موقف
القرآن من اللباس - الحجاب ليس فريضة إسلامية
رياض حمادي
الحوار المتمدن-العدد: 3595 - 2012 / 1 / 2 - 07:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
موقف القرآن من اللباس - الحجاب ليس فريضة إسلامية
مدخل:
ارتداء الحجاب أو النقاب لا يُعد من قبل الملتزمات به أمراً تقره الحرية الشخصية - لو كان الأمر كذلك لقلَّت الإشكاليات والنزاع بين طرفي القضية, المناهضين للحجاب والمدافعين عنه – لكنه, من وجهة نظر المؤمنين, أمر تفرضه الشريعة الدينية فعدم ارتدائه يُعتبر معصية وإثم كبير يكون مصيره النار وارتدائه يعتبر طاعة لله وجلبا للحسنات.
هذه محاولة أخرى, تحاول إثبات أن الحجاب ليس فريضة إسلامية وفقا للنصوص الدينية التي تسمح بهذه الرؤية. هذه هي الوسيلة المتاحة الوحيدة لإقناع أنصار الحجاب بأنه غير مفروض شرعا وحتى لو اتفقنا مع هؤلاء أن الحجاب منصوص على وجوبه في الشريعة فعدم ارتداءه يدخل في باب اللمم أو الصغائر ولا تكون عقوبته النار كما يُعتقد.
منهج معاودة الطرح أو التكرار :
لم يولي القرآن مسألة اللباس اهتماما كبيرا, ونحن نعرف أن تكرار مفردة ما في القرآن ومعاودة طرحها على مسامع الناس إنما يكون من باب أهميتها. فكلمة اللباس ذُكرت في القرآن عشر مرات وفي ثمان آيات, منها مرة واحدة فقط لتعني اللباس أو الثياب الساترة للسوءات. كما أن المفردات الأخرى التي تعني أو تشير إلى ما يستر أجزاء محددة من البدن مثل الخمار أو الجلباب, وردت في سياق أحكام خاصة وظرفية ومقيدة بأسباب. وقبل الخوض في بيان موقف القرآن من اللباس لابد من الإشارة إلى منهج القرآن المتبع في بناء الأحكام .
منهج القرآن التشريعي :
للقرآن منهجان في تشريع الأحكام , منهج عام غير مقيد أو مرتبط بشرط أو بسبب , ومنهج خاص مقيد بظرف أو بسبب. وتكاد تكون هذه قاعدة متبعة في جميع الأحكام القليلة الواردة في القرآن, فلكل مسألة حكمها العام والخاص وهناك مسائل لها أحكام عامة دون أحكام خاصة. فمثلا مسألة "العقيدة أو التدين " حكمها العام { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } الكافرون6 و{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } الكهف 29 وغيرها من الآيات التي تتيح حرية التدين والعقيدة كحكم عام . أما الحكم الخاص {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } البقرة , و {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } الأنفال39 . فهو حكم خاص مرتبط بمشركي مكة وبوجود سبب - فتنة تهدد سلامة الدين والدولة في طور النشوء . أما الآية {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }آل عمران19 فأتت في سياق الحديث عن التوحيد وليس في سياق المفاضلة بين الأديان.
وهناك مسائل لها حكم خاص مثل شرب الخمر دون حكم عام. لكن مجموع الأحكام الخاصة التي نزلت في شرب الخمر يمكن أن تشكل حكما عاما. ولا صحة للقول بنسخ الحكم الأخير للأحكام السابقة , لأن القول بالنسخ إلغاء للمنهج المتدرج المتبع في إصدار الأحكام .فهذه الآية خطوة أخرى وليست أخيرة للحد من إدمان الخمور وليست حكما قاطعا فيه. وعليه فآيات الخمر هي أحكام جزئية يمكن أن تشكل أحكاما خاصة لعلاج مسائل مشابهة لها في الحالة . وهي في نفس الوقت حكم عام يمكن قياسها على أي وضع مشابه للحد من إدمان الخمور . (انظر موضوعي الآخر عن موقف القرآن من الخمر)
ما يلاحظ أن المشرع المجتهد رجح كفة الحكم الخاص ليكون حكما عاما في كثير من المسائل وألغى منهج الحكم العام , مخالفا بذلك القاعدة التي يتبعها القرآن . وهكذا هو الحال فيما يتعلق بموقف القرآن من اللباس, فله فيه حكم عام وأحكام خاصة .
حكم القرآن العام في اللباس - الآية المنهج أو المرجع :
القرآن في معظمه تأكيد لقيمة الجوهر والمضمون وما يمثله من قيم وسلوكيات حميدة ومن ضمنها هذه الآية والتي أتت فيها كلمة لباس لمرة وحيدة لتعني الثياب الساترة للعورات :
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }الأعراف26
هذه الآية غفل عنها معظم – إن لم يكن كل – الذين ناقشوا وتنازعوا على مسألة لباس المرأة المسلمة . كعادتهم في النظر إلى الحكم الخاص وإهمالهم للحكم العام . مع أن الأولى النظر إلى الحكم العام, فهو القاعدة والمنهج الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إصدار الأحكام .
