالتحيز «للايمان الماركسي الحق»، ولأنه، من الجهة الأخرى، إنجليزي، أي إنسان مطلع على دقائق الأمور في أغنى البلاد بالمستعمرات والرأسمال المالي والخبرة الإمبريالية.
لقد وصف هوبسون تحت تأثير انطباعاته الحية من الحرب الإنجليزية البورية صلة الإمبريالية بمصالح «الماليين» وتزايد أرباحهم من تقديم العتاد الحربي وغير ذلك وكتب يقول: «إن موجهي هذه السياسة ذات الطابع الطفيلي البين هم الرأسماليون؛ ولكن البواعث نفسها تفعل فعلها في فئات معينة من العمال. فأهم الفروع الصناعية في العديد من المدن تتوقف على العقود الحكومية. فالإمبريالية في مراكز صناعة التعدين وبناء السفن تتوقف لدرجة كبيرة على هذا الواقع». وثمة ظرفان كانا يضعفان، برأي الكاتب، قوة الإمبراطورية القديمة: 1) «الطفيلية الاقتصادية» و2) تشكيل الجيوش من الشعوب التابعة. «الأول هو عادة الطفيلية الاقتصادية وبحكمها تستفيد الدولة المسيطرة من مقاطعاتها ومستعمراتها والبلدان التابعة لإثراء طبقتها الحاكمة والرشوة طبقاتها السفلى لتبقى هادئة». ونضيف من جهتنا أن هذه الرشوة بأي شكل تحققت، لا بد لها، لتغدو أمرا ممكنا من الواجهة الاقتصادية، من أرباح فاحشة، احتكارية.
وفيما يخص الظرف الثاني كتب هوبسون: «ومن أغرب امارات عمى الإمبريالية ذلك الاستهتار الذي تنخرط به بريطانيا العظمى وفرنسا والأمم الإمبريالية الأخرى في هذا الطريق. وقد تخطت بريطانيا العظمى الجميع. فمعظم المعارك التي استولينا بها على إمبراطوريتنا الهندية قد خاضتها جيوشنا المشكلة من الجنود المحليين؛ ففي الهند وفي مصر كذلك حديثا توجد جيوش نظامية كبيرة تحت قيادة البريطانيين. ومعظم الحروب التي خضناها لغزو إفريقيا عدا إفريقيا الجنوبية، قد خاضها من أجلنا الجنود المحليون».
ويقدم هوبسون من الناحية الاقتصادية على النحو التالي احتمال اقتسام الصين: «إن قسما كبيرا من أوروبا الغربية قد يكتسب آنئذ المظهر والطابع اللذين ترتديهما الآن أقسام من هذه البلدان: جنوب إنجلترا، الريفييرا، المناطق الإيطالية والسويسرية التي يكثر فيها السياح ويقطنها الأثرياء، ونعني حفنة ضئيلة من الأرستقراطيين الأثرياء، الذين يتلقون العائدات والمرتبات من الشرق البعيد ومعهم جماعة أكبر لحد ما من المستخدمين المحترفين والتجار وعدد أكبر من خدم البيوت وعمال وسائط النقل والصناعة المشغولة بإتمام المصنوعات شبه الجاهزة. أمّا الفروع الصناعية الرئيسية فتتلاشى آنئذ وتتدفق كميات كبرى من المواد الغذائية والمصنوعات شبه الجاهزة كجزية من آسيا وإفريقيا». هذه هي الآفاق التي يفتحها لنا اتحاد أوسع بين الدول الغربية، اتحاد أوروبي بين الدول الكبرى: وهذا الإتحاد، فضلا عن أنه لا يدفع إلى الأمام قضية الحضارة العالمية، يمكنه أن يكون خطر الطفيلية الغربية لدرجة هائلة: أن يبرز مجموعة من الأمم الصناعية الراقية تتقاضى طبقتها العليا جزية ضخمة من آسيا وإفريقيا تمكنها من إعالة جماعات مروّضة من الخدم والمستخدمين غير المشغولين في إنتاج الكميات الكبرى من المواد الزراعية والصناعية، بل في الخدمة الشخصية، أو تقوم تحت إشراف الأرستقراطية المالية الجديدة بأعمال صناعية ثانوية. وعلى هؤلاء المستعدين لإهمال هذه النظرية» (وينبغي أن يقال هذا المستقبل) «على اعتبارها غير جديرة بالاكتراث أن يمنعوا الفكر في الظروف الإقتصادية والاجتماعية في مناطق إنجلترا الجنوبية الراهنة التي وصلت إلى هذا الحال. فليفكروا في السعة الكبرى التي يمكن أن يبلغها هذا النظام في حالة ما إذا أخضعت الصين اقتصاديا لاشراف مثل هذه الفرق المالية «موظفة الرساميل» ولمستخدميها السياسيين والصناعيين والتجاريين الذين يبتزون الأرباح من أكبر مستودع للثروات الكامنة عرفه العالم حتى اليوم، بقصد استهلاك هذه الأرباح في أوروبا. وغني عن القول أن الحالة في منتهى التعقيد، ولعبة القوى العالمية تصعب جدا الاحاطة بها ليغدو من المحتمل هذا التفسير للمستقبل أو ذاك في اتجاه واحد. ولكن التأثيرات التي توجه الامبريالية في أوروبا الغربية في الساعة الراهنة تسير في هذا الإتجاه، وإذا لم تصادف مقاومة، إذا لم توجه وجهة أخرى، فهي تعمل في اتجاه مثل هذه الخاتمة لهذا السير»(7).
إن الكاتب على حق كامل: فإذا لم تصادف قوى الإمبريالية مقاومة فهي تصل حتما إلى هذه النتيجة. فمغزى «الولايات المتحدة الأوروبية» في الظرف الإمبريالي الراهن قد قدر هنا على الوجه الصحيح. وكل ما كان ينبغي أن يضاف هو أنه في داخل حركة العمال كذلك «يعمل» بمثابرة في الإتجاه ذاته بالضبط الانتهازيون الذين حصلوا الآن على الغلبة مؤقتا في معظم البلدان. فالإمبريالية التي تعني اقتسام العالم واستمرار البلدان الأخرى لا الصين وحدها والتي تعني الأرباح الاحتكارية الفاحشة لحفنة من أغنى البلدان، تخلق اقتصاديا إمكانية رشوة الفئات العليا من البروليتاريا وبذلك تغذي الانتهازية وتكونها وتوطدها. إلاّ أن ما لا ينبغي أن ننساه هو تلك القوى المقاومة للإمبريالية بوجه عام وللانتهازية بوجه خاص، القوى التي لا يراها بطبيعة الحال الاشتراكي-الليبرالي هوبسون.
إن الانتهازي الألماني غيرهارد هيلديبراند الذي طرد في حينه من الحزب لدفاعه عن الإمبريالية والذي من الممكن اليوم أن يصبح زعيما لما يسمى الحزب «الاشتراكي-الديموقراطي» الألماني يتهم هوبسون بتوفيق إذ يدعو لتشكيل «ولايات متحدة من أوروبا الغربية» (بدون روسيا) بقصد العمل «المشترك»… ضد الزنوج الإفريقيين، ضد «الحركة الإسلامية الكبرى» وللإنفاق على «جيش وأسطول قويين»، ضد «الائتلاف الياباني الصيني»(8) الخ.
إن وصف شولتزه-غيفيرنيتز «للإمبريالية البريطانية» تبين لنا نفس إمارات الطفيلية. فدخل إنجلترا الوطني قد تضاعف تقريبا من سنة 1865 إلى 1898، في حين ازداد الدخل «من الخارج» خلال المدة نفسها إلى تسعة أضعاف. وإذا كان مضل الإمبريالية هو «تربية الزنجي على العمل» (لا غنى عن القسر طبعا…)، فإن «خطر» الإمبريالية يتلخص في أن «أوروبا تلقي على كاهل البشرية الملونة العمل الجسدي – في البدء في الزراعة وصناعة الاستخراج ثم العمل الأكثر خشونة في الصناعة – مكتفية هي بدور صاحب الدخل، وربما مهيئة بذلك اقتصاديا ثم سياسيا تحرير العروق الحمراء والسوداء».