آية الأعراف هي الفصل والمنهج كونها تتحدث عن اللباس كحكم عام من جهة. ومن جهة تحدد لنا منهج قرآني, يؤكد على المضمون والجوهر لا على الشكل والمظهر. والآية تخاطب بني آدم رجالا ونساء ذكورا وإناثا على حد سواء دون النظر إلى الدين أو المعتقد , وتتحدث عن نوعين من الثياب. النوع الأول لباس مادي ملموس ومحسوس وهو اللباس الذي يواري العورات - وليس كامل البدن - بمقتضى مدلول الآية, فلو كان يريد كامل البدن لقال " يواري أجسامكم أو أبدانكم". والنوع الثاني من اللباس لباس معنوي وروحي وهو " لباس التقوى " والأهم من ذلك, أن هذا النوع أهم بكثير من النوع الأول. فلماذا جعل المشرع المجتهد النوع الأول من اللباس أهم من الثاني خلافا لمضمون الآية؟! ولماذا جعلوا كامل الجسد عورة في حين تؤكد الآية على سوءات محددة, مخالفين بذلك مضمون الآية ؟!!
معنى الآية باختصار أن تقوى الجوهر أهم من تقوى المظهر. سيرد معترض أن تأكيد أهمية لباس التقوى لا يلغي أهمية النوع الأول من اللباس وهو اللباس المادي الساتر للعورات . و اعتراضه في محله فلا أحد يقول بالسير في الشوارع بدون ملابس. لكن ما هي العورات أو السوءات التي تتحدث عنها الآية والتي علينا سترها؟!
السوءة مشتقة من السوء وهي ما يسوء المرء . وما يسوء المرء في أمكنة وأزمنة مختلفة أمر تحدده الظروف والعادات والتقاليد والثقافات. إذن هي مسألة مختلف عليها. فلا وجوب للإلزام إذن . فطالما لم تحدد الآية ما يسوء المرء إظهاره من بدنه للآخرين فهي متروكة للأفراد أو المجتمعات المختلفة لتبت فيها وتجتهد في تحديد أماكن السوء أو العورات . فمسألة اللباس وتحديد مناطق العورة هي أمور متروكة للناس ولم يحدده النص. وما لم يحدده النص أو النقل يصبح مسألة من اختصاص العقل وقابلة للاجتهاد والاتفاق ومنافية للإلزام. والعورات أمور تعارف الناس عليها وهي على نحو رئيس القُبل والدبر للرجال والنساء, أُضيف إلى ذلك ثديي المرأة. وبما أن العادة والثقافة الذكورية طاغية على الدين, فقد أصبح كل بدن المرأة عورة عند المذاهب المتطرفة وتركوا منه الوجه والكفين والقدمين عند المذاهب الأخرى " الوسطية " .
الأحكام الخاصة :
بقية الآيات القليلة الأخرى لها سياقات ومناسبات وأسباب نزول خاصة. أي أنها مرتبطة بظرف ,والقاعدة أن النص المرتبط بظرف أو بسبب , حكمه مقيد ويختلف عن الحكم العام الغير مشروط . وحكم آية الأعراف عام غير مرتبط أو مقيد بظرف . كما أن الآيات الأخرى (الخمار والجلابيب ). تؤكد على هذا الحكم العام قبل الانتقال إلى الحكم الخاص فتجدها تبدأ (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) تؤكد على الجوهر - غض البصر وحفظ الفرج - قبل الحديث عن المظهر . أي أن المظهر (الحجاب) غير مطلوب لذاته وإنما القصد و الغاية هو حفظ الفرج, أي عدم الوقوع في معصية الزنا. وهذه الغاية لا تتطلب حجابا أو نقابا. فكلنا يعرف أن هذا الحجاب – حجاب المظهر – لا يحول دون وقوعها, إنما الحائل أو المانع الحق هو حجاب الجوهر – لباس التقوى .
آية الخمار أو النقاب :
لم ترد كلمة النقاب ولا مرة واحدة في القرآن, في حين وردت كلمة الخمار مرة واحدة منسوبة إلى المؤمنات من النساء:
(وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) النور 31
الخطاب لعموم المؤمنات ومسبوقا بـ " قل ". والأوامر أو الطلبات المسبوقة بكلمة " قل " تضفي على الأمر صفة الظرفية وعدم التأكيد, فكأن الكلمة " قل " لفظ صوتي مباشر من النبي مرتبط بالحالة أو الظرف المصاحب له, خلافا للأوامر التي لا يسبقها " قل ". من جهة أخرى وهو الأهم أن الآية اتبعت نفس المنهجية التي تؤكد على الجوهر لا على الشكل والمظهر. فقد ابتدأت الآية بغض البصر وحفظ الفرج.
إبداء الزينة إلا ما ظهر منها مسألة فيها اجتهاد, فما هي حدود ظهور الزينة ؟ إنه أمر تحدده ظروف الزمان والمكان المختلفة والمتقلبة . ولا إلزام فيه. والأهم, مسألة ضرب الخُمر على الجيوب.
يقول المستشار محمد سعيد العشماوي "ما ورد في الآية من جملة { وليضربن بخمرهن على جيوبهن..} لا يعني فرض الخمار أصلاً وشرعًا لكنه يرمى إلى التعديل في عادة كانت قائمة وقت التنزيل بوضع الخمار ضمن المقانع وإلقائه على الظهر بحيث يبدو الصدر ظاهرًا ومن ثم كان القصد هو تعديل العادة ليوضع الخمار على الجيوب وكانت الجيوب في ذلك الزمان وبعضها في هذا الزمان توضع على الصدور, كما هي العادة حاليًا . ولو أن الآية قصدت فرض الخمار لكان لها في ذلك تعبير آخر مثل: وليضعن الخُمر ( جمع الخمار ) على رؤوسهن, أو ما في هذا المعنى أو هذا التعبير. " وسبب نزول هذه الآية أن النساء كن في زمان النبي يغطين رؤوسهن بالأخمرة, ويسدلنها من وراء الظهر, فيبقى النحر ( أعلى الصدر ) والعنق لا ستر لهما, فأمرت الآية بإسدال المؤمنات للخمار على الجيوب, فتضرب الواحدة منهن بخمارها على جيبها ( أعلى الجلباب ) لستر صدرها. (العشماوي - حقيقة الحجاب وحجية الحديث)
آية الجلابيب :
وقد وردت هذه الكلمة مرة واحدة في القرآن:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الأحزاب59
وسبب النزول :" نزلت الآية لتضع فارقًا وتمييزًا بين " الحرائر" من المؤمنات وبين الإماء وغير العفيفات بإدناء المؤمنات لجلابيبهن, حتى يُعرفن فلا يؤذين بالقول من فاجر يتتبع النساء دون أن يستطيع التمييز بين الحرة والجارية أو غير العفيفة. " ( العشماوي - حقيقة الحجاب )
" ويقول القرطبي: « لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله (ص) أن يأمرهن بارتداء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء... وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فنزلت الآية ». (نبيل فياض – أم المؤمنين تأكل أبناءها )
"ويخبرنا ابن كثير في تفسيره: «وكان ناس من فسّاق أهل المدينة يخرجون بالليل، حين يختلط الظلام، إلى طرق المدينة، فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيّقة، فإذا كان الليل، خرج النساء إلى الطرق يبتغين حاجتهن. فكان أولئك الفسّاق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب، قالوا: هذه حرّة! فكفّوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب؛ قالوا: هذه أمة! فوثبوا عليها». ويزداد الأمر سوءاً حين تعلمنا إحدى الروايات، أنه «كان نساء النبي (ص) يخرجن بالليل لحاجتهن؛ وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنّما نفعله بالإماء! فنزلت هذه الآية» - آية الحجاب (أحزاب 59). ويؤكد ذلك الطبري، حين يقول: « يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يتعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى » . وهكذا، لمّا «كانت الحرّة تخرج فتحسب أنّها أمة فتؤذى... أمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمّر وجهها إلا إحدى عينيها». " (نبيل فياض – أم المؤمنين تأكل أبناءها )
للآية سبب وهو معالجة هذه المشكلة الظرفية. وهي مشكلة ظرفية لأنها مرتبطة أو مقيدة بسبب أو شرط وهو " الإيذاء " والحكم مرتبط ببقاء السبب وجودا أو عدما فإن بقى السبب بقي الحكم وإن انعدم ارتفع الحكم . ولا حاجة للإطناب في أن حال المرأة وحال المجتمعات قد تغير. صحيح أن المرأة مازالت تؤذى ويُتحرش بها, لكن تغطية المرأة بالجلباب هروب من المشكلة وليس حلا, لأنه يعاقب المرأة ولا يعاقب من يتحرش بها أولا ! وثانيا أن هذا أن الحكم يميز بين النساء, حرائر وإماء وجواري, مؤمنات وغير مؤمنات, وهو ما لم يعد قائما اليوم. كما أن التمييز في حد ذاته يعتبر عنصرية وهذا الحكم يثير إشكالية مضافة إلى إشكالية الحجاب عند المذاهب الإسلامية. فالحجاب، في مذاهب المسلمين الخمسة " ينطبق فقط على المرأة المسلمة «الحرّة»: على كلّ مسلمة «حرّة» أن تغطي سائر جسدها عدا الوجه والكفين. وتتشدّد بعض المذاهب في اعتبار أنه حتى الوجه والكفين «عورة» يفضّل تغطيتهم. بالمقابل، فإن حجاب المسلمة «الأمة»، هو بين السرّة والركبة. بل إنّ بعض المذاهب تجعل عورتها محصورة في فتحتي القبل والدبر. وتزداد المسألة تعقيداً، إذا ما عرفنا أن بعض المذاهب - راجع ابن عابدين في حاشيته، مثلاً - تفرض الحجاب على الشاب المسلم الجميل. فكيف يمكن حلّ تناقضات الحجاب هذه؟ " (نبيل فياض – أم المؤمنين تأكل أبناءها)