في إنجلترا ينتزع من ميدان الانتاج الزراعي قسم متعاظم من الأراضي ويستخدم لرياضة الأثرياء وتسليتهم. ويقال فيما يخص سكوتلنده – المنطقة الأكثر أرستقراطية للقنص وأنواع الرياضات الأخرى – «إنها تعيش على ماضيها وعلى المستر كارنجي» (صاحب المليارات الأمريكي). وتنفق إنجلترا سنويا 14 مليون جنيه سترليني (نحو 130 مليون روبل) على سباق الخيل وصيد الثعالب وحدهما. ويبلغ أصحاب الدخل في إنجلترا نحو مليون ونسبة المنتجين فيها تنخفض:
سنة سكان إنجلترا عدد العمال في الفروع الصناعية الرئيسية نسبتهم من السكان
(بالملايين)
1851 17.9 4.1 23%
1901 32.5 4.9 15%
إن البرجوازي باحث « الإمبريالية البريطانية في أوائل القرن العشرين» يضطر على الدوام، عندما يتكلم عن الطبقة العاملة الإنجليزية، إلى التمييز «الفئة العليا» من العمال و«الفئة السفلى البروليتارية الصرف». ومن الفئة العليا يتكون جمهور أعضاء الجمعيات التعاونية والجمعيات الرياضية والفرق الدينية العديدة. وقد جعل حق الاقتراع حسب مستواها. وهو، في إنجلترا، «ما يزار مقيدا لدرجة تكفي لتبعد عنه الفئة السفلى البروليتارية الصرف»!! ولإظهار حالة الطبقة العاملة الإنجليزية بالمظهر الأفضل لا يتكلمون في المعتاد إلاّ عن هذه الفئة العليا التي تكون أقلية البروليتاريا، مثلا: «مسألة البطالة هي في الدرجة الأولى مسألة تمس لندن والفئة البروليتارية السفلى التي لا يقيم لها الساسة وزنا كبيرا…»(9). وكان ينبغي أن يقال: التي لا تقيم لها الساسة البرجوازيون المبتذلون والإنتهازيون «الإشتراكيون» وزنا كبيرا.
ومن خواص الإمبريالية المرتبطة بجملة الظواهر التي نصفها انخفاض الهجرة من البلدان الإمبريالية وازدياد الهجرة (انتقال العمال ونزوحهم) إلى هذه البلدان من بلدان أكثر تأخرا والأجور فيها أحط. فالهجرة من إنجلترا، كما أشار هوبسون، تتناقص من سنة1884: فقد بلغت في هذه السنة 242 ألفا و 169 ألفا في سنة 1900. والهجرة من ألمانيا قد بلغت حدها الأقصى في عقد سنوات 1881-1890: 1453 ألفا، وهبطت في العقدين التاليين إلى 544 ألفا وإلى 341 ألفا. وبالمقابل ازداد عدد العمال النازحين إلى ألمانيا من النمسا وإيطاليا وروسيا وغيرها. فبموجب إحصاء سنة 1907 كان في ألمانيا 1342294 أجنبيا منهم 440800 من العمال الصناعيين و257329 من العمال الزراعيين(10) وعمال صناعة الاستخراج في فرنسا هم «في قسم كبير منهم» أجانب: بولونيون، إيطاليون، اسبانيون(11). وفي الولايات المتحدة يشتغل المهاجرون في أوروبا الشرقية والجنوبية في الأعمال التي تدفع مقابلها أحط الأجور، بينما يؤلف العمال الأمريكان أعلى نسبة من المناظرين ومن العمال الذين يقومون بالأعمال التي تدفع مقابلها أعلى الأجور(12) تنزع الإمبريالية إلى أن تبرز بين العمال أيضا فئات مميزة وإلى فصلها عن الجماهير البروليتارية الغفيرة.
وينبغي أن نشير إلى أن نزوع الإمبريالية إلى شق صفوف العمال وإلى تقوية الانتهازية بينهم وإلى إفساد حركة العمال مؤقتا قد ظهر في إنجلترا قبل أواخر القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين بزمن طويل. وذلك لأن سمتين أساسيتين من السمات المميزة للإمبريالية قد بدتا في إنجلترا منذ منتصف القرن التاسع عشر: المستعمرات الشاسعة والوضع الاحتكاري في السوق العالمية. وقد تتبع ماركس وإنجلس بصورة دائمة خلال عدة عقود من السنين هذه الصلة التي تربط الانتهازية في حركة العمال بالخصائص الإمبريالية في الرأسمالية الإنجليزية. وقد كتب إنجلس إلى ماركس في 7 أكتوبر سنة 1858: «في الواقع تتبرجز البروليتاريا الإنجليزية أكثر فأكثر، ويبدو أن هذه الأمة الأكثر برجوازية بين الأمم تريد أن تكون لديها في نهاية الأمر إلى جانب البرجوازية الأرستقراطية برجوازية وبروليتارية برجوازية. وبديهي أن هذا، بمعنى معين، أمر منطقي من أمة تستثمر العالم كله». وبعد نحو ربع قرن، في رسالة مؤرخة في 11 غشت سنة 1881، يتكلم انجلس عن «شر التريديونيوننات الإنجليزية التي تستسلم لقيادة أناس اشترتهم البرجوازية أو أنها تدفع لهم على الأقل». وقد كتب إنجلس في رسالة إلى كاوتسكي مؤرخة في 12 من سبتمبر سنة 1882: «تسألني عن رأي العمال الإنجليز في سياسة حيازة المستعمرات؟ لا يختلف رأيهم عن رأيهم في السياسة بوجه عام. هنا لا وجود لحزب العمال، كل ما يوجد هنا هما حزب المحافظين وحزب الراديكاليين-الليبراليين، أمّا العمال فيتمتعون معهم مطمئنين بوضع إنجلترا الاحتكاري إزاء المستعمرات وبوضعها الإحتكاري في السوق العالمية»(13). (وقد لخص إنجلس الفكرة نفسها في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا»، سنة 1892).
وقد أشير هنا بوضوح إلى الأسباب والنتائج. الأسباب: 1) استثمار هذا البلد للعالم كله؛ 2) وضعها الإحتكاري في السوق العالمية؛ 3) وضعها الإحتكاري ازاء المستعمرات. النتائج: 1) تبرجز قسم من البروليتاريا الإنجليزية؛ 2) ويستسلم قسم منها لقيادة أناس اشترتهم البرجوازية أو أنها تدفع لهم على الأقل. لقد انجزت الإمبريالية في أوائل القرن العشرين تقاسم العالم بين حفنة من الدول يستثمر كل منها الآن (بمعنى ابتزاز فاحش الأرباح) قسما من «العالم كله» لا يكاد يقل عن القسم الذي كانت تستثمره إنجلترا في سنة 1858، ويشتغل كل منها وضعا احتكاريا في السوق العالمية بفضل التروستات والكارتيلات والرأسمال المالي والعلاقات بين الدائن والمدين، ويتمتع كل منها لحد ما بوضع احتكاري إزاء المستعمرات (لقد رأينا فيما تقدم أن 65 مليون كيلومتر مربع من 75 مليونا تؤلف جميع المستعمرات في العالم، أي 86%، مركزة في أيدي ست دول وأن 61 مليونا، أي 81% مركزة في أيدي ثلاث دول).
والصفة المميزة للوضع الراهن هي وجود ظروف إقتصادية وسياسية لا بد وأن تزيد من منافاة الانتهازية للمصالح العامة والجذرية للحركة العمالية: فقد نمت الامبريالية من جنين إلى نظام سائد، وشغلت الاحتكارات الرأسمالية المكان الأول في الاقتصاد الوطني والسياسة، وتم حتى النهاية اقتسام العالم؛ ومن الجهة الأخرى، بدلا من اشغال إنجلترا دون منازع لوضع احتكاري، صراعا بين عدد ضئيل من الدول الامبريالية من أجل الاشتراك في الاحتكار، صراعا يميز كامل مرحلة بداية القرن العشرين. لا يمكن الآن أن تكون للانتهازية الغلبة التامة خلال عقود عديدة من السنين ضمن حركة العمال في بلد من البلدان، كما تغلبت الانتهازية في إنجلترا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكنها في عدد من البلدان قد نضجت بصورة تامة وافرطت في النضوج وتعفنت إذ اندمجت بصورة كاملة بوصفها الاشتراكية-الشوفينية(14) في السياسة البرجوازية.
الفصل التاسع
انتقاد الإمبريالية
نفهم انتقاد الإمبريالية بمعنى الكلمة الواسع، بمعنى الموقف الذي تقفه من سياسة الإمبريالية مختلف طبقات المجتمع تبعا لإيديولوجيتها العامة.