فحوى القول أن آية الأحزاب 59 وآية النور 31, هي الآيات التي يستدل بها الأطراف المتنازعة على مسألة الزي الشرعي للمرأة المسلمة, في إهمال تام للحكم العام . فالتيار المتطرف فهم من هاتين الآيتين وجوب تغطية كامل جسد المرأة. والتيار " الوسطي " فهم منهما - إلى جانب اعتماده على لباس المرأة المسلمة أثناء الصلاة والحج – إباحة ظهور الوجه والكفين والقدمين. وهناك رأي ثالث- للمستشار محمد سعيد العشماوي - يرى أن للمرأة أن تكشف شعرها فليس هو بالعورة. ويستند في ذلك لنفس الآيات, مع استناده إلى تاريخ سيرة النساء على عهد النبي فيقول في ذلك :
" والخلاصة أن شعر المرأة ليس عورة أبدًا, والذي يقول بغير ذلك يفرض من عنده ما لم يفرضه الدين, ويلزم الناس ما لا ينبغي أن تلتزموا به. ويغير ويبدل من أحكام الدين لجهل شخصي أو مصلحة سياسية أو أهداف نفطية. " (حقيقة الحجاب )
ولأن اللباس والثياب مسألة تتحكم فيها العادات والتقاليد والأعراف فلذلك لم يوليها القرآن اهتماما كبيرا على اعتبار أنها مسألة خاضعة لهذه الظروف. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن لباس البدن مسألة ثانوية قياسا على لباس الروح أو الأخلاق أو التقوى. فالذي يجعل من المرء متقيا ليس مظهره الخارجي, لون أو نوع ملبسه, وإنما صفاته الخلقية وسلوكياته. هذا ما تؤكد عليه الآيات. إضافة على تأكيدها على أنها مسألة خاضعة لقرار الناس وتراضيهم واتفاقهم في كل زمان ومكان. لذلك لم يجعل منها القرآن مسألة ملزمة. وعليه فمسألة اللباس تخضع لرأي الناس واتفاقهم القابل للأخذ والرد وليس لحكم الشرع المقدس. فما قد يتفقون عليه اليوم أو أمس قد يختلفون عليه غدا . وما قد يتفق عليه في مكان قد يختلف عليه في مكان آخر. إنما مكارم الأخلاق التي تبنتها البشرية قد جعلت للحشمة قسطا وافرا من الاهتمام وإن رأى مجتمع ما أو أمة أن تتوسع في تعريف هذه الحشمة فهذا لا يجعل منها أمة ناقصة أو غير أخلاقية أو ناقصة روحيا, لأن الثياب والحشمة على مستوى المظهر ليست معيارا للحكم على الجوهر. يصدق هذا على الفرد كما يصدق على المجتمع. وكم من نساء مستترات الأبدان لم تمنعهن الملابس من اقتراف "الرذائل". والعكس. وأعتقد أن في هذا ما يكفي ليكون جوابا على السؤال المطروح في الموضوع.
على هامش الحجاب :
كلمة الحجاب في القرآن :
أولا : حجاب مادي ملموس:
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ) الأعراف 46
"وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يقال له الأعراف" التفسير الميسر
ولا علاقة لهذا الحجاب بالذي ترتديه كثير من المسلمات اليوم.
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }مريم17
"فجعلت – مريم - مِن دون أهلها سترًا يسترها عنهم وعن الناس, فأرسلنا إليها الملَك جبريل, فتمثَّل لها في صورة إنسان تام الخَلْق."
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الأحزاب 53
" وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر."
والحجاب هنا ساتر يفصل نساء النبي عن بقية الرجال أو الصحابة , وهو حكم خاص بنساء النبي.
ثانيا : حجاب معنوي:
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } الإسراء45
"وإذا قرأت القرآن فسمعه هؤلاء المشركون، جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا ساترًا يحجب عقولهم عن فَهْمِ القرآن؛ عقابًا لهم على كفرهم وإنكارهم." التفسير الميسر .
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } فصلت5
" قلوبنا في أغطية مانعة لنا من فهم ما تدعونا إليه, وفي آذاننا صمم فلا نسمع, ومن بيننا وبينك- يا محمد- ساتر يحجبنا عن إجابة دعوتك, فاعمل على وَفْق دينك, كما أننا عاملون على وَفْق ديننا." الميسر .
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الشورى 51
" وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله إلا وحيًا يوحيه الله إليه، أو يكلمه من وراء حجاب "
في كل الآيات السابقة التي وردت فيها كلمة حجاب, لا توجد كلمة واحدة منها تعني ما تعارف عليه الناس أو المسلمون اليوم من أنه اللباس الذي يحجب جسد المرأة أو النقاب الذي يغطي وجهها. وحتى كلمة الحجاب في آية الأحزاب هو حجاب يفصل بين نساء النبي وبقية الصحابة من الرجال وليس ثوبا يوضع عليهن . كما وأن الحكم خاص بنساء النبي كون الخطاب موجه لهن فهن المعنيات الوحيدات به . وإن احتج معترض من ضرورة اقتداء المؤمنات بنساء النبي فله ذلك . أي أنه لا يمنع أن يُقتدى بهن, لكن ذلك لن يجعل منه حكما عاما ملزما لبقية النساء المؤمنات. فالاقتداء لا يترتب عليه إصدار حكم عام على عموم النساء كما لا يترتب عليه أفضلية أو تمايز هؤلاء عن أولئك .
رياض حمَّادي
مدخل:
ارتداء الحجاب أو النقاب لا يُعد من قبل الملتزمات به أمراً تقره الحرية الشخصية - لو كان الأمر كذلك لقلَّت الإشكاليات والنزاع بين طرفي القضية, المناهضين للحجاب والمدافعين عنه – لكنه, من وجهة نظر المؤمنين, أمر تفرضه الشريعة الدينية فعدم ارتدائه يُعتبر معصية وإثم كبير يكون مصيره النار وارتدائه يعتبر طاعة لله وجلبا للحسنات.
هذه محاولة أخرى, تحاول إثبات أن الحجاب ليس فريضة إسلامية وفقا للنصوص الدينية التي تسمح بهذه الرؤية. هذه هي الوسيلة المتاحة الوحيدة لإقناع أنصار الحجاب بأنه غير مفروض شرعا وحتى لو اتفقنا مع هؤلاء أن الحجاب منصوص على وجوبه في الشريعة فعدم ارتداءه يدخل في باب اللمم أو الصغائر ولا تكون عقوبته النار كما يُعتقد.
منهج معاودة الطرح أو التكرار :
لم يولي القرآن مسألة اللباس اهتماما كبيرا, ونحن نعرف أن تكرار مفردة ما في القرآن ومعاودة طرحها على مسامع الناس إنما يكون من باب أهميتها. فكلمة اللباس ذُكرت في القرآن عشر مرات وفي ثمان آيات, منها مرة واحدة فقط لتعني اللباس أو الثياب الساترة للسوءات. كما أن المفردات الأخرى التي تعني أو تشير إلى ما يستر أجزاء محددة من البدن مثل الخمار أو الجلباب, وردت في سياق أحكام خاصة وظرفية ومقيدة بأسباب. وقبل الخوض في بيان موقف القرآن من اللباس لابد من الإشارة إلى منهج القرآن المتبع في بناء الأحكام .
منهج القرآن التشريعي :
للقرآن منهجان في تشريع الأحكام , منهج عام غير مقيد أو مرتبط بشرط أو بسبب , ومنهج خاص مقيد بظرف أو بسبب. وتكاد تكون هذه قاعدة متبعة في جميع الأحكام القليلة الواردة في القرآن, فلكل مسألة حكمها العام والخاص وهناك مسائل لها أحكام عامة دون أحكام خاصة. فمثلا مسألة "العقيدة أو التدين " حكمها العام { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } الكافرون6 و{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } الكهف 29 وغيرها من الآيات التي تتيح حرية التدين والعقيدة كحكم عام . أما الحكم الخاص {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } البقرة , و {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } الأنفال39 . فهو حكم خاص مرتبط بمشركي مكة وبوجود سبب - فتنة تهدد سلامة الدين والدولة في طور النشوء . أما الآية {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }آل عمران19 فأتت في سياق الحديث عن التوحيد وليس في سياق المفاضلة بين الأديان.
وهناك مسائل لها حكم خاص مثل شرب الخمر دون حكم عام. لكن مجموع الأحكام الخاصة التي نزلت في شرب الخمر يمكن أن تشكل حكما عاما. ولا صحة للقول بنسخ الحكم الأخير للأحكام السابقة , لأن القول بالنسخ إلغاء للمنهج المتدرج المتبع في إصدار الأحكام .فهذه الآية خطوة أخرى وليست أخيرة للحد من إدمان الخمور وليست حكما قاطعا فيه. وعليه فآيات الخمر هي أحكام جزئية يمكن أن تشكل أحكاما خاصة لعلاج مسائل مشابهة لها في الحالة . وهي في نفس الوقت حكم عام يمكن قياسها على أي وضع مشابه للحد من إدمان الخمور . (انظر موضوعي الآخر عن موقف القرآن من الخمر)
ما يلاحظ أن المشرع المجتهد رجح كفة الحكم الخاص ليكون حكما عاما في كثير من المسائل وألغى منهج الحكم العام , مخالفا بذلك القاعدة التي يتبعها القرآن . وهكذا هو الحال فيما يتعلق بموقف القرآن من اللباس, فله فيه حكم عام وأحكام خاصة .
حكم القرآن العام في اللباس - الآية المنهج أو المرجع :
القرآن في معظمه تأكيد لقيمة الجوهر والمضمون وما يمثله من قيم وسلوكيات حميدة ومن ضمنها هذه الآية والتي أتت فيها كلمة لباس لمرة وحيدة لتعني الثياب الساترة للعورات :
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }الأعراف26
هذه الآية غفل عنها معظم – إن لم يكن كل – الذين ناقشوا وتنازعوا على مسألة لباس المرأة المسلمة . كعادتهم في النظر إلى الحكم الخاص وإهمالهم للحكم العام . مع أن الأولى النظر إلى الحكم العام, فهو القاعدة والمنهج الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إصدار الأحكام .