إن المقادير الهائلة من الرأسمال المالي المتمركز في عدد ضئيل من الأيدي والذي ينشىء شبكة في منتهى الكثافة والسعة من العلاقات والصلات، هذه الشبكة التي تخضع له جمهورا من الرأسماليين وأصحاب الأعمال المتوسطين والصغار، بل وحتى الصغار جدا، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى النضال العنيف ضد فرق الماليين من الأمم والدول الأخرى من أجل اقتسام العالم ومن أجل السيطرة على البلدان الأخرى – كل ذلك يسبب انتقال جميع الطبقات المالكة أفواجا إلى جانب الإمبريالية. الكلف «العام» بمستقبل الإمبريالية والدفاع عنها بجنون وطليها بما أمكن من المساحيق هي الصفة المميزة للزمن. وتتغلغل الإيديولوجية الإمبريالية كذلك في طبقة العمال، إذ ليس هناك سور صيني يفصلها عن الطبقات الأخرى. فإذا كان زعماء الحزب الحالي المسمى «الإشتراكي-الديموقراطي» الألماني قد نالوا بحق لقب «الاشتراكيين-الإمبرياليين»، أي الاشتراكيين قولا والإمبرياليين فعلا، فقد أشار هوبسون منذ سنة 1902 إلى وجود « الإمبرياليين الفابيين» في إنجلترا المنتسبين إلى «الجمعية الفابية» الإنتهازية.
وفي المعتاد يدافع العلماء والصحفيون البرجوازيون عن الإمبريالية بشكل مستور لحد ما، طامسين سيطرتها التامة وجذورها العميقة وباذلين الجهد ليبرزوا في المكان الأول التفاصيل الجزئية والثانوية وساعين وراء تحويل الأنظار عن الأمر الجوهري بتوافه من مشروعات «إصلاحات» من نوع وضع التروستات أو البنوك تحت رقابة البوليس وما شاكل ذلك. أمّا الإمبرياليون المكشوفون الوقحون الذين يجدون في أنفسهم الجرأة على الاعتراف بسخافة الفكرة القائلة بإدخال إصلاحات على خواص الإمبريالية الأساسية فهم يدلون بآرائهم في حالات إندار.
نضرب مثلا. في نشرة «سجلات الاقتصاد العالمي» يسعى الامبرياليون الألمان إلى تتبع سير الحركات التحررية الوطنية في المستعمرات، غير الألمانية بوجه خاص، بطبيعة الحال. فهم يشيرون إلى حالات السخط والاحتجاج في الهند والحركة في الناتال (جنوب إفريقيا) وفي الهند الهولندية الخ.. وقد تناول أحدهم في مقاله نشرة انجليزية تضمنت محضر مؤتمر الأمم والعروق التابعة الذي عقده من 28 إلى 30 من يونيو سنة 1910 ممثلو مختلف شعوب آسيا ةافريقيا وأوروبا الواقعة تحت السيطرة الأجنبية وكتب معلقا على الخطابات التي ألقيت في هذا المؤتمر: «يقال لنا أنه ينبغي النضال ضد الإمبريالية؛ إنه ينبغي على الدول المسيطرة أن تعترف بحق الشعوب التابعة في الإستقلال؛ إنه ينبغي أن تشرف محكمة دولية على تنفيذ المعاهدات المعقودة بين الدول الكبرى والشعوب الضعيفة. والمؤتمر لا يخطو أبعد من هذه التمنيات البريئة. ونحن لانلاحظ أي أثر ينم على فهم حقيقة أن الإمبريالية على صلة لا تنفصم بالرأسمالية في شكلها الراهن وان النضال المباشر ضد الإمبريالية هو، بسبب ذلك(!!)، أمر لا رجاء فيه، فلا يبقى لنا غير الاكتفاء بأن نهب في وجه بعض الظواهر المقيتة بخاصة»(1). ولما كان تقويم أسس الإمبريالية بالطريقة الإصلاحية عبارة عن خداع، عن «أمنية بريئة»، ولما كان ممثلو الأمم المظلومة البرجوازيون لا يخطون «أبعد من ذلك» إلى الأمام، فإن ممثل الأمة الظالمة البرجوازي يخطو «أبعد من ذلك» إلى الوراء، نحو تملق الإمبريالية تملقا مستورا بأردية «عملية». إنه من «المنطق» كذلك، والحق يقال!
إن المسأل الأساسية في انتقاد الإمبريالية هي مسائل ما إذا كان في الإمكان تغيير أسس الإمبريالية بالطرق الإصلاحية، ما إذا كان ينبغي السير إلى الأمام في اتجاه زيادة حدة التناقضات التي تنشأ عنها وتعمقها، أم إلى الوراء، في اتجاه ثلم حدتها. ولما كانت خواص الإمبريالية السياسية هي الرجعية على طول الخط واشتداد الاضطهاد القومي بسبب ظلم الطغمة المالية وإزاحة المزاحمة الحرة، فإن الإمبريالية أخذت تواجهها المعارضة الديموقراطية البرجوازية الصغيرة في جميع البلدان الإمبريالية على وجه التقريب منذ بداية القرن العشرين. أمّا تخلي كاوتسكي وتيار الكاوتسكية العالمي الواسع عن الماركسية فيتلخص بالضبط في كون كاوتسكي لم يحاول ولم يستطع الصمود أمام هذه المعارضة الاصلاحية البرجوازية الصغيرة، الرجعية من حيث أساسها الإقتصادي، وليس هذا وحسب، بل، بالعكس، اندمج فيها عمليا.
في الولايات المتحدة أثارت الحرب الإمبريالية ضد اسبانيا في سنة 1898 معارضة «مناهضي الإمبريالية» من بقايا العترة الديموقراطية البرجوازية الذين نعتوا هذه الحرب بـ«الإجرامية» واعتبروا إلحاق أراضي الغير مخالفة للدستور واستنكروا «خداع الشوفينيين» لزعيم شكان الفلبين أغوينالدو (إذ وعدوه بحرية بلاده ثم أنزلوا الجيوش الأمريكية والحقوا الفيليبين) واستشهدوا بعبارة لينكولن: «عندما يحكم أبيض نفسه فهناك حكم ذاتي؛ وعندما يحكم نفسه ويحكم الآخرين في الوقت نفسه فليس ذلك بالحكم الذاتي، إنه الاستبداد»(2) ولكن هذا الإنتقاد برمته يظل «أمنية بريئة» ما دام يخشى الاعتراف بصلة الإمبريالية الوثقى بالتروستات وعلى ذلك بأسس الرأسمالية، ما دام يخشى الاتحاد مع القوى التي تنشأ عن الرأسمالية الضخمة وتطورها.
ولا يختلف كذلك الموقف الأساسي الذي يقفه هوبسون في انتقاده للإمبريالية. إن هوبسون قد سبق كاوتسكي إذ وقف ضد «حتمية الإمبريالية» وقال بضرورة «رفع القدرة الاستهلاكية» لدى السكان (في ظل الرأسمالية!). كذلك يأخذ بوجهة النظر البرجوازية الصغيرة في انتقاد الإمبريالية وجبروت البنوك والطغمة المالية وهلم جرا الكتاب الذين استشهدنا بأقوالهم مرارا وتكرارا: آغاد، لانسبورغ، ايشفيغه، ومن الكتاب الفرنسيين فكتور بيرار، واضع الكتاب السطحي المعنون «إنجلترا و الإمبريالية» والصادر في سنة 1900. وهؤلاء جميعا، دون أن يدعوا الماركسية قط، يعارضون الإمبريالية بالمزاحمة الحرة والديموقراطية ويستنكرون مشروع سكة حديد بغداد الذي يؤدي إلى النزاعات والحرب ويعلنون «أمنيات بريئة» بشأن السلام وما شاكل ذلك – وفيهم كذلك احصائي الاصدارات الدولية أ. نيمارك الذي حسب مئات المليارات من الفرنكات التي تؤلف القيم «الدولية» وصاح في سنة 1912 هاتفا: أيسعنا أن نتصور بأن في بالامكان تعكير السلام؟.. بأن في الإمكان حيال هذه الأرقام الهائلة المجازفة بإثارة الحرب؟»(4).
إن هذه السداجة من جانب الاقتصاديين البرجوازيين لا تدهش؛ من مصلحتهم، عدا ذلك، التظاهر بالسذاجة لهذا الحد والكلام «بلهجة الجد» عن السلام في ظل الإمبريالية. ولكن ماذا تبقى من الماركسية عند كاوتسكي عندما أخذ في سنوات 1914، 1915، 1916، بوجهة نظر الإصلاحيين البرجوازيين نفسها وأكد أن «الجميع متفقون» (الإمبرياليون وأدعياء الاشتراكية والاشتراكيون المسالمون) بشأن السلام؟ فبدلا من تحليل الإمبريالية والكشف عن عمق تناقضاتها، لا نرى إلاّ «الأمنية البريئة» الإصلاحية في التغاضي عن هذه التناقضات وإغراقها في لجة الكلام.