آية الأعراف هي الفصل والمنهج كونها تتحدث عن اللباس كحكم عام من جهة. ومن جهة تحدد لنا منهج قرآني, يؤكد على المضمون والجوهر لا على الشكل والمظهر. والآية تخاطب بني آدم رجالا ونساء ذكورا وإناثا على حد سواء دون النظر إلى الدين أو المعتقد , وتتحدث عن نوعين من الثياب. النوع الأول لباس مادي ملموس ومحسوس وهو اللباس الذي يواري العورات - وليس كامل البدن - بمقتضى مدلول الآية, فلو كان يريد كامل البدن لقال " يواري أجسامكم أو أبدانكم". والنوع الثاني من اللباس لباس معنوي وروحي وهو " لباس التقوى " والأهم من ذلك, أن هذا النوع أهم بكثير من النوع الأول. فلماذا جعل المشرع المجتهد النوع الأول من اللباس أهم من الثاني خلافا لمضمون الآية؟! ولماذا جعلوا كامل الجسد عورة في حين تؤكد الآية على سوءات محددة, مخالفين بذلك مضمون الآية ؟!!
معنى الآية باختصار أن تقوى الجوهر أهم من تقوى المظهر. سيرد معترض أن تأكيد أهمية لباس التقوى لا يلغي أهمية النوع الأول من اللباس وهو اللباس المادي الساتر للعورات . و اعتراضه في محله فلا أحد يقول بالسير في الشوارع بدون ملابس. لكن ما هي العورات أو السوءات التي تتحدث عنها الآية والتي علينا سترها؟!
السوءة مشتقة من السوء وهي ما يسوء المرء . وما يسوء المرء في أمكنة وأزمنة مختلفة أمر تحدده الظروف والعادات والتقاليد والثقافات. إذن هي مسألة مختلف عليها. فلا وجوب للإلزام إذن . فطالما لم تحدد الآية ما يسوء المرء إظهاره من بدنه للآخرين فهي متروكة للأفراد أو المجتمعات المختلفة لتبت فيها وتجتهد في تحديد أماكن السوء أو العورات . فمسألة اللباس وتحديد مناطق العورة هي أمور متروكة للناس ولم يحدده النص. وما لم يحدده النص أو النقل يصبح مسألة من اختصاص العقل وقابلة للاجتهاد والاتفاق ومنافية للإلزام. والعورات أمور تعارف الناس عليها وهي على نحو رئيس القُبل والدبر للرجال والنساء, أُضيف إلى ذلك ثديي المرأة. وبما أن العادة والثقافة الذكورية طاغية على الدين, فقد أصبح كل بدن المرأة عورة عند المذاهب المتطرفة وتركوا منه الوجه والكفين والقدمين عند المذاهب الأخرى " الوسطية " .
الأحكام الخاصة :
بقية الآيات القليلة الأخرى لها سياقات ومناسبات وأسباب نزول خاصة. أي أنها مرتبطة بظرف ,والقاعدة أن النص المرتبط بظرف أو بسبب , حكمه مقيد ويختلف عن الحكم العام الغير مشروط . وحكم آية الأعراف عام غير مرتبط أو مقيد بظرف . كما أن الآيات الأخرى (الخمار والجلابيب ). تؤكد على هذا الحكم العام قبل الانتقال إلى الحكم الخاص فتجدها تبدأ (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) تؤكد على الجوهر - غض البصر وحفظ الفرج - قبل الحديث عن المظهر . أي أن المظهر (الحجاب) غير مطلوب لذاته وإنما القصد و الغاية هو حفظ الفرج, أي عدم الوقوع في معصية الزنا. وهذه الغاية لا تتطلب حجابا أو نقابا. فكلنا يعرف أن هذا الحجاب – حجاب المظهر – لا يحول دون وقوعها, إنما الحائل أو المانع الحق هو حجاب الجوهر – لباس التقوى .
آية الخمار أو النقاب :
لم ترد كلمة النقاب ولا مرة واحدة في القرآن, في حين وردت كلمة الخمار مرة واحدة منسوبة إلى المؤمنات من النساء:
(وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) النور 31
الخطاب لعموم المؤمنات ومسبوقا بـ " قل ". والأوامر أو الطلبات المسبوقة بكلمة " قل " تضفي على الأمر صفة الظرفية وعدم التأكيد, فكأن الكلمة " قل " لفظ صوتي مباشر من النبي مرتبط بالحالة أو الظرف المصاحب له, خلافا للأوامر التي لا يسبقها " قل ". من جهة أخرى وهو الأهم أن الآية اتبعت نفس المنهجية التي تؤكد على الجوهر لا على الشكل والمظهر. فقد ابتدأت الآية بغض البصر وحفظ الفرج.
إبداء الزينة إلا ما ظهر منها مسألة فيها اجتهاد, فما هي حدود ظهور الزينة ؟ إنه أمر تحدده ظروف الزمان والمكان المختلفة والمتقلبة . ولا إلزام فيه. والأهم, مسألة ضرب الخُمر على الجيوب.
يقول المستشار محمد سعيد العشماوي "ما ورد في الآية من جملة { وليضربن بخمرهن على جيوبهن..} لا يعني فرض الخمار أصلاً وشرعًا لكنه يرمى إلى التعديل في عادة كانت قائمة وقت التنزيل بوضع الخمار ضمن المقانع وإلقائه على الظهر بحيث يبدو الصدر ظاهرًا ومن ثم كان القصد هو تعديل العادة ليوضع الخمار على الجيوب وكانت الجيوب في ذلك الزمان وبعضها في هذا الزمان توضع على الصدور, كما هي العادة حاليًا . ولو أن الآية قصدت فرض الخمار لكان لها في ذلك تعبير آخر مثل: وليضعن الخُمر ( جمع الخمار ) على رؤوسهن, أو ما في هذا المعنى أو هذا التعبير. " وسبب نزول هذه الآية أن النساء كن في زمان النبي يغطين رؤوسهن بالأخمرة, ويسدلنها من وراء الظهر, فيبقى النحر ( أعلى الصدر ) والعنق لا ستر لهما, فأمرت الآية بإسدال المؤمنات للخمار على الجيوب, فتضرب الواحدة منهن بخمارها على جيبها ( أعلى الجلباب ) لستر صدرها. (العشماوي - حقيقة الحجاب وحجية الحديث)
آية الجلابيب :
وقد وردت هذه الكلمة مرة واحدة في القرآن:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الأحزاب59
وسبب النزول :" نزلت الآية لتضع فارقًا وتمييزًا بين " الحرائر" من المؤمنات وبين الإماء وغير العفيفات بإدناء المؤمنات لجلابيبهن, حتى يُعرفن فلا يؤذين بالقول من فاجر يتتبع النساء دون أن يستطيع التمييز بين الحرة والجارية أو غير العفيفة. " ( العشماوي - حقيقة الحجاب )
" ويقول القرطبي: « لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله (ص) أن يأمرهن بارتداء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء... وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فنزلت الآية ». (نبيل فياض – أم المؤمنين تأكل أبناءها )
"ويخبرنا ابن كثير في تفسيره: «وكان ناس من فسّاق أهل المدينة يخرجون بالليل، حين يختلط الظلام، إلى طرق المدينة، فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيّقة، فإذا كان الليل، خرج النساء إلى الطرق يبتغين حاجتهن. فكان أولئك الفسّاق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب، قالوا: هذه حرّة! فكفّوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب؛ قالوا: هذه أمة! فوثبوا عليها». ويزداد الأمر سوءاً حين تعلمنا إحدى الروايات، أنه «كان نساء النبي (ص) يخرجن بالليل لحاجتهن؛ وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنّما نفعله بالإماء! فنزلت هذه الآية» - آية الحجاب (أحزاب 59). ويؤكد ذلك الطبري، حين يقول: « يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يتعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى » . وهكذا، لمّا «كانت الحرّة تخرج فتحسب أنّها أمة فتؤذى... أمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمّر وجهها إلا إحدى عينيها». " (نبيل فياض – أم المؤمنين تأكل أبناءها )
للآية سبب وهو معالجة هذه المشكلة الظرفية. وهي مشكلة ظرفية لأنها مرتبطة أو مقيدة بسبب أو شرط وهو " الإيذاء " والحكم مرتبط ببقاء السبب وجودا أو عدما فإن بقى السبب بقي الحكم وإن انعدم ارتفع الحكم . ولا حاجة للإطناب في أن حال المرأة وحال المجتمعات قد تغير. صحيح أن المرأة مازالت تؤذى ويُتحرش بها, لكن تغطية المرأة بالجلباب هروب من المشكلة وليس حلا, لأنه يعاقب المرأة ولا يعاقب من يتحرش بها أولا ! وثانيا أن هذا أن الحكم يميز بين النساء, حرائر وإماء وجواري, مؤمنات وغير مؤمنات, وهو ما لم يعد قائما اليوم. كما أن التمييز في حد ذاته يعتبر عنصرية وهذا الحكم يثير إشكالية مضافة إلى إشكالية الحجاب عند المذاهب الإسلامية. فالحجاب، في مذاهب المسلمين الخمسة " ينطبق فقط على المرأة المسلمة «الحرّة»: على كلّ مسلمة «حرّة» أن تغطي سائر جسدها عدا الوجه والكفين. وتتشدّد بعض المذاهب في اعتبار أنه حتى الوجه والكفين «عورة» يفضّل تغطيتهم. بالمقابل، فإن حجاب المسلمة «الأمة»، هو بين السرّة والركبة. بل إنّ بعض المذاهب تجعل عورتها محصورة في فتحتي القبل والدبر. وتزداد المسألة تعقيداً، إذا ما عرفنا أن بعض المذاهب - راجع ابن عابدين في حاشيته، مثلاً - تفرض الحجاب على الشاب المسلم الجميل. فكيف يمكن حلّ تناقضات الحجاب هذه؟ " (نبيل فياض – أم المؤمنين تأكل أبناءها)