وهاكم نموذجا من نقد كاوتسكي للإمبريالية من الناحية الاقتصادية. إنه يتناول إحصاءات عن صادرات إنجلترا إلى مصر ومستورداتها منها في سنتي 1872 و1912؛ ويبدو أن نمو هذه الصادرات والواردات هو أضعف من نمو صادرات وواردات إنجلترا بوجه عام. ويخلص كاوتسكي إلى هذه النتيجة: «ليس لدينا من داع يحملنا على الظن أن التجارة مع مصر بدون احتلالها عسكريا تنمو بصورة أبطأ تحت تأثير العوامل الاقتصادية وحدها». «إن رغبات الرأسمال في التوسع» يمكن بلوغها بأفضل شكل عن طريق الديموقراطية السلمية، لا عن طريق القسر الإمبريالية»(5).
إن تعديلات كاوتسكي هذه التي يرددها بشتى النغمات حامل أسلحة الروسي (والمستر الروسي للإشتراكيين-الشوفينيين) السيد سبيكتاتور هي الأساس الذي يقوم عليه النقد الكاوتسكي للإمبريالية، ولذا ينبغي أن نتناولها بتفصيل. ولنبدأ بفقرة من هلفيردينغ الذي أعلن كاوتسكي مرارا وتكرارا، بما في ذلك في أبريل سنة 1915، أن استنتاجاته «قبلت بالإجماع من جانب النظريين الاشتراكيين».
كتب هيلفردينغ: «لا يليق بالبروليتاريا أن تعارض السياسة الرأسمالية الأكثر تقدمية بسياسة انصرم عهدها هي سياسسة عهد التجارة الحرة وموقف العداء من الدولة. إن جواب البروليتاريا على السياسة الاقتصادية التي يمارسها الرأسمال المالي، على الإمبريالية، لا يمكن أن يكون التجارة الحرة، بل الاشتراكية وحدها. والمثال الأعلى يمكنه الآن أن يكون هدفا للسياسة البروليتارية ليس بعث المزاحمة الحرة – وقد غدا الآن مثلا أعلى رجعيا – بل فقط القضاء التام على المزاحمة عن طريق إزالة الرأسمالية»(6)
لقد تخلى كاوتسكي عن الماركسية بدفاعه في عصر الرأسمال المالي عن «مثل أعلى رجعي»، عن «الديموقراطية السلمية»، وعن «تأثير العوامل الاقتصادية وحدها»، – لأن هذا المثل الأعلى يجر موضوعيا إلى الوراء، من الرأسمالية الاحتكارية إلى الرأسمالية غير الاحتكارية، ولأنه خدعة إصلاحية.
إن التجارة مع مصر (أو مع أية مستعمرة أو شبه مستعمرة أخرى) «يمكنها أن تنمو» بصورة أسرع بدون احتلال عسكري، بدون إمبريالية، بدون رأسمال مالي. ما معنى ذلك؟ أيعني ذلك أن الرأسمالية كانت تنمو بسرعة أكبر إذا لم تقيد المزاحمة الحرة لا بالاحتكارات بوجه عام، ولا بـ«صلات» أو ظلم الرأسمال المالي (أي الاحتكارات مرة أخرى) ولا باحتكار بعض البلدان لحيازة المستعمرات؟
لا يمكن أن يكون لتعديلات كاوتسكي معنى آخر، وهذا «المعنى» هو لغو. فلنقل، نعم، فلنقل أن المزاحمة الحرة بدون أي احتكار مهما كان نوعه، يمكنها أن تنمي الرأسمالية بصورة أسرع، كلما اشتد تمركز الإنتاج والرأسمال، التمركز الذي يولد الإحتكار. ولكن الاحتكارات قد ولدت، ومن المزاحمة الحرة بالضبط! وحتى إذا كانت الاحتكارات قد أخذت الآن تؤخر النمو، فذلك ليس على كل حال بحجة في صالح المزاحمة الحرة التي غذت أمرا مستحيلا بعد أن أنجبت الاحتكارات.
وكيفما قلب المرء تعليلات كاوتسكي لا يجد فيها شيئا آخر سوى الرجعية والإصلاحية البرجوازية.
وإذا اصلحنا هذا التعليل وقلنا ما يقوله سبيكتاتور: إن نمو تجارة المستعمرات الإنجليزية مع إنجلترا أبطأ منه الآن مع البلدان الأخرى، فذلك أيضا لا ينقد كاوتسكي. لأن ما يتغلب على إنجلترا هو أيضا الإحتكار، هو أيضا الإمبريالية، ولكن احتكار وإمبريالية بلد آخر (أمريكا، ألمانيا). ومن المعروف أن الكارتيلات قد أفضت إلى رسوم جمركية وقائية من طراز آخر فريد في بابه: تقي بالضبط (وقد أشار إلى ذلك إنجلس نفسه في المجلد الثالث من «رأس المال») تلك المنتوجات التي يمكن تصديرها. ومن المعروف أيضا أن الطريقة الملازمة للكارتيلات والرأسمال المالي هي «التصدير بأسعار زهيدة»، «إغراق الأسواق» كما يقول الإنجليز: يبيع الكارتيل منتوجاته في داخل البلاد بأسعار احتكارية مرتفعة، ويصرفها في الخارج بسعر بخس، بقصد سحق المزاحمين وبقصد توسيع إنتاجه للحد الأقصى والخ.. فإذا كانت ألمانيا تنمي تجارتها مع المستعمرات الإنجليزية؛ فإن ذلك لا يبرهن إلاّ على أنها أرقى من الإنجليزية؛ ولكنه لا يبرهن أبدا على «تفوق» التجارة الحرة، لأننا لسنا إزاء صراع بين المزاحمة الحرة والتبعية الإستعمارية، بل إزاء صراع بين إمبريالية وأخرى، احتكار وآخر، رأسمال مالي وآخر. إن تفوق الإمبريالية الألمانية على الإنجليزية أقوى من جدار حدود المستعمرات أو من الرسوم الجمركية الوقائية: أن يستنتج المرء من ذلك «حجة» لصالح التجارة الحرة و«الديموقراطية السلمية» فذلك إبتذال ونسيان لسمات وخصائص الإمبريالية الأساسية والاستعاضة عن الماركسية بأصلاحية البرجوازية الصغيرة.
ويستدعي الانتباه واقع أن الإقتصادي البرجوازي لانسبورغ نفسه الذي ينتقد الإمبريالية من وجهة نظر برجوازي صغير، على غرار كاوتسكي، قد أخذ مع ذلك بدراسة أرقام الاحصاءات التجارية بصورة أقرب إلى العلم. فهو لم يقتصر على بلدما اختاره اعتباطيا، وعلى مستعمرة بوجه الدقة للمقارنة مع البلدان الأخرى، ولكنه قارن صادرات بلاد امبريالية إلى 1) بلدان تابعة لها ماليا، تستدين منها النقود و2) البلدان المستقلة ماليا. وكانت النتيجة ما يلي:
صادرات ألمانيا (بمليارات الماركات)
سنة 1889 سنة 1908 الزيادة بالنسبة المئوية
إلى البلدان التابعة ماليا لألمانيا رومانيا 48.2 70.8 +47%
البرتغال 19.0 32.8 +73%
الأرجنتين 60.7 147.0 +143%
البرازيل 48.7 84.5 +73%
الشيلي 28.3 52.4 +85%
تركيا 29.9 64.0 +114%
المجموع 234.8 451.5 +92%
إلى البلدان المستقلة ماليا عن ألمانيا بريطانيا العظمى 651.8 997.4 +53%
فرنسا 210.2 438.9 +108%
بلجيكا 137.2 322.8 +135%
سويسرا 177.4 401.1 +127%
أوستراليا 21.2 64.5 +205%
الهند الهولندية 8.8 40.7 +363%
المجموع 1206.6 2264.4 +87%
لم يحص لانسبورغ الحاصل ولذا غاب عنه بشكل يدعو للاستغراب أن هذه الأرقام إذا كانت تبرهن على شيء فإنما ضده وحسب، ذلك لأن التصدير إلى البلدان التابعة ماليا قد نما على كل حال بصورة أسرع منه إلى البلدان المستقلة ماليا، وإن كانت هذه الزيادة طفيفة (وقد أشرنا إلى كلمة «إذا» لأن إحصاءات لانسبورغ ليست وافية أبدا).
وقد كتب لانسبورغ متتبعا صلة التصدير بالقروض وقال:
«في سنة 1890-1891 عقد القرض الروماني بواسطة البنوك الألمانية التي كانت قد قدمت في السنوات السابقة سلفا على حساب هذا القرض. وقد استخدم القرض بالدرجة الأولى لشراء لوازم السكك الحديدية التي استوردت من ألمانيا. وفي سنة 1891 بلغت صادرات ألمانيا إلى رومانيا 55 مليون مارك. وفي السنة التي تلت هبطت هذه الصادرات إلى 39.4 مليونا واستمرت في الهبوط بالتدريج إلى 25.4 مليونا سنة 1900، ولم تبلغ الصادرات مستوى سنة 1891 إلاّ في السنوات الأخيرة وبفضل قرضين جديدين.
وبنتيجة قروض سنة 1888-1889 ارتفعت صادرات ألمانيا إلى البرتغال حتى 21.2 مليونا (في سنة 1890)، ثم هبطت في السنتين التاليتين إلى 16.2 مليونا، و7.4 ملايين، ولم تبلغ مستواها السابق إلاّ في سنة 1903.
وأرقام التجارة الألمانية-الأرجنتينية أوضح دلالة. فبنتيجة قروض سنتي 1888 و1890 بلغي صادرات ألمانيا إلى الأرجنتين في سنة 1889 – 70.7 مليونا. وبعد مضي سنتين لم تؤلف هذه الصادرات إلاّ 18.6 مليونا، أي أقل من ثلث الرقم السابق. ولم تبلغ مستوى سنة 1889 وتتجاوزه إلاّ في سنة 1901، الأمر الذي اقترن بقروض جديدة للدولة وللبلديات وبسلف نقدية لبناء مصانع الكهرباء واعتمادات أخرى.
ونتيجة قرض سنة 1889 ارتفعت الصادرات إلى شيلي حتى 45.2 مليونا (وفي سنة 1892) ثم هبطت بعد سنة إلى 22.5 مليونا. وبعد قرض جديد عقد بواسطة البنوك الألمانية في سنة 1906 ارتفعت الصادرات إلى 84.7 مليونا (في سنة 1907)، لتهبط بعد ذلك إلى 52.4 مليونا في سنة 1908»(7).
يخلص لانسبورغ من هذه الوقائع إلى عظة أخلاقية برجوازية صغيرة مسلية: ما أقل ثبات واستقرار التصدير المقترن بالقروض؛ ما أسوأ تصدير الرساميل إلى الخارج بدلا من تنمية الصناعة الوطنية بصورة «طبيعية» «منسجمة»؛ ما «أكثر ما تكلف» كروب هذه البقاشيش العديدة الملايين لمناسبة عقد القروض الأجنبية وهلم جرا. بيد أن الوقائع تقول بوضوح: إن ارتفاع الصادرات مرتبط بالضبط بألاعيب الرأسمال المالي الذي لا يعبأ عند عقد صفقاته بالأخلاق البرجوازية ويسلخ جلد الثور مرتين: أولا، ربح القرض؛ وثانيا، ربح القرض نفسه عندما يستخدم لشراء منتجات كروب أو لوازم السكك الحديدية من سينديكا الفولاذ، الخ..
نكرر. نحن لا نعتقد البتة أن احصاءات لانسبورغ هي عين الكمال، ولكننا كنا ملزمين بإيرادها لأنها أقرب إلى العلم من احصاءات كاوتسكي وسبيكتاتور؛ ذلك لأن لانسبورغ يرسم الطريقة الصحيحة لتناول الموضوع. فلكي يبحث المرء دور الرأسمال المالي في أمر التصدير وهلم جرا ينبغي عليه أن يحسن رؤية صلة التصدير بوجه خاص وفقط بألاعيب الماليين، بوجه خاص وفقط بتصريف منتوجات الكارتيلات الخ.. أمّا مجرد مقارنة المستعمرات بوجه عام بغير المستعمرات، امبريالية بامبريالية أخرى، شبه مستعمرات أو مستعمرة (مصر) بجميع البلدان الأخرى فذلك يعني بالضبط تجنب جوهر القضية وطمسه.
ما من جامع يجمع بالماركسية النقد الذي يوجهه كاوتسكي للإمبريالية، وهذا النقد لا يصلح إلاّ كتوطئة للتبشير بالسلام والوحدة مع الانتهازيين والاشتراكيين-الشوفينيين، لأن هذا النقد يتحاشى ويطمس بالضبط تناقضات الإمبريالية الجذرية والأكثر عمقا: التناقض بين الاحتكارات و المزاحمة الحرة القائمة إلى جانبها، بين «عمليات» الرأسمال المالي الهائلة (وأرباحه الهائلة) والتجارة «الشريفة» في السوق الحرة، بين الكارتيلات والتروستات من جانب والصناعة غير المنضمة للكارتيلات مع الجانب الآخر، الخ..
وبمثل هذا الطابع الرجعي بالضبط تتسم كذلك نظرية « الإمبريالية العليا» السيئة الصيت التي لفقها كاوتسكي. قارنوا بين تعليلاته حول هذا الموضوع في 1915 وتعليلات هوبسون في سنة 1902:
كاوتسكي: «…هل يمكن أن تزاح السياسة الإمبريالية الراهنة بسياسة جديدة، سياسة الإمبريالية العليا الأولترا-امبريالية ultra-imperialisme) التي تحل محل الصراع بين الرساميل المالية الوطنية استثمار العالم كله بصورة مشتركة من قبل رأسمال مالي عالمي موحد؟ إم مثل هذه المرحلة الجديدة في الرأسمالية أمر معقول على كل حال. وهل يمكن تحقيقها؟ لا توجد بعد الممهدات الكافية لحل هذه المسألة»(8)
هوبسون: «إن المسيحية التي استقرت في عدد قليل من الامبراطوريات الإتحادية الكبرى التي توجد في حوزة كل منها جملة من المستعمرات غير المتمدنة التابعة هي في نظر الكثيرين تطور للنزاعات الراهنة طبيعي ولا أكثر، تطور يبعث أكبر الآمال في اسقرار سلام دائم على أساس وطيد من الإمبريالية الوسطية» (الانتر-امبريالية inter-imperialisme).
لقد أطلق كاوتسكي اسم الإمبريالية العليا أو ما فوق الإمبريالية على ما أسماه هوبسون قبله بثلاثة عشر سنة بالإمبريالية الوسطية أو ما بين الإمبريالية. وباستثناء ابتداع كلمة جديدة عويصة عن طريق استبدال حرف لاتيني بآخر، يتلخص تقدم الفكرة «العلمية» عند كاوتسكي في مجرد محاولته أن يظهر بمظهر الماركسية ما وصفه هوبسون بأنه، في الجوهر، من نفاق القساوسة الإنجليز. فبعد الحرب الإنجليزية البويرية كان من الطبيعي تماما أن توجه هذه الفئة الفائقة الاحترام جل جهودها إلى تعزية صغار البرجوازيين والعمال الإنجليز الذين قتل عدد كبير منهم في المعارك التي دارت في جنوب إفريقيا ودفعوا الضرائب الباهظة لضمان أرباح أكبر للماليين الإنجليز. وهل ثمة تعزية أفضل من أن يقال أن الإمبريالية ليست رديئة لهذا الحد وأنها قريبة من أن تصبح إمبريالية وسطية (أو إمبريالية عليا) يمكنها أن تضمن السلام الدائم؟ ومهما كانت حسنة نوايا القساوسة الإنجليز أو نوايا كاوتسكي المعسول فإن المغزى الموضوعي، أي الإجتماعي الحقيقي، «لنظريته» هو واحد لا غير: منتهى الرجعية في تعزية الجماهير بآمال عن إمكان سلام دائم في ظل الرأسمالية عن طريق تحويل الأنظار عن تناقضات العصر الحادة وقضاياه الشائكة وتوجيه الأنظار إلى آمال خُلب عن اقتراب «إمبريالية عليا» جديدة موهومة. إن نظرية كاوتسكي «الماركسية» لا تتضمن شيئا على الإطلاق اللهم إلاّ خداع الجماهير.
وفي الحقيقة، حسب المرء أن يقارن بوضوح بين الوقائع التي يعرفها الجميع والتي لا تقبل الجدال لكيما يقتنع بمدى بطلان الآمال التي يحاول كاوتسكي أن يوهم بها العمال الألمان (وعمال جميع البلدان). فلنأخذ الهند والهند الصينية والصين. من المعروف أن هذه البلدان الثلاثة المستعمرة والشبه المستعمرة التي يبلغ عدد سكانها 600 أو 700 مليون نسمة تتعرض للاستثمار من قبل الرأسمال المالي في عدد من الدول الإمبريالية: إنجلترا، فرنسا، اليابان، الولايات المتحدة والخ.. فلنفترض أن هذه البلدان الإمبريالية تؤلف الأحلاف بعضها ضد بعض بقصد صيانة أو توسيع ممتلكاتها ومصالحها و«مناطق نفوذها» في هذه الدول الآسيوية المذكورة. وستكون هذه الأحلاف «إمبريالية وسطية» أو«إمبريالية عليا». ولنفترض أن جميع الدول الإمبريالية تؤلف حلفا لاقتسام البلدان الآسيوية المذكورة بطريق «سلمي». وسيكون ذلك «الرأسمال المالي العالمي الموحد». وثمة في تاريخ القرن العشرين أمثلة واقعية على مثل هذا الحلف، مثلا، في علاقات الدول إزاء الصين. نتسائل، هل من «المعقول» أن يفترض في ظرف بقاء الرأسمالية (وهو بالضبط الظرف الذي يفترضه كاوتسكي) أن تكون هذه الأحلاف لآجال غير قصيرة؟ وأن تزيل الإحتكاكات والنزاعات والصراع بجميع الأشكال الممكنة؟
وما أن يطرح السؤال بوضوح حتى يظهر أن الجواب لا يمكن أن يكون إلاّ سلبيا. لأن من غير المعقول في ظل الرأسمالية أن يكون هناك أساس لتقاسم مناطق النفوذ والمصالح والمستعمرات والخ.، غير مراعاة درجة قوة المشتركين في التقاسم، وقوتهم الاقتصادية العامة والمالية والعسكرية وهلم جرا. بيد أن القوة تتغير بصورة متفاوتة لدى هؤلاء المشتركين في التقاسم، لأن تطور كل من المشاريع والتروستات وفروع الصناعة والبلدان يستحيل أن يكون متساويا في ظل الرأسمالية. منذ نصف قرن كانت ألمانيا بلدا تافها إذا قورنت قوتها الرأسمالية بقوة إنجلترا في ذلك العهد؛ وكذلك اليابان بالمقارنة مع روسيا. فهل «من المعقول» أن نتصور أن نسبة القوى بيم الدول الإمبريالية ستبقى دون تغير بعد عقد أو آخر من السنين؟ لا يمكن تصور ذلك على الإطلاق.
ولذا فإن أحلاف « الإمبريالية الوسطية» أو « الإمبريالية العليا»، كيفما كان شكل عقد هذه الأحلاف: بشكل ائتلاف امبريالي ضد ائتلاف إمبريالي آخر، أو بشكل حلف عام بين جميع الدول الإمبريالية، ليست على التأكيد – في الواقع الرأسمالي، لا في الأوهام البرجوازية الصغيرة الحقيرة التي تبتدعها مخيلات القساوسة الانجليز أو « الماركسي» الألماني كاوتسكي – إلاّ «فترات تنفس» بين الحروب. إن الأحلاف السلمية تحضر الحرب وتنشأ بدورها عن الحروب، مشترطة بعضها بعضا ومكونة تغير أشكال الصراع السلمي وغير السلمي على أساس واحد لا يتغير هو الصلات والعلاقات الإمبريالية على صعيد الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية. أمّا كاوتسكي المتحذلق، فلكيما يطمئن العمال ويوفق بينهم وبين الاشتراكيين-الشوفينيين الذين انتقلوا إلى جانب البرجوازية، يفصل من سلسلة بعينها حلقة عن أخرى، يفصل حلف جميع الدول السلمي الراهن (الإمبريالي الأعلى وإن شئت الإمبريالي أعلى الأعلى) القائم لـ«تهدئة» الصين (تذكروا قمع انتفاضة البوكسر) عن النزاع غير السلمي غدا والذي يهيئ لبعد غد مرة أخرى حلفا «سلميا» لاقتسام، لنقل مثلا، تركيا والخ.، الخ.. وبدلا من الصلة الحية بين مراحل السلام الإمبريالي ومراحل الحروب الإمبريالية يقدم كاوتسكي للعمال وهما ميتا ليوفق بينهم وبين زعمائهم الموتى.
يشير الأمريكي هيل في مقدمة كتابه «تاريخ الديبلوماسية الحديث: 1) عصر الثورة؛ 2) الحركة الدستورية؛ 3) عصر « الإمبريالية التجارية»(9) في أيامنا. وثمة كاتب يقسم تاريخ «السياسة العالمية» التي مارستها بريطانيا العظمى من سنة 1870 إلى أربع مراحل: 1) الآسوي الأول (مقاومة تقدم روسيا في آسيا الوسطى باتجاه الهند)؛ 2) الافريقية (سنوات 1885-1902 على وجه التقريب) – الصراع مع فرنسا من أجل اقتسام افريقيا («فاشوده سنة 1898 – الحرب مع فرنسا قاب قوسين أو أدنى)؛ 3) الآسيوية الثانية (المعاهدة مع اليابان ضد روسيا) و4) «الأوروبية»، ضد ألمانيا في الدرجة الأولى(10). في سنة 1905 كتب ريسر «الشخصية» المعروفة في عالم البنوك، قائلا: «المناوشات السياسية بين الطلائع تجري على الصعيد المالي»، مبنيا بذلك كيف حضر الرأسمال المالي الفرنسي العامل في إيطاليا الحلف السياسي بين البلدين وكيف اشتد الصراع بين ألمانيا وانجلترا من أجل بلاد فارس والصراع بين جميع الرساميل الأوروبية من أجل تقديم القروض للصين والخ.. وها هو ذا الواقع العملي لأحلاف « الإمبريالية العليا» السلمية في صلاتها الوثقى بالنزاعات الإمبريالية العادية.
إن طمس كاوتسكي لأعمق تناقضات الإمبريالية، الأمر الذي يؤول حتما إلى تجميل وجه الإمبريالية، يترك أثره كذلك على انتقاد هذا الكاتب لخصائص الإمبريالية السياسية. الإمبريالية هي عهد الرأسمال المالي والاحتكارات التي تحمل في كل مكان النزعة إلى السيطرة، لا إلى الحرية. ونتائج هذه النزعة هي الرجعية على طول الخط في ظل جميع النظم السياسية وتفاقم التناقضات لأقصى حد كذلك في هذا الحقل. يشتد بوجه خاص كذلك الظلم القومي السعي إلى الالحاق، أي اعتداء على الاستقلال الوطني (ذلك لأن الالحاق ليس إلاّ انتهاك حق الأمم في تقرير مصيرها). ويشير هيلفردينغ، وهو على حق، إلى الصلة بين الإمبريالية واشتداد الظلم القومي بقوله: «أمّا فيما يخص البلدان المكشوفة حديثا فإن الرأسمال المصدر يشدد فيها التناقضات ويثير ضد الدخلاء مقاومة تشتد على الدوام من جانب الشعوب التي يستيقظ وعيها الوطني؛ وبإمكان هذه المقاومة أن تتحول بسهولة إلى تدابير خطرة موجهة ضد الرأسمال الأجنبي. وتتحول العلاقات الاجتماعية القديمة تحولا ثوريا جذريا؛ تنهار العزلة الزراعية التي استمرت ألوف السنين لدى هذه «الأمم الموضوعة خارج التاريخ»، وتجذب هذه الأمم إلى الدوامة الرأسمالية. والرأسمالية نفسها تقدم شيئا فشيئا للمستعبدين الوسائل والأساليب للتحرر. فيضعون نصب عيونهم ذلك الهدف الذي كانت ترى فيه الأمم الأوروبية فيما مضى الهدف الأسمى، أي إنشاء دولة قومية موحدة باعتبارها وسيلة للحرية الاقتصادية والثقافية. وهذه الحركة الطامحة إلى الاستقلال تهدد الرأسمال الأوروبي في أهم ميادين الاستثمار التي تبشر بأزهى الآمال؛ ولا يستطيع الرأسمال الأوروبي الاحتفاظ بسيطرته إلاّ بزيادة قواته العسكرية بصورة دائمة»*.
وينبغي أن نضيف إلى ذلك أن الإمبريالية تفضي إلى الإلحاق وإلى تفاقم الظلم القومي؛ وبالتالي إلى اشتداد المقاومة ليس فقط في البلدان المكتشفة حديثا، بل كذلك القديمة. إن كاوتسكي، إذ يعارض تقوية الإمبريالية للرجعية السياسية، يحجب مسألة غدت في منتهى الأهمية، هي مسألة استحالة الوحدة مع الانتهازيين في عهد الإمبريالية. وهو، إذ يعارض الإلحاق، يعطي حججه الشكل الأقل إساءة للانتهازيين والذي يتقبلونه بأكبر سهولة. وهو يتوجه مباشرة إلى القراء الألمان ويطمس مع ذلك الأمر الأهم، مسألة الساعة مثلا، إن الألزاس واللورين قد ألحقتا بألمانيا. وبغية تقييم هذا «الإتجاه في تفكير» كاوتسكي نضرب المثل التالي. فلنفرض أن يابانيا يشجب إلحاق الأمريكيين للفليبين. نتساءل: هل ثمة كثيرون يصدقون أن ذلك ناشئ عن عدائه للإلحاق بوجه عام، لا عن رغبته في أن يلحق الفلبين هو نفسه؟ أولسنا مضطرين إلى الاعتراف بأن «نضال» الياباني ضد الإلحاق لا يمكن أن يعتبر نزيها وشريفا من الناحية السياسة إلاّ في حالة ما إذا وقف ضد إلحاق اليابان، إلاّ في حالة ما إذا طالب لكوريا بحرية الإنفصال عن اليابان؟
إن تحليل كاوتسكي للإمبريالية من الناحية النظرية وانتقاده لها من الناحية الاقتصادية وكذلك السياسية هما مشبعان برمتهما بروح تتجافى مع الماركسية كل التجافي، بروح طمس وتخفيف أهم التناقضات والسعي مهما كلف الأمر إلى الإبقاء على الوحدة المتداعية مع الإنتهازيين في الحركة العمالية الأوروبية.
الفصل العاشر
مكان الإمبريالية في التاريخ
لقد رأينا أن الإمبريالية، من حيث كنهها الاقتصادي، هي الرأسمالية الاحتكارية. وهذا ما يحدد بحد ذاته مكان الإمبريالية في التاريخ لأن الإحتكار الذي نشأ على صعيد المزاحمة الحرة وعن المزاحمة الحرة بالضبط هو انتقال من النظام الرأسمالي إلى نظام اقتصادي اجتماعي أعلى. وينبغي أن نشير بوجه خاص إلى أنواع الاحتكار الرئيسية الأربعة أو إلى أربعة مظاهر رئيسية للرأسمالية الإحتكارية تميز العهد الذي نحن بصدده.
أولا نشأ الإحتكار عن تمركز الإنتاج البالغ درجة عالية جدا في تطوره. وهذا هو اتحادات الرأسماليين الاحتكارية، الكارتيلات، السنديكات والتروستات. وقد رأينا مدى جسامة الدور الذي تلعبه في الحياة الاقتصادية الراهنة. وفي مستهل القرن العشرين وطدت تفوقها التام في البلدان الراقية. وإذا كانت البلدان ذات الرسوم الجمركية الوقائية المرتفعة (ألمانيا، أمريكا) هي التي خطت الخطوات الأولى في طريق تنظيم الكارتيلات، فإن إنجلترا التي يسودها نظام التجارة الحرة قد أظهرت بعد وقت قليل الواقع الرئيسي نفسه: نشأة الاحتكارات عن تمركز الإنتاج.
ثانيا، ساقت الاحتكارات إلى تسريع الاستيلاء على أهم مصادر الخامات، ولاسيما خامات الصناعات الرئيسية في المجتمع الرأسمالي والتي بلغ فيها تنظيم الكارتيلات حده الأقصى كصناعات الفحم الحجري وصهر الحديد. واحتكار حيازة أهم مصادر المواد الخام قد زاد سلطان الرأسمال الضخم لدرجة هائلة وأزّم التناقضات بين الصناعة المنظمة في الكارتيلات وغير المنظمة في الكارتيلات.
ثالثا، نشأ الاحتكار عن البنوك. وقد تحولت البنوك من مؤسسات وسيطة متواضعة إلى محتكر للرأسمال المالي. فثمة ثلاثة أو خمسة بنوك ضخمة لأية أمة من الأمم الرأسمالية الراقية قد حققت «الإقتران الشخصي» بين الرأسمال الصناعي و الرأسمال البنكي وركزت في أيديها التصرف بالمليارات العديدة التي تؤلف القسم الأكبر من الرساميل والمداخيل النقدية في بلاد بأكملها. والطغمة المالية التي غطت بشبكة كثيفة من علاقات التبعية جميع ما في المجتمع البرجوازي المعاصر من مؤسسات اقتصادية وسياسية دون استثناء هي أبرز ظاهرة لهذا الاحتكار.
رابعا، نشأ الإحتكار عن سياسة حيازة المستعمرات فالرأسمال المالي قد أضاف إلى بواعث السياسة الاستعمارية –إلى البواعث «القديمة» العديدة – الصراع من أجل مصادر الخامات، من أجل تصدير الرساميل، من أجل «مناطق النفوذ» – أي مناطق الصفقات الرابحة والامتيازات والأرباح الاحتكارية وهلم جرا – وأخيرا من أجل الأقاليم الاقتصادية بوجه عام. فحينما كانت مستعمرات الدول الأوروبية تشغل مثلا عشر إفريقيا كما كان الحال في سنة 1876، كان بإمكان سياسة الاستيلاء على المستعمرات أن تتطور بطريق غير احتكاري، بطريق – إن أمكن القول – «الاستيلاء الحر» على الأراضي. ولكن عندما تم الاستيلاء على تسعة أعشار إفريقيا (حوالي سنة 1900)، عندما تم اقتسام العالم كله، حل بالضرورة عهد احتكار حيازة المستعمرات وبالتالي عهد احتدام أشد الصراع من أجل اقتسام العالم وإعادة اقتسامه.
يعلم الجميع إلى أي مدى شددت الرأسمالية الاحتكارية جميع تناقضات الرأسمالية. حسبنا أن نشير إلى غلاء المعيشة وإلى جور الكارتيلات. وتفاقم التناقضات هذا هو القوة المحركة الأشد بأسا في المرحلة التاريخية الانتقالية التي بدأت منذ إحراز الرأسمال المالي الانتصار التام.
إن الاحتكارات والطغمة المالية والنزوع إلى السيطرة بدلا من النزوع إلى الحرية، واستثمار عدد متزايد من الأمم الصغيرة أو الضعيفة من قبل قبضة صغيرة من الأمم الغنية أو القوية –كل ذلك قد خلق السمات المميزة للإمبريالية التي تحمل على وصفها بأنها الرأسمالية الطفيلية أو المتقيحة. ويظهر ببروز متزايد ميل من ميول الإمبريالية وهو الميل إلى إنشاء «الدولة صاحبة المداخيل»، الدولة المرابية التي تعيش برجوازيتها أكثر فأكثر من تصدير الرساميل و«قص الكوبونات». ومن الخطأ الظن أن هذا الميل إلى التعفن ينفي نمو الرأسمالية بسرعة؛ لا، إن هذا الفرع من فروع الصناعة، هذه الفئة من فئات البرجوازية، هذه البلاد أو تلك تظهر في عهد الإمبريالية بقوة كبيرة لهذا الحد أو ذاك تارة الميل الأول وتارة الميل الثاني. وبالإجمال تنمو الرأسمالية بسرعة أكبر جدا من السرعة السابقة؛ إنها تنمو، ولكن هذا النمو لا يغدو بوجه عام أكثر تفاوتا وحسب؛ فهذا التفاوت يتجلى كذلك بوجه خاص في تعفن البلدان الأقوى بالرساميل (إنجلترا).
وبصدد سرعة التطور الاقتصادي في ألمانيا يقول ريسر، واضع دراسة عن البنوك الألمانية الكبرى: «إن التقدم الذي لم يكن بطيئا جدا في العهد الماضي (سنوات 1848-1870) هو بالقياس لسرعة تطور اقتصاد ألمانيا برمته ولا سيما بنوكها في هذا العهد (سنوات 1848-1870) أشبه بسرعة عربات البريد في العصر الغابر السعيد بالقياس لسرعة السيارات الحديثة التي تخترق الطرقات بشكل يعرض للخطر الراجل الغافل وركابها أنفسهم». والرأسمال المالي هذا الذي نما بهذه السرعة الخارقة لا يأنف بدوره، على وجه الدقة لأنه نما بهذه السرعة، من الانتقال إلى حيازة «أهدأ» للمستعمرات التي ينبغي انتزاعها من الأمم الأكثر ثراء، ليس بالطريق السلمي وحده. أمّا الولايات المتحدة فقد سار فيها التطور الاقتصادي خلال العقود الأخيرة من السنين بسرعة أكبر منها في ألمانيا، وبسبب ذلك بالضبط برزت إمارات الطفيلية في الرأسمالية الأمريكية الحديثة بوضوح خاص. ومن الجهة الأخرى، إن المقارنة مثلا بين البرجوازية الجمهورية الأمريكية والبرجوازية الملكية اليابانية أو الألمانية تظهر أن هذا الفرق السياسي الهائل يضعف لأقصى حد في عهد الإمبريالية، – لا لأنه كان بوجه عام قليل الأهمية، بل لأن القضية في جميع هذه الحالات قضية برجوازية تتسم بسمات طفيلية واضحة.
إن الأرباح الإحتكارية الفاحشة التي يبتزها رأسماليو فرع من فروع صناعية عديدة، بلد من بلدان كثيرة والخ. تمكنهم اقتصاديا من رشوة فئات معينة من العمال وبصورة مؤقتة أقلية من العمال كثيرة لحد ما ومن جذبهم إلى جانب برجوازية فرع صناعي معين أو أمة معينة ضد جميع الآخرين. واشتداد التناحر بين الأمم الإمبريالية من أجل تقاسم العالم يشدد هذه النزعة. وعلى هذه الصورة تنشأ الصلة بين الإمبريالية والانتهازية، هذه الصلة التي بدت في إنجلترا قبل البلدان الأخرى وأوضح مما في البلدان الأخرى بسبب أن بعض سمات التطور الإمبريالية قد ظهرت فيها قبل البلدان الأخرى بزمن طويل. وهنالك كتاب مهم، مثلا، مارتوف، يحبون تحاشي واقع الصلة بين الإمبريالية والانتهازية في حركة العمال –هذا الواقع الذي يبدو اليوم للعيان بوضوح خاص – عن طريق عبارات «متفائلة بصورة رسمية» (على طريقة كاوتسكي وهويسمانس) من هذا النوع: إن قضية خصوم الرأسمالية تكون في حالة تدعو للقنوط فيما لو كانت الرأسمالية المتقدمة بالذات تؤدي إلى تقوية الانتهازية أو فيما إذا كان العمال الذين ينالون أعلى الأجور يميلون إلى الانتهازية، وهلم جرا. لا ينبغي أن ننخدع فيما يخص مغزى هذا «التفاؤل» – إذ أنه تفاؤل ‘إزاء الانتهازية، إذ أنه تفاؤل من شأنه تغطية الانتهازية. والواقع أن نمو الانتهازية، بهذه السرعة الكبرى وبهذه الصفة القبيحة للغاية، قطعا بضمان لانتصارها بصورة وطيدة كما أن سرعة نضوج البثور الخبيثة في الجسم السليم تعجل انفجارها فقط وتخليص الجسم منها. وأخطر ما في الأمر هو الناس الذين لا يريدون أن يفهموا أن النضال ضد الإمبريالية، إذا لم يقترن اقترانا وثيقا بالنضال ضد الانتهازية، يكون عبارة فارغة وكاذبة.
من كل ما قلناه فيما تقدم عن طبيعة الإمبريالية الإقتصادية يستنتج أنه لا بد من وصفها بأنها رأسمالية انتقالية أو، بالأصح، محتضرة. وما هو في غاية الدلالة بهذا الصدد واقع أن كلمات «التشابك» و«انعدام العزلة» والخ.، هي كلمات يكثر استعمالها الإقتصاديون البرجوازيون في وصفهم للرأسمالية الحديثة؛ البنوك هي «من حيث مهامها ومن حيث تطورها، مؤسسات لا تتسم بطابع اقتصادي فردي صرف، بل هي تخرج شيئا فشيئا من ميدان التوجيه الاقتصادي ذي الطابع الفردي الصرف». وريسر نفسه الذي تعود إليه هذه الكلمات الأخيرة، يعلن بمنتهى الجدان «نبؤة» الماركسيين بشأن «اكتساب الصفة الاجتماعية» «لم تتحقق»!
فماذا تعني إذن كلمة «التشابك» هذه؟ إنها لا تلقف غير السمة الأبرز في العملية الجارية على مرأى منا. إنها تظهر أن الباحث يعدد بعض الشجرات دون أن يرى الغابة. إنها تنسخ بذلة ما هو ظاهري وصدفي وما هو ذو صفة فوضوية. وهي تكشف في الباحث شخصا سحقته المادة للخام وعاجز تماما عن تبين كنهها وأهميتها. تملك الأسهم وعلاقات المالكين الفرديين «تتشابك بصورة صدفية». ولكن ما يختفي في بطانة هذا التشابك، ما يكونه أساسه، هو تغيرات علاقات الإنتاج الاجتماعية. فعندما يصبح مشروع كبير هائلا وينظم، بصورة منهاجية على أساس مراعاة دقيقة للمعلومات العديدة، تقديم 3/2 أو 4/3 كامل المواد الخام الضرورية لعشرات الملايين من السكان؛ وعندما يتم بصورة منظمة نقل هذه الخامات إلى أماكن الإنتاج الأحسن ملاءمة والتي يبعد بعضها عن البعض أحيانا مئات وألوف الفراسخ؛ وعندما يشرف مركز واحد على جميع المراحل المتتابعة في تكييف الخامات الجاهزة بما في ذلك الحصول على جملة من مختلف أصناف المنتوجات الجاهزة؛ وعندما يتم حسب برنامج واحد توزيع هذه المنتوجات الجاهزة بين عشرات ومئات الملايين من المستهلكين (تصريف «تروست البترول» الأمريكي للبترول في أمريكا وفي ألمانيا)؛ – عندئذ يصبح من الواضح أننا إزاء اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية، لا إزاء مجرد «تشابك»؛ وأن علاقات الاقتصاد الخاص والملكية الخاصة تؤلف غلافا غدا لا يتلاءم مع المحتوى ومن شأنه أن يتعفن لا محالة إذا ما أجلت إزالته بصورة مصطنعة ويمكنه أن يبقى في حالة التعفن زمنا طويلا نسبيا (في أسوأ الحالات – في حالة ما إذا طال أمد الاستشفاء من البثور الانتهازية)، ولكنه مع ذلك سيزول لا محالة.
إن المتحمس المعجب بالإمبريالية الألمانية، شولتزه-غيفيرنيتز يهتف:
«وإذا كانت إدارة البنوك الألمانية قد وضعت في نهاية الأمر بين أيدي دستة من الأشخاص، فقد غدا نشاطهم منذ الآن أهم، بالنسبة للمصلحة العامة، من نشاك أكثرية وزراء الدولة» (ومن الأفضل هنا نسيان «تشابك» الصيارفة والوزراء والصناعيين وأصحاب المداخيل…) «…وإذا معنّا الفكر في تطور الميول التي رأيناها، يكون الحاصل: رأسمال الأمة النقدي موحد في البنوك؛ والبنوك مرتبطة فيما بينها في كارتيل؛ رأسمال الأمة الباحث عن توظيف اتخذ شكل أوراق مالية. عندئذ تتحقق الكلمات العبقرية التي قالها سان سيمون: «إن فوضى الإنتاج الراهنة التي تتلائم مع واقع أن العلاقات الاقتصادية تتطور بدون ضابط وحيد الشكل ينبغي أن تتخلى عن مكانها لتنظيم الإنتاج. ولن يوجه الإنتاج أصحاب أعمال منعزلون ومستقلون بعضهم عن بعض ويجهلون حاجات الناس الإقتصادية، بل سيناط بمؤسسة اجتماعية معينة. ان الهيئة الإدارية المركزية التي تستطيع أن ترى من وجهة نظر أعلى منطقة الاقتصاد الاجتماعي الواسعة ستضبطه على نحو مفيد للمجتمع بأكمله وستضع وسائل الإنتاج بين الأيدي الأكثر ملاءمة لذلك وستسهر بوجه خاص على الانسجام الدائم بين الانتاج والاستهلاك. وثمة مؤسسات وضعت ضمن نطاق مهامها تنظيما معينا للعمل الاقتصادي: إنها البنوك». ما زلنا بعيدين عن تحقيق كلمات سان سيمون هذه، ولكننا نسير في اتجاه تحقيقها: الماركسية على نمط يختلف عما تصوره ماركس، ولكن من حيث الشكل فقط»(1).
إنه والحق يقال «دحض» رائع لماركس يعود القهقرى من تحليل ماركس العلمي الدقيق إلى حدس سان سيمون، وإن كان حدسا عبقريا، إلاّ أنه على حال حدس لا غير.
كتب في يناير- يونيو 1916
نحن نقدمها لك من خلال موقع الإصلاح التلقائي. في حال كنت تملك مركبة إصلاح تلقائي وتحتاج إلى إتاحتها للشراء في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ، نحصل عليه
RépondreSupprimerسياره مصدومه