فحوى القول أن آية الأحزاب 59 وآية النور 31, هي الآيات التي يستدل بها الأطراف المتنازعة على مسألة الزي الشرعي للمرأة المسلمة, في إهمال تام للحكم العام . فالتيار المتطرف فهم من هاتين الآيتين وجوب تغطية كامل جسد المرأة. والتيار " الوسطي " فهم منهما - إلى جانب اعتماده على لباس المرأة المسلمة أثناء الصلاة والحج – إباحة ظهور الوجه والكفين والقدمين. وهناك رأي ثالث- للمستشار محمد سعيد العشماوي - يرى أن للمرأة أن تكشف شعرها فليس هو بالعورة. ويستند في ذلك لنفس الآيات, مع استناده إلى تاريخ سيرة النساء على عهد النبي فيقول في ذلك :
" والخلاصة أن شعر المرأة ليس عورة أبدًا, والذي يقول بغير ذلك يفرض من عنده ما لم يفرضه الدين, ويلزم الناس ما لا ينبغي أن تلتزموا به. ويغير ويبدل من أحكام الدين لجهل شخصي أو مصلحة سياسية أو أهداف نفطية. " (حقيقة الحجاب )
ولأن اللباس والثياب مسألة تتحكم فيها العادات والتقاليد والأعراف فلذلك لم يوليها القرآن اهتماما كبيرا على اعتبار أنها مسألة خاضعة لهذه الظروف. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن لباس البدن مسألة ثانوية قياسا على لباس الروح أو الأخلاق أو التقوى. فالذي يجعل من المرء متقيا ليس مظهره الخارجي, لون أو نوع ملبسه, وإنما صفاته الخلقية وسلوكياته. هذا ما تؤكد عليه الآيات. إضافة على تأكيدها على أنها مسألة خاضعة لقرار الناس وتراضيهم واتفاقهم في كل زمان ومكان. لذلك لم يجعل منها القرآن مسألة ملزمة. وعليه فمسألة اللباس تخضع لرأي الناس واتفاقهم القابل للأخذ والرد وليس لحكم الشرع المقدس. فما قد يتفقون عليه اليوم أو أمس قد يختلفون عليه غدا . وما قد يتفق عليه في مكان قد يختلف عليه في مكان آخر. إنما مكارم الأخلاق التي تبنتها البشرية قد جعلت للحشمة قسطا وافرا من الاهتمام وإن رأى مجتمع ما أو أمة أن تتوسع في تعريف هذه الحشمة فهذا لا يجعل منها أمة ناقصة أو غير أخلاقية أو ناقصة روحيا, لأن الثياب والحشمة على مستوى المظهر ليست معيارا للحكم على الجوهر. يصدق هذا على الفرد كما يصدق على المجتمع. وكم من نساء مستترات الأبدان لم تمنعهن الملابس من اقتراف "الرذائل". والعكس. وأعتقد أن في هذا ما يكفي ليكون جوابا على السؤال المطروح في الموضوع.
على هامش الحجاب :
كلمة الحجاب في القرآن :
أولا : حجاب مادي ملموس:
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ) الأعراف 46
"وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيم يقال له الأعراف" التفسير الميسر
ولا علاقة لهذا الحجاب بالذي ترتديه كثير من المسلمات اليوم.
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }مريم17
"فجعلت – مريم - مِن دون أهلها سترًا يسترها عنهم وعن الناس, فأرسلنا إليها الملَك جبريل, فتمثَّل لها في صورة إنسان تام الخَلْق."
(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الأحزاب 53
" وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر."
والحجاب هنا ساتر يفصل نساء النبي عن بقية الرجال أو الصحابة , وهو حكم خاص بنساء النبي.
ثانيا : حجاب معنوي:
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } الإسراء45
"وإذا قرأت القرآن فسمعه هؤلاء المشركون، جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا ساترًا يحجب عقولهم عن فَهْمِ القرآن؛ عقابًا لهم على كفرهم وإنكارهم." التفسير الميسر .
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } فصلت5
" قلوبنا في أغطية مانعة لنا من فهم ما تدعونا إليه, وفي آذاننا صمم فلا نسمع, ومن بيننا وبينك- يا محمد- ساتر يحجبنا عن إجابة دعوتك, فاعمل على وَفْق دينك, كما أننا عاملون على وَفْق ديننا." الميسر .
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الشورى 51
" وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله إلا وحيًا يوحيه الله إليه، أو يكلمه من وراء حجاب "
في كل الآيات السابقة التي وردت فيها كلمة حجاب, لا توجد كلمة واحدة منها تعني ما تعارف عليه الناس أو المسلمون اليوم من أنه اللباس الذي يحجب جسد المرأة أو النقاب الذي يغطي وجهها. وحتى كلمة الحجاب في آية الأحزاب هو حجاب يفصل بين نساء النبي وبقية الصحابة من الرجال وليس ثوبا يوضع عليهن . كما وأن الحكم خاص بنساء النبي كون الخطاب موجه لهن فهن المعنيات الوحيدات به . وإن احتج معترض من ضرورة اقتداء المؤمنات بنساء النبي فله ذلك . أي أنه لا يمنع أن يُقتدى بهن, لكن ذلك لن يجعل منه حكما عاما ملزما لبقية النساء المؤمنات. فالاقتداء لا يترتب عليه إصدار حكم عام على عموم النساء كما لا يترتب عليه أفضلية أو تمايز هؤلاء عن أولئك .
رياض حمَّادي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire